انْتِصَافَةُ شَعْبَانَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى كِتَابُهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا فِي كِتَابِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ مَا أَحْصَى خَلْقَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ مَا فِي خَلْقِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ.
عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، وَإِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ وَالعِلْمُ بِهِ، مَا وَرَدَ فِي مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ.
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعَّفَهُ البُوصِيرِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ نَحْوُهُ، خَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيَّ - يُضَعِّفُ هَذَا الحَدِيثَ.
قَالَ العُقَيْلِيُّ: "وَفِي النُّزُولِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَحَادِيثُ فِيهَا لِينٌ، وَالرِّوَايَةُ فِي النُّزُولِ كُلَّ لَيْلَةٍ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ دَاخِلَةٌ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ". انْتَهَى.
وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي إِحْيَاءِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى الخُصُوصِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلَا كَذَا أَلَا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ؛ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَفِي فَضْلِ لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ أَحَادِيثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا؛ فَضَعَّفَهَا الأَكْثَرُونَ، وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْضَهَا، وَخَرَّجَهُ فِي صَحِيحِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: "إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ..." الحَدِيثُ.
وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، كَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَمَكْحُولٍ، وَلُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ، يُعَظِّمُونَهَا، وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا فِي العِبَادَةِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ النَّاسُ فَضْلَهَا وَتَعْظِيمَهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَهُمْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي البُلْدَانِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ مِنْهُمْ وَوَافَقَهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهَا، مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ عُبَّادِ أَهْلِ البَصْرَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الحِجَازِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: ذَلِكَ كُلُّهُ بِدْعَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: قِيَامُ لَيْلَةِ النِّصْفِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَثَبَتَ فِيهَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ أَعْيَانِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الشَّامِ ...
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَفَرَّغَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَسَتْرِ العُيُوبِ وَتَفْرِيجِ الكُرُوبِ، وَأَنْ يُقَدِّمَ عَلَى ذَلِكَ التَّوْبَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَتُوبُ فِيهَا عَلَى مَنْ يَتُوبُ ... وَيَتَعَيَّنُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الذُّنُوبَ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ المَغْفِرَةِ وَقَبُولِ الدُّعَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. انْتَهَى.
وَإِذًا تَقَرَّرَ أَنَّ الأَحَادِيثَ الوَارِدَةَ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ضَعِيفَةٌ، وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّان فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ".
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَمَّا بَعْدُ: فَعَنِ العَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا»، وَفِي لَفْظٍ: "إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى رَمَضَانَ". خَرَّجَهُ الخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ مَنْ هُوَ أَضْلَعُ مِنْهُمْ وَأَقْعَدُ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ، فَقَالُوا: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَالأَثْرَمُ، وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَرْوِ العَلَاءُ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْهُ، وَرَدَّهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذلِكَ الْيَوْمَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَصِيَامُ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ آخِرُ أَيَّامِ البِيْضِ الثَّلَاثَةِ المَنْدُوبِ إِلَى صِيَامِهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ حَدِيثِ النَّهْيِ: هُوَ مَنْسُوخٌ، وَحَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ العَمَلِ بِهِ.
وَقَدْ عَمِلَ بِهِ آخَرُونَ، مِنْهُمُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَنَهَوْا عَنِ ابْتِدَاءِ التَّطَوُّعِ بِالصِّيَامِ بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ عَادَةٌ.
اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا وَسَدِّدْنَا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا خَطِيئَاتِنَا وَجَهْلَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا جِدَّنَا وَهَزْلَنَا، وَخَطَأَنَا وَعَمْدَنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.