عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الْحَمد لله الَّذِي أودع أسرار الهيبة صُدُور أوليائه وَخص بلطائف حكمته المصطفين من علمائه وَالصَّلَاة على خيرته من خلقه مُحَمَّد سيد أنبيائه صَلَاة دائمة دوَام أرضه وسمائهوَبعد فَإِن الْوَاجِب على كل خائض فِي علم من الْعُلُوم أَن يُحِيط علما كليا بموضوع ذَلِك الْعلم وغايته الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا ليجد من نَفسه باعثا على النّظر فِيهِ وموضوع علم الْفِقْه هُوَ أَفعَال الْعباد وَحَقِيقَته تهذيبات دينية وسياسات شَرْعِيَّة شرعت لمصَالح الْعباد إِمَّا فِي معادهم كأبواب الْعِبَادَات أَو فِي معاشهم كأبواب الْبياعَات والمناكحات وَأَحْكَام الْجِنَايَات وَهُوَ الْمَقْصد الْأَقْصَى فِي إبتعاث(1/33)الْمُرْسلين صلى الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُم لم يبعثوا إِلَّا لتعريف الْعباد أَحْكَام هَذِه الْأَفْعَال من الْحَلَال وَالْحرَام وَالْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه والمباح ليتوصلوا بتهذيبها إِلَى الْعلم بِاللَّه تَعَالَى وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُلهوالأدلة الَّتِي يُسْتَفَاد بهَا هَذِه الْأَحْكَام هِيَ الَّتِي تسمى أصُول الْفِقْه ثمَّ لَا يخفى عَلَيْك أَن الْفُرُوع إِنَّمَا تبنى على الْأُصُول وَأَن من لَا يفهم كَيْفيَّة الاستنباط وَلَا يَهْتَدِي إِلَى وَجه الارتباط بَين أَحْكَام الْفُرُوع وأداتها الَّتِي هِيَ أصُول الْفِقْه لَا يَتَّسِع لَهُ المجال وَلَا يُمكنهُ التَّفْرِيع عَلَيْهَا بِحَال فَإِن الْمسَائِل الفرعية على أتساعها وَبعد غاياتها لَهَا أصُول مَعْلُومَة وأوضاع منظومة وَمن لم يعرف أُصُولهَا لم يحط بهَا علماوَحَيْثُ لم أر أحدا من الْعلمَاء الماضين وَالْفُقَهَاء الْمُتَقَدِّمين تصدى لحيازة هَذَا الْمَقْصُود بل اسْتَقل عُلَمَاء الْأُصُول بِذكر الْأُصُول الْمُجَرَّدَة(1/34)وعلماء الْفُرُوع بِنَقْل الْمسَائِل المبددة من غير تَنْبِيه على كَيْفيَّة استنادها إِلَى تِلْكَ الْأُصُول أَحْبَبْت أَن أتحف ذَوي التَّحْقِيق من المناظرين بِمَا يسر الناظرين فحررت هَذَا الْكتاب كاشفا عَن النبأ الْيَقِين فذللت فِيهِ مبَاحث الْمُجْتَهدين وشفيت غليل المسترشدين فَبَدَأت بِالْمَسْأَلَة الْأُصُولِيَّة الَّتِي ترد إِلَيْهَا الْفُرُوع فِي كل قَاعِدَة وضمنتها ذكر الْحجَّة الْأُصُولِيَّة من الْجَانِبَيْنِ ثمَّ رددت الْفُرُوع الناشئة مِنْهَا إِلَيْهَا فَتحَرَّر الْكتاب مَعَ صغر حجمه حاويا لقواعد الْأُصُول جَامعا لقوانين الْفُرُوع واقتصرت على ذكر الْمسَائِل الَّتِي تشْتَمل عَلَيْهَا تعاليق الْخلاف روما للاختصار وَجعلت مَا ذكرته أنموذجا لما لم أذكرهُ ودليلا على الَّذِي لَا ترَاهُ من الَّذِي ترى ووسمته بتخريج الْفُرُوع على الْأُصُول تطبيقا للاسم على الْمَعْنى وَتَقَرَّبت بِهِ إِلَى من(1/35)توالت عَليّ نعمه وتواترت لدي مننه افتخارا بولائه واستظلالا بفنائه أَعنِي الْمولى الصاحب الْكَبِير الْعَالم الْعَادِل الْمُؤَيد المظفر الْمَنْصُور ولي النعم مؤيد الدّين مهد الْإِسْلَام اخْتِيَار الإِمَام افتخار الْأَنَام سديد الدولة جلال الْملَّة المعظمة صفي الْإِمَامَة المكرمة تَاج الْمُلُوك والسلاطين شرف الحضرتين ذَا الريا سِتِّينَ أَبَا الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد ابْن عبد الْكَرِيم أَمِين أَمِير الْمُؤمنِينَ إحْيَاء لمعالم الدّين وإبقاء لجميل ذكره فِي الْعَالمين وَلست أطمع فِي الْقيام بشكر أياديه وَلَا بعض مَا أولانيه لكنه طوق الْمُجْتَهد ووسع المعتضد ... فَمَا تكلّف نفس فَوق طاقتها ... وَلَا تجود يَد إِلَّا بِمَا تَجِد ...أمتعه الله تَعَالَى بدوام دولة الْمُتَّقِينَ ونائب رب الْعَالمين المتمسك بِحَبل الله المتين سيدنَا ومولانا الإِمَام النَّاصِر لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أعز الله بِهِ الدُّنْيَا وَالدّين وَنصر الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين بخلود أَيَّامهَا وَنشر فِي الْآفَاق ألويتها المنشورة وأعلامها وأنفذ فِي الْمَشَارِق والمغارب أوامرها المطاعة وأحكامها وظفرها بالباغي والمطالب(1/36)وخلدها تخليد الْكَوَاكِب مَا وخدت قلُوص بِرَاكِب بمنة وجوده وَالله الْمُوفق(1/37)= كتاب الطَّهَارَة =مَسْأَلَة 1ذهب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وجماهير أهل السّنة إِلَى أَن الطَّهَارَة والنجاسة وَسَائِر الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة كالرق وَالْملك وَالْعِتْق وَالْحريَّة وَسَائِر الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ككون الْمحل طَاهِرا أَو نجسا وَكَون الشَّخْص حرا أَو مَمْلُوكا مرقوقا لَيست من صِفَات الْأَعْيَان المنسوبة إِلَيْهَا بل أثبتها الله تحكما وتعبدا غير معللة لَا راد لقضائه وَلَا معقب لحكمه لَا يسال عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون وَلَا تصل آراؤنا الكليلة وعقولنا الضعيفة وأفكارنا القاصرة إِلَى الْوُقُوف على حقائقها وَمَا يتَعَلَّق بهَا من مصَالح الْعباد فَذَلِك حَاصِل ضمنا(1/38)وتبعا لَا أصلا ومقصودا إِذْ لَيست الْمصلحَة وَاجِبَة الْحُصُول فِي حكمهوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الله تَعَالَى إِذا جَازَ أَن يُعَاقب الْكَافِر على كفره وَالْفَاسِق على فسقه وَلَا مصلحَة لأحد فِيهِ جَازَ أَن يشرع الشَّرَائِع وَإِن تعلق بهَا مفْسدَة وَلَا يتَعَلَّق بهَا مصلحَة لأحد وَلذَلِك الله تَعَالَى كلف الْإِنْسَان مَا لَيْسَ فِي وَسعه فَقَالَ تَعَالَى {فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات} {فَأتوا بِسُورَة مثله} وَقَالَ للْمَلَائكَة {أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين} وكل ذَلِك تَكْلِيف للْإنْسَان مَا لَيْسَ فِي وَسعه وَذَلِكَ ضَرَر لَا مصلحَة فِيهِ وسر هَذِه الْقَاعِدَة أَن الله تَعَالَى مَالك الْملك وخالق الْخلق(1/39)يتَصَرَّف فِي عباده كَيفَ يَشَاء وَلَا كَذَلِك الْوَاحِد منا فَإِنَّهُ إِذا أضرّ بِغَيْرِهِ كَانَ متصرفا فِي ملك الْغَيْر بِالضَّرَرِ وَذَلِكَ ظلم وعدوانوَذهب المنتمون إِلَى أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ من عُلَمَاء الْأُصُول إِلَى أَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة صِفَات للمحال والأعيان المنسوبة إِلَيْهَا أثبتها الله تَعَالَى وشرعها معللة بمصالح الْعباد لَا غيركَمَا أَن الْحسن والقبح وَالْوُجُوب والحظر وَالنَّدْب وَالْكَرَاهَة وَالْإِبَاحَة من صِفَات الْأَفْعَال الَّتِي تُضَاف إِلَيْهَا غير أَنهم قسموا أَحْكَام الْأَفْعَال إِلَى مَا يعرف بِمُجَرَّد الْعقل والى مَا يعرف بأدلة الشَّرْع على مَا سَيَأْتِيأما أَحْكَام الْأَعْيَان فقد اتَّفقُوا على أَنَّهَا كلهَا تعرف بأدلة شَرْعِيَّة وَلَا تعرف بِمُجَرَّد الْعقل وَأَنَّهَا كلهَا تثبت بِإِثْبَات الله تَعَالَى(1/40)وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِقِيَاس الشَّاهِد على الْغَائِب بِنَاء على قَاعِدَة التحسين والتقبيح وَزَعَمُوا أَن شرع الحكم لَا لمصْلحَة عَبث وسفه والعبث قَبِيح عقلا وَهُوَ كإقدام الرجل اللبيب على كيل المَاء من بَحر إِلَى بَحر فَإِنَّهُ يقبح مِنْهُ ذَلِك وَيسْتَحق الذَّم عَلَيْهِوَإِذا تمهدت هَذِه الْقَاعِدَة فَنَقُول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ رأى أَن التَّعَبُّد فِي الْأَحْكَام هُوَ الأَصْل غلب احْتِمَال التَّعَبُّد وَبني مسَائِله فِي الْفُرُوع عَلَيْهِوَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ رأى أَن التَّعْلِيل هُوَ الأَصْل بنى مسَائِله فِي الْفُرُوع عَلَيْهِ فتفرع عَن الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورين مسَائِلمِنْهَا أَن المَاء يتَعَيَّن لإِزَالَة النَّجَاسَة عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَلَا يلْحق غَيره بِهِ تَغْلِيبًا للتعبدوَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يلْحق بِهِ كل مَائِع طَاهِر مزيل للعين والأثر تَغْلِيبًا للتَّعْلِيل(1/41)وَمِنْهَا أَن المَاء الْمُتَغَيّر بالطاهرات كالزعفران والأشنان إِذا تفاحش تغيره لم يجز التوضي بِهِ عِنْد الشَّافِعِي رض بِنَاء على الأَصْل الْمَذْكُور فَإِنَّهُ تعبد بِاسْتِعْمَال المَاء بالِاتِّفَاقِ والميع اسْم المَاء وَهَذَا لَا ينْدَرج تَحت اسْم الْمُطلقوَمِنْهَا أَن التوضي بنبيذ التَّمْر عِنْد عدم المَاء فِي السّفر مُمْتَنع عندنَاوَعِنْده جَائِز(1/42)وَمِنْهَا أَن جلد الْكَلْب لَا يطهر بالدباغ عِنْد الشَّافِعِي رض تَغْلِيبًا للتعبد بترجيح الاجتناب على الإقترابوَعِنْدهم يطهر تشوقا إِلَى التَّعْلِيلوَمِنْهَا أَن ذَكَاة مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه لَا يُفِيد طَهَارَة الْجلد عندنَا مُرَاعَاة للتعبد كَمَا فِي ذَكَاة الْمَجُوس ونجاسة اللَّحْم من هَذَا الذَّبِيحوَعِنْدهم يطهر تشوقا إِلَى تَعْلِيل الطَّهَارَة بسفح الدَّم والرطوبات المتعفنة(1/43)وَمِنْهَا أَنه يتَعَيَّن لَفْظَة التَّكْبِير فِي افْتِتَاح الصَّلَاة عندنَا وَلَا يقوم مَا فِي مَعْنَاهَا مقَامهَا وَيتَعَيَّن لَفْظَة التَّسْلِيم فِي اختتامها وَلَا يقوم مَا فِي مَعْنَاهَا مقَامهَاوَعِنْده يقوموَمِنْهَا أَن غير الْفَاتِحَة لَا يقوم مقَامهَا فِي الصَّلَاة عندنَا لاحْتِمَال التَّعَبُّد بالإعجاز اللَّفْظِيّ والمعنويوَعِنْده يقوم مقَامهَا تعويلا على الْمَعْنى(1/44)وَمِنْهَا أَنه يمْتَنع الْإِبْدَال فِي بَاب الزكوات وَلَا يُجزئ إِخْرَاج الْقيم عندنَا لظُهُور احْتِمَال التَّعَبُّد بالتشريك بَين الْفُقَرَاء والأغنياء فِي جنس المَالوَعِنْدهم يُجزئوَمِنْهَا أَن تَخْلِيل الْخمر حرَام والخل الْحَاصِل مِنْهُ نجس عندنَا تغليضا لِلْأَمْرِ فِيهَا(1/45)وَعِنْدهم جَائِز والخل الْحَاصِل مِنْهُ طَاهِر تعليلا بِزَوَال عِلّة النَّجَاسَة كَمَا فِي الدّباغوَمِنْهَا أَن التغذية والتعشية فِي الْكَفَّارَات لَا تُجزئ عندنَا بل يجب صرف الطَّعَام إِلَى الْمَسَاكِينوَمِنْهَا انه يجب اسْتِيعَاب الْعدَد عندنَا وَصرف الطَّعَام إِلَى الْمَسَاكِينوَعِنْدهم يجوز صرفه إِلَى مِسْكين وَاحِد سِتُّونَ يَوْمًا أَو عشرَة أَيَّام فِي كَفَّارَة الْيَمين(1/46)مَسْأَلَة 2الْعلَّة القاصرة صَحِيحَة عندنَا بَاطِلَة عِنْد أبي حنيفَة رض وساعدونا فِي الْعلَّة المنصوصة وَهِي من الْمسَائِل اللفظية فِي علم الْأُصُول فان معنى صِحَّتهَا صلاحيتها لإضافة الحكم إِلَيْهَا وَهَذَا مُسلم عِنْد الْخصم وَمعنى فَسَادهَا عدم اطرادها وَهُوَ مُسلم عندنَاوَقَوْلهمْ لَا فَائِدَة فِيهَا فَإِنَّهَا لَا تثبت حكما فِي غير مَحل النَّص وَقد استغني عَنْهَا فِي مَحل النَّص بَاطِللأَنا نقُول كَمَا أَن المتعدية وَسِيلَة إِلَى إِثْبَات الحكم فالقاصرة وَسِيلَة إِلَى نَفْيه وَكِلَاهُمَا مقصودان فان إِثْبَات الحكم فِي مَحل النَّفْي مَحْذُور كَمَا أَن نَفْيه فِي مَحل الْإِثْبَات مَحْذُورثمَّ تولد من هَذَا النّظر مَسْأَلَة أُخْرَى لفظية فِي الْأُصُول أفردها(1/47)الأصوليون بِالنّظرِ وَهِي أَن الحكم فِي مَحل النَّص يُضَاف إِلَى النَّص أَو الْعلَّةقَالَ الشَّافِعِي رض تُضَاف إِلَى النَّص وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تُضَاف إِلَى الْعلَّةيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ لَا ينْقض الْوضُوء عِنْد الشَّافِعِي رض فَإِن الْعلَّة فِيهِ مَقْصُورَة على مَحل النَّص وَهُوَ خُرُوج الْخَارِج من المسلك الْمُعْتَادوَعِنْده ينْقض فَإِن الْعلَّة فِي الأَصْل خُرُوج النَّجَاسَة من بدن الْآدَمِيّوَمِنْهَا الْإِفْطَار بِالْأَكْلِ وَالشرب فِي نَهَار رَمَضَان فَإِنَّهُ لَا(1/48)يُوجب الْكَفَّارَة عندنَا لِأَن الْعلَّة فِيهِ خُصُوص الْجِمَاعوَعِنْده عُمُوم الْإِفْسَادوَمِنْهَا أَن عِلّة تَحْرِيم الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ الثمينة المختصة بهماوَعِنْده الْوَزْن مَعَ الجنسيةوَمِنْهَا أَن عِلّة وجوب نَفَقَة الْقَرِيب البعضية المختصة بالوالدين والمولودينوَعِنْده عُمُوم الرَّحِم وفسروا الرَّحِم الْمحرم بِأَن كل شَخْصَيْنِ لَو كَانَ أَحدهمَا ذكرا وَالْآخر أُنْثَى حرم عَلَيْهِ نِكَاحه فَإِنَّهُ يسْتَحق النَّفَقَة(1/49)مَسْأَلَة 3الزِّيَادَة على النَّص لَيست نسخا عندنَاوَذهب أَبُو حنيفَة رض إِلَى أَنَّهَا نسخ فَلَا تجوز إِلَّا بِمَا يجوز النّسخ بِهِوَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة أَيْضا من الْمسَائِل اللفظية فِي الْأُصُول فان الْخلاف فِيهَا مَبْنِيّ على الْخلاف فِي حَقِيقَة النّسخ وَمَا هيتهفحقيقة النّسخ عندنَا رفع الحكم الثَّابِتوَعِنْدهم هُوَ بَيَان لمُدَّة الحكم فان صَحَّ تَفْسِير النّسخ بِالْبَيَانِ صَحَّ قَوْلهم أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ من حَيْثُ أَنَّهَا بَيَان لكمية الْعِبَادَة أَو كيفيتها وان صَحَّ تَفْسِيره بِالرَّفْع لم تكن الزِّيَادَة نسخا وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل(1/50)مِنْهَا أَن النِّيَّة وَاجِبَة فِي الْوضُوء عندنَا لِأَن أشتراطها لَا يُوجب نسخاوَعِنْدهم لَا تجب لِأَن الله تَعَالَى ذكر غسل الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة فِي الْوضُوء وَلم يذكر النِّيَّة فَمن أوجبهَا فقد زَاد على النَّصوَمِنْهَا أَن التَّغْرِيب يشرع مَعَ الْجلد عندنَاوَعِنْدهم لَا يشرع لِأَن الله تَعَالَى ذكر الْجلد وَلم يذكر التَّغْرِيب فَمن أوجبه فقد زَاد على النَّص وَالزِّيَادَة على النَّص(1/51)نسخوَمِنْهَا أَن الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين جَائِز عندنَا للْأَخْبَار والْآثَار الْوَارِدَة فِيهِوَعِنْدهم لَا يجوز لِأَن الله تَعَالَى ذكر الرجلَيْن وَالرجل والمرأتين وَلم يذكر الشَّاهِد وَالْيَمِين فَمن عمل بهما فقد زَاد على النَّص(1/52)مَسْأَلَة 4ذهب أَصْحَاب الشَّافِعِي رض إِلَى إِن حرف الْوَاو الناسقة للتَّرْتِيبوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْعَرَب من عَادَتهَا أَن تبدأ بالأهم فالأهم وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامابدؤوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ حَيْثُ سُئِلَ عَن الْبِدَايَة فِي قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} وَعَن عمر رض أَنه سمع شَاعِرًا يَقُول كفى الشيب وَالْإِسْلَام(1/53)للمرء ناهيا فَقَالَ عمر بن الْخطاب رض لَو قدمت الْإِسْلَام على الشيب لأجزتك وَهَذَا يدل على إِن التَّأْخِير فِي اللَّفْظ يدل على التَّأْخِير فِي الرُّتْبَةقَالُوا وَيدل على التَّرْتِيب مَسْأَلَتَانِإِحْدَاهمَا لَو قَالَ فِي مرض مَوته سَالم حر وغانم وَكَانَ سَالم مِقْدَار الثُّلُث اقْتصر الْعتْق عَلَيْهِ دون غَانِم وَلَو كَانَت للْجمع لَو حب أَن يعْتق مِقْدَار الثُّلُث مِنْهُمَا جَمِيعًاالثَّانِيَة قَالُوا لَو قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فَإِنَّهُ لَا يَقع إِلَّا طَلْقَة وَاحِدَة وَلَو كَانَت للْجمع لطلقت ثَلَاثًا كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا أَو طَلْقَتَيْنِوَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحِمهم الله إِلَى أَنَّهَا للاشتراك الْمُطلق(1/54)من غير تعرض للْجمع وَالتَّرْتِيب وَالْمَشْهُور فِي تعاليق الْفِقْه عَن أبي حنيفَة رض أَنَّهَا للْجمع وَلَيْسَ ذَلِك صَحِيحا فِي النَّقْل عَنهُوَإِنَّمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك رَحمَه الله حَتَّى قضى بِوُقُوع الطَّلَاق الثَّلَاث قبل الدُّخُول فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَةوَاحْتج أَبُو حنيفَة رَحمَه الله على اقْتِضَاء الِاشْتِرَاك دون التَّرْتِيب بِدُخُولِهَا فِي بَاب التفاعل تَقول تضارب زيد وَعَمْرو فانه يدل على الْجمع الْمُطلق دون التَّرْتِيب وَلِهَذَا لَا يَصح أَن يُقَال تضارب زيد ثمَّ عَمْروقَالُوا وَلِأَن قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا وعمرا وَلَا يَقْتَضِي ترتيبا فِي وضع اللِّسَان وَلَا يفهم مِنْهُ ذَلِك وَيدل عَلَيْهِ من طَرِيق النَّقْل قَوْله تَعَالَى {وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة} ثمَّ قَالَ فِي سُورَة(1/55)الْأَعْرَاف {وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا} والقصة وَاحِدَة وَلَوْلَا إِن الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب لما جَازَ ذَلِك وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} وَالرُّكُوع مقدم على السُّجُود وَقَالَ الشَّاعِر سقيت الْقَوْم مِنْهُ استقيت والسقي بعد الاستقاءوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِإِحْدَاهمَا أَن التَّرْتِيب مُسْتَحقّ فِي أَفعَال الْوضُوء عِنْد الشَّافِعِي رض تمسكا بقوله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} وَلَا يسْتَحق عِنْدهم لما ذكرنَا(1/56)الثَّانِيَة أَن الْبِدَايَة بالسعي بالصفا دون الْمَرْوَة وَاجِب عندنَا فَلَو ترك التَّرْتِيب لَا يجْزِيهوَعِنْدهم يُجزئهُ(1/57)مَسْأَلَة 5إِذا أَمر الْمُكَلف بِفعل أَجزَأَهُ من ذَلِك مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا يجب فعل كل مَا يتَنَاوَلهُ عِنْد الشَّافِعِي رض وأحتج فِي ذَلِك بِأَن الْأَقَل مستيقن وَالزِّيَادَة مَشْكُوك فِيهَا فَلَا يجب من غير دَلِيلوَذَهَبت الْحَنَفِيَّة وَطَائِفَة من عُلَمَاء الْأُصُول إِلَى أَنه لَا يجْزِيه فعل مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم بل لَا بُد من فعل كل مَا يتَنَاوَلهُ أُسَمِّهِوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الِاسْم ينْطَلق على الْكل حَقِيقَة وعَلى الْبَعْض مجَازًا وَالْكَلَام يحمل على الْحَقِيقَة عِنْد الْإِطْلَاق إِلَى أَن يقوم دَلِيل الْمجَازوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن قَوْله تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} لَا(1/58)يُوجب الْمَضْمَضَة والإستنشاق فِي طَهَارَة الْغسْل عندنَا لِأَنَّهُ يُسمى متطهرا بدونهما وَمَا زَاد على مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الطَّهَارَة لَا نوجبه بِالْآيَةِ بل بِدَلِيل آخروَعِنْدهم يجبان لِأَنَّهُ لايكون متطهرا طَهَارَة كَامِلَة بدونهماوَمِنْهَا مسح الرَّأْس لَا يتَقَدَّر عندنَا بل يكْتَفى بِمَا يُطلق عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ الْأَقَلوَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يتَقَدَّر بِمِقْدَار الناصية(1/59)وَمِنْهَا أَن الْمحرم إِذا لبس الْمخيط يلْزمه الْفِدْيَة وَإِن لم يستدم وَعِنْدهم لَا يلْزمه مَا لم يستدم يَوْمًا أَو لَيْلَة وَلَا يشترطون جمع الْيَوْم وَاللَّيْلَةوَمِنْهَا أَنه لَو نذر هَديا مُطلقًا يجْزِيه مَا يُطلق عَلَيْهِ الِاسْم عندنَا وَعِنْدهم لَا يجْزِيه بل يلْزمه من النعم مَا يجوز أَن يكون أضْحِية وَهُوَ الثني من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم والجذع من الضَّأْن فَأن أهْدى(1/60)مَا لَا يجوز أضْحِية لم يُجزئهُوَمِنْهَا أَن الرجل إِذا أقرّ بِمَال عَظِيم قبل تَفْسِيره بِأَقَلّ مَا يتمولوَعِنْده يلْزمه نِصَاب زكوي وَلَا يحط عَنهُ(1/61)مَسْأَلَة 6خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى مَقْبُول عِنْد الشَّافِعِي رضوأحتج فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} وَرُجُوع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَى قَول عَائِشَة رض فِي التقاء الختانين // هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة عَائِشَة مَعَ أَن ذَلِك مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى(1/62)وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يقبل وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَالَ مَا تعم بِهِ الْبلوى يكثر وُقُوعه فيكثر السُّؤَال عَنهُ وَمَا يكثر السُّؤَال عَنهُ يكثر الْجَواب عَنهُ فَيَقَع التحدث بِهِ(1/63)كثيرا وينقل نقلا مستفيضا ذائعا فَإِذا لم ينْقل مثله دلّ ذَلِك على فَسَاد أَصلهوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن مس الذّكر ينْقض الْوضُوء عندنَا لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ(1/64)وَعِنْدهم لَا ينْقضلِأَن الإعتماد فِيهِ على بسرة بنت صَفْوَان وَلم يتواتروَمِنْهَا أَن أَحَادِيث الْجَهْر بِالتَّسْمِيَةِ مَقْبُولَة عندنَا(1/65)وَعِنْدهم لَا تقبل لعُمُوم الْبلوى بهَاوَمِنْهَا أَن الْمُنْفَرد بِرُؤْيَة الْهلَال إِذا كَانَت السَّمَاء مصحية تقبل شَهَادَته عندنَاوَعِنْدهم لَا تقبل شَهَادَته لعُمُوم الْبلوى وتوافر الدَّوَاعِي على رِوَايَته وَالْجد فِي طلبهوَمِنْهَا أَن خِيَار الْمجْلس يثبت فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات عندنَا تعويلا على حَدِيث عبد الله بن عمر(1/66)وَعِنْدهم لَا يثبت لعُمُوم الْبلوى بِهِ(1/67)مَسْأَلَة 7إِذا دَار اللَّفْظ بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز جَازَ أَن يكون كِلَاهُمَا مرَادا عِنْد الشَّافِعِي رضوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن كل وَاحِد من الْمَعْنيين جَائِز أَن يكون مرَادا بِاللَّفْظِ حَالَة الِانْفِرَاد فَجَاز أَن يكون مرَادا بِهِ حَالَة الِاجْتِمَاع كَلَفْظِ الجون واللونوَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يجوز إِرَادَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي حَالَة وَاحِدَة بل إِذا صَارَت الْحَقِيقَة مُرَادة خرج الْمجَاز عَن كَونه مرَادا وَإِذا صَار الْمجَاز مرَادا خرجت الْحَقِيقَة عَن كَونهَا مُرَادةوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن حد الْحَقِيقَة اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيمَا وضع لَهُ وَالْمجَاز على الضِّدّ مِنْهُ ويستحيل إِرَادَة الشَّيْء وضده بِلَفْظ وَاحِد(1/68)فِي حَالَة وَاحِدَةوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن لمس الْمَرْأَة يُوجب انتفاض الطَّهَارَة عِنْد الشَّافِعِي رضوَعند أبي حنيفَة رض لَا يُوجب لِأَن اللَّمْس مجَاز عَن الْجِمَاع فِي قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} وَالْجِمَاع مُرَاد بِاتِّفَاق حَتَّى صَار حَدثا فَلَا تبقى الْحَقِيقَة مَعَه مُرَادةوَمِنْهَا أَن شرب النَّبِيذ الْمُسكر مُوجب للحد عِنْد الشَّافِعِي رض كَالْخمرِوَغير مُوجب عِنْد أبي حنيفَة رض لِأَن النَّص ورد(1/69)بِإِيجَاب الْحَد بِشرب الْخمر وَالْخمر اسْم للنيئ من مَاء الْعِنَب حَقِيقَة وَإِنَّمَا سمي سَائِر الْأَشْرِبَة خمرًا مجَازًا لاتصال بَين النيئ من مَاء الْعِنَب وَسَائِر الْأَشْرِبَة فِي الْمَعْنى فقد اتفقنا على أَن الْحَقِيقَة مُرَادة بِالنَّصِّ فَلَا يكون الْمجَاز مرَادا مَعهَاوَمِنْهَا أَنه إِذا قَالَ لأمته أَنْت طَالِق وَنوى بِهِ الْعتْق عتقت عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن لفظ الطَّلَاق حَقِيقَة فِي إِزَالَة قيد النِّكَاح مجَاز فِي إِزَالَة ملك الْيَمين فَيعْتَبر فِي مجازه كَمَا يعْتَبر فِي حَقِيقَتهوَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يعْتق لِأَن اللَّفْظ عمل بِهِ فِي حَقِيقَته فَلَا يعْمل بِهِ فِي مجازه(1/70)مسَائِل التَّيَمُّممَسْأَلَة 1كلمة من للتَّبْعِيض عِنْد الشَّافِعِي رضكَقَوْل الْقَائِل أكلت من الطَّعَام وَأخذت من المَال وَيُرِيد بِهِ الْبَعْضوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض هِيَ لابتداء الْغَايَة كَقَوْلِك سرت من الْكُوفَة إِلَى الْبَصْرَة أَي كَانَ ابْتِدَاء مسيري من الْكُوفَةوالمعنيان أصليان فِيهَا إِلَّا إِن اسْتِعْمَالهَا للتَّبْعِيض أشهر وَأكْثر وَيتَفَرَّع عَلَيْهِأَن الْمُتَيَمم يجب عَلَيْهِ نقل الصَّعِيد إِلَى الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن كلمة من اقْتَضَت التَّبْعِيض عِنْده فِي قَوْله(1/71)تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَالظَّاهِر فِي مَظَنَّة التَّعَبُّد نَص فلابد وان ينْقل بعض أَجزَاء الصَّعِيد إِلَى وَجهه وَيَديهوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لايجب النَّقْل بل الْوَاجِب أَن يَبْتَدِئ الْمسْح من الأَرْض حَتَّى لَو مسح بيدَيْهِ على صَخْرَة صماء أَو حجر صلد لَا غُبَار عَلَيْهِمَا كَفاهُ لِأَنَّهُ قد بدا من الأَرْض وَلَو مسح على الْحَيَوَان والنبات لَا يَكْفِيهِ(1/72)مَسْأَلَة 2اسْتِصْحَاب الْحَال فِي الْإِجْمَاع الْمُتَقَدّم بعد وُقُوع الْخلاف حجَّة عِنْد الشَّافِعِي رضوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْإِجْمَاع يجْزم الْخلاف فيستحيل أَن يَقع الْخلافوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا حجَّة فِيهِوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن مَوضِع الْخلاف غير مَوضِع الْوِفَاق لِاسْتِحَالَة أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْموضع الَّذِي اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَا يكون الْإِجْمَاع حجَّة فِي الْمَوْضُوع الَّذِي لَا إِجْمَاع فِيهِوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن الْمُتَيَمم إِذا رأى المَاء فِي أثْنَاء صلَاته لَا تبطل صلَاته(1/73)عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على صلَاته حَالَة الشُّرُوع وَالدَّلِيل الدَّال على صِحَة الشُّرُوع دَال على دَوَامه إِلَّا أَن يقوم دَلِيل الإنقطاعوَتبطل عِنْد أبي حنيفَة رض وَلَا اعْتِبَار بِالْإِجْمَاع على صِحَة صلَاته قبل رُؤْيَة المَاء فان الْإِجْمَاع انْعَقَد حَالَة الْعَدَم لَا حَالَة الْوُجُود وَمن أَرَادَ إِلْحَاق الْعَدَم بالوجود فَعَلَيهِ الدَّلِيل(1/74)مَسْأَلَة 3ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي التّكْرَار واليه ذهب طَائِفَة من الْعلمَاء(1/75)وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَول الْقَائِل افْعَل أَمر بإيجاد جنس الْفِعْل فانه لَو صرح بذلك وَقَالَ أوجد الضَّرْب كَانَ ذَلِك صَحِيحا وَاسم الْجِنْس يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق وَهَذَا الْمَعْنى لَا يثنى وَلَا يجمع فَيتَنَاوَل أعدادا من الْفِعْل لَا نِهَايَة لَهَا فان الْجِنْس متناول للوجود الْكَائِن وَالَّذِي يكَاد إِن سَيكون إِلَى قيام السَّاعَة فَلَا جرم نقُول يجب عَلَيْهِ إتْيَان مَا قدر عَلَيْهِ فان عجز سقط لَا لِأَنَّهُ من مُقْتَضى الصِّيغَة بل لعَجزهوَذهب الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه لَا يَقْتَضِي التّكْرَار وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن التّكْرَار معنى زَائِد على الْفِعْل لِأَن مُقْتَضى قَوْله(1/76)افْعَل أَن يفعل مَا يصير بِهِ فَاعِلا وَهُوَ بالمرة الْوَاحِدَة يصير فَاعِلا على الْحَقِيقَة فمدعي للزِّيَادَة يحْتَاج إِلَى دَلِيلوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَنه لَا يجمع بَين فريضتين بِتَيَمُّم وَاحِد عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن مُقْتَضى قَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} إِن كل قَائِم إِلَى الصَّلَاة يُؤمر بِالْغسْلِ بِالْمَاءِ إِن قدر وبالمسح بِالتُّرَابِ إِن عجز والمتيمم فِي الْمَكْتُوبَة الثَّانِيَة قَائِم إِلَى الصَّلَاة مَأْمُور بِالْغسْلِ إِن قدر فَلْيَكُن مَأْمُورا بِالْمَسْحِ إِن عجز هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ إِلَى إِن يسْتَثْنى مِنْهُ مَا يقوم الدَّلِيل عَلَيْهِوعَلى هَذَا لَا يجوز فعل النَّوَافِل إِن تعيّنت على وَجه(1/77)وَمِنْهَا أَنه لَا يجوز التَّيَمُّم لفريضة قبل دُخُول وَقتهَا عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَنَّهُ أَمر بِالْغسْلِ وَالْمسح عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَالْأَمر عَام غير أَنه ترك الْعَمَل بِهِ فِي الْوضُوء لدَلِيل وَهُوَ انه صَار مَقْصُودا فِي نَفسه حَتَّى تعبدنا فِيهِ بالتكرار والتجديد بِخِلَاف التَّيَمُّم فَيبقى على مُقْتَضى الصِّيغَةوَعِنْده يجوز لما ذَكرْنَاهُوَمِنْهَا أَن السَّارِق يُؤْتى على أَطْرَافه الْأَرْبَعَة عندنَا عملا بقوله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فانه أَمر مُقْتَضَاهُ التّكْرَار بِتَكَرُّر السّرقَةوَعِنْدهم لَا يَقْتَضِي التّكْرَار فَلَا يقطع فِي الْمرة الثَّانِيَة وَهَكَذَا إِذا تَكَرَّرت السّرقَة فِي الْعين الْوَاحِدَة يتَكَرَّر الْقطع عندنَا وَعِنْدهم لَا يتَكَرَّر(1/78)= كتاب الصَّلَاة =مَسْأَلَة 1ذهب الشَّافِعِي رض إِلَى أَن الْمُصِيب وَاحِد فِي المجتهدات الفروعية وَالْحق فِيهَا مُتَعَيّن غير أَن الْإِثْم محطوط عَن الْمُخطئ لغموض الدَّلِيل وخفائهوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْجمع بَين النقيضين المتنافيين وهما الْحل وَالْحُرْمَة وَالصِّحَّة وَالْفساد فِي حق شخص وَاحِد فِي مَحل وَاحِد فِي زمن وَاحِد من بَاب التَّنَاقُض وَنسبَة التَّنَاقُض إِلَى الشَّرْع محَال وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْحق فِي قَوَاعِد العقائد وَاحِد هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي رض وَقد خَالفه فِيهِ مُعظم أَصْحَابهوَذهب الْحَنَفِيَّة والمعتزلة وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب(1/79)وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِإِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَهُوَ مَا نقل عَنْهُم نقلا متواترا أَنهم كَانُوا يَجْتَمعُونَ ويشتورون فِي أَحْكَام الوقائع الْوَاقِعَة وَيُرَاجع بَعضهم بَعْضًا وَيُصلي بَعضهم خلف بعض فِي مُخَالفَته إِيَّاه فِي الْمذَاهبوَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة يرد السَّائِل إِلَى غَيره ويرشده إِلَيْهِ وَذَلِكَ يدل على أَنهم كَانُوا متوافقين على تعدد المطالب وَأَن كل مُجْتَهد مُصِيبوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْلأَن من اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة واجتهد وَصلى إِلَى جِهَة غلب على ظَنّه أَنَّهَا جِهَة الْقبْلَة ثمَّ بِأَن لَهُ يَقِين الْخَطَأ يلْزمه الْقَضَاء عِنْد الشَّافِعِي رض لفَوَات الْحق الْمُتَعَيّن الْخَطَأ يَنْفِي الْإِثْم دون الْقَضَاء كَمَا يَنْفِي التأثيم دون التَّضْمِين فِي بَاب الغراماتوَعِنْدهم لَا يلْزمه الْقَضَاء لتصويبه فِيمَا مضى وَأَن بِأَن أَنه خطأ(1/80)مَسْأَلَة 2اتّفق الْفَرِيقَانِ على أَن الْحق فِي المجتهدات الفروعية وَاحِد معِين عِنْد الله تَعَالَى وَإِنَّمَا مجَال اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فِي طلب الْأَشْبَه بِالْحَقِّ عِنْد كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ عِنْد الله أشبه لِأَن الْأَشْبَه إِنَّمَا يكون فِي حق الْجَاهِل ببواطن الْأُمُور بل إِذا تجاذبت الْوَاقِعَة بَين أصلين تلْحق بأقربهما شبها وَإِنَّمَا يَقع النزاع بعده فِي تعْيين الْأَقْرَب وَالْأَشْبَه إِلَى الأَصْل الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي كل وَاحِدَة من الْجِهَتَيْنِوَيتَفَرَّع عَن هَذَا التَّحْقِيق مسَائِلمِنْهَا أَن تَارِك الصَّلَاة مُتَعَمدا إِذا امْتنع عَن قَضَائهَا قتل عِنْد الشَّافِعِي رضوَعِنْده لَا يقتل بل يحبس وَيضْرب(1/81)ومثار هَذَا الاخلاف تردد الصَّلَاة بَين مشابهة الْإِيمَان وَسَائِر الْأَركانفَوجه شبهها بِالْإِيمَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قرنها بِهِ فَقَالَ الصَّلَاة عماد الدّين فَمن تَركهَا فقد هدم الدّين وَقَالَ من ترك الصَّلَاة مُتَعَمدا فقد كفر وامتازت عَن سَائِر الْأَركان بِأَن(1/82)لَا تدْخلهَا النِّيَابَة كأصل الْإِيمَان وَالزَّكَاة أَدَاؤُهَا قهرا وَالْحج لَا يجب على الْفَوْر عندنَا وَالصَّوْم تدخله النِّيَابَة فِي الْجُمْلَةوَوجه شبهها بِسَائِر الْأَركان أَن الْإِسْلَام يتم بِدُونِهَا إِجْمَاعًاوَمِنْهَا أَن تعْيين النِّيَّة مُعْتَبر فِي صَوْم رَمَضَان عندنَاوَعِنْدهم لَا يعْتَبر لتردد الصَّوْم بَين الصَّلَاة وَالْحج(1/83)وَالشَّافِعِيّ رض يَقُول هُوَ بِالصَّلَاةِ أشبه لِأَنَّهُ عبَادَة بدنية لَا تدْخلهَا النِّيَابَةوَأَبُو حنيفَة رض يَقُول هُوَ بِالْحَجِّ أشبه لاشْتِرَاكهمَا فِي وجوب الْكَفَّارَة بالإفسادوَمِنْهَا أَن لعان العَبْد وَالذِّمِّيّ صَحِيح عِنْد الشَّافِعِي تَغْلِيبًا لمشابهة اللّعان بِالْإِيمَانوَلَا يَصح عِنْدهم تَغْلِيبًا لمشابهته بالشهادات وَصِيغَة اللّعان تشْتَمل على اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًاوَمِنْهَا أَن حد الْقَذْف يُورث عندنَا وَيسْقط بِإِسْقَاط الْمُسْتَحق لِأَن الْمُغَلب فِيهِ شَائِبَة حق الْآدَمِيّ بِدَلِيل توقف الِاسْتِيفَاء على مُطَالبَة الْمُسْتَحق وَكَونه لَا يسْقط بِالرُّجُوعِ عَن الْإِقْرَار وَلَا يسْقط عِنْد الْخصم بتقادم الْعَهْد وَيَقْضِي فِيهِ القَاضِي بِعِلْمِهِ وَيثبت بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة وَكتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي بِخِلَاف حُقُوق الله تَعَالَى(1/84)وَعِنْدهم لَا يُورث وَلَا يسْقط بِإِسْقَاط الْمَقْذُوف لِأَن الْمُغَلب فِيهِ حق الله تَعَالَى بِدَلِيل أَنه ينشطر بِالرّقِّ وَالْحريَّة وَلَا يَقع موقعه إِذا اسْتَوْفَاهُ الْمَقْذُوفوَمِنْهَا أَن الْمولي يُوقف بعد أَرْبَعَة أشهر فَإِن فَاء وَإِلَّا كلف بِالطَّلَاق أَو طلق عَلَيْهِ القَاضِي عندنَا لِأَن الْإِيلَاء بِيَمِين على منع حق عندنَا فَأشبه الْيَمين على منع النَّفَقَةوَعِنْدهم إِذا انْقَضتْ الْمدَّة بَانَتْ بِطَلْقَة وَاحِدَة لِأَنَّهُ يشبه يَمِين الطَّلَاق من حَيْثُ أَن الطَّلَاق يزِيل الْملك فَيحرم الْوَطْء وَالْيَمِين يحرم الْفِعْل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَجَاز أَن يقوم مقَامه(1/85)وَيدل عَلَيْهِ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ الايلاء طَلَاق الْقَوْم فِي الْجَاهِلِيَّة فَزَاد الشَّرْع فِيهِ آجلاوَمِنْهَا إِن العدتين من رجلَيْنِ لَا تتداخلان عندنَالِأَن الْمُغَلب فِي الْعدة معنى الْعِبَادَة بِدَلِيل وُجُوبهَا مَعَ تقين بَرَاءَة الرَّحِم وَهُوَ مَا إِذا علق طَلاقهَا بِالْولادَةِ وَبِاعْتِبَار الإقراء الثَّلَاثَة مَعَ حُصُول الِاسْتِبْرَاء بِوَاحِدوَلذَا لَو طلق إِحْدَى امرأتيه وَمَات قبل الْبَيَان فانه يجب الْعدة على كل وَاحِدَة مِنْهُمَا والعبادات لَا تتداخل كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةوَعِنْدهم تتداخلان لِأَن الْمُغَلب فِيهَا معنى الإستبراء وَذَلِكَ حَاصِل بِوَاحِدَة مِنْهُمَاوَمِنْهَا أَن قيمَة العَبْد تجب بَالِغَة مَا بلغت عندنَا(1/86)وَعِنْده ترد إِلَى الْألف وَينْقص لتردد العَبْد بَين النُّفُوس وَالْأَمْوَال وازدحام الْمَعْنيين عَلَيْهِفالشافعي رض يَقُول هُوَ بِالْمَالِ أشبه من حَيْثُ إِنَّه يُبَاع ويشترى ويرهنوَأَبُو حنيفَة رض يَقُول هُوَ بِالْحرِّ أشبه من حَيْثُ إِنَّه يجب الْقصاص على من قَتله إِن كَانَ عبدا وَتجب الْكَفَّارَة بقتْله وتتوجه نَحوه التكاليف وَالْحُدُود وَهُوَ آدَمِيّ فَكَانَ بالآدمي أشبهوَمِنْهَا أَن جَنِين الْأمة يعْتَبر فِي تقويمه بِأُمِّهِ عندنَا فَيجب فِيهِ عشر قيمَة أمه(1/87)وَعِنْدهم يعْتَبر بِنَفسِهِ فَيجب فِيهِ نصف عشر قِيمَته إِن كَانَ ذكرا أَو عشر قِيمَته إِن كَانَ أُنْثَى لإستواء النسبتين إِلَى مَحل النَّص وَهُوَ جَنِين الْحرَّةومثار هَذَا التَّرَدُّد تعَارض الإشتباه وَهُوَ أَن الْجَنِين فِي حكم عُضْو من أَعْضَاء الْأُم من حَيْثُ إِنَّه يتبعهَا فِي البيع وَالْهِبَة وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير وَالْوَصِيَّة وَهُوَ مُنْفَرد بِنَفسِهِ من حَيْثُ إِنَّه يَرث وَيُورث وَتصرف غرته إِلَى ورثته وَلَا تخْتَص باستحقاقها الْأُم بِخِلَاف سَائِر أَجْزَائِهَافالشافعي رض يرجح إِلْحَاقه بالأجزاء لعسر اعْتِبَاره بِنَفسِهِ وَأَبُو حنيفَة رض يرجح إِفْرَاده بِنَفسِهِ لإعتضاده بالحس والمشاهدة قبل الِاسْتِيفَاء(1/88)وَمِنْهَا أَن الْجِزْيَة لَا تسْقط بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْت وَلَا بتداخل السنين عندنَاوَعِنْدهم تسْقطومثار هَذَا النزاع أَن الْجِزْيَة عندنَا وَجَبت عوضا لسكناهم فِي دَارنَا وعصمتنا إيَّاهُم وذبنا عَنْهُموَعِنْدهم وَجَبت عُقُوبَة على الْكَافِر بِسَبَب الْكفْر وشأن الْعُقُوبَات التَّدَاخُل والسقوط بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَام(1/89)مَسْأَلَة 3الْوَاجِب يَنْقَسِم إِلَى مضيق وموسع عِنْد الشَّافِعِي رضوَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن الْوُجُوب مُسْتَفَاد من الْأَمر وَالْأَمر يتَنَاوَل الْوَقْت وَلم يتَعَرَّض لجزء من أَجْزَائِهِ إِذْ لَو دلّ الْأَمر تَخْصِيصه بِبَعْض أَجزَاء الْوَقْت لَكَانَ ذَلِك غير الْمَسْأَلَة الْمُتَنَازع فِيهَا وَإِذ لم يكن فِي الْأَمر دلَالَة على تَخْصِيص الْفِعْل بِجُزْء من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ كل جُزْء من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْت قَابلا لَهُ وَجب أَن يكون ذَلِك الْأَمر هُوَ إِيجَاب إِيقَاع ذَلِك الْفِعْل فِي أَي جُزْء كَانَ من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْتوَأنكر أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحِمهم الله التَّوَسُّع فِي الْوُجُوب(1/90)وَزَعَمُوا أَن الْوُجُوب يخْتَص بآخر الْوَقْت وَلَو أَتَى بِهِ فِي أول الْوَقْت كَانَ جَارِيا مجْرى تَعْجِيل الزَّكَاة قبل وَقتهَاوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْوَاجِب مَا انحتم فعله وَتعين أَدَاؤُهُ ويلام تَاركه وَهَذَا مَفْقُود فِي مَسْأَلَتنَا فانه فِي الزَّمَان الأول بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ لم يفعل فَلَو كَانَ وَاجِبا فِي هَذِه الْحَالة لما تصور أَن يتَخَيَّر لِأَن التخير يُوجب النفلية دون الْوُجُوب والفرضيةوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن الصَّلَاة تحب بِأول الْوَقْت عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله(1/91)عَنهُ وجوبا موسعا ممتدا من أول الْوَقْت إِلَى آخِرهوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا تجب إِلَّا فِي آخر الْوَقْت وَالْأَدَاء فِيهِ يَقع تعجيلا أَو نقلا ثمَّ يَنْقَلِب فرضاوَأَن الصَّبِي إِذا صلى فِي أول الْوَقْت ثمَّ بلغ فِي آخِره لم يلْزمه إِعَادَة الصَّلَاة عندنَاوَعِنْده يلْزمه لِأَن الْوُجُوب يثبت فِي آخر الْوَقْت وَقد صَار فِيهِ أَهلا للْوُجُوب فَبَان أَن مَا أَدَّاهُ لم يكن وَظِيفَة وقته بِخِلَاف الْبَالِغ إِذا صلى فِي أول الْوَقْت فَإِنَّهُ كَانَ أَهلا للْوُجُوبوَمِنْهَا أَن تَعْجِيل الصَّلَوَات فِي أَوَائِل الْأَوْقَات عِنْد الشَّافِعِي رض أفضل لِئَلَّا يتَعَرَّض لخطر الْعقَاب فقد ذهب بعض(1/92)أَصْحَابنَا رَحِمهم الله إِلَى من أخر الصَّلَاة عَن أول الْوَقْت مِقْدَارًا يسع الْفَرْض وَمَات لَقِي الله عَاصِياوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض تَأْخِيرهَا إِلَى آخر الْوَقْت أفضل إِذْ لَا وجوب فِي أول الْوَقْت وَإِنَّمَا شرع الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت رخصَة من الشَّارِع للْحَاجة وَلَيْسَ الْإِتْيَان بالرخص أفضل من غَيره بل الْأَفْضَل مُرَاعَاة وَقت الْوُجُوبوَمِنْهَا إِن الْمُسَافِر إِذا سَافر فِي أول الْوَقْت أَو حَاضَت الْمَرْأَة بعد دُخُول الْوَقْت وَمضى مِقْدَار الْفِعْل من الزَّمَان يجب الْإِتْمَام على الْمُسَافِر وَالْقَضَاء على الْحَائِض عندنَا لِأَنَّهُمَا أدْركَا وَقت الْوُجُوبوَعِنْده لَا يجب بِنَاء على أَن الْوُجُوب لم يتَحَقَّق فِي أول الْوَقْتوَمِنْهَا إِن قَضَاء الصَّلَوَات والصيامات وَالنُّذُور الْمُطلقَة وَالْكَفَّارَات تجب وجوبا موسعا عندنَا(1/93)وَعِنْده تجب مضيقا على الْفَوْروَمِنْهَا أَن الْحَج يجب عندنَا وجوبا موسعا يسوغ تَأْخِيره مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِوَعِنْده يجب مضيقا على الْفَوْر وَالله أعلم(1/94)مَسْأَلَة 4فعل النَّاسِي والغافل لَا يدْخل تَحت التَّكْلِيف عِنْد الشَّافِعِي رض وَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن التَّكَلُّف للْفِعْل إِنَّمَا يُكَلف إِيقَاعه أَو اجتنابه على وَجه التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى بِهِ وَالْقَصْد إِلَى التَّقَرُّب بِفعل بِعَيْنِه أَو اجتنابه مُتَضَمّن للْعلم بِهِ حَتَّى يَصح الْقَصْد إِلَيْهِ دون غَيره وموقع الشَّيْء مَعَ السَّهْو وَعدم الْقَصْد لَا يَصح أَن يكون فِي سَهْوه ونسيانه عَالما وقاصدا إِلَيْهِ بِعَيْنِه فضلا عَن قصد التَّقَرُّب بِهِوَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى إِن على النَّاسِي والغافل تكليفا فِي أَفعاله وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك باستقرار الْعِبَادَات فِي ذمَّته حَال ذُهُوله وغفلته وَكَذَا لُزُوم الغرامات وَأرش الْجِنَايَاتوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا إِن كَلَام النَّاسِي لَا يبطل الصَّلَاة عندنَا لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا كَانَ مُفْسِدا للصَّلَاة كَونه مَنْهِيّا عَنهُ وَالنَّاسِي لَيْسَ مَنْهِيّا عَنهُ(1/95)لتعذر تَكْلِيفه فَلَا تفْسد الصَّلَاةوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض تبطل لِأَن الْكَلَام إِثْمًا كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ لكَونه مُفْسِدا والمفسد مُفسد بصورته فَلَا يخْتَلف بالسهو وَالنِّسْيَان إِذْ الْإِفْسَاد فِي الْعِبَادَات كالإتلاف فِي المحسوسات وَاعْتَذَرُوا عَن الْأكل نَاسِيا فِي الصَّوْم بِأَنَّهُ خُولِفَ فِيهِ الْقيَاس اسْتِحْسَانًاوَمِنْهَا انه إِذا تمضمض فَسبق المَاء إِلَى حلقه من غير قصد وَهُوَ ذَاكر للصَّوْم لَا قَضَاء عَلَيْهِ عندنَاوَعِنْدهم يجب الْقَضَاء(1/96)وَمِنْهَا إِن النَّائِم إِذا صب المَاء فِي حلقه لَا قَضَاء عَلَيْهِ عندنَاوَعِنْدهم يلْزمه الْقَضَاءوَمِنْهَا إِن الْمحرم إِذا تطيب أَو لبس نَاسِيا لم تلْزمهُ الْفِدْيَة عندنَا خلافًا لَهُ وَكَذَا إِذا تطيب أَو لبس ذَاكِرًا للْإِحْرَام جَاهِلا للتَّحْرِيم لَا فديَة عَلَيْهِ عندنَاوَتلْزَمهُ عِنْدهم(1/97)مَسْأَلَة 5الْكفَّار مخاطبون بِفُرُوع الْإِسْلَام عِنْد الشَّافِعِي رض وَإِلَيْهِ ذهب أَكثر الْمُعْتَزلَةوأحتج فِي ذَلِك بعمومات من الْقُرْآن كَقَوْلِه تَعَالَى {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} فَهَذَا يدل على أَنهم معاقبون(1/98)بترك الصَّلَاة وَكَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} إِلَى قَوْله {يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} وَقَوله تَعَالَى {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة}وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض وجماهير أَصْحَابه انهم غير مخاطبين وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا لَو وَجَبت الصَّلَاة على الْكَافِر مثلا لَوَجَبَتْ أما فِي حَال كفره أَو بعده وَالْأول بَاطِل لإمتناع الصَّلَاة من الْكَافِر حَال كفره وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لاتفاقنا على أَن الْكَافِر إِذا أسلم لايؤمر بِقَضَاء الصَّلَوَات الْفَائِتَة فِي أَيَّام الْكفْروَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا إِن الْمُرْتَد إِذا أسلم لزمَه قَضَاء الصَّلَوَات الْفَائِتَة فِي أَيَّام(1/99)الرِّدَّة وَكَذَا أَيَّام الصّيام الْفَائِت فِي أَيَّام الرِّدَّة عندنَا خلافًا لَهُ فَإِنَّهُ الْحق الْمُرْتَد بالكافر الْأَصْلِيّ فِي أَنه لَا يُخَاطب بِفُرُوع الشَّرْعوَمِنْهَا إِن الْمُسلم إِذا اجْتمع عَلَيْهِ صلوَات وزكوات فَارْتَد ثمَّ أسلم لم تسْقط عَنهُ عندنَاوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يسْقط الْجَمِيع بردته وبرئت ذمَّتهوَمِنْهَا إِن ظِهَار الذِّمِّيّ الصَّحِيح عندنَا كطلاقهوَعِنْدهم لَا يَصح لِأَنَّهُ يعقب كَفَّارَة لَيْسَ هُوَ من أَهلهَاوَمِنْهَا أَن الْكفَّار إِذا استولوا على أَمْوَال الْمُسلمين وأحرزوها بدارهم لَا يملكونها عندنَا لِأَنَّهَا معصومة مُحرمَة التَّنَاوُل(1/100)وَعِنْدهم يملكونها لِأَن تَحْرِيم التَّنَاوُل من فروع الْإِسْلَام وهم غير مخاطبين بهَا وَلِهَذَا لم يجب عَلَيْهِم الْقصاص بقتل الْمُسلمين وَلَا ضَمَان مَا أتلفوه من أَمْوَالهم(1/101)مَسْأَلَة 6مُعْتَقد الشَّافِعِي رض أَن كل مصل يُصَلِّي لنَفسِهِ وَلَا شركَة بَين الإِمَام وَالْمَأْمُوم بل كل فِي صَلَاة نَفسه أداءا وَحكما وَإِنَّمَا معنى الْقدْوَة الْمُتَابَعَة فِي أَفعاله الظَّاهِرَة ليَكُون أحوط فِي إبعاد الصَّلَاة عَن السَّهْو والغفلة وَلَا يتَغَيَّر من أَحْكَام الصَّلَاة شَيْء إِلَّا مَا يرجع إِلَى الْمُتَابَعَة فانه الْتزم بنية الإقتداء مُتَابعَة الإِمَام فَلَو أَرَادَ التَّقَدُّم أَو التَّخَلُّف لم يجز لِأَنَّهُ يُخَالف الْوَفَاء بِمَا الْتزموَقَالَ أَبُو حنيفَة رض صَلَاة الْمَأْمُوم تَابِعَة لصَلَاة الإِمَام صِحَة وَفَسَادًا لَا أداءا وَعَملا وَهِي كالمندرجة فِي ضمن صَلَاة الإِمَام لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الإِمَام ضَامِن والمؤذن مؤتمنوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل(1/102)مِنْهَا أَن الْقدْوَة لَا تسْقط قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب عَن الْمَأْمُوم عندنَاوَعِنْده تسْقطوَمِنْهَا أَن إختلاف نِيَّة الإِمَام وَالْمَأْمُوم لَا يمْنَع الْقدْوَة مَعَ التَّسَاوِي فِي الْأَفْعَال عندنَا حَتَّى يجوز إقتداء المفترض بالمتنفل وَالْقَاضِي بالمؤدي والمؤدي بِالْقَاضِي والمتم بالقاصروَمِنْهَا إِذا بِأَن كَون الإِمَام جنبا أَو مُحدثا بعد الصَّلَاة لم تجب الْإِعَادَة على الْمَأْمُوم عندنَاوَعِنْده تجب بِنَاء على قَاعِدَة الإندراج وتنزيل حدث الإِمَام منزلَة حدث الْمَأْمُوموَمِنْهَا أَن الْمَرْأَة إِذا وقفت بِجنب الإِمَام انْعَقَدت صلَاتهَا(1/103)وَعِنْده تَنْعَقِد صلَاتهَا ثمَّ تفْسد صَلَاة الإِمَام ثمَّ تفْسد صلَاتهَا وَصَلَاة المقتدين(1/104)مَسْأَلَة 7النِّكَاح يتَنَاوَل الزَّوْج كَمَا يتَنَاوَل الزَّوْجَة وَحكمه مُشْتَرك بَينهمَا وَلذَلِك اشْتَركَا فِي التَّسْمِيَة والحل والإنتهاء بِمَوْت كل وَاحِد مِنْهُمَاوَحكمه عِنْد الشَّافِعِي رض الزَّوْجِيَّة الْمقدرَة بَين الزَّوْجَيْنِ أَو الْحل اللَّازِم من الْجِهَتَيْنِوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض النِّكَاح يتَنَاوَل الزَّوْجَة دون الزَّوْج وَحكمه حُدُوث الْملك للزَّوْج على الزَّوْجَة والمالكية مُخْتَصَّة بِهِ دونهَا وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِإِطْلَاق الْآيَة القَوْل بِأَن الْوَطْء لَا يستباح إِلَّا بِملك نِكَاح أَو ملك يَمِين وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام النِّكَاح رق فَلْينْظر أحدكُم أَيْن يضع كريمته قَالَ وَالرّق فِي بني آدم عبارَة(1/105)عَمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْملك وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَنه يجوز للزَّوْج غسل زَوجته عندنَا كَمَا يجوز لَهَا غسله لاشْتِرَاكهمَا فِي حل الْمس وَالنَّظَروَعِنْدهم لَا يجوز لإنقطاع الْمَالِكِيَّة بِفَوَات مَحل الْملكوَمِنْهَا أَن النِّكَاح لَا ينْعَقد عندنَا إِلَّا بِلَفْظ التَّزْوِيج والإنكاح الدالين على حكمه(1/106)وَعِنْدهم ينْعَقد بِلَفْظ البيع وَالْهِبَة وَالتَّمْلِيكوَمِنْهَا أَنه إِذا أضَاف الطَّلَاق إِلَى نَفسه فَقَالَ أَنا مِنْك طَالِق وَنوى الطَّلَاق يَقع وَكَذَا إِذا قَالَ طَلِّقِي نَفسك فَقَالَت أَنْت مني طَالِق يَقعوَعِنْدهم لَا يَقع وساعدونا فِيمَا إِذا أضَاف إِلَى نَفسه لفظ الْبَيْنُونَة وَالله أعلم(1/107)= كتاب الزَّكَاة =مَسْأَلَة 1مَذْهَب الشَّافِعِي رض أَن الْأَمر الْمُطلق الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن يَقْتَضِي الْفَوْر وأحتج فِي ذَلِك بِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّأْخِير لجَاز إِمَّا إِلَى غَايَة مُعينَة أَو لَا إِلَى غَايَة مُعينَة وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ خرق الْإِجْمَاع وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لِأَن التَّأْخِير لَا إِلَى غَايَة مُعينَة يتَضَمَّن جَوَاز التّرْك لَا إِلَى غَايَة وَذَلِكَ يُنَافِي القَوْل بِوُجُوبِهِوَذهب كثير من أَصْحَاب أبي حنيفَة رض وَطَائِفَة من عُلَمَاء الْأُصُول إِلَى أَنه على التَّرَاخِي وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْأَمر لَهُ دلَالَة على استدعاء الْفِعْل وَلَا دلَالَة لَهُ على الزَّمَان بل الْأَزْمِنَة كلهَا بِالْإِضَافَة(1/108)إِلَيْهِ سَوَاء فَتعين الزَّمَان بعد ذَلِك اعْتِبَارا وَلَا دلَالَة عَلَيْهِ بل حَظّ الْفِعْل من الْوَقْت الثَّانِي كحظه من الْوَقْت الأول فَكَمَا جَازَ فِي الأول جَازَ فِي الثَّانِي وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِل(1/109)مِنْهَا أَن الزَّكَاة تجب على الْفَوْر عِنْد الشَّافِعِي رض وَعِنْدهم على التَّرَاخِيوَمِنْهَا أَن المَال إِذا حَال عَلَيْهِ الْحول وَوَجَبَت الزَّكَاة وَتمكن من أَدَائِهَا ثمَّ تلف لم تسْقط الزَّكَاة عندنَا لِأَنَّهُ عصى بِالْمَنْعِ فتنزل منزلَة مَا لَو تلف أَو الْمُودع إِذا أمتنع من ردهَا ثمَّ تلفوَعِنْدهم تسْقط إِذْ لَا عصيان مَعَ جَوَاز التَّأْخِير مَسْأَلَة 2 مُعْتَقد الشَّافِعِي رض أَن الزَّكَاة مؤونة مَالِيَّة وَجَبت للْفُقَرَاء على الْأَغْنِيَاء بِقرَابَة الْإِسْلَام على سَبِيل الْمُوَاسَاة(1/110)وَمعنى الْعِبَادَة تبع فِيهَا وَإِنَّمَا أثْبته الشَّرْع ترغيبا فِي أَدَائِهَا حَيْثُ كَانَت النُّفُوس مجبولة على الضنة وَالْبخل فَأمر بالتقرب إِلَى الله تَعَالَى بهَا ليطمع فِي الثَّوَاب ويبادر إِلَى تَحْقِيق الْمَقْصُودوأحتج فِي ذَلِك بِحُصُول مقصودها مَعَ الإمتناع قهرا وَجَوَاز التَّوْكِيل فِي أَدَائِهَا وَتحمل الزَّوْج عَن زَوجته وَالسَّيِّد عَن عَبدهوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض الزَّكَاة وَجَبت عبَادَة لله تَعَالَى ابْتِدَاء وشرعت ارتياضا للنَّفس بتنقيص المَال من حَيْثُ إِن الِاسْتِغْنَاء بِالْمَالِ سَبَب للطغيان ووقوعه فِي الْفساد قَالَ الله تَعَالَى {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} والطغيان أثر فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب فِي الْآخِرَة وبالزكاة يحصل الإرتياض والامتناع من الطغيان قَالَ وَلَا يلْزم وُجُوبهَا على الْأَنْبِيَاء مَعَ إنتفاء اسْتِحْقَاق الْعقَاب فِي حَقهم لكَوْنهم معصومين فَإنَّا لَا نعتبر الْعقَاب بِاعْتِبَار(1/111)ذَاته بل بِاعْتِبَار سَببه وَسبب الْعقَاب يَصح مِنْهُم وَلَكِن لَا يُوجد مِنْهُم بِاعْتِبَار الْعِصْمَة وَلِهَذَا صَحَّ نهيهم عَن اسْتِحْقَاق الْعُقُوبَات وَالنَّهْي إِنَّمَا يَصح تعلقه بالممكن دون الْمُمْتَنعوأحتج فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني الْإِسْلَام على خمس وَزعم إِن الْإِسْلَام عبَادَة مَحْضَة وَكَذَا سَائِر أَرْكَانه وَالزَّكَاة من جُمْلَتهَا فَيجب إِن تكون كَذَلِك وَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن الزَّكَاة تجب على الصَّبِي وَالْمَجْنُون عندنَا كَمَا تجب عَلَيْهِمَا سَائِر الْمُؤَن الْمَالِيَّةوَعِنْدهم لَا تجب إِذْ لَا عِقَاب وَلَا طغيان فِي حَقّهمَا فتتمحض الزَّكَاة إِضْرَارًاوَمِنْهَا أَن الزَّكَاة لَا تسْقط بِمَوْت من هِيَ عَلَيْهِ عندنَا بل تخرج(1/112)من رَأس المَالوَعِنْدهم لَا تُؤْخَذ من تركته لإمتناع حُصُول الِابْتِلَاء فِي حَقه وَوُقُوع الْعقَابوَمِنْهَا إِن الزَّكَاة تجب على الْمَدْيُون عندنَا لاستغنائه بِمَا فِي يَده وَتعلق الدّين بِذِمَّتِهِوَعِنْدهم لَا تجب لِامْتِنَاع الارتياض فِي حَقه لكَونه مقهورا بِالدّينِ مُمْتَنعا عَن الطغيانوَمِنْهَا إِن الزَّكَاة تجب فِي مَال الضَّمَان والإخراج بعد عود المَالوَعِنْدهم لَا تجب لِأَن هَذَا المَال لَيْسَ سَببا لوُقُوعه فِي الطغيانوَمِنْهَا إِن الزَّكَاة لَا تجب فِي الْحلِيّ الْمُبَاح عندنَا لِأَنَّهُ مُتَعَلق(1/113)حَاجَة الْمَالِك وَفِي ايجابها إبِْطَال لِمَعْنى الْمُوَاسَاةوَعِنْدهم تجب لِأَن حَاجَة التحلي لَا تمنع من الْوُقُوع فِي الطغيان فَتجب الزَّكَاة ليحصل الارتياضوَمِنْهَا أَن الْمُسْتَفَاد فِي أثْنَاء الْحول لَا يضم مَا عِنْده بل يسْتَأْنف لَهُ حول عندنَاوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يضم إِلَى مَا عِنْده وَصُورَة الْمَسْأَلَة مَا إِذا ملك نِصَابا وَفِي ملكه نِصَاب قد مَضَت عَلَيْهِ سِتَّة أشهر مثلا فعندنا يفرد مَا يملكهُ ثَانِيًا بحول مُسْتَأْنف تَحْقِيقا لِمَعْنى الرِّفْق بالمالك فِي الْمُؤَن الْمَالِيَّة إِذْ الْوُجُوب فِي بَاب الْمُؤَن والنفقات إِنَّمَا يتَعَلَّق بالفاضل من أَصْنَاف الْحَاجَات وأنواع الْمُهِمَّات على سَبِيل الْيُسْر والسهولة مُقَدرا بِقدر الضَّرُورَة وَفِي تَكْلِيف الْأَدَاء قبل مَظَنَّة الإستنماء عسر وحرج(1/114)وَعِنْدهم إِذا تمّ حول الأَصْل زكى الْجَمِيع تَحْقِيقا لِمَعْنى الْعِبَادَة بالابتلاء والامتحانوَمِنْهَا أَن أحد النَّقْدَيْنِ لَا يضم إِلَى الآخر فِي كَمَال النّصاب عندنَا إتباعا لقاعدة الْيُسْر لِأَن الضَّم بِالْقيمَةِ يتَضَمَّن عسرا وحرجاوَعِنْدهم يضم أَحدهمَا للْآخر لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب مِنْهُمَا وَهُوَ الإعداد للنماءوَمِنْهَا أَن الْخلطَة مُؤثرَة فِي الزَّكَاة فتجعل الْمَالَيْنِ كَمَال وَاحِد والمالكين كمالك وَاحِد حَتَّى لَو كَانَ لأَحَدهمَا عشرُون من الْغنم وَللْآخر عشرُون وخلطاهما وَاجْتمعت شرائطهما وَجَبت عَلَيْهِمَا الزَّكَاة بعد الْحول فيخرجان شَاة من الْأَرْبَعين بِنَاء على مَا ذكرنَا من كَونهَا مؤونة مَالِيَّة والركن فِيهَا المَال وَلَا نظر إِلَى الْمَالِك بل إِلَى المَال(1/115)وَعِنْدهم لَا تجب لِأَنَّهَا عبَادَة والركن فِيهَا الشَّخْص المتعبد فَإِذا لم يكن غَنِيا يملك النّصاب لم يكن من أهل هَذِه الْعِبَادَةوَمِنْهَا أَن الْعشْر لَا يجب فِيمَا عدا الأقوات عندنَا لِأَن شرع الزَّكَاة لدفع الضرورات وسد الجوعات والضرورات تتَعَلَّق بالأقوات دون الْبُقُول والخضرواتوَعِنْدهم يجب فِي كل مَا ينبته الآدميون وكل مَا يُؤْكَل قوتا وتحليا وتفكها سوى الْحَشِيش والقصب الْفَارِسِي مُرَاعَاة لِمَعْنى الِابْتِلَاء والامتحان وَالله تَعَالَى أعلم(1/116)= كتاب الصَّوْم =مسالة 1النَّفْي الْمُضَاف إِلَى جنس الْفِعْل كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صِيَام لمن لم يجمع الصّيام من اللَّيْل يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَلَا يعد من المجملات(1/117)عندنَا لِأَن الْمُجْمل هُوَ اللَّفْظ الَّذِي يتَنَاوَل مسميات كل وَاحِد مِنْهَا يجوز أَن يكون مرَادا للمتكلم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فَأَنَّهُ يَشْمَل الْعشْر وَنصف الْعشْر وَربع الْعشْر فَكل وَاحِد مِنْهَا يجوز أَن يكون مرَادا وَذَلِكَ مَعْدُوم فِي الْمِثَال فَإِن الْإِمْسَاك اللّغَوِيّ الْحَقِيقِيّ لَا يجوز أَن يكون مرَادا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا لم يكن مرَادا بَطل أحد الْقسمَيْنِ وَإِذا بَطل أحد الْقسمَيْنِ(1/118)تعين الآخر وَهُوَ نفي الصَّوْم الشَّرْعِيّ وَذهب الْحَنَفِيَّة والقدرية إِلَى امْتنَاع الْعَمَل بِهِ وَدَعوى الْإِجْمَال لتردده بَين نفي الصَّوْم الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ الْإِمْسَاك وَبَين نفي الصَّوْم الشَّرْعِيّويتفرغ عَن هَذَا الأَصْلاعْتِبَار التبييت فِي الصَّوْم الْمَفْرُوض عندنَا عملا بِالْحَدِيثِوَعدم الإعتبار عِنْدهموَمن هَذَا القَوْل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور(1/119)لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب لَا نِكَاح إِلَّا بولِي(1/121)مرشد // أخرج الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق الشَّافِعِي لَا صَلَاة إِلَّا لفرد خلف الصَّفّ(1/122)وَالْقَوْل الْجَامِع فِي هَذَا الْجِنْس أَن اللَّفْظ الْوَاحِد إِذا كَانَ لَهُ عرف فِي اللُّغَة وَثَبت لَهُ عرف فِي الشَّرْع فَعِنْدَ إِطْلَاق الشَّرْع ينْصَرف إِلَى عرف الشَّرْع الَّذِي ثَبت لَهُ وَلَا يحمل على الْحَقِيقِيَّة اللُّغَوِيَّة إِلَّا بِدَلِيل وَتصير الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة كالمجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعرف الشَّرْعِيّ لِأَن الشَّرْع وعرفه مقدم فِي مَقْصُود خطاب الله تَعَالَى كَمَا أَن الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة مُقَدّمَة على الْمجَاز فِي مَقْصُود الْمُتَكَلّم وَهَكَذَا كل لفظ لَهُ حَقِيقَة فِي اللُّغَة وَثَبت لَهُ عرف غَالب فِي الإستعمال كَلَفْظِ الْفَقِيه والمتكلم وَلَفظ الدَّابَّة ينْصَرف إِلَى عرف الِاسْتِعْمَال وَتصير الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة كالمجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَيخرج عَن حد الْإِجْمَال فان الْمُجْمل هُوَ اللَّفْظ الَّذِي لَا تعين لأحد معنييه فَصَاعِدا لَا بِوَضْع اللُّغَة وَلَا يعرف الِاسْتِعْمَال وَلَا يعرف الشَّرْع(1/123)مَسْأَلَة 2إِذا سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَضِيَّة تَتَضَمَّن أحكاما فَبين بَعْضهَا وَسكت عَن الْبَعْض وَكَانَ الْبَعْض الْمَسْكُوت عَنهُ مِمَّا يحْتَاج إِلَى بَيَان من الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ سُكُوته وإعراضه عَنهُ مَعَ الْمعرفَة دَلِيلا على انْتِفَاء وُجُوبه عندنَا إِذْ لَو كَانَ وَاجِبا لبينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان الْحَاجة ماسة إِلَى الْبَيَان وَتَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت حَاجَة مُمْتَنع وفَاقاوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يدل على انْتِفَاء الْوُجُوب فان السُّكُوت لَا دلَالَة لَهُ على الْأَحْكَاموَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْلأَن المطاوعة فِي نَهَار رَمَضَان لَا يلْزمهَا الْكَفَّارَة عندنَا لما رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هَلَكت وأهلكت فَقَالَ(1/124)مَاذَا صنعت فَقَالَ واقعت أَهلِي فِي نَهَار رَمَضَان فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أعتق رَقَبَة وَسكت عَن إِيجَابهَا على امْرَأَته الْمَوْطُوءَة مَعَ أَن(1/125)الْأَعرَابِي لَا يحسن الِاسْتِدْلَال فَدلَّ على أَنَّهَا لَا تجب عَلَيْهَا وَعِنْده تجب عَلَيْهَا الْكَفَّارَة(1/126)مَسْأَلَة 3حَقِيقَة خطاب التَّكْلِيف عندنَا الْمُطَالبَة بِالْفِعْلِ أَو الاجتناب لَهُ لِأَنَّهُ فِي وضع اللِّسَان تحميل لما فِيهِ كلفة ومشقة إِمَّا فِي فعله أَو تَركه وَهُوَ من قَوْلهم كلفتك عَظِيما أَي أمرا شاقاوَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة رض إِلَى أَن التَّكْلِيف يَنْقَسِم إِلَى وجوب أَدَاء وَهُوَ الْمُطَالبَة بِالْفِعْلِ أَو الاجتناب لَهُوالى وجوب فِي الذِّمَّة سَابق عَلَيْهِوعنوا بِهَذَا الْقسم من الْوُجُوب اشْتِغَال الذِّمَّة بِالْوَاجِبِ كَالصَّبِيِّ إِذا اتلف مَال إِنْسَان فان ذمَّته تشغل بِالْقيمَةِ اعني قيمَة الْمُتْلف وَلَا يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء بل يجب على وليهوَزَعَمُوا إِن الأول يَسْتَدْعِي عقلا وفهما للخطاب وَالْوُجُوب فِي الذِّمَّة لَا يَسْتَدْعِي ذَلِك وان الأول يتلَقَّى من الْخطاب وَالثَّانِي من الْأَسْبَابوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِوُجُوب الصَّلَاة على النَّائِم فِي وَقت الصَّلَاة مَعَ إِن الْخطاب مَوْضُوع عَنهُ وَكَذَلِكَ النّوم الْمُسْتَغْرق لشهر رَمَضَان(1/127)وَالْإِغْمَاء الْمُسْتَغْرق فَإِنَّهُ لَا يمْنَع بهما وجوب الصَّوْم وَلَا خطاب عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاع وَقد قَالَ الشَّافِعِي رض بِوُجُوب الزَّكَاة على الصَّبِي وَهُوَ غير مُخَاطب وَيجب عَلَيْهِ الْعشْر وَصدقَة الْفطر إِجْمَاعًاوَكَذَا الثّمن يجب فِي ذمَّة المُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ وَالْأَدَاء لَا يجب إِلَّا بعد الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وَالدّين مُؤَجل يجب فِي ذمَّة من عَلَيْهِ وَالْأَدَاء لَا يجب إِلَّا بعد الْمُطَالبَةفَعلم بِهَذِهِ الْجُمْلَة أَن الْوُجُوب فِي حَقنا مُضَاف إِلَى أَسبَاب شَرْعِيَّة غير الْخطاب وطردوا ذَلِك فِي جَمِيع الْوَاجِبَات من الْعِبَادَات والعقوباتوَزَعَمُوا أَن سَبَب وجوب الصَّلَوَات الْأَوْقَات لإضافتها إِلَيْهَا بلام التَّعْلِيلوَسبب وجوب الصَّوْم أَيَّام شهر رَمَضَان قَالَ الله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} أَي فليصم فِي أَيَّامه فَإِن تَعْلِيق الحكم بالشَّيْء شرعا يدل على أَنه سَببه(1/128)وَسبب وجوب الْحَج الْبَيْت وَالْوَقْت شَرط لأدائه وَلِهَذَا لم يتَكَرَّر ويتكرر الْوَقْت فَلم يصلح أَن يكون الْوَقْت فِيهِ سَببا بل الْوَقْت مَحلوَسبب وجوب الزَّكَاة ملك النّصاب النامي فِي نَفسه وَلِهَذَا تزداد بِزِيَادَة النصبثمَّ زَعَمُوا أَن هَذِه الْأَوْقَات لَيست سَببا لوُجُوب الْعِبَادَات حَقِيقَة نظرا إِلَى ذواتها بل سَبَب الْوُجُوب فِي الْجَمِيع نعم الله تَعَالَى على عباده وَالنعَم تصلح أَن تكون سَببا لوُجُوب الشُّكْر شرعا غير أَن النعم مترادفة فِي جَمِيع الْأَوْقَات فَجعل الْوَقْت الَّذِي هُوَ مَحل لحدوث النعم فِيهِ سَببا للْوُجُوب وأقيم مقَام النعمقَالُوا وَإِذا ثَبت الْوُجُوب بِالسَّبَبِ فالأداء بعده يكون بخطاب الشَّرْع وَأمرهوَعِنْدنَا الْكل يتلَقَّى من الْخطاب والأسباب غير مُؤثرَة فِي(1/129)الْإِيجَاب بِدَلِيل أَنَّهَا كَانَت مَوْجُودَة قبل وَضعهَا شرعا وَلم توجب شَيْئاوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن الْمَجْنُون إِذا أَفَاق فِي أثْنَاء الشَّهْر لَا يلْزمه قَضَاء مَا مضى من أَيَّام الْجُنُون إِذْ الْوُجُوب بِالْخِطَابِ وَلَا خطابوَعِنْدهم يلْزمه لِأَن الْوُجُوب بِالسَّبَبِ وَقد وجدوَكَذَا أَفَاق فِي أثْنَاء النَّهَار لَا يلْزم قَضَاء ذَلِك الْيَوْم عندنَاوَعِنْدهم يلْزمهوَمِنْهَا أَن الصَّوْم غير وَاجِب على الْمَرِيض وَالْمُسَافر وَالْحَائِض عندنَا لِأَن الْوُجُوب يتلَقَّى من الْخطاب وَلَا خطابوَعِنْدهم يتلَقَّى من السَّبَب وَقد وجد(1/130)وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِوُجُوب الْقَضَاء عِنْد زَوَال هَذِه الْأَعْذَار وَهَذَا على الْحَقِيقَة خلاف اللَّفْظ فانهم يعنون بِالْوُجُوب اسْتِحْقَاق هَذِه الْأَفْعَال فِي ذمم الْمَذْكُورين شرعا بِمَعْنى وجوب الْقَضَاء عِنْد زَوَال الْعذر الْمَائِع من التَّكْلِيف وَهُوَ مُسلم عندنَا وَنحن نعني بِانْتِفَاء الْوُجُوب انْتِفَاء تَكْلِيف الْفِعْل حَال قيام الْعذر وَهُوَ مُسلم عِنْدهم(1/131)مَسْأَلَة 4كل حكم شَرْعِي أمكن تَعْلِيله فَالْقِيَاس جَائِز فِيهِ عِنْد الشَّافِعِي رضوَذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة إِلَى أَن الْقيَاس لَا يجْرِي فِي الْكَفَّارَاتوَهَذَا فَاسد فان مُسْتَند القَوْل بِالْقِيَاسِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَلم يفرقُوا بَين حكم وَحكم فِيمَا يُمكن تَعْلِيله ولأنا نسائلهم ونقول لَا يجوز إِجْرَاء الْقيَاس فِيهَا مَعَ ظُهُور الْمَعْنى وتجليه أم مَعَ عدم ظُهُوره إِن قُلْتُمْ مَعَ ظُهُوره وتجليه فَهُوَ تحكم وَصَارَ بِمَثَابَة قَول الْقَائِل أَنا أجري الْقيَاس فِي مَسْأَلَة وَلَا أجريه فِي مَسْأَلَة مَعَ ظُهُور الْمَعْنى فيهمَا وتجليه وَإِن قُلْتُمْ مَعَ عدم ظُهُور الْمَعْنى فَنحْن وَإِيَّاكُم فِي ذَلِك على وتيرة وَاحِدَةوَاحْتَجُّوا بِأَن قَالُوا إِنَّمَا منعنَا من إِجْرَاء الْقيَاس فِي الْكَفَّارَات(1/132)لأَنا رَأينَا الشَّرْع قد أوجب الْكَفَّارَة على الْمظَاهر وَعلل وَقَالَ أَنهم ليقولون قولا مُنْكرا من القَوْل وزوراثمَّ أَن الْمُرْتَد قَالَ أعظم مِمَّا قَالَ الْمظَاهر وأفحش وَلم يُوجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَلذَلِك وَجب إبدالها على وَجه لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الرَّأْي وَالْقِيَاس فانه أوجب على الْحَالِف عتق رَقَبَة أَو صِيَام شَهْرَيْن أَو إطْعَام عشرَة مَسَاكِين وَأوجب على الْمظَاهر عتق رَقَبَة أَو صِيَام شَهْرَيْن أَو إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا فَإِن قُلْنَا الْعتْق بدله ثَلَاثَة أَيَّام فَأَي حَاجَة بِنَا إِلَى صِيَام شَهْرَيْن وَإِن قُلْنَا شَهْرَان فَلم نوجب ثَلَاثَة أَيَّام وَكَيف يَتَعَدَّد الْبَدَل والمبدل وَاحِدوَهَذَا ضَعِيف فان امْتنَاع الْقيَاس فِي الْإِبْدَال لَا يمْنَع الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب بَعْضهَا على بعضوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَنه إِذا جَامع فِي يَوْمَيْنِ من رَمَضَان وَاحِد يلْزمه(1/133)كفارتان عندنَا لتماثل السببينوَعِنْدهم لَا يلْزمه سوى كَفَّارَة وَاحِدَة لتعذر الْإِلْحَاق على مَا سبقوَمِنْهَا أَن الْمُنْفَرد بِرُؤْيَة الْهلَال إِذا رد الْحَاكِم شَهَادَته يلْزمه الْكَفَّارَة إِذا جَامع فِي ذَلِك الْيَوْم عندنَا كَمَا إِذا قبل القَاضِي شَهَادَتهوَعِنْدهم لَا يلْزمه لما ذكرنَا من سد بَاب الْإِلْحَاقوَمِنْهَا أَن من تعمد اسْتِدَامَة الْجِمَاع حَتَّى طلع عَلَيْهِ الْفجْر وَلم ينْزع الْتزم الْكَفَّارَة عندنَا قِيَاسا لدفع الِانْعِقَاد على قطع العقدوَعِنْدهم لَا يلْزمه لاعتقادهم أَن لَا مجَال للْقِيَاس فِيهَا(1/134)وَمِنْهَا أَن الْقَتْل الْعمد يُوجب الْكَفَّارَة عندنَا قِيَاسا على الْخَطَأ قَالَ الشَّافِعِي رض إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة فِي الْخَطَأ فَفِي الْعمد أوجبوَعِنْدهم لَا تجب لما ذَكرْنَاهُ(1/135)مَسْأَلَة 5الْمَأْمُور بالشَّيْء يعلم كَونه مَأْمُورا وان لم يمض زمَان الْإِمْكَان عندنَا لانعقاد الْإِجْمَاع على أَن الْوَاحِد منا يجب عَلَيْهِ الشُّرُوع فِي الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا إِذْ لَو لم يعلم كَونه مَأْمُورا لما وَجب عَلَيْهِ ذَلِك فِي سَائِر الْأَفْعَال فِي الْأكل وَالشرب والذهاب والإيابوَذَهَبت طَائِفَة من الْقَدَرِيَّة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه لَا يعلم كَونه مَأْمُورا فِي أول توجه الْخطاب مَا لم يمض زمَان يسع فعل الْمَأْمُور بِهِوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن الْإِمْكَان شَرط التَّكْلِيف وَهُوَ غير عَالم بِبَقَاء الْإِمْكَان إِلَى وَقت انْقِرَاض زمَان يسع الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ وَالْجَاهِل بِوُقُوع الشَّرْط جَاهِل بالمشروط لَا محَالةوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْلأَنه إِذا أفطر بِالْجِمَاعِ ثمَّ مرض فِي آخر النَّهَار أَو جن أَو حَاضَت الْمَرْأَة أَو مَاتَ لم تسْقط الْكَفَّارَة عندنَا(1/136)وَعِنْدهم تسْقط(1/137)مَسْأَلَة 6كَمَا أَن الْمُبَاح لَا يصير وَاجِبا بالتلبس بِهِ خلافًا للكعبي وَأَتْبَاعه كَذَلِك الْمَنْدُوب لَا يصير وَاجِبا بالتلبس لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز تَركه وَالْوَاجِب لَا يجوز تَركه فالجمع بَينه وَبَين جَوَاز التّرْك متناقضوَذَهَبت الْمُعْتَزلَة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَن الْفِعْل يُوجب اسْتِيعَاب الْأَزْمَان كلهَا بفنون الطَّاعَات وصنوف الْعِبَادَات إِلَّا مَا خص بذلكوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن سَبَب وجوب الْعِبَادَات كَون العَبْد مخلوقا لله قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} أَي ليوحدون ويأتون الْعِبَادَات هَكَذَا قَالَ أهل التَّفْسِير غير أَن(1/138)الشَّارِع رحم عباده وَعين لبَعض الْعِبَادَات أوقاتا مُعينَة كَالصَّلَاةِ الْمَعْهُودَة وَالزَّكَاة وَالْحج وفوض تعْيين مَا عَداهَا إِلَى الْعباد تفضلا إِذْ لَو عين الْأَوْقَات كلهَا للعبادات الْوَاجِبَة وكلفهم على التَّضْيِيق لتقاعد النَّاس عَن معاشهم فَرُبمَا أدّى إِلَى التقاعد عَن الْجَمِيع فَإِذا عين العَبْد وقتا لِلْعِبَادَةِ إِمَّا بِالنذرِ أَو بِالشُّرُوعِ عمل الدَّلِيل الْمُوجب عمله إِذْ ذَلِك يدل على فَرَاغه لهَذِهِ الْعِبَادَةوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِإِحْدَاهمَا أَنه إِذا شرع فِي صَوْم التَّطَوُّع أَو صَلَاة التَّطَوُّع لَا يصير وَاجِبا عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ عندنَاوَعِنْدهم يصير وَاجِبا وَيلْزمهُ الْمُضِيّ بِالشُّرُوعِوَالثَّانيَِة إِن الْمَعْذُور فِي حج النَّفْل يتَحَلَّل وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ عندنَاوَعِنْدهم يلْزمه الْقَضَاء(1/139)= كتاب الْحَج =مَسْأَلَة 1لَا يمْنَع دُخُول النِّيَابَة فِي التكاليف والعبادات الْبَدَنِيَّة عِنْد الشَّافِعِي رض لِأَن فعل الْعِبَادَة عِنْده علم أَي عَلامَة على الثَّوَاب وَالثَّوَاب منحة من الله تَعَالَى وَفضل وَالْعِقَاب عدل فَجَاز أَن ينصب فعل غَيره علما عَلَيْهِوَعِنْدهم لَا تدْخلهَا النِّيَابَة لِأَن الثَّوَاب عِنْدهم مَعْلُول الطَّاعَة(1/140)وَالْعِقَاب مَعْلُول الْمعْصِيَة فَلَا يتَعَدَّى فاعليهما استمدادا من رِعَايَة الْأَصْلَحوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن من المستطاع الْحَج بِبدنِهِ فَأخر حَتَّى أصبح زَمنا معضوبا اسْتَأْجر أَجِيرا يحجّ عَنهُ عندنَا وَيَقَع الْحَج عَن المستنيبوَعِنْدهم يَقع عَن الْأَجِير وللمستنيب أجر نَفَقَة توصله إِلَى الْحَج مسهلة طَرِيقه(1/141)وَمِنْهَا أَن من اسْتَقر وجوب الْحَج فِي ذمَّته إِذا عجز وَلم يملك مَالا فبذل ابْنه الطَّاعَة لِلْحَجِّ عَنهُ وَجب قبُوله عندنَاوَعِنْده لَا يجبوَمِنْهَا أَن إِحْرَام الْوَلِيّ عَن الصَّبِي صَحِيح عندنَا وَيَقَع الْحَج عَن الصَّبِيوَعِنْدهم لَا يَصحوَمِنْهَا أَن من بلغ معضوبا يلْزمه الْحَج بطرِيق الإستنابةوَعِنْدهم لَا يلْزمهوَمِنْهَا أَن المستطيع إِذا مَاتَ أخرج من مَاله مَا يحجّ بِهِ عَنهُ غَيره واستؤجر عَنهُوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا يفعل ذَلِك إِلَّا إِذا أوصى(1/142)= كتاب الْبيُوع =مَسْأَلَة 1الأَصْل الَّذِي تبنى عَلَيْهِ الْعُقُود الْمَالِيَّة من الْمُعَامَلَات الْجَارِيَة بَين الْعباد إتباع التَّرَاضِي الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقول الله تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم}غير أَن حَقِيقَة الرِّضَا لما كَانَت أمرا خفِيا وضميرا قلبيا اقْتَضَت الْحِكْمَة رد الْخلق إِلَى مرد كلي وَضَابِط جلي يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول الدالان على رضَا الْعَاقِدين ثمَّ طرد الشَّافِعِي رض قَاعِدَته فِي الْمُحَافظَة على حُدُود الشَّرْع وضوابطه وَلم يجوز إِلْحَاق غَيرهمَا بهماوَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ ألحق بهما المعاطاة وَزعم أَنَّهَا بيع(1/143)لِأَنَّهَا تدل على التَّرَاضِي وَالله يَقُول {أَو أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء}وَهَذَا ضَعِيف فان الْمصير إِلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى انحلال الْقَوَاعِد بأجمعها وأبطال الضوابط بأسرها فَأَنَّهَا وَإِن دلّت على الرِّضَا لَكِن الشَّرْع أعتبر رضَا خَاصّا وَهُوَ الرِّضَا الَّذِي يتضمنه الْإِيجَاب وَالْقَبُول(1/144)مَسْأَلَة 2لما كَانَ شرع الْبياعَات من ضرورات الْخلق من حَيْثُ أَن الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ أَن يقْتَصر على مَا فِي يَده بل لَا بُد أَن ينْتَفع كل وَاحِد من الْخلق بِمَا فِي يَد صَاحبه اقْتَضَت عاطفة الشَّرْع تَحْقِيق هَذَا الْمَقْصُود بِنَفْي الأغرار والأخطار المؤذنة بالجهالات عَن مصَادر الْعُقُود ومواردها من حَيْثُ أَن فرط الشره إِلَى السَّعْي قد يحمل الْمَرْء على الرضى بِالْعُقُودِ الْمُشْتَملَة على الأغرار الْخفية وإهمال الشُّرُوط المرعية وَكَانَت حريَّة لَهُم بِالْمَنْعِ لتهذب لَهُم تجائرهم وليكونوا على بَصِيرَة من أَمرهم ولأجله حجر على الصّبيان ولقلة بصائرهم إِلَّا أَن ذَلِك حجر عَام وَهَذَا حجر خَاصوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مَسْأَلَتَانِإِحْدَاهمَا بطلَان البيع وَالشِّرَاء فِي الْأَعْيَان الغائبة ودفعا للغرر النَّافِي للشرهوَاكْتفى أَبُو حنيفَة رض فِي دفع الْغرَر وَتَحْقِيق الرضى(1/145)الْمُعْتَبر بشرع الْخِيَار عِنْد الرُّؤْيَةوَلَا يخفى رُجْحَان نظر الشَّافِعِي رض فِي اسْتِقْبَال الْمَحْذُور بِالدفعالثَّانِيَة شرع خِيَار الْمجْلس عِنْد الشَّافِعِي رض فِي عُقُود الْمُعَاوَضَاتومستنده قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا فَأَنَّهُ من الْأَعْمَال المنصوبة على كَمَال الرضى بِالْعقدِ الْمُبَاشر(1/146)على مَا قَرَّرْنَاهُ فِي تعليقنا الموسوم ب دُرَر الْغرَر ونتائج الْفِكروَاكْتفى أَبُو حنيفَة رض بِأَصْل الْإِقْدَام الصَّادِر من الْأَهْل فِي الْمحل(1/147)مَسْأَلَة 3الشَّرْط إِذا دخل على السَّبَب وَلم يكن مُبْطلًا كَانَ تَأْثِيره فِي تَأْخِير حكم السَّبَب إِلَى حِين وجوده لَا فِي منع السَّبَبِيَّة عِنْد الشَّافِعِي رضوَمِثَال الْمَسْأَلَة قَوْله أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار فالسبب قَوْله أَنْت طَالِق وَالشّرط الدَّاخِل عَلَيْهِ قَوْله إِن دخلت الدَّاروَاحْتج فِي ذَلِك بِأَن قَوْله إِن دخلت الدَّار لَا يُؤثر فِي قَوْله أَنْت طَالِق فانه ثَبت مَعَ الشَّرْط كَمَا كَانَ ثَابتا بِدُونِ الشَّرْط وَإِنَّمَا يمْنَع ثُبُوت حكمه فَكَانَ تَأْثِيره فِي تَأْخِير حكم السَّبَب لَا فِي منع انْعِقَاده سَببا وَلِهَذَا لَو لم يقْتَرن بِهِ الشَّرْط ثَبت حكمهوَذهب أَصْحَاب أَبُو حنيفَة رض إِلَى أَن الشَّرْط إِذا دخل على السَّبَب يمْنَع انْعِقَاده سَببا فِي الْحَالوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بأمرينأَولهمَا أَن الشَّرْط دخل على ذَات السَّبَب لَا على حكمه فان السَّبَب قَوْله أَنْت طَالِق مثلا وَالشّرط دَاخل عَلَيْهِالثَّانِي أَنه جعل التَّطْلِيق جَزَاء لدُخُول الدَّار وَالشّرط إِذا دخل على الْجَزَاء علقه وَإِذا علقه يمْنَع وُصُوله إِلَى مَحَله وَالْعلَّة(1/148)الشَّرْعِيَّة لَا تصير عِلّة إِلَّا بوصولها إِلَى محلهَا فَلَا تصير عِلّة إِذا قصرت عَن محلهَاوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا إِن البيع بِشَرْط الْخِيَار ينْعَقد سَببا لنقل الْمَالِك فِي الْحَال عِنْد الشَّافِعِي رض وَإِنَّمَا يظْهر تَأْثِير الشَّرْط فِي تَأْخِير حكم السَّبَب وَهُوَ اللَّازِم الَّذِي لَوْلَا دُخُول الشَّرْط لثبتوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا ينْعَقد سَببا لنقل الْملك بل دُخُول الشَّرْط منح سببيته فِي مُدَّة الْخِيَار فَإِذا سقط الْخِيَار وَزَالَ الشَّرْط انْعَقَد حِينَئِذٍ سَبباوَمِنْهَا إِن خِيَار الشَّرْط يُورث عِنْد الشَّافِعِي رض بِنَاء على اعْتِقَاده أَن الْملك انْتقل إِلَى الْوَارِث وَأَن الثَّابِت بِالْخِيَارِ حق الْفَسْخ والإمضاء الراجعين إِلَى نفس العقد وَذَلِكَ حق شَرْعِي أمكن انْتِقَاله إِلَى الْوَارِث كَمَا فِي الرَّد بِالْعَيْبِ(1/149)وَقَالَ أَبُو حنيفَة رض لَا ينْتَقل لِأَن الثَّابِت لَهُ بِالْخِيَارِ مَشِيئَة نقل الْملك واستبقاؤه ومشيئته صفة من صِفَاته فتفوت بفواته كَسَائِر صِفَاتهوَمِنْهَا أَن تَعْلِيق الطَّلَاق بِالْملكِ لَا يَصح عِنْد الشَّافِعِي رض وَكَذَلِكَ تَعْلِيق الْعتاق بِالْملكِ لِأَن التَّطْلِيق الْمُعَلق سَبَب لوُقُوع الطَّلَاق وَدخُول الشَّرْط على السَّبَب تَأْثِيره فِي تَأْخِير حكم السَّبَب لَا فِي انْعِقَاده سَببا وَإِذا كَانَ سَببا كَانَ اتِّصَاله بِالْمحل الْمَمْلُوك شرطا لانعقاده ليَكُون السَّبَب مفضيا إِلَى الحكم عِنْد وجود الشَّرْط وَلِهَذَا لَو قَالَ لأجنبية إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن السَّبَب لَا يُفْضِي إِلَى حكمه وَإِن وجد الشَّرْطوَقَالَ أَبُو حنيفَة رض يَصح لِأَن التَّطْلِيق مُعَلّق بِالشّرطِ فَلم يكن سَببا لوُقُوع الطَّلَاق فَلَا يشْتَرط لَهُ ملك الْمحل بل ينْعَقد التَّطْلِيق يَمِينا لِأَنَّهُ(1/150)إِن قصد بِهِ الْمَنْع يتَحَقَّق الْمَنْع فَإِن الْمَانِع مَوْجُود وَهُوَ وُقُوع الطَّلَاق عِنْد وجود الشَّرْطوَإِن قصد بِهِ الطَّلَاق يَقع أَيْضا فَإِنَّهُ أضَاف الطَّلَاق إِلَى الْملك وَكَانَ كَلَامه مُفِيدا فأنعقد صَحِيحاقَالُوا وَلِهَذَا قُلْنَا إِن التَّكْفِير قبل الْحِنْث لَا يجوز بِالْمَالِ وَلَا بِالصَّوْمِ لِأَن الْيَمين الْمُعَلق بِالشّرطِ وَهُوَ الْحِنْث لَا ينْعَقد سَببا فِي حق الْكَفَّارَةوَعند الشَّافِعِي رض ينْعَقد سَببا وَإِن كَانَت معلقَة على مَا سَيَأْتِي فِي مسَائِل الْأَيْمَان(1/151)مسَائِل الرِّبَامَسْأَلَة 1حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء عِنْد الشَّافِعِي رض إِخْرَاج بعض الْجُمْلَة عَن الْجُمْلَة بِحرف إِلَّا أَو مَا يقوم مقَامه فَلفظ الِاسْتِثْنَاء يُوجب انعدام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ فِي الْقدر الْمُسْتَثْنى مَعَ بَقَاء الْعُمُوم بطرِيق الْمُعَارضَة كالتخصيص إِلَّا أَن الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل بالْكلَام والتخصيص مُنْفَصِلاحْتج فِي ذَلِك بأمرينأَحدهمَا إِجْمَاع أهل اللُّغَة أَن كلمة التَّوْحِيد وَهِي قَوْلنَا لَا اله إِلَّا الله مَوْضُوعَة لنفي الإلهية عَن غير الله تَعَالَى وَإِثْبَات إلهيته فَلَو لم يكن الِاسْتِثْنَاء يُفِيد حكم النَّفْي الْمعَارض للإثبات الأول لما كَانَ قَوْلنَا لَا اله إِلَّا الله مُوجبا ثُبُوت الإلهية لله عز وَجل بل كَانَ مَعْنَاهُ نفي الإلهية عَن غير الله تَعَالَى دون إِثْبَات الإلهية لَهُ وَلَو كَانَ كَذَلِك لما تمّ الْإِسْلَام فَلَمَّا تمّ الْإِسْلَام دلّ أَنه يُفِيد الْإِثْبَات الْمعَارض للنَّفْي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ(1/152)الثَّانِي إِن قَول الْقَائِل لفُلَان عَليّ ألف يَقْتَضِي وجوب الْألف عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَو سكت عَلَيْهِ اسْتمرّ وُجُوبهَا فَإِذا قَالَ إِلَّا مائَة صَار ذَلِك مُعَارضا بِحمْلِهِ مخرجا من اللَّفْظ بعض مَا تنَاوله فَيُوجب الثَّانِي النَّفْي كَمَا يُوجب الأول الْإِثْبَات وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رض إِن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي حَتَّى لَو قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة إِلَّا سِتَّة إِلَّا خَمْسَة إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى الْوَاحِد يلْزمه خَمْسَة لِأَنَّك إِذا جمعت عدد الْإِثْبَات مِنْهَا كَانَت ثَلَاثِينَ وَإِذا جمعت عدد النَّفْي مِنْهَا كَانَت خَمْسَة وَعشْرين فَتسقط الْمَنْفِيّ من الْمُثبت فَتبقى خَمْسَة وعَلى هَذَا فقسوَزعم أَبُو حنيفَة رض وَأَصْحَابه أَن الِاسْتِثْنَاء لفظ يدْخل على الْكَلَام الْعَام فيمنعه من اقْتِضَاء الْعُمُوم والاستغراق حَتَّى يصير كَأَنَّهُ لم يتَكَلَّم إِلَّا بِالْقدرِ الْبَاقِي بعد الِاسْتِثْنَاءوَزَعَمُوا أَن الْعَرَب وضعت للتعبير عَن تِسْعمائَة عبارتين إِحْدَاهمَا موجزة وَالْأُخْرَى مُطَوَّلَة وَهِي قَوْله ألف إِلَّا مائَة فتقدير قَول(1/153)الْقَائِل لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا مائَة عندنَا أَن لَهُ عَليّ ألفا إِلَّا مائَة فَإِنَّهَا لَيست عَليّ إِلَّا أَنه اختصر فِي الْكَلَام وَترك صَرِيح النَّفْي لدلَالَة الْمَنْطُوق على الْمَسْكُوت قَالَ الله تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما}وَتَقْدِيره عِنْدهم أَن لَهُ عَليّ تِسْعمائَة وَلم يسلمُوا أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات بل أَدْعُو أَن بَين الحكم بِالنَّفْيِ وَالْحكم بالإثبات وَاسِطَة وَهِي عدل الحكم فَمُقْتَضى الِاسْتِثْنَاء بَقَاء الْمُسْتَثْنى غير مَحْكُوم عَلَيْهِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بالإثبات كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي فَإِنَّهُمَا يدلان على الْعَدَم لَا على الْوُجُود عِنْد الْوُجُودوَلِهَذَا الْمَعْنى أبطلوا الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس كَمَا إِذْ قَالَ لَهُ عَليّ(1/154)ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُم قَالُوا يلْزمه كل الْألف لِأَن الْمُسْتَثْنى لم يَشْمَلهُ عُمُوم الِاسْتِثْنَاءوَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَن قَالُوا مَا يمْنَع الحكم بطرِيق الْمُعَارضَة أدنى درجاته أَن يسْتَقلّ بِنَفسِهِ مثل دَلِيل الْخُصُوص والإستثناء مِمَّا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يتم بِمَا يذكر قبله فَلَمَّا لم يصلح مُعَارضا لَهُ دلّ على أَنه بَيَان لمراد الْمُتَكَلّم بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِوَيتَفَرَّع عَن هَذَا الأَصْل مسَائِلمِنْهَا أَن الأَصْل فِي الْأَمْوَال الربوية عِنْد الشَّافِعِي رض تَحْرِيم بيع بَعْضهَا بِبَعْض وَالْجَوَاز يثبت مُسْتَثْنى عَن قَاعِدَة التَّحْرِيم مُقَيّدا بِشَرْط الْمُسَاوَاة والحلول والتقابض عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس وبشرط الْحُلُول والتقابض عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْوَرق بالورق وَالْبر بِالْبرِّ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْملح بالملح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء يدا بيد عينا بِعَين فَإِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم يدا بيد فَإِنَّهُ(1/155)نهي عَن بيع الْأَشْيَاء بَعْضهَا بِبَعْض عَاما ثمَّ اسْتثْنى حَالَة الْمُسَاوَاة فالنهي الأول يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير بِعُمُومِهِ وَالِاسْتِثْنَاء يتَنَاوَل مَا يدْخل تَحت الْكَيْل وَهُوَ مَا يتَحَقَّق فِيهِ الْمُسَاوَاة