المَوضُوعُ: رَبِيعٌ الأَوَّلُ .. وَفَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ، وَأَفْضَلَ الأَوْلِيَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلَامِ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى كَمَا أُمِرْتُمْ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِمَجِيءِ الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ وَالنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَلَأَ العُيُونَ وَالآذَانَ إِعْجَابًا، وَالقُلُوبَ مَحَبَّةً وَإِجْلَالًا، وَقَدْ نَطَقَ بِهَذِهِ المَحَبَّةِ الإِنْسَانُ وَالجَانُّ، وَعَبَّرَتْ عَنْهَا الحَيَوَانَاتُ وَالجَمَادَاتُ.
فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ مِنَ الجِذْعِ لَمَّا فَارَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ جَابِرٌ: "فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلَمَّا فَارَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخْلَةَ، قَالَ جَابِرٌ: "فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلَا يَنْقَضِي عَجَبِي؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ حُمَّرَةً جَاءَتْ تَرِفُّ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ فَجَعَ هَذِهِ بِبَيْضَتِهَا؟ ارْدُدْ، رَحْمَةً لَهَا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي المُفْرَدِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ النَّوَوِيُّ.
وَثَبَتَ عَنْ جَعْفَرٍ، قَالَ: "فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالمُنْذِرِيُّ.
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الآنَ يَا عُمَرُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِشِدَّةِ حُبِّ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَصُوا عَلَى رِفْقَتِهِ فِي الآخِرَةِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَذِهِ الْآيَةِ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ الْعَابِدِيِّ، وَهُوَ ثِقَةٌ.
وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَلْ»، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: إِنْ مِتُّ مِنْ لَيْلَتِي فَلَا تَنْتَظِرُوا بِيَ الْغَدَ، فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي إِلَيَّ أَقْرَبُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ صُحِّحَ.
لَقَدْ كَانَتْ مَحَبَّةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ أَكْثَرَ وَأَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
إِنَّ مُفَارَقَةَ مَنْ حُبُّهُ بَلَغَ أَقْصَى الحُبِّ وَأَعْمَاقَ القَلْبِ لَصَعْبٌ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا، وَإِنَّ فُقْدَانَهُ لَصَدْمَةٌ قَوِيَّةٌ وَمُصِيبَةٌ شَدِيدَةٌ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اضْطَرَبَ المُسْلِمُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ دَهِشَ فَاخْتَلَطَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُقْعِدَ فَلَمْ يُطِقِ القِيَامَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ فَلَمْ يُطِقِ الكَلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ مَوْتَهُ بِالكُلِّيَّةِ" انْتَهَى.
وَهَذَا الاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ جَاءَ نَتِيجَةَ قُوَّةِ الصَّدْمَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ القُرْآنَ قَدْ مَهَّدَ لِمَوْتِهِ، قَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ)، «هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ لَهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَرِّضُ بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
رَوَى البَيْهَقِيُّ - قَالَ ابْنُ المُلَقِّنِ: بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ - عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا». وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ.
وَطَفِقَ يُوَدِّعُ النَّاسَ فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الوَدَاعِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا، قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ»، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَثَبَتَ فِي المُسْنَدِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأْسِ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمْ يَفْطِنْ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي، بَلْ نَفْدِيكَ بِأَمْوَالِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا، قَالَ: ثُمَّ هَبَطَ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَمَا رُئِيَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ".
وعَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْجَنَّةِ". قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ. قَالَ: "لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي، ثُمَّ الْجَنَّةَ". ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ. فَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - حِينَ أَصْبَحَ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ، وَرِجَالُ أَحَدِهِمَا ثِقَاتٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ، وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ البَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى». فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْهَا، قَالَتْ: أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي، فَجَعَلْتُ أَمْسَحُهُ وَأَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "لَا، بَلْ أَسْأَلُ اللهَ الرَّفِيقَ الأَعْلَى مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ".
وقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ». عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ.
وَالأَبْهَرُ: عِرْقٌ مُرْتَبِطٌ بِالقَلْبِ، إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ الإِنْسَانُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَاتَ شَهِيدًا مِنَ السُّمِّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) الآيَةَ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهَا، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ».
وَقَالَتْ: "لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، قَالَ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ؛ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ». فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ القِرَبِ".
وقَالَتْ: "بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ»، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى»، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ".
وَعَنْهَا، قَالَتْ: «مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ المَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا، بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». رَوَاهَا البُخَارِيُّ.
إِنَّ وَفَاةَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ، وَلَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنْهَا.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ.
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ المَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا أَتَتْكَ مُصِيبَةٌ تَشْجَى بِهَا ... فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ»، فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ، مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التُّرَابَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ صَفَرٍ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ بِهِ الحُمَّى وَصُدَاعُ الرَّأْسِ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَوْعُوكٌ، عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: مَا أَشَدَّ حَرَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّا كَذَلِكَ، يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ»، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وعَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ مَوْعُوكًا، قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ، قَالَ: "خُذْ بِيَدِي يَا فَضْلُ". فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمِنْبَرِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "صِحْ فِي النَّاسِ". فَصِحْتُ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعَ نَاسٌ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ؛ فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلَا وَمَنْ كُنْتُ قَدْ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، لَا يَقُولَنَّ رَجُلٌ: إِنِّي أَخْشَى الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَلَا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِي وَلَا مِنْ شَأْنِي، أَلَا وَإِنَّ أَحَبَّكُمُ إِلَيَّ مَنَ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ اللَّهَ وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارًا". ضَعِيفٌ، رَوَاهُ الخَلَّالُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ، وَفِي إِسْنَادِ أَبِي يَعْلَى عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِ أَبِي يَعْلَى ثِقَاتٌ، وَفِي إِسْنَادِ الطَّبَرَانِيِّ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُمْ".
وَالمَشْهُورُ أَنَّ وَفَاتَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَانَتْ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لَمَّا ارْتَفَعَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
لِيَبْكِ رَسُولَ اللهِ مَنْ كَانَ بَاكِيًا ... فَلَا تَنْسَ قَبْرًا بِالمَدِينَةِ ثَاوِيَا
جَزَى اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيْرٍ مُحَمَّدًا ... فَقَدْ كَانَ مَهْدِيًّا وَقَدْ كَانَ هَادِيَا
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ رَوْحًا وَرَحْمَةً ... وَنُورًا وَبُرْهَانًا مِنَ اللهِ بَادِيَا
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ بِالخَيْرِ آمِرًا ... وَكَانَ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالسُّوءِ نَاهِيَا
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ بِالقِسْطِ قَائِمًا ... وَكَانَ لِمَا اسْتَرْعَاهُ مَوْلَاهُ رَاعِيَا
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ يَدْعُو إِلَى الهُدَى ... قَلْبِي رَسُول اللهِ لِبَّيْهِ دَاعِيَا
أَيُنْسَى أَبَرُّ النَّاسِ بِالنَّاسِ كُلِّهِمُ ... وَأَكْرَمُهُمْ بَيْتًا وَشِعْبًا وَوَادِيَا
أَيُنْسَى رَسُولُ اللهِ أَكْرَمُ مَنْ مَشَى ... وَآثَارُهُ بِالمَسْجِدَيْنِ كَمَا هِيَا
تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلُّ مَا كَانَ صَافِيَا
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَرَوَى البُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَقَالَ: مَاتَ وَاللهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَمُدَّتْ أُكُفٌّ لِلْوَدَاعِ فَصَافَحَتْ ... وَكَادَتْ عُيُونٌ لِلْفِرَاقِ تَسِيلُ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَمَّا بَعْدُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إِلَى قَوْلِهِ: (الشَّاكِرِينَ)، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا، فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ، حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ مَاتَ».
وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: "انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوْذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنَا، أَنْتَ الحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ نَجِّنا مِنَ النَّارِ.
اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.