عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا [ص:300] يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَتَوْا بِإِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ قَالُوا لَهُ: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا مِنَ الْكِسَرِ بِهَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ فَأَجَابَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَعَظِيمُهُمْ، فَاسْأَلُوا الْآلِهَةَ: مَنْ فَعَلَ بِهَا ذَلِكَ وَكَسَرَهَا إِنْ كَانَتْ تَنْطِقُ أَوْ تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ(16/299)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا أُتِيَ بِهِ وَاجْتَمَعَ لَهُ قَوْمُهُ عِنْدَ مَلِكِهِمْ نَمْرُودَ {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] غَضِبَ مِنْ أَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارَ , وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، فَكَسَّرَهُنَّ(16/300)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] الْآيَةُ، وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ الَّتِي كَادَهُمْ بِهَا وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَا يُصَدِّقُ بِالْآثَارِ , وَلَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَخْبَارِ إِلَّا مَا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ مِنَ الْعَوَامِّ، أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] إِنَّمَا هُوَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَاسْأَلُوهُمْ، أَيْ: إِنْ كَانَتِ الْآلِهَةُ الْمَكْسُورَةُ تَنْطِقُ , فَإِنَّ كَبِيرَهُمْ هُوَ الَّذِي كَسَّرَهُمْ وَهَذَا قَوْلٌ خِلَافُ مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ , كُلُّهَا فِي اللَّهِ، قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63](16/300)وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: هِيَ أُخْتِي. وَغَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَذِنَ لِخَلِيلِهِ فِي ذَلِكَ، لِيُقَرِّعَ قَوْمَهُ بِهِ، وَيَحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُعَرِّفَهُمْ مَوْضِعَ خَطَئِهِمْ، وَسُوءَ نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ مُؤَذِّنُ يُوسُفَ لِإِخْوَتِهِ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] , وَلَمْ يَكُونُوا سَرَقُوا شَيْئًا(16/301)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَذَكَرُوا حِينَ قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] فِي أَنْفُسِهِمْ، وَرَجَعُوا إِلَى عُقُولِهِمْ، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْقَوْمِ الظَّالِمُونَ هَذَا الرَّجُلَ فِي مَسْأَلَتِكُمْ إِيَّاهُ , وَقِيلِكُمْ لَهُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ وَهَذِهِ آلِهَتُكُمُ الَّتِي فُعِلَ بِهَا مَا فُعِلَ حَاضِرَتُكُمْ , فَاسْأَلُوهَا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ(16/301)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] قَالَ: ارْعَوَوْا وَرَجَعُوا عَنْهُ يَعْنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ مِنْ كَسْرِهِنَّ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ ظَلَمْنَاهُ، وَمَا نَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ(16/301)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ [ص:302]: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنبياء: 64] قَالَ: نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64](16/301)وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ثُمَّ غُلِبُوا فِي الْحُجَّةِ، فَاحْتَجُّوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ يَنْطِقُونَ. كَمَا:(16/302)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ قَالُوا: يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ، وَعَرَفُوا أَنَّهَا، يَعْنِي آلِهَتَهُمْ , لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَبْطِشُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] أَيْ: لَا تَتَكَلَّمُ فَتُخْبِرَنَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِهَا، وَمَا تَبْطِشُ بِالْأَيْدِي فَنُصَدِّقَكَ، يَقُولُ اللَّهُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِإِبْرَاهِيمَ حِينَ جَادَلَهُمْ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ظَهَرَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65](16/302)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أَدْرَكَتِ النَّاسَ حَيْرَةُ سُوءٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ(16/302)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ثُمَّ نُكِسُوا(16/302)عَلَى رُءُوسِهِمْ} قَالَ: نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا عَرَفُوا مِنْ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، لِأَنَّ نَكْسَ الشَّيْءِ عَلَى رَأْسِهِ: قَلْبُهُ عَلَى رَأْسِهِ , وَتَصْيِيرُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُقْلَبُوا عَلَى رُءُوسِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا نُكِسَتْ حُجَّتُهُمْ، فَأُقِيمَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ مَقَامَ الْخَبَرِ عَنْ حُجَّتِهِمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَنَكْسُ الْحُجَّةِ لَا شَكَّ إِنَّمَا هُوَ احْتِجَاجُ الْمُحْتَجِّ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِخَصْمِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: ثُمَّ نُكِسُوا فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خَرَجُوا مِنَ الْفِتْنَةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَنُكِسُوا فِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الْفُهُومِ , لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا رَجَعُوا عَمَّا عَرَفُوا مِنْ حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ، مَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لَهُ، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَا تَسْأَلْهُمْ، وَلَكِنْ نَسْأَلُكَ , فَأَخْبِرْنَا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا؟ وَقَدْ سَمِعْنَا أَنَّكَ فَعَلْتَ ذَلِكَ , وَلَكِنْ صَدَقُوا الْقَوْلَ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] وَلَيْسَ ذَلِكَ رُجُوعًا عَمَّا كَانُوا عَرَفُوا، بَلْ هُوَ إِقْرَارٌ بِهِ(16/303)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: أَفَتَعْبُدُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا , وَلَا [ص:304] يَضُرُّكُمْ، وَأَنْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِمَّنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، وَلَا هِيَ تَقْدِرُ أَنْ تَنْطِقَ إِنْ سُئِلَتْ عَمَّنْ يَأْتِيهَا بِسُوءٍ , فَتُخْبِرَ بِهِ، أَفَلَا تَسْتَحْيُونَ مِنْ عِبَادَةِ مَا كَانَ هَكَذَا؟ كَمَا:(16/303)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 66] الْآيَةَ، يَقُولُ يَرْحَمُهُ اللَّهُ: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الضُّرَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ فَيُخْبِرُونَكُمْ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(16/304)وَقَوْلُهُ: {أُفٍّ لَكُمْ} [الأنبياء: 67] يَقُولُ: قُبْحًا لَكُمْ وَلِلْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ قُبْحَ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ عِبَادَتِكُمْ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَتَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ، وَتَعْبُدُوا اللَّهَ الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ؟(16/304)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ بَعْضُ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لِبَعْضٍ: حَرَّقُوا إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِيهَا , وَلَمْ تُرِيدُوا تَرْكَ عِبَادَتِهَا. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَكْرَادِ فَارِسَ(16/304)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ [ص:305]: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68] قَالَ: قَالَهَا رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، يَعْنِي الْأَكْرَادَ(16/304)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ (هِيزَنُ) , فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(16/305)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَجْمَعَ نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] أَيْ: لَا تَنْصُرُوهَا مِنْهُ إِلَّا بِالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ , إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِيهَا(16/305)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: تَلَوْتُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا مُجَاهِدُ , مَنِ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ. قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْ هَلْ لِلْفُرْسِ أَعْرَابٌ؟ قَالَ: نَعَمْ , الْكُرْدُ هُمْ أَعْرَابُ فَارِسَ، فَرَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ(16/305)وَقَوْلُهُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اجْتُزِئَ بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ: فَأَوْقَدُوا لَهُ نَارًا لِيُحَرِّقُوهُ , ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِيهَا، فَقُلْنَا لِلنَّارِ: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ , وَذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إِحْرَاقَهُ بَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا كَمَا:(16/306)حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] قَالَ: فَحَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ، وَجَمَعُوا لَهُ حَطَبًا، حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَمْرَضُ فَتَقُولُ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ , فَلَمَّا جَمَعُوا لَهُ، وَأَكْثَرُوا مِنَ الْحَطَبِ حَتَّى إِنَّ الطَّيْرَ لَتَمُرُّ بِهَا فَتَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا، فَعَمِدُوا إِلَيْهِ , فَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ، فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا، إِبْرَاهِيمُ يُحْرَقُ فِيكَ , فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنْ دَعَاكُمْ فَأَغِيثُوهُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ , وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الْأَرْضِ , لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَذَفُوهُ فِي النَّارِ، فَنَادَاهَا فَقَالَ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي نَادَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهَا، فَلَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طُفِئَتْ، ظَنَّتْ أَنَّهَا هِيَ تُعْنَى. فَلَمَّا طُفِئَتِ النَّارُ نَظَرُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ، وَإِذَا رَأْسُ إِبْرَاهِيمَ فِي حِجْرِهِ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ الْعَرَقَ , وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ مَلَكُ الظِّلِّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَارًا , فَأَنْتَفَعَ بِهَا بَنُو آدَمَ، وَأَخْرَجُوا إِبْرَاهِيمَ، فَأَدْخَلُوهُ عَلَى الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ(16/306)حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمِقْدَامِ أَبُو الْأَشْعَثِ، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: ثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وَثَاقَهُ(16/307)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: مَا انْتَفَعَ بِهَا يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَثَاقَهُ(16/307)حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَيْخٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] قَالَ: بَرَدَتْ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ تَقْتُلَهُ، حَتَّى قِيلَ: {وَسَلَامًا} [الأنبياء: 69] قَالَ: لَا تَضُرِّيهِ(16/307)حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ(16/307)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ قَالَ الْمَلَكُ خَازِنُ الْمَطَرِ: رَبِّ خَلِيلُكَ إِبْرَاهِيمُ رَجَا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيُرْسلَ الْمَطَرُ. قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ , فَقَالَ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ نَارٌ إِلَّا طُفِئَتْ(16/308)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَرْثِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَهُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ(16/308)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَيءِ، قَالَ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذُبِحَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَوَلَدَتْهُ سَارَةُ وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مَذْبَحُهُ مِنْ بَيْتِ إِيلِيَاءَ عَلَى مِيلَيْنِ، وَلَمَّا عَلِمَتْ سَارَةُ بِمَا أَرَادَ بِإِسْحَاقَ بَطِنَتْ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَتِ الْيَوْمَ الثَّالِثَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا غَيْرَ وَثَاقِهِ الَّذِي أَوْثَقُوهُ بِهِ(16/308)حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ بَعْضِ، أَصْحَابِهِ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُوَ يُوثَقُ أَوْ يُقَمَّطُ , لِيُلْقَى فِي النَّارِ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا "(16/309)قَالَ: ثنا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: ثنا ابْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَرْقَمَ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ حِينَ جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، لَكَ الْحَمْدُ، وَلَكَ الْمُلْكُ , لَا شَرِيكَ لَكَ(16/309)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] قَالَ: السَّلَامُ لَا يُؤْذِيهِ بَرْدُهَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ قَالَ: {وَسَلَامًا} [الأنبياء: 69] لَكَانَ الْبَرْدُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرِّ(16/309)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {بَرْدًا} [الأنبياء: 69] قَالَ: بَرَدَتْ عَلَيْهِ {وَسَلَامًا} [الأنبياء: 69] لَا تُؤْذِيهِ(16/309)حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: مَا انْتَفَعَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ بِنَارٍ، وَلَا أَحْرَقَتِ النَّارُ يَوْمَئِذٍ شَيْئًا إِلَّا وَثَاقَ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَأْتِ يَوْمَئِذٍ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ، إِلَّا الْوَزَغُ. [ص:310] وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا وَقَوْلُهُ: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الأنبياء: 70] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَرَادُوا بِإِبْرَاهِيمَ كَيْدًا، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] يَعْنِي الْهَالِكِينَ(16/309)وَقَدْ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] قَالَ: أَلْقُوا شَيْخًا مِنْهُمْ فِي النَّارِ لِأَنْ يُصِيبُوا نَجَاتَهُ، كَمَا نُجِّيَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَرَقَ(16/310)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَجَّيْنَا إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا مِنْ أَعْدَائِهِمَا نَمْرُودَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ، فَارَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَوْمَهُ وَدِينَهُمْ وَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي قَصَّ اللَّهُ مِنْ نَبَأِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ تَذْكِيرٌ مِنْهُ بِهَا قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ , أَنَّهُمْ قَدْ سَلَكُوا فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، وَأَذَاهُمْ مُحَمَّدًا عَلَى نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَتِهَا، وَدُعَائِهِمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مَسْلَكَ أَعْدَاءِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ , وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا فِي بَرَاءَتِهِ مِنْ عِبَادَتِهَا ,(16/310)وَإِخْلَاصِهِ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَفِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ سَالِكٌ مِنْهَاجَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ مُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ كَمَا أَخْرَجَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ قَوْمِهِ حِينَ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ إِلَى مُهَاجَرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَمُسَلٍّ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى، وَمُعَلِّمُهُ أَنَّهُ مُنَجِّيهِ مِنْهُمْ كَمَا نَجَّى أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ كَفَرَةِ قَوْمِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ نَجَّى إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا إِلَيْهَا , وَوَصْفِهِ أَنَّهُ بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ(16/311)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو عَمَّارٍ، قَالَ: ثنا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: الشَّأْمُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ تِلْكِ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ(16/311)حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] قَالَ: الشَّامُ(16/311)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] كَانَا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأُنْجِيَا إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. وَكَانَ يُقَالُ لِلشَّامِ عِمَادُ دَارِ الْهِجْرَةِ، وَمَا نُقِصَ مِنَ الْأَرْضِ زِيدَ فِي الشَّامِ، وَمَا نُقِصَ مِنَ الشَّامِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ. وَكَانَ يُقَالُ: هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَبِهَا مَجْمَعُ النَّاسِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَبِهَا يُهْلِكُ اللَّهُ شَيْخَ الضَّلَالَةِ الْكَذَّابَ الدَّجَّالَ(16/312)وَحَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الْكِتَابِ فَوَضَعَتْهُ بِالشَّامِ، فَأَوَّلْتُهُ أَنَّ الْفِتَنَ إِذَا وَقَعَتْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالشَّامِ» وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَةٍ: «إِنَّهُ كَائِنٌ بِالشَّامِ جُنْدٌ، وَبِالْعِرَاقِ جُنْدٌ، وَبِالْيَمَنِ جُنْدٌ» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرْ لِي فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالشَّامِ , فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ , وَلْيَسْقِ بِغُدُرِهِ» .(16/312)وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا كَعْبُ , أَلَا تَحَوَّلُ إِلَى الْمَدِينَةِ؟ فَإِنَّهَا مُهَاجِرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ؟ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ , وَبِهَا كَنْزُهُ مِنْ عِبَادِهِ(16/313)حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: هَاجِرَا جَمِيعًا مِنْ كُوثَى إِلَى الشَّامِ(16/313)حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ قِبَلَ الشَّأْمِ، فَلَقِيَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وَهِيَ بِنْتُ مَلِكِ حَرَّانَ، وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا(16/313)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ لُوطٌ مُهَاجِرًا، وَتَزَوَّجَ سَارَةَ ابْنَةَ عَمِّهِ، فَخَرَجَ بِهَا مَعَهُ يَلْتَمِسُ الْفِرَارَ بِدِينِهِ , وَالْأَمَانَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ، فَمَكَثَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهِيَ بَرِيَّةُ الشَّامِ، وَنَزَلَ لُوطٌ [ص:314] بِالْمُؤْتَفِكَةِ، وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/313)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: نَجَّاهُ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ(16/314)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: لَيْسَ مَاءٌ عَذْبٌ إِلَّا يَهْبِطُ إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ: ثُمَّ يَتَفَرَّقُ فِي الْأَرْضِ(16/314)حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قَالَ: إِلَى الشَّامِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَعْنِي مَكَّةَ , وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71](16/314)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] يَعْنِي مَكَّةَ , وَنُزُولَ إِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {إِنَّ أَوَّلَ [ص:315] بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لِلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] ؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هِجْرَةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعِرَاقِ كَانَتْ إِلَى الشَّامِ , وَبِهَا كَانَ مَقَامُهُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَانَ قَدِمَ مَكَّةَ , وَبَنَى بِهَا الْبَيْتَ , وَأَسْكَنَهَا إِسْمَاعِيلَ ابْنَهُ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقِمْ بِهَا , وَلَمْ يَتَّخِذْهَا وَطَنًا لِنَفْسِهِ، وَلَا لُوطٌ، وَاللَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ أَنَّهُ أَنْجَاهُمَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(16/314)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَوَهَبْنَا لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ وَلَدًا , وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدِهِ، نَافِلَةً لَكَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: {نَافِلَةً} [الإسراء: 79] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ يَعْقُوبُ خَاصَّةً(16/315)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} يَقُولُ: وَوَهَبْنَا [ص:316] لَهُ إِسْحَاقَ وَلَدًا، وَيَعْقُوبَ ابْنَ ابْنِ نَافِلَةٍ(16/315)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} وَالنَّافلَةُ: ابْنُ ابْنِهِ يَعْقُوبُ(16/316)حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ , فَأَعْطَاهُ وَاحِدًا، وَزَادَهُ يَعْقُوبَ , وَيَعْقُوبُ وَلَدُ وَلَدِهِ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا مَعْنَى النَّافِلَةِ: الْعَطِيَّةُ، وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ , أَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ(16/316)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: عَطِيَّةً(16/316)حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ: عَطَاءً [ص:317] حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ النَّافِلَةَ الْفَضْلُ مِنَ الشَّيْءِ يَصِيرُ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ، وَكِلَا وَلَدَيْهِ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ كَانَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ , تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ , وَهِبَةً مِنْهُ لَهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِهِ أَنَّهُ آتَاهُمَا إِيَّاهُ جَمِيعًا نَافِلَةً مِنْهُ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ آتَاهُ نَافِلَةً يَعْقُوبَ , وَلَا بُرْهَانَ يَدُلُّ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا شَيْءَ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ مِمَّا قَالَ اللَّهُ , وَوَهَبَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً(16/316)وَقَوْلُهُ: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72] يَعْنِي عَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، مُجْتَنِبِينَ مَحَارِمَهُ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {كُلًّا} [النساء: 130] إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ(16/317)وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلْنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَئِمَّةً يُؤْتَمُّ بِهِمْ فِي الْخَيْرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُتَّبَعُونَ عَلَيْهِ. كَمَا:(16/317)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] يَقُولُ: يَهْدُونَ النَّاسَ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ(16/317)وَقَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْحَيْنَا فِيمَا أَوْحَيْنَا أَنِ افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ بِأَمْرِنَا بِذَلِكَ. {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينُ} [الأنبياء: 73] يَقُولُ: كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِنَا وَعِبَادَتِنَا(16/318)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَآتَيْنَا لُوطًا {حُكْمًا} [النساء: 35] وَهُوَ فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخُصُومِ، {وَعِلْمًا} [يوسف: 22] يَقُولُ: وَآتَيْنَاهُ أَيْضًا عِلْمًا بِأَمْرِ دِينِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلَّهِ مِنْ فَرَائِضِهِ. وَفِي نَصْبِ لُوطٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُنْصَبَ لِتَعَلُّقِ الْوَاوِ بِالْفِعْلِ كَمَا قُلْنَا: وَآتَيْنَا لُوطًا , وَالْآخَرُ: بِمُضْمَرٍ , بِمَعْنَى: وَاذْكُرْ لُوطًا(16/318)وَقَوْلُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74] يَقُولُ: وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ عَذَابِنَا الَّذِي أَحْلَلْنَاهُ بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ، وَهِيَ قَرْيَةُ سَدُومَ , الَّتِي كَانَ لُوطٌ بُعِثَ إِلَى أَهْلِهَا. وَكَانَتِ الْخَبَائِثُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا: إِتْيَانَ الذُّكْرَانِ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَخَذْفَهُمُ النَّاسَ، وَتَضَارُطَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ، مَعَ أَشْيَاءَ أُخَرَ كَانُوا يَعْمَلُونَهَا مِنَ الْمُنْكَرِ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ حِينَ أَرَادَ إِهْلَاكَهُمْ إِلَى الشَّامِ. كَمَا:(16/318)حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ، يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِ زِيثَا , وَزَعْرَثَا إِلَى الشَّامِ حِينَ أَرَادَ إِهْلَاكَ قَوْمِهِ(16/318)وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] مُخَالِفِينَ أَمْرَ اللَّهِ، خَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ , وَمَا يَرْضَى مِنَ الْعَمَلِ(16/318)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَدْخَلْنَا لُوطًا فِي رَحْمَتِنَا بِإِنْجَائِنَا إِيَّاهُ مِمَّا أَحْلَلْنَا بِقَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ , وَإِنْقَاذِنَاهُ مِنْهُ. {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 75] يَقُولُ: إِنَّ لُوطًا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِنَا وَيَنْتَهُونَ إِلَى أَمْرِنَا وَنَهْيِنَا وَلَا يَعْصُونَنَا وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء: 75] مَا:(16/319)حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} [الأنبياء: 75] قَالَ: فِي الْإِسْلَامِ(16/319)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ نُوحًا إِذْ نَادَى رَبَّهُ مِنْ قَبْلِكَ، وَمِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطًا، وَسَأَلَنَا أَنْ نُهْلِكَ قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا اللَّهَ فِيمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَكَذَّبُوا نُوحًا فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الصافات: 76] يَعْنِي بِأَهْلِهِ: أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْ وَلَدِهِ وَحَلَائِلِهِمْ {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76] يَعْنِي بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ: الْعَذَابَ الَّذِي أَحَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْغَرَقِ وَالْكَرْبُ: شِدَّةُ الْغَمِّ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ كَرَبَنِي هَذَا الْأَمْرُ فَهُوَ يُكْرِبُنِي كَرْبًا(16/319)وَقَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77] يَقُولُ: وَنَصَرْنَا نُوحًا [ص:320] عَلَى الْقَوْمِ الَّذِي كَذَّبُوا بِحُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا، فَأَنْجَيْنَاهُ مِنْهُمْ، فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ} [الأنبياء: 74] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ قَوْمَ نُوحٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كَانُوا قَوْمَ سُوءٍ، يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ، فَيَعْصُونَ اللَّهَ , وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ(16/319)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ يَا مُحَمَّدُ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ الْحَرْثِ مَا كَانَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَبْتًا(16/320)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ نَبْتًا(16/320)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ غَنَمَ الْقَوْمِ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ لَيْلًا وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْثُ كَرْمًا(16/320)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنَبَتَ عَنَاقِيدَهُ(16/321)حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] وَالْحَرْثُ: إِنَّمَا هُوَ حَرْثُ الْأَرْضِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ زَرْعًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَرْسًا، وَغَيْرُ ضَائِرٍ الْجَهْلُ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ(16/321)وَقَوْلُهُ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] يَقُولُ: حِينَ دَخَلَتْ فِي هَذَا الْحَرْثِ غَنَمُ الْقَوْمِ الْآخَرِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرْثِ لَيْلًا، فَرَعَتْهُ أَوْ أَفْسَدَتْهُ. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يَقُولُ وَكُنَّا لِحُكْمِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالْقَوْمِ الَّذِينَ حَكَمََا بَيْنَهُمْ فِيْمَا أَفْسَدَتْ غَنَمُ أَهْلِ الْغَنَمِ مِنْ حَرْثِ أَهْلِ الْحَرْثِ شَاهِدِينَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنَّا عِلْمُهُ وَقَوْلُهُ {فَفَهَّمْنَاهَا} [الأنبياء: 79] يَقُولُ فَفَهَمْنَا الْقَضِيَّةَ فِي ذَلِكَ {سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] دُونَ [ص:322] دَاوُدَ {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] يَقُولُ وَكُلُّهُمْ مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ آتَيْنَا حُكْمًا وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَعِلْمًا يَعْنِي وَعِلْمًا بِأَحْكَامِ اللَّهِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ(16/321)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَهَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، قَالَا: ثنا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنَبَتَ عَنَاقِيدَهُ , فَأَفْسَدَتْهُ. قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرَ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: يُدْفَعُ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وَتُدْفَعُ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ , وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79](16/322)حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي قَالَ: ثني عَمِّي قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يَقُولُ: كُنَّا لِمَا حَكَمَا شَاهِدِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ، أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ , وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ هَذَا أَرْسَلَ غَنَمَهُ فِي حَرْثِي، فَلَمْ يُبْقِ مِنْ حَرْثِي شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: اذْهَبْ , فَإِنَّ الْغَنَمَ كُلَّهَا لَكَ فَقَضَى بِذَلِكَ دَاوُدُ. وَمَرَّ صَاحِبُ الْغَنَمِ بِسُلَيْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَضَى بِهِ دَاوُدُ، فَدَخَلَ سُلَيْمَانُ عَلَى دَاوُدَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ , إِنَّ الْقَضَاءَ سِوَى الَّذِي قَضَيْتَ. فَقَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْحَرْثَ لَا يَخْفَى(16/322)عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَلَهُ مِنْ صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَ الْحَرْثِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ لَهَا نَسْلٌ فِي كُلِّ عَامٍ. فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ أَصَبْتَ، الْقَضَاءُ كَمَا قَضَيْتَ. فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ(16/323)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: ثني خَلِيفَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَخَرَجَ الرُّعَاةُ مَعَهُمُ الْكِلَابُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَوْ وَافَيْتُ أَمْرَكُمْ لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذَا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ، فَيَكُونُ لَهُمْ أَوْلَادُهَا وَأَلْبَانُهَا وَسِلَاؤُهَا وَمَنَافِعُهَا، وَيَبْذُرُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ مِثْلَ حَرْثِهِمْ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَرْثَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، أَخَذَ أَصْحَابُ الْحَرْثِ الْحَرْثَ وَرُدُّوا الْغَنَمَ إِلَى أَصْحَابِهَا(16/323)حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: أَعْطَاهُمْ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالْحَرْثِ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِجِزَّةِ الْغَنَمِ وَأَلْبَانِهَا لِأَهْلِ [ص:324] الْحَرْثِ، وَعَلَيْهِمْ رِعَايَتُهَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، وَيَحْرُثُ لَهُمْ أَهْلُ الْغَنَمِ حَتَّى يَكُونَ الْحَرْثُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ، ثُمَّ يَدْفَعُونَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَيَأْخُذُونَ غَنَمَهُمْ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثنا الْحَسَنُ قَالَ: ثني وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثني حَجَّاجٌ بِنَحْوِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَعَلَيْهِمْ رَعْيُهَا(16/323)حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُرَّةَ، فِي قَوْلِهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: كَانَ الْحَرْثُ نَبْتًا، فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ. فَمَرُّوا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: لَا، تُدْفَعُ الْغَنَمُ فَيُصِيبُونَ مِنْهَا يَعْنِي أَصْحَابَ الْحَرْثِ وَيَقُومُ هَؤُلَاءِ عَلَى حَرْثِهِمْ، فَإِذَا كَانَ كَمَا كَانَ رُدُّوا عَلَيْهِمْ. فَنَزَلَتْ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79](16/324)حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ شُرَيْحٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: كَانَ النَّفْشُ لَيْلًا، وَكَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا , قَالَ: فَجَعَلَ دَاوُدُ الْغَنَمَ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ قَالَ: فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَرْمِ قَدْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ أَرْضِهِ وَأَصْلُ كَرْمِهِ، فَاجْعَلْ لَهُ أَصْوَافَهَا وَأَلْبَانَهَا , قَالَ: فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79](16/324)حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلَانِ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ شِيَاهَ هَذَا قَطَعَتْ غَزْلًا لِي، فَقَالَ شُرَيْحٌ: نَهَارًا أَمْ لَيْلًا؟ قَالَ: إِنْ كَانَ نَهَارًا فَقَدْ بَرِئَ صَاحِبُ الشِّيَاهِ، وَإِنْ كَانَ لَيْلًا فَقَدْ ضَمِنَ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: كَانَ النَّفْشُ لَيْلًا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثنا حَكَّامٌ قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ شُرَيْحٍ بِنَحْوِهِ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثنا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ , عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، مِثْلَهُ(16/325)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الْآيَةُ، النَّفْشُ بِاللَّيْلِ، وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ غَنَمَ الْقَوْمِ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ لَيْلًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الزَّرْعِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ نَسْلُهَا وَرِسْلُهَا وَعَوَارِضُهَا وَجُزَازُهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمِ أُكِلَ دُفِعَتِ الْغَنَمُ إِلَى رَبِّهَا , وَقَبَضَ صَاحِبُ الزَّرْعِ زَرْعَهُ. فَقَالَ اللَّهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79](16/325)حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: نَفَشَتْ غَنَمٌ فِي حَرْثِ قَوْمٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالنَّفْشُ لَا يَكُونُ إِلَّا لَيْلًا، فَقَضَى دَاوُدُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَنَمَ، فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ , قَالَ: فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَضَاءِ دَاوُدَ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ خُذُوا الْغَنَمَ، وَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رِسْلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا إِلَى الْحَوْلِ(16/326)حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: فِي حَرْثِ قَوْمٍ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: النَّفْشُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَضَى أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ، فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى(16/326)حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} الْآيَتَيْنِ قَالَ: انْفَلَتَ غَنَمُ رَجُلٍ عَلَى حَرْثِ رَجُلٍ فَأَكَلَتْهُ، فَجَاءَ إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى فِيهَا بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ بِمَا أَكَلَتْ , وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ وَجْهُ ذَلِكَ. فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ، فَقَالَ: مَا قَضَى بَيْنَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: أَلَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا عَسَى أَنْ تَرْضَيَا بِهِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا صَاحِبَ الْحَرْثِ، فَخُذْ غَنَمَ هَذَا الرَّجُلِ فَكُنْ فِيهَا كَمَا كَانَ صَاحِبُهَا، أَصِبْ مِنْ لَبَنِهَا , وَعَارِضَتِهَا وَكَذَا وَكَذَا , مَا كَانَ يُصِيبُ، وَاحْرُثْ أَنْتَ يَا صَاحِبَ الْغَنَمِ حَرْثَ هَذَا الرَّجُلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ حَرْثُهُ مِثْلَهُ لَيْلَةَ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُكَ فَأَعْطِهِ حَرْثَهُ , وَخُذْ غَنَمَكَ , فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ(16/326)يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} . وَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79](16/327)حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] قَالَ: رَعَتْ(16/327)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: النَّفْشُ. الرَّعِيَّةُ تَحْتَ اللَّيْلِ(16/327)قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَتْ نَاقَةٌ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ فَأَفْسَدَتْهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ": {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] فَقَضَى عَلَى الْبَرَاءِ بِمَا أَفسَدَتْهُ النَّاقَةُ، وَقَالَ: «عَلَى أَصْحَابِ الْمَاشِيَةِ حِفْظُ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ، وَعَلَى أَصْحَابِ الْحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطَانِهِمْ بِالنَّهَارِ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ قَضَاءُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَتْ مَاشِيَتُهُ زَرْعًا لِرَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ، وَلَا يَكُونُ النُّفُوشُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، فَارْتَفَعَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِغَنَمِ صَاحِبِ الْغَنَمِ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ، فَانْصَرَفَا، فَمَرَّا بِسُلَيْمَانَ، فَقَالَ: بِمَاذَا قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَقَالَا: قَضَى بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ. فَقَالَ: إِنَّ الْحُكْمَ لَعَلَى غَيْرِ هَذَا، انْصَرِفَا مَعِي فَأَتَى أَبَاهُ دَاوُدَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَضَيْتَ عَلَى هَذَا بِغَنَمِهِ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ الْحُكْمَ لَعَلَى غَيْرِ هَذَا. قَالَ: وَكَيْفَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ فَيُصِيبُ مِنْ أَلْبَانِهَا [ص:328] وَسُمُونِهَا وَأَصْوَافِهَا، وَتَدْفَعُ الزَّرْعَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ يَقُومُ عَلَيْهِ، فَإِذَا عَادَ الزَّرْعُ إِلَى حَالِهِ الَّتِي أَصَابَتْهُ الْغَنَمُ عَلَيْهَا رُدَّتِ الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ , وَرُدَّ الزَّرْعُ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ. فَقَالَ دَاوُدُ: لَا يَقْطَعُ اللَّهُ فَمَكَ فَقَضَى بِمَا قَضَى سُلَيْمَانُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ. {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} , إِلَى قَوْلِهِ: {حَكَمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22](16/327)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ، سَمِعَ الْحَسَنَ، يَقُولُ: كَانَ الْحُكْمُ بِمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ، وَلَمْ يُعَنِّفِ اللَّهُ دَاوُدَ فِي حُكْمِهِ(16/328)وَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ إِذَا سَبَّحَ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا:(16/328)حَدَّثَنَا بِهِ، بِشْرٌ قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} وَالطَّيْرَ أَيْ يُصَلِّينَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا صَلَّى(16/328)وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] يَقُولُ: وَكُنَّا قَدْ قَضَيْنَا أَنَّا فَاعِلُو ذَلِكَ، وَمُسَخِّرُو الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَعَ دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ(16/328)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعَلَّمَنَا دَاوُدَ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ، وَاللَّبُوسُ عِنْدَ الْعَرَبِ: السِّلَاحُ كُلُّهُ، دِرْعًا كَانَ , أَوْ جَوْشَنًا , أَوْ سَيْفًا , أَوْ رُمْحًا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْهُذَلِيِّ:[البحر الكامل]وَمَعِي لَبُوسٌ لِلَّبِيسِ كَأَنَّهُ ... رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نَعَاجٍ مُجْفِلِوَإِنَّمَا يَصِفُ بِذَلِكَ رُمْحًا. وَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ قَالُوا: عَنِيَ الدُّرُوعَ(16/329)ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] الْآيَةُ قَالَ: كَانَتْ قَبْلَ دَاوُدَ صَفَائِحُ قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ هَذَا الْحَلْقَ وَسَرَدَ دَاوُدُ(16/329)حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثنا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] قَالَ: «كَانَتْ صَفَائِحَ، فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَّقَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» [ص:330] وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {لِتُحْصِنَكُمْ} [الأنبياء: 80] فَقَرَأَ ذَلِكَ أَكْثَرُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (لِيُحْصِنَكُمْ) بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: لِيُحْصِنَكُمُ اللَّبُوسُ مِنْ بَأْسِكُمْ، ذَكَّرُوهُ لِتَذْكِيرِ اللَّبُوسِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ: { «لِتُحْصِنَكُمْ» } [الأنبياء: 80] بِالتَّاءِ، بِمَعْنَى: لِتُحْصِنَكُمُ الصَّنْعَةُ، فَأَنَّثَ لِتَأْنِيثِ الصَّنْعَةِ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ , وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ: (لِنُحْصِنَكُمْ) بِالنُّونِ، بِمَعْنَى: لِنُحْصِنَكُمْ نَحْنُ مِنْ بَأْسِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْيَاءِ، لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحُجَّةُ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُتَقَارِبَاتِ الْمَعَانِي , وَذَلِكَ أَنَّ الصَّنْعَةَ هِيَ اللَّبُوسُ، وَاللَّبُوسُ هِيَ الصَّنْعَةُ، وَاللَّهُ هُوَ الْمُحْصِنُ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ، وَهُوَ الْمُحْصِنُ بِتَصْيِيرِ اللَّهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (لِيُحْصِنَكُمْ) لِيُحْرِزَكُمْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ أَحْصَنَ فُلَانٌ جَارِيَتَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، وَالْبَأْسُ: الْقِتَالُ، وَعَلَّمَنَا دَاوُدَ صَنْعَةَ سِلَاحٍ لَكُمْ لِيُحْرِزَكُمْ إِذَا لَبِسْتُمُوهُ وَلَقِيتُمْ فِيهِ أَعْدَاءَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ(16/329)وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] يَقُولُ: فَهَلْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ شَاكِرُو اللَّهَ عَلَى [ص:331] نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ بِمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ صَنْعَةِ اللَّبُوسِ الْمُحْصِنِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، يَقُولُ: فَاشْكُرُونِي عَلَى ذَلِكَ(16/330)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ {الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] وَعُصُوفُهَا: شِدَّةُ هُبُوبِهَا {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] يَقُولُ: تَجْرِي الرِّيحُ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] يَعْنِي: إِلَى الشَّامِ , وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي بِسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ تَعُودُ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 71] . كَمَا:(16/331)حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ، وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ إِلَى سَرِيرِهِ. وَكَانَ امْرَأً غَزَّاءً، قَلَّمَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا يَسْمَعُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِمَلِكٍ إِلَّا أَتَاهُ حَتَّى يُذِلَّهُ. وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ، أَمَرَ بِعَسْكَرِهِ فَضُرِبَ لَهُ بِخَشَبٍ، ثُمَّ نُصِبَ لَهُ عَلَى الْخَشَبِ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَآلَةُ الْحَرْبِ كُلُّهَا، حَتَّى إِذَا حَمَلَ مَعَهُ مَا يُرِيدُ أَمَرَ الْعَاصِفَ مِنَ الرِّيحِ، فَدَخَلَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْخَشَبِ فَاحْتَمَلَتْهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ أَمَرَ الرُّخَاءَ، فَمَدَّتْهُ شَهْرًا فِي رَوْحَتِهِ , وَشَهْرًا فِي غُدْوَتِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] قَالَ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] . قَالَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ مَنْزِلًا بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مَكْتُوبٌ فِيهِ كِتَابٌ كَتَبَهُ بَعْضُ صَحَابَةِ سُلَيْمَانَ، إِمَّا مِنَ الْجِنِّ , [ص:332] وَإِمَّا مِنَ الْإِنْسِ: نَحْنُ نَزَلْنَاهُ وَمَا بَنَيْنَاهُ، وَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ، غَدَوْنَا مِنْ إِصْطَخْرَ فَقِلْنَاهُ، وَنَحْنُ رَاحِلُونَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَائِلُونَ الشَّامَ(16/331)حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] . إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظَيْنِ} [الأنبياء: 82] قَالَ: وَرَّثَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ دَاوُدَ، فَوَرَّثَهُ نُبُوَّتَهُ وَمُلْكَهُ وَزَادَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ(16/332)حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء: 81] قَالَ: عَاصِفَةً: شَدِيدَةٌ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81] قَالَ: الشَّامُ وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء: 81] فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ: «الرِّيحُ» رَفْعًا بِالْكَلَامِ فِي سُلَيْمَانَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَبَرِ عَنْ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ , لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ(16/332)وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] يَقُولُ: وَكُنَّا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِعْلَنَا مَا [ص:333] فَعَلْنَا لِسُلَيْمَانَ مِنْ تَسْخِيرِنَا لَهُ , وَإِعْطَائِنَا مَا أَعْطَيْنَاهُ مِنَ الْمُلْكِ , وَصَلَاحِ الْخَلْقِ، فَعَلَى عِلْمٍ مِنَّا بِمَوْضِعِ مَا فَعَلْنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِعْلَنَا، وَنَحْنُ عَالِمُونَ بِكُلِّ شَيْءٍ , لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ(16/332)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا أَيْضًا لِسُلَيْمَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبَحْرِ، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْبُنْيَانِ وَالتَّمَاثِيلِ وَالْمَحَارِيبِ. {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82] يَقُولُ: وَكُنَّا لِأَعْمَالِهِمْ , وَلِأَعْدَادِهِمْ حَافِظَيْنَ، لَا يَئُودُنَا حِفْظُ ذَلِكَ كُلِّهِ(16/333)الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ أَيُّوبَ يَا مُحَمَّدُ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ وَقَدْ مَسَّهُ الضُّرُّ وَالْبَلَاءُ. وَكَانَ الضُّرُّ الَّذِي أَصَابَهُ وَالْبَلَاءُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، امْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ لَهُ وَاخْتِبَارًا. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ كَمَا:(16/333)حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ الْبُخَارِيُّ، قَالَ: ثنا(16/333)إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: ثني عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، يَقُولُ: كَانَ بَدْءُ أَمْرِ أَيُّوبَ الصِّدِّيقِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ كَانَ صَابِرًا , نِعْمَ الْعَبْدُ قَالَ وَهْبٌ: إِنَّ لِجِبْرِيلَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَقَامًا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ , وَالْفَضِيلَةِ عِنْدَهُ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَتَلَقَّى الْكَلَامَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ عَبْدًا بِخَيْرٍ تَلَقَّاهُ جِبْرَائِيلُ مِنْهُ , ثُمَّ تَلَقَّاهُ مِيكَائِيلُ، وَحَوْلَهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ. وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، صَارَتِ الصَّلَاةُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، فَإِذَا صَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ، هَبَطَتْ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ إِلَى مَلَائِكَةِ الْأَرْضِ. وَكَانَ إِبْلِيسُ لَا يُحْجَبُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثُ شَاءَ مَا أَرَادُوا، وَمِنْ هُنَالِكَ وَصَلَ إِلَى آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ يَصْعَدُ فِي السَّمَاوَاتِ، حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَحُجِبَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَكَانَ يَصْعَدُ فِي ثَلَاثٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حُجِبَ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ، فَهُوَ مَحْجُوبٌ هُوَ وَجَمِيعُ جُنُودِهِ مِنْ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرْتِ الْجِنُّ مَا كَانَتْ تَعْرِفُ حِينَ قَالَتْ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} [الجن: 8] . إِلَى قَوْلِهِ: {شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] . قَالَ وَهْبٌ: فَلَمْ يَرُعْ إِبْلِيسَ إِلَّا تَجَاوُبُ مَلَائِكَتِهَا بِالصَّلَاةِ عَلَى أَيُّوبَ، وَذَلِكَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ إِبْلِيسُ صَلَاةَ الْمَلَائِكَةِ، أَدْرَكَهُ الْبَغْي وَالْحَسَدُ، وَصَعِدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ مَكَانًا كَانَ يَقِفُهُ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي، نَظَرْتُ فِي أَمْرِ عَبْدِكَ أَيُّوبَ، فَوَجَدْتُهُ عَبْدًا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ فَشَكَرَكَ، وَعَافَيْتَهُ فَحَمِدَكَ، ثُمَّ لَمْ تُجَرِّبْهُ(16/334)بِشِدَّةٍ , وَلَمْ تُجَرِّبْهُ بِبَلَاءٍ، وَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ , لَئِنْ ضَرَبْتَهُ بِالْبَلَاءِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ , وَلَيَنْسَيَنَّكَ , وَلَيَعْبُدَنَّ غَيْرَكَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: انْطَلِقْ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ، فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ يَشْكُرُنِي، لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا عَلَى عَقْلِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ جَمَعَ عَفَارِيتَ الشَّيَاطِينِ وَعُظَمَاءَهُمْ، وَكَانَ لِأَيُّوبَ الْبَثَنِيَّةُ مِنَ الشَّامِ كُلِّهَا، بِمَا فِيهَا مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا، وَكَانَ لَهُ بِهَا أَلْفُ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا، وَخَمْسُ مِائَةِ فَدَّانٍ يَتْبَعُهَا خَمْسُ مِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ , وَوَلَدٌ وَمَالٌ، وَحِمْلُ آلَةِ كُلِّ فَدَّانٍ أَتَانٌ، لِكُلِّ أَتَانٍ وَلَدٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ , وَأَرْبَعَةٍ , وَخَمْسَةٍ , وَفَوْقَ ذَلِكَ. فَلَمَّا جَمَعَ إِبْلِيسُ الشَّيَاطِينَ قَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ؟ فَإِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ، فَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْفَادِحَةُ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ: أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ , فَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتِي عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْإِبِلَ وَرُعَاتَهَا. فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْإِبِلَ، وَذَلِكَ حِينَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا , وَثَبَتَتْ فِي مَرَاعِيهَا، فَلَمْ تَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ إِعْصَارٌ مِنْ نَارٍ تَنْفُخُ مِنْهَا أَرْوَاحُ السَّمُومِ، لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احْتَرَقَ، فَلَمْ يَزَلْ يَحْرِقُهَا وَرُعَاتَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا , فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا تَمَثَّلَ إِبْلِيسُ عَلَى قَعُودٍ مِنْهَا بِرَاعِيهَا، ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّ أَيُّوبَ، حَتَّى وَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ قَالَ: لَبَّيْكَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الَّذِي صَنَعَ رَبُّكَ الَّذِي اخْتَرْتَ , وعَبْدتَ , وَوَحَّدْتَ بِإِبِلِكَ وَرُعَاتِهَا؟ قَالَ أَيُّوبُ: إِنَّهَا مَالُهُ أَعَارَنِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ إِذَا شَاءَ نَزْعَهُ،(16/335)وَقَدِيمًا مَا وَطَّنْتُ نَفْسِي وَمَالِي عَلَى الْفِنَاءِ. قَالَ إِبْلِيسُ: وَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ وَرُعَاتُهَا، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ شَيْءٍ مِنْهَا , وَمِنْ رُعَاتِهَا، فَتَرَكَتِ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ، وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَيْهَا يَتَعَجَّبُونَ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا كَانَ أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا , وَمَا كَانَ إِلَّا فِي غُرُورٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَمَنَعَ وَلِيَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ لِيُشْمِتَ بِهِ عَدُوَّهُ , وَلِيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ. قَالَ أَيُّوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حِينَ أَعْطَانِي , وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّهِ، لَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْرَحَ حِينَ أَعَارَكَ اللَّهُ , وَتَجْزَعَ حِينَ قَبَضَ عَارِيَتَهُ، اللَّهُ أَوْلَى بِكَ وَبِمَا أَعْطَاكَ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ مَلَكِ الْأَرْوَاحِ، فَآجَرَنِي فِيكَ , وَصِرْتَ شَهِيدًا، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا , فَأَخَّرَكَ مِنْ أَجَلِهِ , فَعَرَّاكَ اللَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ , وَخَلَّصَكَ مِنَ الْبَلَاءِ , كَمَا يَخْلُصُ الزُّوَانُ مِنَ الْقَمْحِ الْخَلَاصِ. ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ خَاسِئًا ذَلِيلًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، فَإِنِّي لَمْ أَكْلِمْ قَلْبَهُ؟ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتَ صِحْتُ صَوْتًا لَا يَسْمَعْهُ ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ مُهْجَةُ نَفْسِهِ. قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا فَانْطَلَقَ يَؤُمُّ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا، حَتَّى إِذَا وَسَطَهَا صَاحَ صَوْتًا جَثَمَتْ أَمْوَاتًا(16/336)مِنْ عِنْدِ آخِرِهَا وَرِعَاؤُهَا. ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرِّعَاءِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَيُّوبَ وَجَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ. ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ، فَإِنِّي لَمْ أَكْلِمْ قَلْبَ أَيُّوبَ؟ فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ عُظَمَائِهِمْ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفًا تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى لَا أُبْقِيَ شَيْئًا. قَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: فَأْتِ الْفَدَّادِينَ وَالْحَرْثَ فَانْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ قَرَّبُوا الْفَدَّادِينَ , وَأَنْشَئُوا فِي الْحَرْثِ، وَالْأُتُنَ وَأَوْلَادُهَا رُتُوعٌ، فَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. ثُمَّ خَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الْحَرْثِ، حَتَّى جَاءَ أَيُّوبَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ مِثْلَ رَدِّهِ الْأَوَّلِ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّهُ قَدْ أَفْنَى مَالَهُ , وَلَمْ يَنْجَحْ مِنْهُ، صَعِدَ سَرِيعًا، حَتَّى وَقَفَ مِنَ اللَّهِ الْمَوْقِفَ الَّذِي كَانَ يَقِفُهُ , فَقَالَ: يَا إِلَهِي، إِنَّ أَيُّوبَ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ، فَأَنْتَ مُعْطِيهِ الْمَالَ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ؟ فَإِنَّهَا الْفِتْنَةُ الْمُضِلَّةُ، وَالْمُصِيبُةُ الَّتِي لَا تَقُومُ لَهَا قُلُوبُ الرِّجَالِ، وَلَا يَقْوَى عَلَيْهَا صَبْرُهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: انْطَلَقَ، فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا سُلْطَانَ لَكَ عَلَى قَلْبِهِ وَلَا جَسَدِهِ , وَلَا عَلَى عَقْلِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا، حَتَّى جَاءَ بَنِي أَيُّوبَ وَهُمْ فِي قَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حَتَّى تَدَاعَى مِنْ قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَاطِحُ الْجُدُرَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَيَرْمِيهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ، حَتَّى إِذَا مَثَّلَ بِهِمْ كُلَّ مُثْلَةٍ، رَفَعَ بِهِمُ الْقَصْرَ، حَتَّى إِذَا أَقَلَّهُ بِهِمْ , فَصَارُوا فِيهِ مُنَكَّسِينَ، انْطَلَقَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ، وَهُوَ جَرِيحٌ، مَشْدُوخُ الْوَجْهِ يَسِيلُ دَمُهُ , وَدِمَاغُهُ مُتَغَيِّرٌ لَا يَكَادُ يُعْرَفُ مِنْ شِدَّةِ التَّغَيُّرِ وَالْمُثْلَةِ الَّتِي جَاءَ مُتَمَثِّلًا فِيهَا. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ أَيُّوبُ هَالَهُ وَحَزِنَ , وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ، وَقَالَ(16/337)لَهُ: يَا أَيُّوبُ، لَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَفْلَتُّ مِنْ حَيْثُ أَفْلَتُّ , وَالَّذِي رَمَانَا بِهِ مِنْ فَوْقِنَا وَمِنْ تَحْتِنَا، وَلَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ عُذِّبُوا , وَكَيْفَ مُثِّلَ بِهِمْ , وَكَيْفَ قُلِبُوا فَكَانُوا مُنَكَّسِينَ عَلَى رُءُسِهِمْ , تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ , وَدِمَاغُهُمْ مِنْ أُنُوفِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ , وَتَقْطُرُ مِنْ أَشْفَارِهِمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ شُقَّتْ بُطُونُهُمْ , فَتَنَاثَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ قُذِفُوا بِالْخَشَبِ , وَالْجَنْدَلُ يَشْدَخُ دِمَاغَهُمْ، وَكَيْفَ دَقَّ الْخَشَبُ عِظَامَهُمْ , وَخَرَقَ جُلُودَهُمْ , وَقَطَعَ عَصَبَهُمْ، وَلَوْ رَأَيْتُ الْعَصْبِ عُرْيَانًا، وَلَوْ رَأَيْتُ الْعِظَامَ مُتَهَشِّمَةً فِي الْأَجْوَافِ، وَلَوْ رَأَيْتَ الْوُجُوهَ مَشْدُوخَةً، وَلَوْ رَأَيْتَ الْجُدُرَ تَنَاطَحُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ، قُطِّعَ قَلْبُكَ فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَنَحْوَهُ، وَلَمْ يَزَلْ يُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ فَبَكَى، وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ، فَاغْتَنَمَ إِبْلِيسُ الْفُرْصَةَ مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَصَعِدَ سَرِيعًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ جَزَعِ أَيُّوبَ مَسْرُورًا بِهِ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ أَنْ فَاءَ وَأَبْصَرَ، فَاسْتَغْفَرَ، وَصَعِدَ قُرَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتَوْبَةٍ مِنْهُ، فَبَدَرُوا إِبْلِيسَ إِلَى اللَّهِ، فَوَجَدُوهُ قَدْ عَلِمَ بِالَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ تَوْبَةِ أَيُّوبَ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ خَازِيًا ذَلِيلًا، فَقَالَ: يَا إِلَهِي، إِنَّمَا هَوَّنَ عَلَى أَيُّوبَ خَطَرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ , فَأَنْتَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ؟ فَأَنَا لَكَ زَعِيمٌ لَئِنْ ابْتَلَيْتَهُ فِي جَسَدِهِ لَيَنْسَيَنَّكَ، وَلَيَكْفُرَنَّ بِكَ، وَلَيَجْحَدَنَّكَ نِعْمَتَكَ قَالَ اللَّهُ: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى لِسَانِهِ , وَلَا عَلَى قَلْبِهِ , وَلَا عَلَى عَقْلِهِ. فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ جَوَادًا، فَوَجَدَ أَيُّوبَ سَاجِدًا، فَعَجِلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فِي مَوْضِعِ وَجْهِهِ، فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ، فَتَرَهَّلَ،(16/338)