المَوضُوعُ: إِخْوَةُ يُوسُفَ.
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
عِبَادَ اللهِ، نَتَنَاوَلُ فِي عُجَالَةٍ مَا قَصَّ اللهُ عَلَيْنَا فِي مَطْلَعِ سُورَةِ يُوسُفَ مِنْ مُؤَامَرَةٍ جِنَائِيَّةٍ، تَوَاطَأَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ أَخًا عَلَى أَخِيهِمُ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
لَقَدْ حَمَلَهُمْ عَلَى هَذِهِ المَكِيدَةِ العُدْوَانِيَّةِ وَالجَرِيمَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الحَسَدُ الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ، وَدَفَعَ قَابِيلَ لِقَتْلِ أَخِيهِ هَابِيلَ، وَهُوَ دَاءُ الأُمَمِ العُضَالُ، وَفَيرُوسُ المُجْتَمَعَاتِ عَلَى مَرِّ الأَجْيَالِ.
وَقَدْ زَيَّنَتْ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ أَنْفُسُهُمُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ أَنْ يُفَرِّقوُا بَيْنَ يُوسُفَ وَأَبِيهِ يَعْقُوبَ، وَبَيْنَهُ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الحَسَدِ وَمِنْ شَرِّ أَهْلِهِ.
إِنَّ فِي قِصَّةِ نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ العِبْرَةَ وَالعِظَةَ وَالدُّرُوسَ وَالمَوْعِظَةَ، قَالَ تَعَالَى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)، وَقَالَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).
وَقَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ).
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ المُفَسِّرُونَ عَلَى تَعْبِيرِ هَذَا المَنَامِ: أَنَّ الأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا عِبَارَةٌ عَنْ إِخْوَتِهِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا سِوَاهُ، وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ عِبَارَةٌ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَدْ وَقَعَ تَفْسِيرُهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَنَةً، قَالَ تَعَالَى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ).
وَقَدْ فَهِمَ يَعْقُوبُ أَبُوهُ مِنَ الرُّؤْيَا إِيثَارَهُ عَلَيْهِمْ وَاصْطِفَاءَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَنَهَاهُ أَنْ يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَليَحْمَدِ اللهَ عَلَيهَا، وَلْيُحُدِّثْ بِهَا"، وَفِي رِوَايَةٍ: "فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
نَهَاهُ أَبُوهُ عَنْ قَصِّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى خُضُوعِ إِخْوَتِهِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِمْ إِيَّاهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، بِحَيْثُ يَخِرُّونَ لَهُ سَاجِدِينَ إِجْلَالًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا، وَهَذَا جَائِزٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّحِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)، أَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا يَجُوزُ لَا لِعُبُودِيَّةٍ وَلَا لِتَحِيَّةٍ.
لَقَدْ تَنَبَّأَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَا سَيَحْدُثُ لِيُوسُفَ لَوْ حَدَّثَ إِخْوَتَهُ بِالمَنَامِ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَيَحْسُدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَبْغُونَ لَهُ الغَوَائِلَ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)؛ أَيْ: يَحْتَالُوا لَكَ حِيلَةً يَرْدُونَكَ فِيهَا.
وَمِنْ هَذَا يُؤْخَذُ الأَمْرُ بِكِتْمَانِ النِّعْمَةِ حَتَّى تُوجَدَ وَتَظْهَرَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ: (اسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ حَوَائِجِكُمْ بِالكِتْمَانِ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ جَوَّدَ إِسْنَادَهُ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)؛ أَيِ اذْكُرْهُ وَلَوْ عَلَى وَجْهِ الإِجْمَالِ وَتَحَدَّثْ بِهِ أَكْثَرَ إِلَى مَنْ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِكَ، وَأَثْنِ عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِابْنِهِ يُوسُفَ: (وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ).
أَيْ: يَخْتَارُكَ رَبُّكَ وَيَصْطَفِيكَ لِنُبُوَّتِهِ، فَيُوحِي إِلَيْكَ وَيُعَلِّمُكَ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا، فَكَانَ يُوسُفُ أَعْبَرَ النَّاسِ، فَأَكْمَلَ لَهُ الخِصَالَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ النِّعَمَ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنَ الجُبِّ، وَنَجَّاهُ مِنَ الرِّقِّ، وَأَظْهَرَهُ مِنَ السِّجْنِ، كَمَا نَجَا جَدُّهُ إِبْرَاهِيمُ مِنَ النَّارِ، وَإِسْحَاقُ مِنَ الذَّبْحِ.
قَالَ تَعَالَى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ).
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَخَبَرِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ عِبَرًا وَمَوَاعِظَ لِلْمُسْتَخْبِرِينَ عَنْهُ، فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِرٍ وَمُتَّعِظٍ؟
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
أَيْ: وَاللهِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ شَقِيقُهُ بِنْيَامِينُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ مُجْتَمِعُونَ غَيْرُ مُفْتَرِقِينَ، فَتَقْدِيمُ أَبِينَا لِأَخَوَيْنَا عَلَيْنَا فِي مُسْتَوَى المَحَبَّةِ تِيهٌ وَضَيَاعٌ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَصَنِيعُهُمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّتِهِمْ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ إِلْقَاءِ يُوسُفَ، وَيَحْتَاجُ مُدَّعِي هَذَا إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ سِوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ)، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ؛ لِأَنَّ بُطُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُمُ: الأَسْبَاطُ.
وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يُزَاحِمُكُمْ فِي مَحَبَّةِ أَبِيكُمْ لَكُمْ، وَيَتَفَوَّقُ عَلَيْكُمْ فِيهَا، أَعْدِمُوهُ مِنْ وَجْهِ أَبِيكُمْ، لِيَخْلُوَ لَكُمْ وَحْدَكُمْ، إِمَّا بِأَنْ تَقْتُلُوهُ، أَوْ تُلْقُوهُ فِي أَرْضٍ مِنَ الأَرَاضِي، فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، وَتَخْتَلُوا أَنْتُمْ بِأَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِ نَفْيِهِ صَالِحِينَ. فَأَضْمَرُوا بِذَلِكَ التَّوْبَةَ قَبْلَ الذَّنْبِ.
قَالَ قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَكْبَرُهُمْ وَاسْمُهُ رُوبِيلُ، وَجَّهَ لَهُمُ الرَّأْيَ الأَلْطَفَ وَالَّذِي يُحَقِّقُ لَهُمُ الهَدَفَ وَيُوَصِّلُهُمْ إِلَى الغَايَةِ بِأَسْهَلِ وَسِيلَةٍ، فَنَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ إِلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُرِيدُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ وَإِتْمَامِهِ، مِنَ الإِيحَاءِ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنَ التَّمْكِينِ لَهُ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالحُكْمِ بِهَا، فَصَرَفَهُمُ اللهُ عَنْهُ بِمَقَالَةِ رُوبِيلَ فِيهِ، وَإِشَارَتِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ، وَهُوَ أَسْفَلُهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ بِئْرُ بَيْتِ المَقْدِسِ. فَالقَصْدُ هُوَ تَغْيِيبُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ إِنْ كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِالإِلْقَاءِ وَالْتِقَاطِ بَعْضِ المَارَّةِ مِنَ المُسَافِرِينَ لَهُ، فَيَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهُ، فَتَسْتَرِيحُوا بِهَذَا، بَدَلًا مِنْ قَتْلِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَعُقُوقِ الوَالِدِ، وَقِلَّةِ الرَّأْفَةِ بِالصَّغِيرِ الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ، وَبِالكَبِيرِ الفَانِي؛ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ وَحَبِيبِهِ، عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، وَرِقَّةِ عَظْمِهِ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقَدِ احْتَمَلُوا أَمْرًا عَظِيمًا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ).
فَحِينَ تَوَاطَؤُوا عَلَى أَخْذِهِ وَطَرْحِهِ فِي البِئْرِ، كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ أَخُوهُمُ الكَبِيرُ رُوبِيلُ، جَاءُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَلَطَّفُوا مَعَهُ، وَاسْتَنْكَرُوا تَحَفُّظَ أَبِيهِمْ عَلَى يُوسُفَ وَعَدَمَ ثِقَتِهِ فِيهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ لِيُوسُفَ الخَيْرَ – زَعَمُوا - وَهَذِهِ دَعْوَى كَاذِبَةٌ، فَهُمْ يُرِيدُونَ إِبْعَادَهُ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ؛ لِمَا لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الحَسَدِ لِحُبِّ أَبِيهِمْ لَهُ فَوْقَ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ.
قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِهِمْ لِأَبِيهِمْ: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
أَيِ: ابْعَثْهُ مَعَنَا غَدًا يَسْعَى وَيَنْشَطُ وَيُرَفِّهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاطْمَئِنَّ عَلَيْهِ فَنَحْنُ نَصُونُهُ وَنَحُوطُهُ؛ فَلَا دَاعِيَ لِلْقَلَقِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ).
أَيْ: يَشُقُّ عَلَيَّ مُفَارَقَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِكُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُ؛ لِمَا يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنْ شَمَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَنْشَغِلُوا عَنْهُ بِرَعْيِهِمْ وَصَيْدِهِمْ وَرِيَاضَتِهِمْ، فَيَأْتِيهِ ذِئْبٌ حَالَ غَفْلَتِهِمْ فَيَأْكُلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَرَأَوْا أَنَّ مَا خَشِيَهُ أَبُوهُمْ أَنْجَحُ عُذْرًا لَهُمْ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلًا يَخْشَى مِنْ وُقُوعِهِ.
وَأَرَادُوا أَنْ يُزِيلُوا هَذَا المَانِعَ الدَّاخِلِيَّ حَتَّى لَا يَرْفُضَ فَـ: (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ)؛ أَيْ: كَيْفَ يَأْخُذُهُ الذِّئْبُ مِنْ بَيْنِنَا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ، هَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا؛ فَلَا تَلْتَفِتْ لِهَذَا الخَوْفِ وَالوَهْمِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ).
أَيْ: لَمَّا تَنَازَلَ أَبُوهُمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا، وَأَخَذُوا الصَّغِيرَ بَعْدَ أَنْ تَعَهَّدُوا لِأَبِيهِمْ بِحِفْظِهِ، وَأَظْهَرُوا لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، بِأَنَّ قَصْدَهُمْ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى يُوسُفَ، وَاتَّفَقُ رَأْيُهُمْ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي أَسْفَلِ ذَلِكَ البِئْرِ، فَيُقَالُ: إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا بَعَثَهُ مَعَهُمْ ضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَبَّلَهُ وَدَعَا لَهُ.
وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ مِنْ تَعْنِيفِهِمُ القَوْلِيِّ وَالجَسَدِيِّ لَهُ حِينَ فَارَقَ عَيْنَ أَبِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللهِ بِيُوسُفَ؛ فَهَذَا الإِيحَاءُ لِتَسْكِينِ فُؤَادِهِ، بِأَنَّ اللهَ سَيُظْهِرُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَرُدُّهُ إِلَى أَبِيهِ وَإِلَيْهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ).
لَقَدْ رَجَعَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِاللَّيْلِ وَهُوَ مَظِنَّةُ سَطْوِ السِّبَاعِ، بَعْدَمَا تَخَلَّصُوا مِنْ يُوسُفَ وَتَظَاهَرُوا عِنْدَ أَبِيهِمْ بِالفَجِيعَةِ لِيُصَدِّقَهُمْ، وَادَّعَوْا أَنَّ الذِّئْبَ افْتَرَسَهُ فِي وَقْتِ غَفْلَتِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمُمَارَسَةِ الرِّيَاضَةِ، حَيْثُ تَرَكُوهُ وَحْدَهُ عِنْدَ عَتَادِهِمْ، وَاخْتَلَقُوا هَذِهِ الكِذْبَةَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ: (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، وَهُمْ عَارِفُونَ أَنَّ أَبَاهُمْ لَنْ يُصَدِّقَهُمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَدِّقَهُمْ جَاؤُوا بِقَمِيصِ يُوسُفَ وَقَدْ لَطَّخُوهُ بِدَمِ بَهِيمَةٍ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَمُهُ.
وَنَسَوْا أَنْ يُخَرِّقُوهُ، وَلَمْ يَرُجْ هَذَا الصَّنِيعُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ لِعِلْمِهِ بِمُسْتَقْبَلِ يُوسُفَ؛ لِذَا قَالَ لَهُمْ مُعْرِضًا عَنْ كَلَامِهِمْ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَمَالُئِهِمْ عَلَيْهِ: لَقَدْ زَيَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ مُؤَامَرَةً، فَسَأَسْتَعِينُ بِالصَّبْرِ الحَسَنِ الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ، فَلَا أَشْتَكِي إِلَّا إِلَى اللهِ؛ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى تَفْرِيجِ هَمِّي وَكَشْفِ غَمِّي وَرَدِّ ابْنِي عَلَيَّ، فَإِنَّ مَا زَعَمْتُمْ غَيْرُ رَائِجٍ عَلَيَّ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ).
أَيِ: الاخْتِيَارُ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ الرَّبُّ المَلِكُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِوُجُوهِ الحِكْمَةِ وَأَوْجُهِ التَّفْضِيلِ.
وَمَا عَلَى العِبَادِ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمُوا وَيُذْعِنُوا، فَالرِّضَاءُ بِالقَضَاءِ عُنْوَانُ التَّوْحِيدُ:
العَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ ذُو دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ
وَالخَيْرُ أَجْمَعُ فِي مَا اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِي اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللُّؤْمُ وَالشُّومُ
وَقَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ).
أَيِ: اللهُ يَخْتَارُ مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا: كَجَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ اللَّذَيْنِ كَانَا يُرْسِلُهُمَا إِلَى أَنْبِيَائِهِ، وَمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ.
وَمِنَ النَّاسِ: كَأَنْبِيَائِهِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَمَعْنَى الكَلَامِ: اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ أَيْضًا رُسُلًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لَمَّا قَالَ المُشْرِكُونَ: (أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا)، فَقَالَ اللهُ لَهُمْ: ذَلِكَ إِلَيَّ وَبِيَدِي دُونَ خَلْقِي، أَخْتَارُ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ لِلرِّسَالَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ)؛ أَيِ: اللهُ يَصْطَفِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَخْتَارُ لِنَفْسِهِ وَوِلَايَتِهِ مَنْ أَحَبَّ.
وَقَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ)؛ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ، وَأَخْبَرُ بِعِبَادِهِ، فَيَضَعُ رِسَالَتَهُ عِنْدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَأَهْلٌ بِهَا.
اللَّهُمَّ إِنِا نسْأَلُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعفَافَ، وَالغِنَى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا، وَاهْدِنَا، وَعَافِنَا، وَارْزُقْنَا.
اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ.
اللَّهمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ اهْدِنَا، وَسدِّدْنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالسَّدَادَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.