عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
غرضه إثبات خلاف قول خصمه، من وجهة يُمْكِنُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ فَلَا يَصِحُّ1. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَنْقِيحِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُطْلِقُهُ، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: لِلِاسْتِصْحَابِ صُوَرٍ:إِحْدَاهَا:اسْتِصْحَابُ مَا دَلَّ الْعَقْلُ أو الشرع عَلَى ثُبُوتِهِ وَدَوَامِهِ، كَالْمِلْكِ عِنْدَ جَرَيَانِ الْقَوْلِ الْمُقْتَضِي لَهُ، وَشَغْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ جَرَيَانِ إِتْلَافٍ أَوِ الْتِزَامٍ، وَدَوَامِ الْحِلِّ فِي الْمَنْكُوحَةِ بَعْدَ تقرير المنكاح، فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ مُعَارِضٌ.قَالَ، الثَّانِيَةُ:اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ التَّكْلِيفِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى تَغَيُّرِهِ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهَذَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ "أَيْ"*: مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشرع.قال، الثَّالِثَةَ:اسْتِصْحَابُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ، وَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ.قَالَ، الرَّابِعَةُ:اسْتِصْحَابُ الدَّلِيلِ، مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارِضِ، إِمَّا تَخْصِيصًا إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا، أَوْ نَسْخًا إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا، فَهَذَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ "بِالْإِجْمَاعِ"**.وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا النَّوْعِ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَأَثْبَتَهُ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَنَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "الْبُرْهَانِ"، وَإِلْكِيَا فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي "الْقَوَاطِعِ"؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ اللَّفْظِ، لَا مِنْ نَاحِيَةِ الِاسْتِصْحَابِ2.قَالَ، الْخَامِسَةُ:الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِأَنْ يُتَّفَقَ عَلَى حكم في حاله، ثم يتغير صِفَةُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَيَسْتَدِلُّ مَنْ لم يغير الحكم باستصحاب الحال.__________* ما بين القوسين ساقط من "أ".** في "أ": إجماعا.__________1 مثاله: من يقول في مسألة الحرام: إنه يمين توجب الكفارة، لم يستدل على إبطال قول خصومه بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان فيعارض بالأصل أن لا يمين ولا كفارة فيتعارض الاستصحابان فيسقطان ا. هـ البحر المحيط 6/ 20.2 ذكر الزركشي في كتابه كلاما وافيا على ذلك فانظره في الصفحة 21 من البحر المحيط م6.(2/176)مِثَالُهُ: إِذَا اسْتَدَلَّ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمُتَيَمِّمَ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَاسْتُصْحِبَ إِلَى أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ مُبْطِلَةٌ.وَكَقَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء، فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ1.وَهَذَا النوع ومحل الْخِلَافِ، كَمَا قَالَهُ فِي "الْقَوَاطِعِ" وَهَكَذَا فَرَضَ أَئِمَّتُنَا الْأُصُولِيُّونَ الْخِلَافَ فِيهَا، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمُ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْغَزَالِيُّ، إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ الطَّوَائِفِ.وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ: إِنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ، بَلْ إِنِ اقْتَضَى الْقِيَاسُ أَوْ غَيْرُهُ إِلْحَاقَهُ بِمَا قَبْلُ أُلْحِقَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا.قَالَ: وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالصَّيْرَفِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ، قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ.قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ": إِنَّهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ شُيُوخُ أَصْحَابِنَا، فَيَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِهِ. انْتَهَى.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ، قَائِمٌ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به.__________1 انظر البحر المحيط 6/ 22 والمستصفى 1/ 223.2 جزء من الآية 13 من سورة الشورى.(2/177)الْبَحْثُ الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَاالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَبِّدًا قبل البعثة بِشَرْعٍ أَمْ لَا؟...الْبَحْثُ الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَاوَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ:الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَلْ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعبدا بشرع أم لا؟كان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا؟ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:فَقِيلَ: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَبِّدًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِشَرِيعَةِ آدَمَ؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ الشَّرَائِعِ.وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ نُوحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} 2.(2/177)وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} 1 وقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} 2.قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ"3: وَعَزَى إِلَى الشَّافِعِيِّ.قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَبِهِ نَقُولُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "الْمَصَادِرِ" عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ.وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى.وَقِيلَ: بِشَرِيعَةِ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ النَّاسِخُ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَبِهِ جَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْوَاحِدِيُّ4.وَقِيلَ كَانَ عَلَى شَرْعٍ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَلَا يُقَالُ: كَانَ مِنْ أُمَّةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ عَلَى شَرْعِهِ.قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ": وَإِلَيْهِ كَانَ يَمِيلُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ.وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ كُلِّ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا وَانْدَرَسَ، حَكَاهُ صَاحِبُ "الْمُلَخَّصِ".وَقِيلَ: كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي بِشَرْعِ مَنْ تَعَبَّدَهُ اللَّهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ.وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ، حَكَاهُ فِي "الْمَنْخُولِ" عَنْ إِجْمَاعِ الْمُعْتَزِلَةِ.قَالَ الْقَاضِي فِي "مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ" وَابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ جُمْهُورُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا؛ إِذْ لَوْ تَعَبَّدَ بِاتِّبَاعِ أَحَدٍ لَكَانَ غَضًّا مِنْ نُبُوَّتِهِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ الْعَقْلِ.قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ؛ إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ شَرِيعَةٌ، وَرَجَّحَ هَذَا الْمَذْهَبَ، أَعْنِي: عَدَمَ التَّعَبُّدِ بِشَرْعٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْقَاضِي، وَقَالَ: هَذَا مَا نَرْتَضِيهِ وَنَنْصُرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى دِينٍ لَنُقِلَ، وَلَذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَا يظن به الكتمان.__________1 جزء من الآية 68 من سورة آل عمران.2 جزء من الآية 123من سورة النحل.3 وهو للإمام عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، أبي نصر، كما نسبه إليه السيوطي في كتابه المسمى "بالإتقان في علوم القرآن". ا. هـ الإتقان 4/ 228.4 هو علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، أبو الحسن الشافعي، صاحب التفسير، توفي في نيسابور سنة ثمان وستين وأربعمائة هـ، من آثاره "أسباب النزول، البسيط، الوسيط، الوجيز" وغيرها كثير. ا. هـ سير أعلام النبلاء 18/ 339 معجم المؤلفين 12/ 256 شذرات الذهب 3/ 330 هدية العارفين 1/ 692.(2/178)وَعَارَضَ ذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ أَصْلًا لَنُقِلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنِ الْمُعْتَادِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي.قَالَ: فَقَدْ تَعَارَضَ الْأَمْرَانِ.وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: كَانَتِ الْعَادَةُ انْخَرَقَتْ فِي أُمُورِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْصِرَافِ "هِمَمِ"* النَّاسِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنَ الضَّعْفِ وَسُقُوطِ مَا "رَتَّبَهُ"* عَلَيْهَا.وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ القشيري، وإلكيا، والغزالي، والآمدي، والشريف المرتضى، واختار النَّوَوِيُّ فِي "الرَّوْضَةِ"، قَالُوا: إِذْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةُ عَقْلٍ، وَلَا ثَبَتَ فِيهِ نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ.قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي "الْمُرْشِدِ" بَعْدَ حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ: وَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ لَكِنْ أَيْنَ السَّمْعُ فِيهِ. انْتَهَى.قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَظْهَرُ لَهَا فَائِدَةٌ، بَلْ تَجْرِي مَجْرَى التَّوَارِيخِ الْمَنْقُولَةِ، وَوَافَقَهُ الْمَازِرِيُّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَكِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَفُ تِلْكَ الْمِلَّةِ التي تبعد بِهَا، وَفَضَّلَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مِلَّتِهِ.وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام، فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ الْبَحْثِ عَنْهَا، عَامِلًا بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مِنْهَا، كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ السيرة، وَكَمَا تُفِيدُهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مِنْ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِاتِّبَاعِ تِلْكَ الْمِلَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ لَهَا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمْ يكن إلا عليها.__________* في "أ": بانصرافهم.** في حاشية "أ": كذا بالأصل "أي ملزمة" والصواب سقوط ما نبه عليه يعني بقوله والوجه أن يقال إلخ والله أعلم.__________1 انظر البحر المحيط 6/ 41 والمستصفى 1/ 250.(2/179)الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد البعثة متعبدا بشرع من قبله أم لا؟اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَمْ لَا عَلَى أَقْوَالٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِهَا1، بَلْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي آخِرِ قَوْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي آخر عمره.(2/179)قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ فِي "الْكَافِي"، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ1 لَمْ يُرْشِدْهُ إِلَّا إِلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ.وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ حَزْمٍ.وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 2.وَبَالَغَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالَتْ: بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّهُ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالْآمِدِيُّ.الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهُ، نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَارَهُ "ابْنُ بَرْهَانَ"*. وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِهِمْ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي واختاره ابن الحاجب.قال ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا، يَعْنِي الْمَالِكِيَّةَ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3 الآية، فإن ذلك مما استدل بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِكَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فِي شَرْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَوْنِهِ وَاجِبًا فِي شَرْعِهِ.واستدلوا أيضًا بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" 4 وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 5 وَهِيَ مَقُولَةٌ لِمُوسَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، لَمَا كَانَ لِتِلَاوَةِ الْآيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ فَائِدَةٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابن عباس أنه سجد في صورة ص، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 6 فاستنبط التشريع من هذه الآية.__________* في "أ": الرازي. وهو تحريف، والصواب ما أثبت كما في البحر 6/ 42.__________1 تقدم تخريجه 1/ 152.2 جزء من الآية 48 من سورة المائدة.3 جزء من الآية 45 من سورة المائدة.4 تقدم تخريجه 2/ 75.5 جزء من الآية 14 من سورة طه.6 جزء من الآية "90" من سورة الأنعام(2/180)وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ1 "فَإِنَّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ"* وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَحَبَّتِهِ لِلْمُوَافَقَةِ فَائِدَةٌ.وَلَا أَوْضَحَ وَلَا أَصْرَحَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ من قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 2.الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْوَقْفُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَابْنُ بَرْهَانَ.وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَنَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، أَوْ لِسَانِ مَنْ أَسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ3 وَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، وَلَا مَخْصُوصًا، فَإِنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْقُرْطُبِيُّ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّعَبُّدِ، لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ وُقُوعِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِطْلَاقُهُمْ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الْقَيْدِ، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَأْبَاهُ.__________* ما بين القوسين ساقط من "أ".__________1 مثاله ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن سخبرة قال: "مُرَّ على علي بجنازة فذهب اصحابه يقومون فقال لهم علي: ما يحملكم على هذا؟ قالوا: إن أبا موسى أخبرنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا مُرت به جنازة قام حتى تجاوزه. قال: فقال: إن أبا موسى لا يقول شيئًا، لعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك مرة. إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحب أن يتشبه بأهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شيء فإذا أنزل عليه تركه". كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة 962. أبو داود. كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 3175. النسائي، كتاب الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام للجنازة 1044. البيهقي، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة 4/ 27. ابن حبان في صحيحه 3056. أبو يعلى في مسنده 1/ 273.2 جزء من الآية 123 من سورة النحل.3 هو كعب بن ماتع، الحميري، اليماني، كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدم المدينة من اليمن أيام عمر رضي الله عنه، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائبا، ويأخذ السنن عن الصحابة وكان حسن الإسلام. ا. هـ سير أعلام النبلاء 3/ 489 شذارت الذهب 1/ 40 الجرح والتعديل 7/ 161.(2/181)البحث الرابع: الاستحسانواختلف في حقيقته: فَقِيلَ: هُوَ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ.وَقِيلَ: هُوَ الْعُدُولُ عن قياس إلى قياس أقوى1.__________1 انظر التبصرة 492 والمنخول 347.(2/181)وقيل: هو الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ لِمَصْلَحَةِ الناس.وقيل: تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأَقْوَى مِنْهُ.وَنُسِبَ الْقَوْلُ بِهِ إلى أبي حنيفة، وحكى عنه أَصْحَابِهِ، وَنَسَبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى مَالِكٍ، وَأَنْكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ مَعْرُوفًا مِنْ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا حُكِيَ عَنِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي "الْمُخْتَصَرِ": قَالَتْ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُمُ. انْتَهَى.وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْجُمْهُورُ، حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ استحسن فقد شرع.قال الروياني: ومعناه أَنَّهُ يَنْصِبُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ شَرْعًا غَيْرَ الشَّرْعِ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الرِّسَالَةِ": الِاسْتِحْسَانُ تَلَذُّذٌ1، وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ الِاسْتِحْسَانُ فِي الدِّينِ؛ لَجَازَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَجَازَ أَنْ يُشْرَعَ فِي الدِّينِ فِي كُلِّ بَابٍ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ شَرْعًا.قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْسَانٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أُمُورًا لَا تَصْلُحُ لِلْخِلَافِ؛ لأن بعضها مقبولا اتِّفَاقًا، وَبَعْضَهَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَمَا هُوَ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا، وَجَعَلُوا مِنْ صُوَرِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَبُولِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْعُدُولُ عَنْ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقْوَى، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِأَقْوَى مِنْهُ، وَجَعَلُوا مِنَ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقَدِحُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ ثُبُوتُهُ "فَالْعَمَلُ"* بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَنَّهُ شَاكٌّ، فَهُوَ مَرْدُودٌ اتِّفَاقًا؛ إِذْ لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ.وَجَعَلُوا مِنَ الْمُتَرَدِّدِ أَيْضًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الثَّابِتَةَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَ نصًّا "أو"** قياسا، مِمَّا ثَبَتَ حُجِّيَّتُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا آخَرَ، لَمْ تَثْبُتْ حُجِّيَّتُهُ، فهو مردود قطعا.__________* في "أ": والعمل به.** في "أ": وقياسا.__________1 انظر البحر المحيط 6/ 87.(2/182)وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، كَتَخْصِيصِ بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ1.قَالَ: وَهَذَا هُوَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ سَمَّوْهُ اسْتِحْسَانًا فَلَا مُشَاحَّةَ فِي التَّسْمِيَةِ.وَقَالَ الْأَبْيَارِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ، لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الاستدلال المرسل على القياس.ومثال: لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً بِالْخِيَارِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ، فَقِيلَ: يَرُدُّ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الْإِمْضَاءَ. قَالَ أَشْهَبُ: الْقِيَاسُ الْفَسْخُ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إِنْ أَرَادَ الْإِمْضَاءَ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ لَمْ يمضِ، إِذَا امْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ قَبُولِهِ نَصِيبَ الرَّادِّ.قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إِنْ كَانَ الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلَ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ، وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا أَحَدَ يَقُولُ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِحْسَانِ بِمَا يُشَنَّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ "وَالَّذِي يَقُولُونَ بِهِ أَنَّهُ الْعُدُولُ فِي الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ"*، فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يُعْرَفُ اسْمًا لِمَا "يُقَالُ بِهِ"** وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَفَّالُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَا دلت عليه الْأُصُولُ بِمَعَانِيهَا، فَهُوَ حَسَنٌ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ بِهِ، قَالَ: فَهَذَا لَا نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَقَعُ فِي الْوَهْمِ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانِهِ، مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ، من أصل ونظيره، فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَالْقَوْلُ بِهِ غَيْرُ سَائِغٍ.قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الِاسْتِحْسَانُ كَلِمَةٌ يُطْلِقُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ على ضربين:أحدهما: واجب بالإجماع، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ أَوِ الْعَقْلِيُّ، لِحُسْنِهِ2، فَهَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ.وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَحْظُورًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ "إِبَاحَتُهُ، أَوْ يَكُونَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ يُغَلِّظُهُ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ التَّخْفِيفُ"*** فَهَذَا عِنْدَنَا يَحْرُمُ الْقَوْلُ بِهِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ، وَتَرْكُ الْعَادَةِ وَالرَّأْيِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا. انْتَهَى.__________* في "أ": مكانها: وإن تفسير الاستحسان بالعدول عن دليل أقوى منه.** في "أ": يقاربه.*** ما بين قوسين ساقط من "أ". وهو مثبت في البحر المحيط 6/ 90.__________1 أخرجه مالك في الموطأ، كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع العرية 14، 2/ 619 وتقدم تخريجه 1/ 152.2 مثاله: القول بحدوث العالم وقدم المحدث ا. هـ البحر المحيط 6/ 90.(2/183)فَعَرَفْتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِحْسَانِ فِي بَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَارَةً، وَبِمَا يُضَادُّهَا أُخْرَى.(2/184)الْبَحْثُ الْخَامِسُ: الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فيها في مباحث القياس، وسنذكر ههنا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ، وَلِكَوْنِهَا قَدْ ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ، وَأَطْلَقَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَيْهَا اسْمَ الِاسْتِدْلَالِ1.قَالَ الْخُوَارَزْمِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ.قَالَ الْغَزَالِيُّ: هِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعْنًى يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ، مُنَاسِبٌ عَقْلًا، وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ: هِيَ مَا لَا تَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ وَلَا جُزْئِيٍّ.وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَوْلِ بِهَا عَلَى مَذَاهِبَ.الْأَوَّلُ: مَنْعُ التَّمَسُّكِ بِهَا مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي "الْبُرْهَانِ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهَا حَتَّى جَرَّهُ إِلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ يَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنَدًا، وَقَدْ حُكِيَ الْقَوْلُ بِهَا عن الشافعي، في "قوله"* القد يم، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَا نُسِبَ إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، قَالَ: وَقَدِ اجْتَرَأَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ، وَجَازَفَ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ مِنَ الْإِفْرَاطِ فِي هذا الوصل، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ مَالِكٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ.قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلَا يكاد يخلو غيرهما من اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحٌ فِي الاستعمال لها على غيرهما. انتهى.__________* في "أ": القول.__________1 انظر المستصفى 1/ 284 والبحر المحيط 6/ 76.(2/184)قَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَقْعُدُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ.الثَّالِثُ: إِنْ كَانَتْ مُلَائِمَةً لِأَصْلٍ كُلِّيٍّ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، أَوْ لِأَصْلٍ جُزْئِيٍّ، جَازَ بناء الأحكام عليها، وإلا فلا.وحكاه ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ" عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْحَقُّ الْمُخْتَارُ.قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشافعين وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى "اعْتِمَادِ"* تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِشَرْطِ "مُلَائَمَتِهِ"** لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ.الرَّابِعُ: إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً، قَطْعِيَّةً، كُلِّيَّةً، كَانَتْ مُعْتَبَرَةً، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تُعْتَبَرْ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرُورِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ1، وَبِالْكُلِّيَّةِ أَنْ تَعُمَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، لَا لَوْ كَانَتْ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ دُونَ حَالَةٍ، وَاخْتَارَ هَذَا الْغَزَالِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَمَثَّلَ الْغَزَالِيُّ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُسْتَجْمِعَةِ "الشَّرَائِطِ"*** بِمَسْأَلَةِ التُّرْسِ؛ وَهِيَ مَا إِذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا رَمَيْنَا قَتَلْنَا مُسْلِمًا مِنْ دُونِ جَرِيمَةٍ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكْنَا الرَّمْيَ لَسَلَّطْنَا الْكُفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُونَهُمْ، ثُمَّ يَقْتُلُونَ الْأَسَارَى الَّذِينَ تترسوا بهم، فحفظ المسلمين بقتل مَنْ تَتَرَّسُوا بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ "الشَّارِعَ"**** يَقْصِدُ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ، كَمَا يَقْصِدُ حَسْمَهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَحَيْثُ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْحَسْمِ، فَقَدْ قَدَرْنَا عَلَى التَّقْلِيلِ، وَكَانَ هَذَا الْتِفَاتًا إِلَى مَصْلَحَةٍ، عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً لِلشَّرْعِ، لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْحَصْرِ وَلَكِنَّ تَحْصِيلَ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ "مُعَيَّنٌ"*****، فَيَنْقَدِحُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ كَوْنُهَا ضَرُورِيَّةً، كُلِّيَّةً، قَطْعِيَّةً، فَخَرَجَ بِالْكُلِّيَّةِ ما إذا أَشْرَفَ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةٍ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ غَرِقَ بَعْضُهُمْ لَنَجَوْا، فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيقُ الْبَعْضِ، وَبِالْقَطْعِيَّةِ مَا إِذَا شَكَكْنَا فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ يتسلطون عند عدم رمي الترس "وبالضرورية مَا إِذَا تَتَرَّسُوا فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ فَلَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ"****** إِذْ لَا ضَرُورَةَ بِنَا إلى أخذ القلعة.__________* ما بين قوسين ساقط من "أ".** في "أ": الملائمة.*** ما بين قوسين ساقط من "أ".**** في "أ": الشرع.***** ما بين قوسين ساقط من "أ".****** ما بين قوسين ساقط من "أ".__________1 الضروريات الخمس: وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل ا. هـ انظر شرح التلويح على التوضيح 2/ 63.(2/185)قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ بِهَذِهِ الْقُيُودِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي اعْتِبَارِهَا، وَأَمَّا ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: هُوَ احْتِكَامٌ مِنْ قَائِلِهِ، ثُمَّ هُوَ تصوير بِمَا لَا يُمْكِنُ عَادَةً، وَلَا شَرْعًا، أَمَّا عَادَةً: فَلِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ؛ إِذْ هُوَ عَبَثٌ وَعِنَادٌ، وَأَمَّا شَرْعًا: فَلِأَنَّ الصَّادِقَ الْمَعْصُومَ قَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأُمَّةَ لَا يَتَسَلَّطُ عَدُوُّهَا عَلَيْهَا لِيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهَا1.قَالَ: وَحَاصِلُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، لِتَضْيِيقِهِ فِي قَبُولِهَا بِاشْتِرَاطِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهُ. انْتَهَى.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ يَفْرِضُ الْمَسَائِلَ النَّادِرَةَ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا، بَلِ الْمُسْتَحِيلَةَ لِرِيَاضَةِ "الْأَذْهَانِ"*، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كَافَّةُ الْخَلْقِ، وتصوير الغزالي إنما هُوَ فِي أَهْلِ مَحَلَّةٍ بِخُصُوصِهِمُ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ، لَا جَمِيعُ الْعَالَمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. انْتَهَى.قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَسْتُ أُنْكِرُ عَلَى مَنِ اعْتَبَرَ أَصْلَ الْمَصَالِحِ، لَكِنَّ الِاسْتِرْسَالَ فِيهَا، وَتَحْقِيقَهَا مُحْتَاجٌ إِلَى نَظَرٍ سَدِيدٍ، وَرُبَّمَا يَخْرُجُ عَنِ الْحَدِّ، وَقَدْ نَقَلُوا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَطَعَ لِسَانَ الْحُطَيْئَةِ2 بِسَبَبِ الْهَجْوِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَحَمْلُهُ عَلَى التَّهْدِيدِ الرَّادِعِ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَطْعِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا يَجُرُّ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا يُسَمَّى مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً.قَالَ: وَشَاوَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ فِي قَطْعِ أُنْمُلَةِ شَاهِدٍ، وَالْغَرَضُ مَنْعُهُ عَنِ الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ قَطْعِهَا، وَكُلُّ "هَذِهِ"** مُنْكَرَاتٌ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِرْسَالٌ قَبِيحٌ فِي أَذَى المسلمين. انتهى.ولنذكر ههنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال.__________* في "أ": الأفهام.** في "أ": هذا.__________1 أخرجه مسلم من حديث ثوبان المطول بلفظ: وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكهم بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فيهلكهم ولا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ... " كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض 2889. وأخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن 3952. البيهقي في السنن، كتاب السير، باب إظهار دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأديان 9/ 181. ابن حبان في صحيحه 6714، 7238. وأخرج بنحوه أبو داود، كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها 4252. وأحمد في مسنده 5/ 278. والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا في أمته 2176.2 هو جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم، ثم ارتد، وكان هجاءً مُرًّا، لم يكد يسلم من لسانه أحد، وهجا أمه وأباه ونفسه، من آثاره: ديوان شعر ا. هـ معجم المؤلفين 3/ 128 الأعلام 2/ 118 هدية العارفين 1/ 251. كشف الظنون 1/ 785.(2/186)فوائد تتعلق بالاستدلال:الْفَائِدَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّاعْلَمْ: أَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ، وَمِمَّنْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَغَيْرُهُمْ.وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَلَى أَقْوَالٍ1:الْأَوَّلُ:أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.الثَّانِي:أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَبِهِ قَالَ أكثر الحنفية، ونقل عن مالك، وهو قديم قولي الشَّافِعِيِّ.الثَّالِثُ:أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْقِيَاسُ، فَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى قِيَاسٍ لَيْسَ مَعَهُ قول صحابي، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي "الرِّسَالَةِ".قَالَ: وأقوال الصحابة إذا تفرقا نَصِيرُ مِنْهَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، أَوِ السنة، أو الإجماع، أو كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ، وَإِذَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْقَوْلَ لَا يُحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لَهُ فِيهِ مُوَافَقَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ، صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا، وَلَا سُنَّةً، وَلَا إِجْمَاعًا، وَلَا شَيْئًا يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِ، أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ. انْتَهَى.وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى فِي الْجَدِيدِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، إِذَا عَضَّدَهُ الْقِيَاسُ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ.قَالَ الْقَاضِي في "التقريب": إنه الذي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُهُ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.الرَّابِعُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا التَّوْقِيفُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالتَّحَكُّمَ فِي دِينِ اللَّهِ بَاطِلٌ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُقَلِّدْ إِلَّا تَوْقِيفًا.قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْوَجِيزِ": وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، قَالَ: وَمَسَائِلُ الْإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ. انْتَهَى2.وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا، وَدَلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْقِيفِ، فَلَيْسَ مِمَّا نحن بصدده.__________1 انظر فواتح الرحموت 2/ 185 والبحر المحيط 6/ 53.2 انظر تتمة البحث مفصلا في البحر المحيط 6/ 59.(2/187)وَالْحَقُّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَبِيَّنَا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا رَسُولٌ وَاحِدٌ، وَكِتَابٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ مَأْمُورَةٌ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ "وَبَيْنَ"* مَنْ بَعْدَهُمْ، فِي ذَلِكَ، فَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا تَقُومُ الْحُجَّةُ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِمَا، فقد قَالَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا "لَمْ"** يَثْبُتْ، وَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَرْعًا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَتَقَوُّلٌ بالغ فعن الْحُكْمَ لِفَرْدٍ أَوْ أَفْرَادٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ، أَوْ أَقْوَالَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهَا وَتَصِيرُ شَرْعًا ثَابِتًا مُتَقَرِّرًا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، مِمَّا لَا يُدَانُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ الرُّكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِرُسُلِ اللَّهِ، الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِالشَّرَائِعِ إِلَى عِبَادِهِ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَإِنْ بلغ فالعلم والدين عظم الْمَنْزِلَةِ أَيَّ مَبْلَغٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ الصُّحْبَةِ مَقَامٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْفَضِيلَةِ، وَارْتِفَاعِ الدَّرَجَةِ، وَعَظَمَةِ الشَّأْنِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلِهَذَا "صَارَ مُدُّ"*** أَحَدِهِمْ لَا "تَبْلُغُ إِلَيْهِ"**** مِنْ غَيْرِهِمُ الصَّدَقَةُ بِأَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجِّيَّةِ قَوْلِهِ، وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِاتِّبَاعِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْهُ فِيهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ.وَأَمَّا مَا تَمَسَكَّ بِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِحُجِّيَّةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ، مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهتديتم" 1 فهذا لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ فِي أَدْنَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَكَيْفَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَلِيلِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَزِيدَ عَمَلِهِمْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، الثَّابِتَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَحِرْصَهُمْ عَلَى اتباعها، ومشيهم "في"***** طَرِيقَتِهَا، يَقْتَضِي أَنَّ اقْتِدَاءَ الْغَيْرِ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَاتِّبَاعِهَا هِدَايَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ لِمَ قُلْتَ كَذَا "أَوْ"****** لِمَ فَعَلْتَ كَذَا، لَمْ ٍْْْيعجز مِنْ إِبْرَازِ الْحُجَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ولَمْ يَتَلَعْثَمْ فِي بَيَانِ ذَلِكَ.وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَمْلِ يُحْمَلُ مَا صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أبي بكر__________* في "أ": وبين بعدهم.** في "أ": لا.*** في "أ": مد أحدهم.**** في "أ": يبلغه.***** في "أ": على.******ما بين القوسين ساقط من "أ".__________1 تقدم تخريجه في "1/ 186".(2/188)وَعُمَرَ" 1 وَمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْهَادِينَ" 2.فَاعْرِفْ هَذَا، وَاحْرِصْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْكَ وَإِلَى سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَسُولًا إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْكَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا شَرَعَ لَكَ عَلَى لِسَانِ سِوَاهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَرْفًا واحدا ولا جعل شيئًا من الْحُجَّةَ عَلَيْكَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ، كَائِنًا مَنْ كان.__________1 تقدم تخريجه في 1/ 221.2 تقدم تخريجه في 1/ 221.(2/189)الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَخْذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَفَإِنَّهُ أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَحَكَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّظَرِ عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرٍ عَلَى أَقَاوِيلَ، فَيَأْخُذُ بِأَقَلِّهَا إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ.قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: هُوَ أَنْ يَرِدَ الفعل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبنيا لمجمل، ويحتاج إلى تحديده، فيصار إلى اقل مَا يُوجَدُ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَقَلِّ الْجِزْيَةِ إِنَّهُ دِينَارٌ1.وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ أن يختلف الصحابة في تقدير، فَيَذْهَبُ بَعْضُهُمْ إِلَى مِائَةٍ مَثَلًا، وَبَعْضُهُمْ إِلَى خَمْسِينَ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلَالَةٌ تُعَضِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ صُيِّرَ إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَأْخُذُ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ.وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ الثُّلُثُ، وَحَكَى اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِالْمُسَاوَاةِ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هَذَا أقلها.وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين:أَحَدُهُمَا:أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا أَصْلُهُ الْبَرَاءَةُ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَسُقُوطِهِ كَانَ سُقُوطُهُ أَوْلَى، لِمُوَافَقَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ، كَدِيَةِ الذِّمِّيِّ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى قَاتِلِهِ، فَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِأَقَلِّهِ دَلِيلًا؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ.الْقِسْمُ الثَّانِي:أَنْ يَكُونَ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، كَالْجُمُعَةِ الثَّابِتِ فَرْضُهَا مَعَ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَدِ انْعِقَادِهَا، فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ دَلِيلًا لِارْتِهَانِ الذِّمَّةِ بِهَا، فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالشَّكِّ.وَهَلْ يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ دَلِيلًا؟ فيه وجهان.__________1 وذلك لأن الدليل قام أنه لا بد من تحديد فصار إلى أقل ما حُكي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخذ من الجزية.(2/189)أحدهما:أن يَكُونُ دَلِيلًا، وَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ بِالْأَكْثَرِ إِجْمَاعًا، وَفِي الْأَقَلِّ خِلَافٌ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ.الثَّانِي:لَا يَكُونُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مِنَ الْخِلَافِ دَلِيلٌ. انْتَهَى1.وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَخْذَ بِأَقَلِّ ما قيل مُتَرَكِّبًا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ الْأَخْذَ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ.قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَمْكَنَ ضَبْطُ أَقْوَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَحَكَى قَوْلًا بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَكْثَرِ مَا قِيلَ، لِيَخْرُجَ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ.وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي التَّقْدِيرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْأَدِلَّةِ فَفَرْضُ الْمُجْتَهِدِ "أَنْ يَأْخُذَ"* بِمَا صَحَّ له منها، مع الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، أَوِ التَّرْجِيحِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ مَخْرَجٍ صَحِيحٍ، الْوَاقِعَةَ غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِلْمَزِيدِ مَقْبُولَةٌ، يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا، وَالْمَصِيرُ إِلَى مَدْلُولِهَا، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي التَّقْدِيرِ بِاعْتِبَارِ الْمَذَاهِبِ، فَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ "الْمُجْتَهِدِ"** بِمَذَاهِبِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِاجْتِهَادِهِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نَظَرُهُ، من الأخذ بالأقل، أو بالأكثر، أَوْ بِالْوَسَطِ.وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلْ هُوَ أَسِيرُ إِمَامِهِ فِي جَمِيعِ "مَسَائِلِ"** دِينِهِ، وَلَيْتَهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ "أَدَبَ الطَّلَبِ"2، وَفِي الرِّسَالَةِ الْمُسَمَّاةِ "الْقَوْلَ المفيد في حكم التقليد"3.وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ، كَذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْأَخْذِ بِأَخَفِّ مَا قِيلَ، وَقَدْ صَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 وَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5 وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت بالحنيفية السمحة__________* ما بين قوسين ساقط من "أ".** في "أ": الجمهور.*** ما بين قوسين ساقط من "أ".__________1 انظر البحر المحيط 6/ 29.2 واسمهم" أدب الطلب ومنتهى الأرب" للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 365.3 واسمه "القول المفيد في حكم التقليد وهو أيضًا للإمام محمد بن علي الشوكاني. ا. هـ البدر الطالع 2/ 222. هدية العارفين 2/ 336.4 جزء من الآية 185 من سورة البقرة.5 جزء من الآية 78 من سورة الحج.(2/190)السَّهْلَةِ" 1 وَقَوْلِهِ: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا" 2 وَبَعْضُهُمْ صَارَ إِلَى الْأَخْذِ بِالْأَشَقِّ، وَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يُسْرٌ، وَالشَّرِيعَةَ جَمِيعَهَا سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ.وَالَّذِي يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ وَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ هُوَ مَا صَحَّ دَلِيلُهُ، فَإِنْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ، أَوِ الْأَشَقُّ مُرَجَّحًا، بَلْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى المرجحات المعتبرة.__________1 أخرجه أحمد في مسنده من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" 6/ 116-233 وذكره العجلوني في كشف الخفاء من حديث السيدة عائشة أيضًا 1/ 217.2 أخرجه مسلم من حديث أبي موسى، كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 1732 وأبو داود، كتاب الأدب، باب كراهية المراء 4835.وورد بلفظ أخر وهو: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا" من حديث أنس.أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخولهم بالموعظة 69. ومسلم، كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير 1734. وأحمد في مسنده 3/ 131. وأبو يعلى في مسنده 4172.(2/191)الفائدة الثالثة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْحُكْمِ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.وَأَمَّا النَّافِي لَهُ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ:الْأَوَّلُ:أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ.نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَنَقَلَهُ ابن القطان عن أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ، وَالصَّيْرَفِيُّ.وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.وَقَالَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ": إِنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مدعٍ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 1 فَذَمَّهُمْ عَلَى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مُبَيَّنًا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 في جواب قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} 3، ولا يخافك أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِنَّ النَّافِيَ غَيْرُ مدعٍ، بَلْ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَنْعِ، مُتَمَسِّكٌ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا هُوَ مُكَذِّبٌ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِعِلْمِهِ، بَلْ وَاقِفٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ الدَّلِيلُ، وَتَضْطَرَّهُ الْحُجَّةُ إِلَى الْعَمَلِ.__________1 جزء من الآية 39 من سورة يونس.2 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.3 جزء من الآية 111 من سورة البقرة.(2/191)وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَهُوَ نَصْبٌ لِلدَّلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُمُ الْبُرْهَانَ لِادِّعَائِهِمْ أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى.الْمَذْهَبُ الثَّانِي:أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، إِلَّا ابْنَ حَزْمٍ، فَإِنَّهُ رَجَّحَ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ..قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفْيُ وَالْعَدَمُ، فَمَنْ نفى الحكم فله أَنْ يَكْتَفِيَ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ قَوِيٌّ جِدًّا.فَإِنَّ النَّافِيَ عُهْدَتُهُ أَنْ يَطْلُبَ الْحُجَّةَ مِنَ الْمُثْبِتِ حَتَّى يَصِيرَ إِلَيْهَا، وَيَكْفِيهِ فِي عَدَمِ إِيجَابِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا إِلَّا دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلنَّقْلِ.الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي النَّفْيِ الْعَقْلِيِّ، دُونَ الشَّرْعِيِّ، حَكَاهُ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ"، وَابْنُ فُورَكَ:الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيِّ، بِخِلَافِ الضَّرُورِيِّ، وَهَذَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّ يُسْتَغْنَى بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا يخالف فيه مُخَالِفٌ إِلَّا عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ، أَوِ اعْتِرَاضِ الشُّبْهَةِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ ذَلِكَ بِبَيَانِ ضَرُورِيَّتِهِ، وَلَيْسَ النزاع إلا في غير الضروري.المذهب الخامس:أن النافي إن كن شاكًّا فنفيه لَمْ يَحْتَجْ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ نَافِيًا لَهُ عَنْ مَعْرِفَةٍ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ اسْتِدْلَالِيَّةً لَا إِنْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً، فَلَا نِزَاعَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ. كَذَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ النَّافِيَ عَنْ مَعْرِفَةٍ يَكْفِيهِ "تَكْلِيفُ"* الْمُثْبِتِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ، حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ، أَوْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِحُكْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى خَصْمِهِ، وَعَلَى غَيْرِهِمَا.المذهب السادس:أن النافي نَفَى الْعِلْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ ثُبُوتَ هَذَا الْحُكْمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، وَإِنْ نَفَاهُ مُطْلَقًا احْتَاجَ إِلَى الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّ الْإِثْبَاتَ حُكْمٌ.قَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ": وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْحَقُّ. انْتَهَى1.قُلْتُ: بَلِ الْحَقُّ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ.الْمَذْهَبُ السَّابِعُ:أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عِلْمًا بِالنَّفْيِ احْتَاجَ إِلَى الدَّلِيلِ، وَإِلَّا فَلَا.هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا الْمَذْهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ، وَاخْتَارَهُ الْمُطَرِّزِيُّ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَذْهَبِ الْخَامِسِ.__________* ما بين قوسين ساقط من "أ".__________1 انظر البحر المحيط 6/ 33.(2/192)الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ:أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَمْ أَجِدْ فِيهِ دَلِيلًا بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا احْتَاجَ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكَ.الْمَذْهَبُ التَّاسِعُ:أَنَّهُ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُوجِبَةٌ، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ.وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ النَّفْيَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُوجِبَةٍ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّفْيِ، فَيُطَالَبُ بِهِ مُطَالَبَةً مَقْبُولَةً فِي الْمُنَاظَرَةِ أَمْ لَا!وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ الْعَالِمُ: بَحَثْتُ وَفَحَصْتُ فَلَمْ أَجِدْ دَلِيلًا، هَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَدَمُ الْوِجْدَانِ دَلِيلًا لَهُ، فَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ، يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ ظَنُّ عَدَمِهِ.وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانَ فِي "الْأَوْسَطِ": إِنْ صَدَرَ هَذَا عَنِ الْمُجْتَهِدِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى قُبِلَ مِنْهُ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "بَحَثْتُ فَلَمْ أَظْفَرْ" يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، أَمَّا انْتِهَاضُهُ فِي حَقِّ خَصْمِهِ فَلَا.(2/193)الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: سَدُّ الذَّرَائِعِالذَّرِيعَةُ: هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِبَاحَةُ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ.قَالَ الْبَاجِيُّ: ذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الذَّرَائِعِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ مَنْعُهَا.اسْتَدَلَّ الْمَانِعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} 1وَقَوْلِهِ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} 2 وما صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" 3.وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يريبك" 4.__________1 جزء من الآية 104 من سورة البقرة.2 جزء من الآية 163 من سورة الأعراف.3 أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: "قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها" 1581.وورد بلفظ آخر عنده من حديث أبي هريرة بلفظ: "قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير 1583. وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 3460. والبيهقي، كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في تحريم الخمر 8/ 286. وأبو داود، كتاب البيوع، باب ثمن الخمر والميتة 3488. وابن حبان في صحيحه 4938، 6253.4 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 13 من حديث الحسن بن علي وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة 2518. والنسائي، كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات 8/ 327. والطيالسي برقم 1178. وابن حبان في صحيحه 722.(2/193)وَقَوْلِهِ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ وَقَّافُونَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ" 1.وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" 2.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: سَدُّ الذَّرَائِعِ ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَخَالَفَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ تَأْصِيلًا، وَعَمِلُوا عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ فُرُوعِهِمْ تَفْصِيلًا، ثُمَّ قَرَّرَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ" فِي الْمَحْظُورِ إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُقُوعُ"* قَطْعًا أَوْ لَا؟ الْأَوَّلُ لَيْسَ من هَذَا الْبَابِ، بَلْ مِنْ بَابِ مَا لَا خَلَاصَ مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا بِاجْتِنَابِهِ، فَفِعْلُهُ حَرَامٌ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَالَّذِي لَا يَلْزَمُ، إِمَّا أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمَحْظُورِ غَالِبًا، أَوْ يَنْفَكَّ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالذَّرَائِعِ عِنْدَنَا، فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِيهِ، "وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُرَاعِيهِ"**، وَرُبَّمَا يُسَمِّيهِ التُّهْمَةَ الْبَعِيدَةَ، وَالذَّرَائِعَ الضَّعِيفَةَ.قَالَ الْقَرَافِيُّ: مَالِكٌ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَقُولُ بِهَا، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِهَا، إِلَّا مِنْ حَيْثُ زِيَادَتِهِمْ فِيهَا.قَالَ: فَإِنَّ مِنَ الذَّرَائِعِ مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَالْمَنْعِ مِنْ حَفْرِ الْآبَارِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي طَعَامِهِمْ، وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ.وَمِنْهَا مَا هُوَ مُلْغًى إِجْمَاعًا، كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ، فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ خَشْيَةَ الْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى الْمُحَرَّمِ.__________* ما بين قوسين ساقط من "أ".** ما بين قوسين ساقط من "أ".__________1 أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير بدون زيادة: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 52. وأخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 1559. وأبو داود، كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات 3329. والنسائي، كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات 7/ 241. وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات 3984. والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في ترك الشبهات 1205. والبيهقي، كتاب البيوع، باب طلب الحلال واجتناب الشبهات 5/ 264. وابن حبان في صحيحه 721 وأحمد في مسنده 4/ 267. وكلهم بدون زيادة "والمؤمنون وقافون عند الشبهات.2 هو جزء من الحديث المتقدم ذكره ولقد ورد بروايات متعددة وهو عند البخاري والنسائي وغيرهما بلفظ "من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه ".(2/194)وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَنَحْنُ "نَعْتَبِرُ"* الذَّرِيعَةَ فِيهَا، وَخَالَفْنَا غَيْرَنَا فِي أَصْلِ الْقَضِيَّةِ، أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا، لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِنَا.قَالَ: وبهذا تعمل بُطْلَانَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ} 1، وَقَوْلِهِ {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} 2 فَقَدْ ذَمَّهُمْ بِكَوْنِهِمْ تَذَرَّعُوا لِلصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ، لِحَبْسِ الصَّيْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ" 3 الْحَدِيثَ. وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مُفْتَرِّقَيْنِ، وَتَحْرِيمِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرِّبَا، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ**: "لا تُقبل شهادة خضم و [لا] ظنين"4 خَشْيَةَ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَمَنْعِ شَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ.قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَا تُفِيدُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ سَدَّ الذَّرَائِعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي ذَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَهُوَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرُوا أَدِلَّةً خَاصَّةً بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قَصَدُوا الْقِيَاسَ عَلَى هَذِهِ الذَّرَائِعِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُمُ الْقِيَاسَ، وَحِينَئِذٍ فَلْيَذْكُرُوا الْجَامِعَ، حَتَّى يَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِدَفْعِهِ بِالْفَارِقِ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دَلِيلَهُمُ الْقِيَاسُ.قَالَ: بَلْ مِنْ أدل مَحَلِّ النِّزَاعِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ أَمَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: "إِنِّي بِعْتُ مِنْهُ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ نَقْدًا بِسِتِّمِائَةٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ، وَأَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ"5قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابن رُشْدٍ: وَهَذِهِ الْمُبَايَعَةُ كَانَتْ بَيْنَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَمَوْلَاهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، فيُخرّج قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ. مَعَ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الذَّرَائِعِ، وَلَعَلَّ زَيْدًا لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ الرِّبَا بَيْنَ السَّيِّدِ وعبده.__________* في "أ": لا نغتفر.** ما بين قوسين ساقط من "أ".__________1 جزء من الآية 108 سورة الأنعام2 جزء من الآية 65 سورة البقرة.3 تقدم تخريجه في 2/ 193.4 رواه مالك في الموطأ موقوفا على سيدنا عمر رضي الله عنه، كتاب الأقضية باب ما جاء في الشهادات4، 2/ 720 والزيادة منه.5 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب البيوع باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل 5/ 330. وعبد الرزاق في مصنفه في باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد اشتراءها بعد 14812.(2/195)قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عَائِشَةَ إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهَا، وَاجْتِهَادُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ قَوْلُهَا مُعَارَضٌ بِفِعْلِ زَيْدِ بْنِ أرقم، ثم إنها إنما أَنْكَرَتْ ذَلِكَ لِفَسَادِ التَّعْيِينِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ فَاسِدٌ لجهالة الْأَجَلِ، فَإِنَّ وَقْتَ الْعَطَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالثَّانِي بِنَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ فَاسِدًا.قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: الذَّرِيعَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:أَحَدُهَا:مَا يُقْطَعُ بِتَوْصِيلِهِ إِلَى الْحَرَامِ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، يَعْنِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَالثَّانِي:مَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُ، وَلَكِنِ اخْتَلَطَ بِمَا يُوَصِّلُ، فَكَانَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ سَدُّ الْبَابِ، وَإِلْحَاقُ الصُّورَةِ النَّادِرَةِ، الَّتِي قُطِعَ بِأَنَّهَا لَا تُوَصِّلُ إِلَى الْحَرَامِ بِالْغَالِبِ مِنْهَا، الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ، وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْقَوْلِ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ.وَالثَّالِثُ:مَا يُحْتَمَلُ وَيُحْتَمَلُ، وَفِيهِ مَرَاتِبُ "مُتَفَاوِتَةٌ"* وَيَخْتِلَفُ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُمْ بِسَبَبِ تَفَاوُتِهَا.قَالَ: وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ "فِي جَمِيعِهَا"** إِلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ؛ لِانْضِبَاطِهِ وَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذَا الْبَابِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَعَاصِيهِ، فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" 1 وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.وَيُلْحَقُ بِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" 2 وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" 3 وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ" 4 وَهُوَ حديث حسن أيضا.__________* ما بين قوسين ساقط من "أ".** في "أ": فيها__________1 جزء من الحديث المتقدم في 2/ 194 ورواية البخاري: $"والمعاصي حمى الله ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه".2 تقدم تخريجه في 2/ 194.3 أخرجه البيهقي في سننه في الشهادات بيان مكارم الأخلاق ومعاليها 2/ 192 بلفظ "ما حاك في نفسك" من حديث النواس بن سمعان الأنصاري.وأخرجه الترمذي في الزهد باب ما جاء في البر والأثم 2389. وأحمد في مسنده 4/ 182. ومسلم في البر والصلة باب تفسير البر والإثم 2553. ابن حبان في صحيحه 397. والبغوي في شرح السنة 3494.4 أخرجه أحمد في مسنده من حديث وابصة بلفظ: "استفت قلبك واستفت نفسك البر ما أطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ثلاثا" 4/ 228.وأخرجه الدارمي، كتاب البيوع 2/ 245. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 175. وأبو يعلى في مسنده 1586.ومن حديث أبي ثعلبة الخشني بلفظ: "البر ما تسكن إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 175 أيضا.وأخرجه الطبراني في الكبير 22/ 219 بدون "وإن أفتاك المفتون ".(2/196)الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَالَةُ الِاقْتِرَانِوَقَدْ قَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَبُو يُوسُفَ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَكَى ذَلِكَ الْبَاجِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، قَالَ: وَرَأَيْتُ ابْنَ نَصْرٍ1 يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرًا.وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} 2 قَالَ: فَقَرَنَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ لَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ الْخَيْلُ.وَأَنْكَرَ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: إِنَّ الِاقْتِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاقْتِرَانَ فِي الْحُكْمِ.وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ "لَهَا"* بِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ.وأجاب الجمهور: بأن الشركة إنما تكن فِي الْمُتَعَاطِفَاتِ النَّاقِصَةِ، الْمُحْتَاجَةِ إِلَى مَا تَتِمُّ بِهِ، فَإِذَا تَمَّتْ بِنَفْسِهَا فَلَا مُشَارَكَةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} 3 فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُولَى، وَلَا تشاركها في الرسالة، ونحو ذلك كثير من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ، وَلَا يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ، فَمَنِ ادَّعَى خِلَافَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلِاقْتِرَانِ، بَلْ لِلدَّلِيلِ الْخَارِجِيِّ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا، بِأَنْ لَا يُذْكَرَ خَبَرُهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانَةُ طَالِقٌ وفلانة، فلا خلاف في المشاركة، ومثله عطفت الْمُفْرَدَاتِ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلَّةِ، فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها، لا لأجل الاقتران.__________* في "أ": إما__________1 هو أحمد بن نصر الداودي، الأسدي، المالكي "أبو جعفر" محدث، فقيه متكلم. سكن طرابلس الغرب، وتوفي بتلمسان سنة اثنتين وأربعمائة هـ من آثاره: "النامي في شرح الموطأ، الإيضاح في الرد على القدرية" وغيرها ا. هـ معجم المؤلفين 2/ 194".2 جزء من الآية 8 من سورة النحل.3 جزء من الآية 29 من سورة الفتح.(2/197)وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1.قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوُجُوبُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ. انْتَهَى.قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا لِقَرِينَتِهَا، إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا قَرِينَةُ الْحَجِّ فِي الْأَمْرِ وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَكَانَ احْتِجَاجُهُ بِالْأَمْرِ دُونَ الِاقْتِرَانِ.وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي "شَرْحِ الرِّسَالَةِ"2: فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَأَنْ يَمَسَّ الطِّيبَ"3 "فِيهِ"* دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِالسِّوَاكِ، وَالطِّيبِ، وَهَمَّا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ.وَالْمَرْوِيُّ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْهُمْ فِي "الْبَحْرِ" أَنَّهَا إِذَا عُطِفَتْ جُمْلَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ، فَإِنْ كَانَتَا تَامَّتَيْنِ كَانَتِ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، لَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، "وَقَدْ"** لَا تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةُ أَصْلًا، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} 4 فإن قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، ولا هي داخل فِي جَوَابِ الشَّرْطِ.وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ نَاقِصَةً شَارَكَتِ الْأُولَى فِي جَمِيعِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا بَنَوْا بَحْثَهُمُ الْمَشْهُورَ فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" 5 وَقَدْ سَبَقَ الكلام فيه.__________* في "أ": فهو.** في "أ": قال.__________1 جزء من الآية 196 من سورة البقرة.2 واسمه: "دلائل الأعلام" شرح لرسالة الشافعي في أصول الفقه على مذهبه، للشيخ الإمام محمد بن عبد الله الصيرفي ا. هـ كشف الظنون 1/ 873.3 أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري، كتاب الجمعة، باب الطيب للجمعة 880. مسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة 846. أبو داود، كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة 334. النسائي، كتاب الجمعة 3/ 92. البيهقي في السنن، كتاب الجمعة، باب السنة في التنظيف يوم الجمعة 3/ 242. ابن خزيمة 1745. ابن حبان في صحيحه 1233. أحمد في مسنده 3/ 69.4 جزء من الآية 24 من سورة الشورى.5 تقدم تخريجه في 1/ 345.(2/198)الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: دَلَالَةُ الْإِلْهَامِذَكَرَهَا بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، فِي "بَابِ"* الْقَضَاءِ فِي حُجِّيَّةِ الْإِلْهَامِ خِلَافًا وَفَرْعًا عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هَلْ يَجُوزُ انْعِقَادُهُ لَا عَنْ دَلِيلٍ "فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ جَعْلُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا جَوَّزْنَا الِانْعِقَادَ لَا عَنْ دَلِيلٍ"**، وَإِلَّا فَلَا.قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ": وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ اعتماد الإلهام، منهم فِي "تَفْسِيرِهِ" فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ فِي "فَتَاوِيهِ"1، فَقَالَ: إِلْهَامُ خَاطِرِ الْحَقِّ مِنَ الْحَقِّ. قَالَ: وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنْ يَنْشَرِحَ لَهُ الصَّدْرُ، وَلَا يُعَارِضَهُ مُعَارِضٌ "مِنْ خَاطِرٍ آخَرَ"***.قَالَ أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ"2: ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ تَقَعُ اضْطِرَارًا لِلْعِبَادِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ، بِحُكْمِ وَعْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِشَرْطِ التَّقْوَى، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 3 أَيْ: مَا تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 4 أَيْ: عَنْ كُلِّ مَا يَلْتَبِسُ عَلَى غَيْرِهِ وَجْهُ الْحُكْمِ فِيهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} 5.فَهَذِهِ الْعُلُومُ الدِّينِيَّةُ تَحْصُلُ لِلْعِبَادِ إِذَا زَكَتْ أَنْفُسُهُمْ، وَسَلَّمَتْ قُلُوبُهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى، بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ وامتثال المأمورات؛ "إذ"**** وخبره صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ.وَاحْتَجَّ شِهَابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْدِيُّ6 على الإلهام بقوله تعالى:__________* في "أ": كتاب.** ما بين القوسين ساقط من "أ".*** ما بين القوسين ساقط من "أ".**** في "أ": وخبره.__________1 واسمها "فتاوى ابن الصلاح، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشافعي، وهي من محاسنه، جمعها بعض طلبته، وهو الكمال إسحاق المعزي، وهي في مجلد كثير الفوائد نسخة منها مرتبة على الأبواب ونسخة غير مرتبة ا. هـ كشف الظنون 2/ 1218.2 التذكرة في أصول الدين: لم نجد فيما بين أيدينا من المراجع ترجمة لهذا الكتاب ولا لمؤلفه.3 جزء من الآية 29 من سورة الأنفال.4 جزء من الآية 22 من سورة الطلاق.5 جزء من الآية 282 من سورة البقرة.6 هو عمر بن محمد بن عبد الله التيمي القرشي، البكري السهروردي، الشيخ الإمام العالم القدوة، العارف، المحدث، شيخ الإسلام، شهاب الدين، ولد سنة ثلاثين وخمسمائة هـ وتوفي سنة اثنتنين وثلاثين وستمائة هي، صنف في التصوف كتابا فيه أحوال القوم ا. هـ سير أعلام النبلاء 22/ 375 شذرات الذهب 5/ 153.(2/199){وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 1 وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} 2 فَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ مُجَرَّدُ الْإِلْهَامِ.ثُمَّ إِنَّ مِنَ "الْإِلْهَامِ"* عُلُومًا تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ الزكية المطمئنة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إن من أمتي المحدثين والمكلمين *، وَإِنَّ عُمَرَ لَمِنْهُمْ" 3 وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 4 فَأَخْبَرَ أَنَّ النُّفُوسَ مُلْهَمَةٌ.قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ5 فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ: أَيْ: مُلْهَمُونَ، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ "نِهَايَةِ الْغَرِيبِ"6: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهُ أَنَّهُمُ الْمُلْهَمُونَ، وَالْمُلْهَمُ: هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِي نَفْسِهِ الشَّيْءُ، فَيُخْبِرُ بِهِ حَدْسًا وَفِرَاسَةً، وَهُوَ نَوْعٌ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَأَنَّهُمْ حُدِّثُوا بِشَيْءٍ فقالوه.وأما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ" 7 فَذَلِكَ في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة.__________* في "أ": الوحي.** في "أ": لمحدثين ومتكلمين.__________1 جزء من الآية 7 من سورة القصص.2 جزء من الآية 68 من سورة النحل.