عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الكتاب: إجمال الإصابة في أقوال الصحابةالمؤلف: صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله الدمشقي العلائي (المتوفى: 761هـ)عدد الأجزاء: 1مُقَدّمَة الْمُؤلفبِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا توفيقي الا بِاللَّهاما بعد حمد الله الَّذِي فضل هَذِه الامة على سَائِر الامم وَجعل للصدر الاول من ذَلِك اكثر الانصباء واوفر الْقسم واختصهم لصحبة نبيه عَلَيْهِ السَّلَام الْمَبْعُوث بمحاسن الشيم ومجامع الحكم وهداهم بِمَا شهدُوا من احواله وفهموا من اقواله وشاهدوا من افعاله الى ارشد لقم فهم خير الْقُرُون بالاجماع واولاها بالاقتداء والاتباع واهل الْبَأْس وَالْكَرمفَهَذَا تَحْقِيق مَا اخْتلف فِيهِ من الِاحْتِجَاج بأقوالهم المنفردة وَمَا فِي ذَلِك من الْمذَاهب المتعددة مَعَ بَيَان مداركها وايضاح مسالكها وَالْجَوَاب عَمَّا لَا يعْتَمد مِنْهَا وازاحة الشّبَه والانفصال عَنْهَاوعَلى الله الِاعْتِمَاد وَمِنْه العون واياه نسْأَل التَّوْفِيق والصون فَهُوَ على كل شَيْء قدير وبالاسعاف جديروَالْكَلَام فِي هَذِه المسالة ينْحَصر فِي اطراف(1/19)الطّرف الاول قَول الصَّحَابِيّ اذا اشْتهر بَينهم جَمِيعًا وَلم ينكروهاذا قَالَ الْوَاحِد مِنْهُم قولا اَوْ اكثر من الْوَاحِد كالاثنين وَالثَّلَاثَة واشتهر ذَلِك بَين البَاقِينَ وَلم ينكروه وَلَا ظهر مِنْهُم مُوَافقَة لذَلِك الْقَائِل بقول اَوْ فعل وَلَا انكاروَهَذَا هُوَ الْمُسَمّى الاجماع السكوتيولائمة الاصوليين فِي تصَوره طَرِيقَانِاحداهما من جعل ذَلِك فِي حق كل عصر من عصور الْمُجْتَهدين وَهَذَا هُوَ الَّذِي صرح بِهِ الْحَنَفِيَّة فِي كتبهمْ وامام الْحَرَمَيْنِ وَالشَّيْخ ابو اسحاق الشِّيرَازِيّ فِي شرح اللمع وفخر الدّين الرَّازِيّ فِي كتبه وَسَائِر اصحابه وَسيف الدّين الامدي وَابْن الْحَاجِب فِي مختصريه وَغَيرهم والقرافي من الْمَالِكِيَّة وَغَيره من المتاخرينوتفصيل الْمذَاهب على هَذِه الطَّرِيقَة ان احْمَد بن حَنْبَل وَجُمْهُور الْحَنَفِيَّة وَكَثِيرًا من اصحابنا قَالُوا انه اجماع وَحجَّة وَمِنْهُم من عزاها الى الشَّافِعِي وَكَذَلِكَ قَالَ بعض الْمُعْتَزلَة لَكِن شَرط الجبائي ابو عَليّ وَغَيره مِنْهُم فِي ذَلِك انْقِرَاض الْعَصْروَالَّذِي ذهب اليه جُمْهُور اصحابنا وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ ان ذَلِك لَا يكون اجماعا وَلَا حجَّة قَالَ الامام فِي الْبُرْهَان هُوَ ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَنَقله الْغَزالِيّ فِي المنخول عَن الْجَدِيد(1/20)وَذهب ابو بكر الصَّيْرَفِي من اصحابنا وابو هَاشم بن الجبائي الى انه حجَّة وَلَيْسَ باجماعوَقَالَ ابو عَليّ بن ابي هُرَيْرَة ان كَانَ ذَلِك حكما من الاحكام لم يكن سكُوت البَاقِينَ اجماعا وَلَا حجَّة وان فَتْوَى كَانَ سكوتهم اجماعاوَعكس الاستاذ ابو اسحاق الاسفرائيني فَقَالَ يكون اجماعا فِي الحكم دون الْفتياوَاخْتَارَ الامدي فِي الاحكام انه يكون حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع وَهُوَ قريب من قَول الصَّيْرَفِي وابي هَاشموَوَافَقَهُ ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره الْكَبِير وردد فِي مُخْتَصره الصَّغِير اخْتِيَاره بَين ان يكون اجماعا اَوْ حجَّةوَالطَّرِيق الثَّانِيَة قَول من خص صُورَة الْمَسْأَلَة بعصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم دون من بعدهمْقَالَ ذَلِك من اصحابنا ابو الْحُسَيْن الْقطَّان فِي كِتَابه اصول الْفِقْه وابو نصر بن الصّباغ فِي كِتَابه الْعدة وابو المظفر بن السَّمْعَانِيّ فِي كِتَابه الْحجَّة وَالْغَزالِيّ فِي الْمُسْتَصْفى والمنخول وَابْن برهَان وَغَيرهم وَقَالَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب من الْمَالِكِيَّة وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ من متأخريهم كَمَا سَيَأْتِي وَالشَّيْخ موفق الدّين الْحَنْبَلِيّ فِي الرَّوْضَة وَخَصه بالمسائل التكليفية وَقَالَ عَن احْمَد مَا يدل على انه اجماعوَحكى هَؤُلَاءِ الْمذَاهب نَحوا مِمَّا تقدموَنقل ابْن السَّمْعَانِيّ عَن ابي بكر الصَّيْرَفِي انه قَالَ فِي كَونه حجَّة لَا اجماعا(1/21)وَقيل ان هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي قَالَ وَبِه قَالَ الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة وَبَعض الْمُعْتَزلَةوَحكى القَوْل بِكَوْنِهِ اجماعا فِي صُورَة الحكم دون الْفَتْوَى عَن ابي اسحاق الْمروزِي لَا عَن الاستاذ ابي اسحاقوَقَالَ القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه الْحَاوِي ان كَانَ من غير عصر الصَّحَابَة فَلَا يكون انتشار قَول الْوَاحِد مِنْهُم مَعَ امساك غَيره اجماعا وَلَا حجَّة وان كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فاذا قَالَ الْوَاحِد مِنْهُم قولا اَوْ حكم بِهِ فامسك الْبَاقُونَ فَهَذَا على ضَرْبَيْنِاحدهما ان يكون فِيمَا يفوت استدراكه كاراقة دم اَوْ اسْتِبَاحَة فرج فَيكون اجماعا لانهم لَو اعتقدوا خِلَافه لانكروه اذ لَا يَصح مِنْهُم ان يتفقوا على ترك انكار مُنكروَثَانِيهمَا ان كَانَ مِمَّا لَا يفوت استدراكه كَانَ حجَّة لَان الْحق لَا يخرج عَنْهُم وَفِي كَونه اجماعا يمْنَع الِاجْتِهَاد وَجْهَان لاصحابنا احدهما يكون اجماعا لَا يسوغ مَعَه الِاجْتِهَاد وَالثَّانِي لَا يكون اجماعا وَسَوَاء كَانَ هَذَا القَوْل حكما اَوْ فتياوَفرق ابو عَليّ ابْن ابي هُرَيْرَة فَجعله اجماعا ان كَانَ فتيا وَلم يَجعله اجماعا ان كَانَ حكما وَعَكسه غَيره من اصحابنا انْتهى كَلَامهوَاخْتَارَ امام الْحَرَمَيْنِ فِي اخر الْمَسْأَلَة انه ان كَانَ ذَلِك مِمَّا يَدُوم ويتكرر وُقُوعه والخوض فِيهِ فانه يكون السُّكُوت اجماعا وان صُورَة الْخلاف فِي السألة اذا فرض السُّكُوت فِي الزَّمن الْيَسِير(1/22)وَقد تقدم انه فرض الْمَسْأَلَة بِالنِّسْبَةِ الى كل عصر لَا فِي عصر الصَّحَابَة فَقَطوَهَذَا قريب من اخْتِيَار ابْن الْخَطِيب فِي قَول الصَّحَابِيّ اذا لم ينتشر وَكَانَ فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى انه حجَّة كَمَا سَيَأْتِي ان شَاءَ الله تَعَالَىتَرْجِيحوَالْمَقْصُود ان الطَّرِيقَة الثَّانِيَة وَهِي تَخْصِيص الْمَسْأَلَة بعصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم اظهر من الطَّرِيقَة الاولى وَذَلِكَ لَان من قَالَ يكون حجَّة وَلَا يكون اجماعا انما يتَوَجَّه اذا فرض ذَلِك فِي حق الصَّحَابَة لَان منصبهم الشريف لَا يَقْتَضِي السُّكُوت عَن مثل ذَلِك مَعَ مخالفتهم فِيهِ لما عرف من عَادَتهم وَهَذَا لَا يجىء فِي حق غير الصَّحَابَة كَيفَ والتعلق هُنَا انما هُوَ بقول الْمُفْتِي اَوْ الْحَاكِم فَقَط لانه مَبْنِيّ على السَّاكِت لَا ينْسب اليه قَول كَمَا نقل عَن الامام الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَلَا حجَّة فِي قَول اُحْدُ من الْمُجْتَهدين بعد الصَّحَابَة بالِاتِّفَاقِ فاذا لم يكن ذَلِك اجماعا فَكيف يكون حجَّة بِخِلَاف مَا اذا كَانَ ذَلِك قَول صَحَابِيّ فان ذَلِك اذا لم يكن سكوتهم عَن مثله اجماعا فيصلح للاحتجاج بِهِ كَمَا سَيَأْتِي ان شَاءَ اللهثمَّ ان الشَّافِعِي رَحمَه الله احْتج فِي كتاب الرسَالَة لاثبات الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وبالقياس بِأَن بعض الصَّحَابَة عمل بِهِ وَلم يظْهر من البَاقِينَ انكار لذَلِك فَكَانَ ذَلِك اجماعا هَذَا معنى كَلَامه فَيحْتَمل ان يُقَال لَهُ(1/23)فِي الْمَسْأَلَة قَوْلَيْنِ كَمَا حَكَاهُمَا ابْن الْحَاجِب وَيحْتَمل ان ينزل الْقَوْلَانِ على حَالين وَذَلِكَ باحد طَرِيقيناحدهما ان يكون حَيْثُ اثْبتْ القَوْل بانه اجماع اراد بذلك عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَمَا اسْتدلَّ بِهِ لخَبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَحَيْثُ قَالَ لَا ينْسب الى سَاكِت قَول اراد بذلك من بعد الصَّحَابَة وَهَذَا اولى من ان يَجْعَل لَهُ قَولَانِ متناقضان فِي الْمَسْأَلَة من اصلهاوَالثَّانِي ان يحمل نَفْيه على مَا لم يتَكَرَّر من القضايا اَوْ لم تعم بِهِ الْبلوى وَيحمل القَوْل الاخر فِي الرسَالَة على مَا كَانَ كَذَلِك كَمَا اخْتَارَهُ امام الْحَرَمَيْنِ وَابْن الْخَطِيب لَان الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِالْقِيَاسِ مِمَّا يتَكَرَّر وتعم بِهِ الْبلوىوكل من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ مُحْتَمل(1/24)ادلة الاقوال الْمُتَقَدّمَةالْكَلَام الان فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ كل من قَالَ بقول مِمَّا تقدماولا احْتج الْقَائِلُونَ بانه لَيْسَ باجماع وَلَا حجَّة بَان سكُوت الساكتين لَا يدل على الْمُوَافقَة لَا صَرِيحًا وَلَا ظَاهرااما نفي الصراحة فَظَاهرواما نفي دلَالَته ظَاهرا فلَان السُّكُوت يحْتَمل وُجُوهًااحدها الْمُوَافقَة وَالرِّضَا بذلكوَثَانِيها انه لم يجْتَهد فِي الْمَسْأَلَةوَثَالِثهَا انه اجْتهد وَلم يظْهر لَهُ شَيْءوَرَابِعهَا انه ظهر لَهُ مَا يَقْتَضِي خلاف ذَلِك القَوْل لكنه لم يُبْدِهِ اما لاعْتِقَاده ان كل مُجْتَهد مُصِيب واما لظَنّه ان غَيره كفى الْقيام بذلك واما لهيبة الْقَائِل كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي مَسْأَلَة نفي الْعَوْل وَقد قيل(1/25)لَهُ لم لَا رددت على عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ هِبته وَالله واما للخوف من ثوران فتْنَة كَمَا وَقع لكثير من الصَّحَابَة مَعَ بني امية واما انه راى ان الانكار لَا يجدي شَيْئاوكل هَذِه الِاحْتِمَالَات منقدحة على السوَاء لَا تَرْجِيح لاحدها على الاخر فَلَا يكون السُّكُوت دَالا على الْمُوَافقَة بطرِيق الظُّهُورواذا انْتَفَى ان يكون اجماعا فَلَا يكون حجَّة لَان هَذَا قَول بعض الامة والعصمة انما ثبتَتْ لجميعهم لَا حجية الا فِي المدارك الْمَعْرُوفَة من الْكتاب وَالسّنة والاجماع وَالْقِيَاس وَلَيْسَ هَذَا شَيْئا مِنْهَاثَانِيًا واجاب الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ اجماعا عَن ذَلِك بَان احْتِمَال الرِّضَا والموافقة اظهر من بَقِيَّة الِاحْتِمَالَات لَان الله تَعَالَى وصف هَذِه الامة بانهم خير امة اخرجت للنَّاس يامرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر فَلَا يَصح من جَمِيعهم الاطباق على ترك انكار الْمُنكر لَان فرض الْمَسْأَلَة فِيمَا بلغ الحكم جَمِيع الْمُجْتَهدين(1/26)ثمَّ الْعَادة جَارِيَة فِي كل عصر بِأَن من كَانَ عِنْده خلاف فِي شَيْء من مسَائِل الِاجْتِهَاد أبداه وَلم يسكت وانهم كَانُوا إِذا نزلت بهم نازلة فزعوا فِيهَا إِلَى الآجتهاد وَطلب الحكمفَهَذَا كُله مِمَّا يرجح احْتِمَال الْمُوَافقَة وَالرِّضَا وَبَقِيَّة الاحتم الات وَإِن كَانَت منقدحة عقلا خلاف الظَّاهِر من أَحْوَال أَرْبَاب الدّين واهل الْحل وَالْعقدفَفِي ترك الِاجْتِهَاد إهمال حكم الله تَعَالَى فِيمَا وَجب عَلَيْهِم وَلَا يظنّ بهم ذَلِك لما فِيهِ من الْمعْصِيَة وألأصل براءتهم مِنْهَا(1/27)وَأما كَونه لم يظْهر لَهُم وَجه الحكم فَهُوَ بعيد ايضا بل مَرْجُوح لِأَن الظَّاهِر أَنه مَا من حكم إِلَّا وَللَّه عَلَيْهِ أَمَارَات وَدَلَائِل تدل عَلَيْهِ وَالظَّاهِر مِمَّن لَهُ أَهْلِيَّة الآجتهاد الآطلآع على ذَلِك وَيلْزم من تَجْوِيز ذَلِك على جَمِيعهم خلو الْعَصْر عَن قَائِم لله بِالْحجَّةِ لَا سِيمَا أهل الْأَعْصَار الأول قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب وَغَلَبَة المقلدين فَإِن ذَلِك فِي تِلْكَ الْأَعْصَار مِمَّا يقطع بِعَدَمِهِوَأما احْتِمَال ظَنّه أَن غَيره كفى الْكَلَام فِي ذَلِك فَهُوَ وَإِن كَانَ مجوزا فَلَا يَصح تطابق الْجَمِيع على ذَلِك وَالْعَادَة قاضية بِخِلَافِهِ وَلَا سِيمَا مَعَ قرب بَعضهم من بعض واطلاعهم على مَا يصدر عَنْهُم غَالِباوَأما اعْتِقَاد أَن كل مُجْتَهد مُصِيب فَلَيْسَ ذَلِك قولا لأحد من الصَّحَابَة وَإِنَّمَا ينقدح هَذَا فِيمَن بعدهمْوَكَذَلِكَ بَقِيَّة الإحتمالات من الهيبة وَالْخَوْف من ثوران فتْنَة والتقية وَظن أَن الْإِنْكَار لَا يجدي شَيْئا كل ذَلِك بعيد مَرْجُوح بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَال الصَّحَابَة فقد أَنْكَرُوا الْكثير على الْأَئِمَّة وعَلى غَيرهم فِي مسَائِل الْجد وَالإِخْوَة والعول وَقَوله أَنْت عَليّ حرَام وَقَالَ عَليّ(1/28)لعمر رَضِي الله عَنهُ حِين أَرَادَ جلد الْحَامِل لَيْسَ لَك سَبِيل على مَا فِي بَطنهَا وَكَذَلِكَ فِي إِعَادَة الْجلد فِي قصَّة الْمُغيرَة وَكَذَلِكَ على عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي إِنْكَاره الْقُرْآن بَين الْحَج وَالْعمْرَة وَأنْكرت أمْرَأَة على عمر رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله لَا تغَالوا بمهور النِّسَاء والوقائع فِي مثل هَذَا كَثِيرَة جدا حَتَّى من التَّابِعين أَيْضا من الصَّحَابَة فقد قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي لعَلي رَضِي الله عَنهُ فِي مَسْأَلَة بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد رَأْيك مَعَ عمر فِي حَال الإجتماع أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك فِي الْفِتْنَةوَأما سكُوت من سكت لبني أُميَّة فَذَلِك فِيمَا يتَعَلَّق بشأن الْخلَافَة وَنَحْوهَا وَلَيْسَ الْكَلَام فِي ذَلِك وكل هَذِه مِمَّا يُقَوي اخْتِصَاص الْمَسْأَلَة بعصر(1/29)الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لما جعلهم الله عَلَيْهِ من الصدع بِالْحَقِّ وَالْقُوَّة فِي الدّين وَأَنَّهُمْ لَا تأخذهم فِي الله لومة لائم وَأَنَّهُمْ خير قُرُون هَذِه الْأمة لَا سِيمَا فِيمَا يتَكَرَّر وُقُوعه أَو تعم الْبلوى بِهِ وَمَعَ طول الزَّمن وانقراض الْعَصْرثمَّ لَو سلم أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا قَطْعِيا فَلَا ريب أَنه إِجْمَاع ظَنِّي فَيكون حجَّةوَأَيْضًا فالمعروف من عَادَة التَّابِعين وَمن بعدهمْ الإحتجاج بِمثل ذَلِك إِذا اتَّصل بهم أَن بعض الصَّحَابَة قَالَ قولا وانتشر فِي البَاقِينَ وَلم ينكروه وَلَا يَخْلُو أحد من الْمُجْتَهدين من إِيرَاد مثل ذَلِك فِي كتبهمْ على وَجه والإحتجاج بِهِ فَلَو لم يكن الْإِجْمَاع السكوتي حجَّة لزم اتِّفَاقهم على الْبَاطِلوَلَا يُقَال يلْزم أَن يكون الْإِجْمَاع السكوتي إِجْمَاعًا بِالْإِجْمَاع وَيكون الْمُخَالف فِيهِ خارقا للْإِجْمَاع وَلَيْسَ كَذَلِك لأَنا نقُول جَازَ أَن يكون من احْتج بِهِ فِي كل عصر لم احْتج بِهِ فِي كل عصر لم تتفق آراؤهم على كَونه إِجْمَاعًا وَرَآهُ الْآخرُونَ حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاعوَلَو سلم ذَلِك لمُخَالفَة للْإِجْمَاع الإستدلالي أَو الظني لَا يقْدَح فِي قَائِلهَاثَالِثا وَأما من قَالَ إِنَّه يكون حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع فاعتمد أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا(1/30)يكون عِنْد الْعلم بِاتِّفَاق الْمُجْتَهدين وَهُوَ مَفْقُود فِي هَذِه الصُّورَة فَانْتفى كَونه إِجْمَاعًاوَأما كَونه حجَّة فَلِأَن الْعَادة تَقْتَضِي بِأَنَّهُ لَو لم يكن صَحِيحا لما تطابق الْجَمِيع على السُّكُوت عَنهُ إِذا لم يكن هُنَاكَ مَانع قوي وَلَو كَانَ ثمَّ مَانع لظهر فَإِذا لم يظْهر ذَلِك وَلَا إِنْكَار صدر من أحد مِنْهُم لذَلِك القَوْل فيبعد إِلَّا يكون الْحق فِي ذَلِك القَوْل بعد قَوِيا فَيكون حجَّة لِئَلَّا الْمَحْذُور بِالنِّسْبَةِ إِلَى أهل الْعَصْر وَعدم إظهارهم الْمُخَالفَةوَأما ابْن أبي هُرَيْرَة فَقَالَ الْعَادة جَارِيَة بالإعتراض على الْمُفْتِي دون الْحُكَّام لما فِي الإعتراض على الْحُكَّام من ثوران الْفِتَن فَإِذا سكتوا عَن الْفتيا فَإِن سكوتهم دَال على الْمُوَافقَة دون مَا إِذا سكتوا عَن الحكموَقَالَ من عكس ذَلِك هَذَا فِي الحكم أولى لما كَانَت الْعَادة جَارِيَة بِهِ من أَن الْحَاكِم يشاور وَيُرَاجع أهل النّظر بِخِلَاف الْفَتْوَى فَإِنَّهَا تقع غَالِبا عَن الإستبدادوَاعْترض على الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْفَتْوَى وَالْحكم وَقد تقدم أَنهم اعْترضُوا على الْخُلَفَاء فِي أحكامهم كثيراوَفِي الْمَسْأَلَة مبَاحث كَثِيرَة للأصوليين من التقديرات المجوزة لسنا بصدد ذكرهَامَرَاتِب الْإِجْمَاع السكوتيوَالْمَقْصُود أَن هُنَا مَرَاتِب مُتَفَاوِتَة فِي الْقُوَّة والضعفإِحْدَاهَا فرض ذَلِك فِي كل عصر وَهَذَا إِن كَانَ بعد اسْتِقْرَار الْمذَاهب فَلَا أثر للسكوت قطعا وَإِن كَانَ قبل ذَلِك فَفِيهِ مَا تقدم من الْخلاف(1/31)وَفِي جعله إِجْمَاعًا ظنيا نظر وَكَونه حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع أبعد من ذَلِكوَثَانِيها أَن يكون ذَلِك فِي عصر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَهُوَ أقوى من الأول وَأولى بِأَن يكون السُّكُوت مِنْهُم دَلِيلا على الْمُوَافقَة لعلو مرتبتهم فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَعدم المذاهبة على من بعدهمْ وَإِن كَانَ لم يكن إِجْمَاعًا فَالظَّاهِر أَنه حجَّة لما تقدموَثَالِثهَا أَن يكون ذَلِك فِيمَا يتَكَرَّر وُقُوعه فَهُوَ أولى بِأَن يكون إِجْمَاعًا أَو حجَّة لِأَن تِلْكَ الإحتمالات الْمقدرَة تبعد فِيهِ بعدا قَوِياوَرَابِعهَا أَن يكون فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى فكون ذَلِك إِجْمَاعًا أقوى مِمَّا قبله(1/32)وَأظْهر فِي الحجية لِأَن انتشار ذَلِك الحكم مَعَ عُمُوم الْبلوى بِهِ يَقْتَضِي علمهمْ بذلك الحكم وموافقتهم فِيهِ وَإِلَّا لزم تطابقهم على ترك إِنْكَارهوخامسها أَن يكون فِيمَا يفوت وقته كالدماء والفروج كَمَا صُورَة الْمَاوَرْدِيّ فاشتهار ذَلِك بَينهم مَعَ سكُوت البَاقِينَ عَنهُ يدل على الرِّضَا أقوى مِمَّا فِي الصُّور الْمُتَقَدّمَة إِلَّا أَن صورته فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى ويتكرر وُقُوعه أظهر أَو الْكل على السوَاءوَالْقَوْل بحجية ذَلِك وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا قوي إِذا قيل بِأَن قَول الصَّحَابِيّ بمفرده لَا يكون حجَّة وَالله سُبْحَانَهُ أعلمالطّرف الثَّانِي قَول الصَّحَابِيّ إِذا طلع عَلَيْهِ غَيره وَلم يعلم انتشاره بَينهم جمعيهمأَن يثبت للصحابي قَول أَو حكمه فِي مَسْأَلَة وَيعلم اطلَاع غَيره من الصَّحَابَة عَلَيْهِ أَو انتشاره بَينهم دون انتشاره بَين الْجَمِيع وَلَا يُؤثر عَن غَيره فِيهِ مُخَالفَة لَهُفَهَذَا دون الَّتِي قبله هَذِه لعدم اشتهاره بَين الْجَمِيع وَإِن كَانَ انْتَشَر بَينهم فِي الْجُمْلَةوَبِهَذَا قَيده أَبُو الْعَبَّاس الْقُرْطُبِيّ من الْمَالِكِيَّة وَالشَّيْخ صفي الدّين الأرموي فِي كِتَابه نِهَايَة الْوُصُولوَمِنْهُم من أطلق القَوْل فِي ذَلِك وَلم يُقَيِّدهُ بالإنتشار(1/33)والمحكي فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَالأَحدهَا أَنه إِجْمَاع وَهُوَ بعيد جدا لِأَن الْإِجْمَاع عبارَة عَن اتِّفَاق جَمِيع الْمُجْتَهدين من أهل الْعَصْر وَذَلِكَ إِمَّا بالْقَوْل أَو بِالْفِعْلِ اتِّفَاقًا وَإِمَّا بقول الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ مَعَ اطلاعهم على القَوْل الْمُتَقَدّم فَأَما إِذا لم يعلمُوا فَيمْتَنع رضاهم بِهِ أَو ردهم لَهُوَالثَّانِي أَنه حجَّة وَإِن قُلْنَا إِن قَول الصَّحَابِيّ بمفرده لَيْسَ بِحجَّة لِأَنَّهُ لما انْتَشَر ذَلِك القَوْل وَلم يظْهر خلاف علم أَنه قد سَمعه الْأَكْثَر فأقروه عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يكون مِنْهُم إِلَّا عَن ثَبت وَدَلِيل لما يعلم من صلابتهم فِي الدّين وتحقيقهم فِيهِوَالثَّالِث وَهُوَ اخْتِيَار فَخر الدّين الرَّازِيّ إِن كَانَ ذَلِك مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى وَتَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ فَهُوَ يجْرِي مجْرى الْإِجْمَاع أَو يكون حجَّة(1/34)الطّرف الثَّالِث قَول الصَّحَابِيّ إِذا لم يشْتَهر وَلم يُخَالِفهُ غَيرهأَن يَقُول الصَّحَابِيّ قولا أَو يحكم بِحكم وَلم يثبت فِيهِ اشتهار وَلَا يُؤثر عَن غير من الصَّحَابَة مُخَالفَة فِي ذَلِكوَهَذِه الصُّورَة هِيَ أَكثر مَا يُوجد عَنْهُموللعلماء فِيهَا أَقْوَال مُتعَدِّدَة وَالْكَلَام فِي مقامينالْمقَام الأولفِي كَونه حجَّة شَرْعِيَّة تقدم على الْقيَاس وَالَّذِي يتَحَصَّل فِي ذَلِك مَذَاهِبأَحدهَا أَنه حجَّة مُطلقًاوَالثَّانِي أَنه لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًاوَالثَّالِث أَن الْحجَّة قَول أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا دون غَيرهمَاوَالرَّابِع أَن الْحجَّة قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم فَقَطوَالْخَامِس أَن قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا لَا يدْرك قِيَاسا فَهُوَ حجَّة دون مَا يدْرك بِالْقِيَاسِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يعبر عَنهُ ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهُ حجَّة إِذا خَالف الْقيَاسوَالسَّادِس إِن كَانَ من أهل الْعلم والإجتهاد فَقَوله حجَّة وَإِلَّا فَلَا قَالَه العالمي من الْحَنَفِيَّة فِي كِتَابه حاكيا لَهُ عَن أَصْحَابهم وَالْجُمْهُور لم يفصلوا هَذَا التَّفْصِيل بل أطْلقُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم(1/35)فَأَما القَوْل بِكَوْنِهِ حجَّة فَهُوَ مَذْهَب مَالك وَجُمْهُور أَصْحَابه وسُفْيَان الثَّوْريّ وَجُمْهُور أهل الحَدِيث وَكثير من الْحَنَفِيَّة كَأبي يُوسُف وَأبي سعيد البرذعي وَأبي بكر الرَّازِيّ وَعَزاهُ الْأَصْحَاب إِلَى الْقَدِيم من قولي الشَّافِعِي وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك فَقَط كَمَا سَيَأْتِي وَهُوَ رِوَايَة مَشْهُورَة عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَبِه قَالَ أَكثر أَصْحَابه وَهُوَ مُقْتَضى أجوبته وتصرفاته فِي كثير من الْمسَائِلوَأما القَوْل بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا فإليه ذهب جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابنَا والمعتزلة وَهُوَ الَّذِي عزاهُ الْأَصْحَاب إِلَى الْجَدِيد من قَول الشَّافِعِي وَاخْتَارَهُ وأوما إِلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل فَجعل ذَلِك رِوَايَة ثَانِيَة عَنهُ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب من أَصْحَابه وَإِلَيْهِ يمِيل قَول مُحَمَّد بن الْحسنوَذهب الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة إِلَى أَن قَول الصَّحَابِيّ حجَّة فِيمَا لَا يدْرك بِالْقِيَاسِ وَهُوَ اخْتِيَار الْبَزْدَوِيّ وَابْن الساعاتي وَغَيرهمَا مِنْهُموَأما أَصْحَابنَا فقد تقدم أَنهم قطعُوا القَوْل عَن الإِمَام الشَّافِعِي بِأَن قَوْله الْقَدِيم أَنه حجَّة وَأَن قَول الْجَدِيد أَنه لَيْسَ بِحجَّةوَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَان ذهب الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم إِلَى أَنه حجَّة يجب على الْمُجْتَهدين من أهل الْأَمْصَار التَّمَسُّك بهَا ثمَّ قَالَ وَإِنَّمَا يكون حجَّة إِذا لم تخْتَلف الصَّحَابَة وَلَكِن نقل وَاحِد عَن وَاحِد وَلم يظْهر خِلَافه فَيكون حنيئذ حجَّة وَإِن لم ينتشر وَقَالَ فِي بعض أَقْوَاله إِذا اخْتلف الصَّحَابَة فالتمسك بقول الْخُلَفَاء أولى قَالَ الإِمَام وَهَذَا كالدليل على أَنه لم يسْقط الإحتجاج بأقوال الصَّحَابَة لأجل الإختلاف وَقَالَ فِي بعض أَقْوَاله إِن الْقيَاس الْجَلِيّ يقدم على قَول الصَّحَابِيّ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر إِن قَول الصَّحَابِيّ(1/36)مقدم على الْقيَاس انْتهى كَلَام الإِمَاموَهَذِه الْأَقْوَال الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الإِمَام منصوصة للشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد أَيْضا فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب الرسَالَة الجديدة فِي أَقْوَال أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تفَرقُوا فِيهَا نصير إِلَى مَا وَافق الْكتاب أَو السّنة أَو الْإِجْمَاع أَو كَانَ أصح فِي الْقيَاس وَإِذا قَالَ وَاحِد مِنْهُم القَوْل لَا نَحْفَظ عَن غَيره مِنْهُم لَهُ مُوَافقَة وَلَا خلافًا صرت إِلَى اتِّبَاع قَول وَاحِد إِذا لم أجد كتابا وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا شَيْئا يحكم لَهُ بحكمة أَو وجد مَعَه قِيَاسهَذَا نَصه رَحمَه الله فِي الرسَالَة الْمَذْكُورَة من رِوَايَة الرّبيع بن سُلَيْمَان(1/37)وَمُقْتَضَاهُ تَقْدِيم الْقيَاس الْجَلِيّ على قَول الصَّحَابِيّ وَهُوَ المُرَاد إِن شَاءَ الله بقوله وَلَا شَيْئا فِي مَعْنَاهُ يحكم لَهُ بِحكمِهِوَيَقْتَضِي أَيْضا أَنه إِذا تعَارض قياسان وَأَحَدهمَا مَذْهَب الصَّحَابِيّ أَنه يقدم الْقيَاس الْمُوَافق لقَوْل الصَّحَابِيّوَقد حكى ابْن الصّباغ فِي كِتَابه الْعدة عَن بعض الْأَصْحَاب أَنه نقل عَن الشَّافِعِي أَنه إِذا كَانَ مَعَ قَول الصَّحَابِيّ قِيَاس ضَعِيف كَانَ أولى من الْقيَاس الصَّحِيح قولا وَاحِدًا ثمَّ ضعفه ابْن الصّباغ وَهَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي كتاب الْأَقْضِيَة من الْحَاوِي عَن الْقَدِيم لكنه قَالَ ذَلِك فِي الْقيَاس الْخَفي مَعَ الْجَلِيّ وَأَن الْخَفي يقدم على الْجَلِيّ إِذا كَانَ مَعَ الأول قَول الصَّحَابِيّ قَالَ ثمَّ رَجَعَ عَنهُ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد وَقَالَ الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ أولىوَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع من الْحَاوِي فِي مَسْأَلَة البيع بِشَرْط الْبَرَاءَة من الْعُيُوب قَول الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد أَن قِيَاس التَّقْرِيب إِذا انْضَمَّ إِلَى قَول الصَّحَابِيّ كَانَ أولى من قِيَاس التَّحْقِيقوَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي كتاب اختلافه مَعَ مَالك وَهُوَ من الْكتب الجديدة أَيْضا مَا كَانَ الْكتاب أَو السّنة موجودين فالعذر على من سَمعهَا مَقْطُوع إِلَّا باتباعهما فَإِذا لم يكن ذَلِك صرنا إِلَى أقاويل أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو وَاحِد مِنْهُم ثمَّ كَانَ قَول الْأَئِمَّة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم أحب إِلَيْهَا إِذا صرنا إِلَى التَّقْلِيد وَذَلِكَ إِذا لم نجد دلَالَة فِي الإختلاف تدل على أقرب الإختلاف من الْكتاب وَالسّنة فنتبع القَوْل الَّذِي مَعَه الدّلَالَة لِأَن قَول الإِمَام مَشْهُور بِأَنَّهُ يلْزم النَّاس وَمن لزم قَوْله النَّاس كَانَ أظهر(1/38)مِمَّن يُفْتِي الرجل أَو النَّفر وَقد يَأْخُذ بفتياه (أ) ويدعها وَأكْثر الْمُفْتِينَ يفتون الْخَاصَّة فِي بُيُوتهم ومجالسهم وَلَا يعْنى الْعَامَّة بِمَا قَالُوا عنايتهم بِمَا قَالَ الإِمَام وَقد وجدنَا الْأَئِمَّة يبتدئون فَيسْأَلُونَ عَن الْعلم من الْكتاب وَالسّنة فِيمَا أَرَادوا أَن يَقُولُوا فِيهِ وَيَقُولُونَ فيخبرون بِخِلَاف قَوْلهم فيقبلون من الْمخبر وَلَا يستنكفون أَن يرجِعوا لتقواهم الله وفضلهم فِي حالاتهمفَإِذا لم يُوجد عَن الْأَئِمَّة فأصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الدّين فِي مَوضِع الْإِمَامَة أَخذنَا بقَوْلهمْ وَكَانَ ابتاعهم أولى بِنَا من اتِّبَاع من بعدهمْقَالَ وَالْعلم طَبَقَاتالأولى الْكتاب وَالسّنة إِذا ثبتَتْ السّنةوَالثَّانيَِة الْإِجْمَاع فِيمَا لَيْسَ فِي كتاب وَلَا سنةوَالثَّالِثَة أَن يَقُول بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نعلم لَهُ مُخَالفا مِنْهُموَالرَّابِعَة اخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُموَالْخَامِسَة الْقيَاس على بعض هَذِه الطَّبَقَاتوَلَا يُصَار إِلَى شَيْء غير الْكتاب وَالسّنة وهما موجودان وَإِنَّمَا يُؤْخَذ الْعلم من أَعلَى أههَذَا كُله نَص الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْكتاب الْمشَار إِلَيْهِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن شُيُوخه عَن الْأَصَم عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَنهُوَهُوَ صَرِيح فِي أَن قَول الصَّحَابِيّ عِنْده حجَّة مُقَدّمَة على الْقيَاس كَمَا نَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَإِن كَانَ جُمْهُور الْأَصْحَاب أغلفوا نقل ذَلِك عَن الْجَدِيدوَيَقْتَضِي أَيْضا أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا كَانَ الْحجَّة فِي قَول أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم إِذا وجد عَنْهُم للمعنى الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي وَهُوَ اشتهار قَوْلهم وَرُجُوع النَّاس إِلَيْهِم(1/39)فَأَما فِي الْقَدِيم فَقَوله فِيهِ مَشْهُور بحجية قَول الصَّحَابِيّ وَمن ذَلِك مَا ذكره فِي الرسَالَة الْقَدِيمَة بعد ذكره الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالثنَاء عَلَيْهِم بِمَا هم أَهله فَقَالَ وهم فَوْقنَا فِي كل علم واجتهاد وورع وعقل وَأمر استدرك بِهِ علم واستنبط بِهِ وآراؤهم لنا أَحْمد وَأولى بنامن آرائنا عندنَا لأنفسنا وَمن أدركنا مِمَّن نرضى أَو حُكيَ لنا عَنهُ ببلدنا صَارُوا فِيمَا لم يعلمُوا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ سنة إِلَى قَوْلهم إِذا اجْتَمعُوا وَقَول بَعضهم إِن تفَرقُوا فَهَكَذَا نقُول إِن اجْتَمعُوا أَخذنَا بإجماعهم وَإِن قَالَ واحدهم قولا وَلم يُخَالِفهُ غَيره أَخذنَا بقوله إِن اخْتلفُوا أَخذنَا بقول بَعضهم وَلم نخرج عَن أقاويلهم كلهمقَالَ وَإِذا قَالَ الرّجلَانِ مِنْهُم فِي شَيْء قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين نظرت فَإِن كَانَ قَول أَحدهمَا أشبه بِكِتَاب الله أول أشبه بِسنة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخذت بِهِ لِأَن مَعَه سَببا تقوى بِمثلِهِ لَيْسَ مَعَ الَّذِي يُخَالِفهُ مثله فَإِن لم يكن على وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ دلَالَة بِمَا وصفت كَانَ قَول الْأَئِمَّة أبي بكر أَو عمر أَو عُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم أحب إِلَيّ أَن أَقُول بِهِ من قَول غَيرهم إِن خالفهم من قبل أَنهم أهل علم وحكامثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَإِن اخْتلف الْحُكَّام استدللنا بِالْكتاب وَالسّنة فِي اخْتلَافهمْ وصرنا إِلَى القَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الدّلَالَة من الْكتاب أَو السّنة وقلما يَخْلُو اخْتلَافهمْ من دَلَائِل كتاب أَو سنة وَإِن اخْتلف الْمفْتُون يَعْنِي من الصَّحَابَة بعد الْأَئِمَّة بِلَا دلَالَة فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِوَإِن وجدنَا للمفتين فِي زَمَاننَا وَقَبله اجتماعا فِي شَيْء لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَبِعْنَاهُ وَكَانَ أحد طرق الْأَخْبَار الْأَرْبَعَة وَهِي كتاب الله ثمَّ سنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ القَوْل لبَعض الصَّحَابَة ثمَّ اجْتِمَاع الْفُقَهَاءفَإِذا نزلت نازلة لم نجد فِيهَا وَاحِدًا من هَذِه الْأَرْبَعَة فَلَيْسَ السَّبِيل فِي الْكَلَام فِي النَّازِلَة إِلَّا اجْتِهَاد الرَّأْي(1/40)هَذَا كُله كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي كتاب الرسَالَة الْقَدِيمَة وَالْحَاصِل عَنهُ فِي قَول الصَّحَابِيّ أَقْوَالأَحدهَا أَنه حجَّة مُقَدّمَة على الْقيَاس كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي كتاب اختلافه مَعَ مَالك وَهُوَ من كتبه الجديدة كَمَا تقدموَالثَّانِي أَنه لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا وَهُوَ الَّذِي اشْتهر بَين الْأَصْحَاب أَنه قَوْله الْجَدِيدوَالثَّالِث أَنه حجَّة إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ قِيَاس فَيقدم حِينَئِذٍ على قِيَاس لَيْسَ مَعَه قَول صَحَابِيّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي كتاب الرسَالَة الجديدة وَقد تقدم ذَلِك أَولاثمَّ ظَاهر كَلَامه أَن يكون القياسان متساويين لِأَنَّهُ لم يفرق بَين قِيَاس وَتقدم فِي نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَنهُ قَول تَخْصِيص الْقيَاس الْجَلِيّ بتقديمه على قَول الصَّحَابِيّ فعلى هَذَا يكون فِيمَا نَقله الإِمَام عَنهُ قَول رَابِع فِي الْمَسْأَلَة من أَصْلهَاوَتقدم أَيْضا عَن القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ أَن قَول الشَّافِعِي أَنه إِذا اعتضد قِيَاس التَّقْرِيب بقول الصَّحَابِيّ كَانَ أولى من قِيَاس التَّحْقِيقوَعَن ابْن الصّباغ فِيمَا نَقله عَن بعض الْأَصْحَاب عَن الشَّافِعِي أَن الْقيَاس الضَّعِيف إِذا اعتضد بقول الصَّحَابِيّ كَانَ أولى من الْقيَاس الْقويفَيخرج من هذَيْن قَولَانِ آخرَانِ للشَّافِعِيّ أَيْضا إِن جعلنَا الْقيَاس الضَّعِيف أَعم من قِيَاس التَّقْرِيب وَغَيره وَإِلَّا فَقَوْل خَامِس زَائِد على مَا تقدموَذكر الْغَزالِيّ فِي كِتَابه الْمُسْتَصْفى من تفاريع القَوْل الْقَدِيم فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله قَالَ فِي كِتَابه اخْتِلَاف الحَدِيث أَنه روى عَن(1/41)عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه صلى فِي لَيْلَة سِتّ رَكْعَات كل رَكْعَة بست سَجدَات ثمَّ قَالَ إِن ثَبت ذَلِك عَن عَليّ قلت بِهِ قَالَ الْغَزالِيّ وَهَذَا لِأَنَّهُ رأى أَن القَوْل بذلك لَا يكون إِلَّا عَن تَوْقِيف إِذْ لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِقلت وَهَذَا يَقْتَضِي تَخْرِيج قَول للشَّافِعِيّ أَن قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا لَا يدْرك بِالْقِيَاسِ حجَّة دون غَيره وَفِيه نظر لِأَن الظَّاهِر أَن هَذَا من الشَّافِعِي بِنَاء على مُطلق القَوْل بِأَن قَول الصَّحَابِيّ حجَّةثمَّ قَوْله إِن ذَلِك تَفْرِيع على الْقَدِيم ضَعِيف أَيْضا لِأَن كتاب اخْتِلَاف الحَدِيث من كتب الشَّافِعِي الجديدة بِمصْر رَوَاهُ عَنهُ الرّبيع بن سُلَيْمَان فَيكون هَذَا أَيْضا مؤيدا لما تقدم من النَّقْل عَن الرسَالَة الجديدة وَعَن كتاب اخْتِلَاف مَالك وَالشَّافِعِيّثمَّ هَذِه الْأَقْوَال كلهَا إِذا انْفَرد قَول الصَّحَابِيّ وَلم يُخَالِفهُ غَيره فَأَما عِنْد خلافهم فَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَىالْمقَام الثَّانِيفِي جَوَاز تَقْلِيد الْمُجْتَهد الصَّحَابِيّ إِذا لم يكن قَوْله حجَّة وَقد أفردها الإِمَام الْغَزالِيّ بِالذكر بعد الْكَلَام فِي أَن قَول الصَّحَابِيّ حجَّة فَقَالَ فِي الْمُسْتَصْفى إِن قَالَ قَائِل إِذا لم يجب تقليدهم فَهَل يجوز(1/42)تقليدهم قُلْنَا أما الْعَاميّ فيقلدهم وَأما الْعَالم فَإِن جَازَ تَقْلِيد الْعَالم للْعَالم فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي تَقْلِيد الصَّحَابَة فَقَالَ فِي الْقَدِيم يجوز تَقْلِيد الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ قولا وانتشر قَوْله وَلم يُخَالفوَقَالَ فِي مَوضِع يُقَلّد وَإِن لم ينتشروَرجع فِي الْجَدِيد إِلَى أَنه لَا يُقَلّد الْعَالم صحابيا كَمَا لَا يُقَلّد الْعَالم عَالما آخر نقل الْمُزنِيّ عَنهُ ذَلِك وَأَن الْعمد على الْأَدِلَّة الَّتِي بهَا يجوز للصحابي الْفَتْوَى وَهُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار عندنَا انْتهى كَلَام الْغَزالِيّ رَحمَه اللهوَتَبعهُ على ذَلِك فَخر الدّين وَعَامة أَتْبَاعه والآمدي فِي الإحكام وَأعْرض ابْن الْحَاجِب عَن إِفْرَاد هَذِه الصُّورَة بِالذكر وَهُوَ الْحق لما ننبه عَلَيْهِفَإِن الَّذِي يظْهر أَن الإِمَام الشَّافِعِي حَيْثُ صرح بتقليد الصَّحَابِيّ لم يرد بِهِ التَّقْلِيد الَّذِي هُوَ مُتَعَارَف بَين الْعلمَاء وَهُوَ قبُول قَول غَيره مِمَّن لَا يجب عَلَيْهِ اتِّبَاعه من غير حجَّة بل مُرَاده بذلك أَن قَوْله حجَّة يجب اتباعها فَإِنَّهُ قَالَ فِي أدب القَاضِي ويشاور قَالَ الله تَعَالَى {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَقَالَ لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وشاورهم فِي الْأَمر} قَالَ الْحسن إِن كَانَ لغنيا عَن مشاورتهم وَلكنه أَرَادَ بذلك أَن يستن بذلك الْأَحْكَام بعده وَلَا يشاور إِذا نزل بِهِ الْأَمر إِلَّا أَمينا عَالما بِالْكتاب وَالسّنة والْآثَار وأقاويل النَّاس ولسان الْعَرَب وَلَا يقبل وَإِن كَانَ أعلم مِنْهُ حَتَّى يُعلمهُ كعلمه أَن ذَلِك لَازم لَهُ من حَيْثُ لم تخْتَلف الرِّوَايَة فِيهِ أَو بِدلَالَة عَلَيْهِ أَو أَنه لَا يحْتَمل وَجها آخر أظهر مِنْهُ فَأَما أَن يقلده فَلم يَجْعَل الله ذَلِك لأحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/43)هَذَا نَصه فِي مُخْتَصر الْمُزنِيّ فَأطلق اسْم التَّقْلِيد على الإحتجاج بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الإحتجاج بقوله فَكَذَلِك قَوْله فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ وَلَا سِيمَا مَعَ مَا اسْتَقر من قَوْله المتكرر فِي غير مَوضِع بِالنَّهْي عَن التَّقْلِيد وَالْمَنْع مِنْهُثمَّ قَول الْغَزالِيّ رَحمَه الله إِن ذَلِك فِي كتبه الْقَدِيمَة فَقَط وَإنَّهُ رَجَعَ عَنهُ فِي الْجَدِيد منقوض بِمَا نَص عَلَيْهِ فِي كتاب الْأُم فِي مَوَاضِع عديدة بتقليد الصَّحَابِيّمِنْهَا قَوْله فِيمَا إِذا بَاعَ بِشَرْط الْبَرَاءَة من الْعُيُوب فَالَّذِي أذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِك قَضَاء عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه يبرأ من كل عيب علمه وَلم يسمه ويقفه عَلَيْهِ فلير تقليدافَإِن كَانَ أَرَادَ الإِمَام الشَّافِعِي بالتقليد للصحابي فِي الْقَدِيم مَعْنَاهُ الْمَعْرُوف فَهُوَ كَذَلِك هُنَا أَيْضا فِي الْجَدِيد وَالْأَظْهَر أَنه أَرَادَ بِهِ الإحتجاج بقول الصَّحَابِيّ وَأطلق اسْم التَّقْلِيد عَلَيْهِ مجَازًا كَمَا أطلقهُ فِي الإحتجاج بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلموَهَذَا النَّص الَّذِي نقلته عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي البيع بِشَرْط الْبَرَاءَة قَالَه فِي مُخْتَصر الْمُزنِيّ وَفِي كتاب اخْتِلَاف الْعِرَاقِيّين وَهُوَ من جملَة كتب(1/44)الْأُم وَكِلَاهُمَا فِي الْجَدِيدوَقد ذكر الْغَزالِيّ رَحمَه الله فِي آخر الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة فِي الْمُسْتَصْفى قَالَ فَإِن قيل فقد ترك الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد الْقيَاس فِي تَغْلِيظ الدِّيَة فِي الْحرم لقَوْل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَكَذَلِكَ فرق بَين الْحَيَوَان وَغَيره فِي شَرط الْبَرَاءَة لقَوْل عُثْمَان قُلْنَا لَهُ فِي شَرط الْبَرَاءَة أَقْوَال فَلَعَلَّ هَذَا مرجوع عَنهُ فَلَيْسَ كَذَلِك لما بَينا فِي غير مَوضِع من كتبه الجديدة وَقَالَ إِنَّه الَّذِي يذهب إِلَيْهِ وَبِهَذَا قطع أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي وَابْن خيران وَغَيرهمَا وَلم يجعلا فِي الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة للشَّافِعِيّ قولا غَيره وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الْمُتَأَخّرُونَوَأما الْمَسْأَلَة تَغْلِيظ الدِّيَة فقد احْتج الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيهَا بِمَا روى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه قضى فِي امْرَأَة قتلت فِي الْحرم بدية وَثلث دِيَة وَقد رُوِيَ نَحْو مِنْهُ عَن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا مُخَالف لَهما من الصَّحَابَة فَيكون اعْتمد ذَلِك بِنَاء على مَا تقدم من الْإِجْمَاع السكوتي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَو لِأَنَّهُ قضى بِهِ عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ قد نَص فِي الْجَدِيد كَمَا تقدم عَنهُ على الرُّجُوع إِلَى قَول أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم لِأَنَّهُ يشْتَهر غَالِبا بِخِلَاف قَول الْمُفْتىوَقد حكى الْغَزالِيّ فِي الْموضع الْمشَار إِلَيْهِ أَيْضا أَن الشَّافِعِي اخْتلف قَوْله فِيمَا إِذا اخْتلف الْإِفْتَاء وَالْحكم كمن الصَّحَابَة فَقَالَ مرّة الحكم أولى لِأَن الْعِنَايَة بِهِ أَشد والمشورة فِيهِ أبلغ وَقَالَ مرّة الْفَتْوَى أولى لِأَن سكوتهم على الحكم يحمل على الطَّاعَة لأولي الْأَمر(1/45)وَعزا هَذَا الإختلاف إِلَى الْقَدِيم وَجعله مرجوعا عَنهُ وَفِيه من النّظر مَا قدمْنَاهُ لما نَص عَلَيْهِ فِي كتبه الجديدة كَمَا ذكرنَاأَدِلَّة الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَةهَذَا مَا يتَعَلَّق بِنَقْل الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة على وَجه الإحتجاج أَو التَّقْلِيد وَالْكَلَام الْآن فِيمَا احْتج بِهِ لكل قَول مِنْهَا مَعَ بَيَان مَا يتَعَلَّق بِتِلْكَ الْأَدِلَّة على وَجه الْإِيجَار إِن شَاءَ الله تَعَالَىوَالنَّظَر فِي مَرَاتِب خمس تقدم القَوْل فِيهَاالأولى فِي اتِّفَاق الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الْخُلَفَاء رَضِي الله عَنْهُموَالثَّانيَِة فِي اتِّفَاق الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَاوَالثَّالِثَة فِي قَول الْوَاحِد من الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَي وَاحِد كَانَ مِنْهُم رَضِي الله عَنْهُموَالرَّابِعَة فِي قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة غير الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُموَالْخَامِسَة فِي قَول الْوَاحِد مِنْهُم إِذا خَالف الْقيَاس أَو عضد الْقيَاس قَوْله وَأي قِيَاس كَانَ ذَلِك على مَا نبينه إِن شَاءَ الله(1/46)الْمرتبَة الأولى اتِّفَاق الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَةأما اتِّفَاق الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة على حكم أَو فَتْوَى فَمن النَّاس من جعل ذَلِك إِجْمَاعًا كاتفاق الْأَئِمَّة كلهم وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حَازِم القَاضِي من الْحَنَفِيَّة وَحَكَاهُ جمَاعَة من المصنفين رِوَايَة عَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي الرَّوْضَة نقل عَن أَحْمد رَحمَه الله مَا يدل على أَنه لَا يخرج عَن قَوْلهم إِلَى قَول غَيرهم وَالصَّحِيح أَن ذَلِك لَيْسَ بِإِجْمَاع وَكَلَام أَحْمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ يدل على أَن قَوْلهم حجَّة وَلَا يلْزم من كل مَا هُوَ حجَّة أَن يكون إِجْمَاعًاقلت وَكَذَلِكَ مَا تقدم عَن الإِمَام الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم وَفِي كتاب اختلافه مَعَ مَالك فِي الْجَدِيد عِنْد تفرق أَقْوَال الصَّحَابَة وَقد تقدم أَنه يصير إِلَى قَول أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَحِينَئِذٍ فالإحتجاج بِمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ يكون بطرِيق الأولىوَأما كَونه إِجْمَاعًا كَمَا إِذا أَجمعت الْأمة قاطبة فبعيد لِأَن الْأَدِلَّة المتمسك بهَا لكَون الْإِجْمَاع حجَّة من النقلية والعقلية إِنَّمَا يتَنَاوَل جَمِيع الْأمة وَلَا ريب فِي أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لَيْسُوا جَمِيع الْأمةوَقد ذكر أَئِمَّة الْأُصُول أَن أَبَا حَازِم احْتج لكَون ذَلِك إِجْمَاعًا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ الحَدِيث فَأوجب اتِّبَاع سنتهمْ كَمَا أوجب اتِّبَاع سنته والمخالف لسنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعْتد بقوله فَكَذَلِك الْمُخَالف لسنتهم(1/47)ثمَّ أجابوا عَن ذَلِك بِوَجْهَيْنِأَحدهَا أَن ذَلِك عَام فِي كل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا دَلِيل فِيهِ على انحصاره فِي الْأَرْبَعَة دون غَيرهم رَضِي الله عَنْهُموَثَانِيهمَا الْمُعَارضَة بِمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَبِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهتديم فَتحمل سنة الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة فِي الحَدِيث على مَا يتَعَلَّق بالخلافة فَقَط للْجمع بَين الْأَحَادِيث كَيفَ وَمن سنتهمْ إجَازَة الْمُخَالفَة لَهُم كَمَا تقدم من رد الْمَرْأَة على عمر رَضِي الله عَنهُ فِي المغالاة بِالصَّدَاقِ وَغير ذَلِك من الصُّور الْكَثِيرَةوَأَيْضًا فَإِنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يكون قَول الْوَاحِد مِنْهُم بمفرده حجَّة وَحِينَئِذٍ فتتعارض أَقْوَالهم كَمَا قد اخْتلف الشَّيْخَانِ رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْعَطاء فَرَأى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ تَسْوِيَة الصَّحَابَة فِيهِ كلهم وَرَأى عمر رَضِي الله عَنهُ التَّفَاضُل بَينهم بِحَسب السَّبق والقرب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيتعذر الْعَمَل بسنتهم فَيحمل حِينَئِذٍ كَمَا تقدم على أَمر الْخلَافَة وتجهيز الجيوش إِلَى الْأَمْصَار وَنَحْو ذَلِك وَهَذِه الإعتراضات كلهَا ضَعِيفَةولنبدأ أَولا بِبَيَان الحَدِيث الْمُتَقَدّم وتصحيحه وَوجه الدّلَالَة مِنْهُ ثمَّ نرْجِع إِلَى مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الاعتراضاتروى خَالِد بن معدان عَن عبد الرحمن بن عَمْرو السّلمِيّ عَن الْعِرْبَاض ابْن سَارِيَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا صَلَاة الْفجْر ثمَّ وعظنا موعظة بليغة ذرفت مِنْهَا الْعُيُون ووجلت مِنْهَا الْقُلُوب فَقَالَ قَائِل يَا رَسُول الله كَأَنَّهَا موعظة مُودع فأوصنا قَالَ أوصيكم بتقوى الله والسمع وَالطَّاعَة وَإِن كَانَ عبدا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم بعدِي فسيرى اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين تمسكوا بهَا(1/48)وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ فِيهِ حَدِيث حسن صَحِيحوَأخرجه الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي كتاب الْمُسْتَدْرك على الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ فِيهِ هُوَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلَا أعلم لَهُ عِلّة وصححة أَيْضا الْحَافِظ أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي وَأَبُو الْعَبَّاس الدغولي وَغَيرهمَا وَقد رُوِيَ أَيْضا من غير عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة رَضِي الله عَنهُ بِنَحْوِ هَذَاوَوجه الدّلَالَة مِنْهُ ظَاهر لَا من الطَّرِيق الَّتِي تقدم أَنه احْتج بِهِ لكَون ذَلِك كالإجماع بل من جِهَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالتمسك بسنتهم والعض عَلَيْهَا بالنواجذ وَذَلِكَ مجَاز كِنَايَة عَن مُلَازمَة الْأَخْذ بهَا وَعدم الْعُدُول عَنْهَا مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قرن فِي هَذِه الْأَوَامِر بَين سنته وسنتهم فَكَانَا فِي الحجية سَوَاءوَلَا يُقَال إِن ذَلِك يلْزم مِنْهُ أَن تكون سنتهمْ مُسَاوِيَة لما ثَبت من سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَيْثُ يَقع التَّعَارُض بَينهمَا ويعدل إِلَى التَّرْجِيح فَرُبمَا يقدم الْعَمَل بسنتهم على مَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنا نقُول لَا يلْزم من كَون سنتهمْ حجَّة مُعْتَمدَة أَن يكون لَهَا هَذِه الْمُسَاوَاة بل يجوز أَن تكون مَأْمُورا باتباعها وَالْعَمَل بهَا بِشَرْط عدم وجود سنة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدمت على سنتهمْ كَمَا أَن الْقيَاس حجَّة شَرْعِيَّة وَهُوَ مُتَأَخّر فِي الرُّتْبَة عَن الْكتاب وَالسّنةوَأما كَونه مُخْتَصًّا بالخلفاء الْأَرْبَعَة دون من بعدهمْ فلإجماع الْعلمَاء قاطبة على اختصاصهم بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَأَنه لَا يُطلق على من بعدهمْ وَقد روى سفينة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْخلَافَة فِي(1/49)أمتِي ثَلَاثُونَ سنة بعدِي ثمَّ يصير ملكا وَإِسْنَاده حسن وَكَانَت مُدَّة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة رَضِي الله عَنْهُم نَحْو هَذَا الْمِقْدَار بالإتفاق وَبِهَذَا احْتج الْبَيْهَقِيّ وَغَيره على انصراف قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين إِلَى الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَقصر اللَّفْظ عَلَيْهِموَأما الحَدِيث الْمَرْوِيّ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فَسَيَأْتِي بَيَانه وَأَنه حَدِيث ضَعِيف لَا يُقَاوم الحَدِيث الْمَرْوِيّ عَن الْعِرْبَاض الْمُتَقَدّم حَتَّى يَكُونَا متعارضينوعَلى تَقْدِير قيام الإحتجاج بِهِ فالجمع بَينهمَا مُمكن بِأَن يكون قَول الْجَمِيع حجَّة وَعند تعَارض أَقْوَالهم يرجح قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَيقدم على قَول غَيرهم كَمَا فِي الْقيَاس مَعَ الْكتاب وَالسّنة وَهَذَا أولى من قصر لفظ السّنة على شَيْء خَاص كالخلافة وَنَحْوهَا لِأَن اللَّفْظ من صِيغ الْعُمُوم لكَونه اسْم جنس مُضَافا فَلَا يقصرعلى شَيْء خَاص إِلَّا بِدَلِيل وَلَيْسَ فِيمَا ذَكرُوهُ من الْمُعَارضَة مَا يَقْتَضِي ذَلِك كَمَا بَيناهُ من وَجه الْجمع مَعَ الْعَمَل بِعُمُوم اللَّفْظ على تَجْوِيز صِحَة حَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِوَأما قَوْلهم إِن من سنتهمْ إجَازَة الْمُخَالفَة لَهُم فَغير وَارِد لِأَن مَا خولفوا فِيهِ وَثَبت رجوعهم كَانَ الثَّانِي هُوَ سنتهمْ وَمَا لم يرجِعوا إِلَيْهِ فَلَا يلْزمنَا ذَلِك بل يقدم مَا صاورا هم إِلَيْهِوَأما تعَارض أَقْوَالهم فَلَيْسَ مَدْلُول الحَدِيث لِأَن سنتهمْ الَّتِي أَمر النَّبِي(1/50)صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتمسك بهَا هِيَ مَا تفقوا عَلَيْهِ فَأَما مَا خَالف فِيهِ بَعضهم بَعْضًا فَذَلِك من الْمَرَاتِب الْآتِي ذكرهَا لَا مِمَّا نَحن فِيهِ وَسَيَأْتِي مَا يتَعَلَّق بذلك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله أعلمالْمرتبَة الثَّانِيَة اتِّفَاق أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَاالقَوْل بِاتِّفَاق الشَّيْخَيْنِ أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَأَنه هُوَ الْحجَّة دون غَيره فقد نَقله جمَاعَة من المصنفين دون أَن يسموا قَائِله وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي كِتَابَيْهِمَا بِإِسْنَاد حسن إِلَى حُذَيْفَة وحسنة التِّرْمِذِيّ وَأخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحهوَقد رُوِيَ من طَرِيقين آخَرين إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن فيهمَا من هُوَ مُتَكَلم فِيهِ من الروَاة والعمدة حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ وَقد اعْترض عَلَيْهِ أَئِمَّة الْأُصُول بِمَا تقدم من الْوَجْهَيْنِ فِي حَدِيث الْعِرْبَاض(1/51)من الْمُعَارضَة بِحَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ وَحمل بِاللَّفْظِ على الإقتداء بهما فِي الْخلَافَة وَنَحْو ذَلِك لَا فِي عُمُوم كل شَيْءوَقد تقدم مَا يتَعَلَّق بمعارضة حَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ وَأما عدم الْحمل على الْعُمُوم فَهُوَ قريب هُنَا لِأَن اقتدوا فعل أَمر مُثبت لَا عُمُوم لَهُ فَإِذا اقتدي بهما فِي قَضِيَّة وَاحِدَة فقد حصل الإمتثال إِلَّا أَن قرينَة السِّيَاق تدل على الْأَمر بالإقتداء على الْإِطْلَاق فَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِنِّي لَا أَدْرِي مَا بقائي فِيكُم فاقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر فَالظَّاهِر أَن ذَلِك فِي كل الْأُمُوروَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث أبي قَتَادَة لما أدلجوا فِي سفرهم وَإِن يطع الْقَوْم أَبَا بكر وَعمر يرشدوا وَهُوَ ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ فَإِن هَذَا اللَّفْظ أقرب إِلَى الْعُمُوم وَإِن كَانَ معنويا من جِهَة أَن الشَّرْط يَقْتَضِي ذَلِكوَلَا يُقَال بِأَن هَذَا الْكَلَام خرج فِي قَضِيَّة خَاصَّة وَهِي اخْتِلَاف الْقَوْم فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمامهم أَو وَرَاءَهُمْ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك لأَنا نقُول الْعَام إِذا خرج على سَبَب خَاص كَانَ مَعْمُولا بِهِ فِي عُمُومه وَلَا يقصر بِهِ على سَببه لَكِن يظْهر أَن الْألف وَاللَّام الَّتِي فِي الْقَوْم للْعهد لَا للْجِنْس لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك بعد حكايته الِاخْتِلَاف عَن الْقَوْم الَّذين هم أَمَامه ثمَّ قَالَ وَإِن يطع الْقَوْم أَبَا بكر وَعمر يرشدوا فَيَنْصَرِف التَّعْرِيف إِلَى الْقَوْم المعهودين وَلَا يَقْتَضِي الْعُمُوم إِلَّا إِذا أَخذ ذَلِك من جِهَة الْقيَاس على الْمَذْكُورين(1/52)الْمرتبَة الثَّالِثَة فِي قَوْله كل وَاحِد من الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة إِذا انْفَردثمَّ مقتضي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا باللذين من بعدِي الْأَمر بالإقتداء بِكُل وَاحِد مِنْهَا إِذا انْفَرد بِخِلَاف مَا تقدم من قَوْله وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدينوَإِذا كَانَ الْمُخَاطب بِهَذِهِ الْأَوَامِر الصَّحَابَة كَانَ فِيهَا أَنه إِذا تَعَارَضَت أَقْوَال الصَّحَابَة يكون الرُّجُوع إِلَى قَول أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة دون غَيرهم وَقد تقدم نَص الإِمَام الشَّافِعِي على ذَلِك كتاب اختلافه مَعَ مَالك وَغَيره أَيْضاوَمِمَّا يحْتَج بِهِ لذَلِك أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ فِي مرض مَوته أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ وروجع فِي ذَلِك غير مرّة فَأبى أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِلَّا هُوَ وَأنكر على من رَاجعه فِيهِ وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ فَلَزِمَ من هذَيْن أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ أعلم الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بِالسنةِ وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ بِسَنَد غَرِيب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَنْبَغِي(1/53)لقوم فيهم أَبُو بكر أَن يؤمهم غَيرهوَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَينا أَنا نَائِم أتيت بقدح فِيهِ لبن فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لأرى الرّيّ يجْرِي فِي أظفاري ثمَّ أَعْطَيْت فضلي عمر بن الْخطاب فَشرب قَالُوا مَاذَا أولت ذَلِك يَا رَسُول الله قَالَ الْعلموَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله وضع الْحق على لِسَان عمر وَقَلبه وَصَححهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْركوروى التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم أَيْضا عَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَو كَانَ بعدِي نَبِي لَكَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُوَفِي مُسْتَدْرك الْحَاكِم عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لَو وضع علم عمر فِي كفة ميزَان وَوضع علم النَّاس فِي كفة لرجح علم عمر رَضِي الله عَنهُوَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا كُنَّا نبعد أَن السكينَة كَانَت تنطق على لِسَان عمر رَضِي الله عَنهُوَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَائِر الْكتب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعمر بن الْخطاب وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا لقيك الشَّيْطَان سالكا فجا إِلَّا سلك فجا غير(1/54)فجكوَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ مَا رَأَيْت عمر إِلَّا وَكَأن بَين عَيْنَيْهِ ملكا يسددهوَثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ لما بَعثه إِلَى الْيمن إِن الله سيهدي قَلْبك ويسدد لسَانك قَالَ عَليّ فَمَا شَككت فِي قَضَاء بَين اثْنَيْنِوَعند التِّرْمِذِيّ بِسَنَد فِيهِ مقَال أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حق عَليّ اللَّهُمَّ أدر الْحق مَعَه حَيْثُ دَاروَأخرج الْحَاكِم فِي مُسْنده بِسَنَد حسن عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَليّ مَعَ الْقُرْآن وَالْقُرْآن مَعَ عَليّ لن يفترقا حَتَّى يردا عَليّ الْحَوْضوَأخرج أَيْضا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا لَكِن فِي إِسْنَاده ضعف(1/55)وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يَقُول أعوذ بِاللَّه من معضلة لَيْسَ لَهَا أَبُو حسن يَعْنِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ عبد الله بن أبي يزِيد كَانَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا سُئِلَ عَن شَيْء وَكَانَ فِي كتاب الله قَالَ بِهِ فَإِن لم يكن فِي كتاب الله وَكَانَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ شَيْء قَالَ بِهِ فَإِن لم يكن عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ شَيْء قَالَ بِمَا قَالَ بِهِ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَاوَقَالَ عِكْرِمَة كَانَ ابْن عَبَّاس إِذا بلغه شَيْء تكلم بِهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ من فتيا أَو قَضَاء لم يتجاوزه إِلَى غَيره والْآثَار فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة وَفِيمَا ذكر مِنْهَا كِفَايَة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقالْمرتبَة الرَّابِعَة قَول مُطلق الصَّحَابِيّوَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن قَول مُطلق الصَّحَابَة حجَّة بِوُجُوه كَثِيرَة وغالبها لَا يسلم من الِاعْتِرَاضالْوَجْه الأول قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} وَهُوَ خطاب مشافهة يخْتَص بالصحابة فِيمَا يأمرون بِهِ وَينْهَوْنَ عَنهُ فَيكون كل مَا أمروا بِهِ مَعْرُوفا وَمَا(1/56)نهوا عَنهُ مُنْكرا فَيكون الْأَخْذ بقَوْلهمْ أَو مَذْهَبهم وَاجِبا لِأَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَاجِب الْقبُول وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَاجِب الِامْتِثَالوَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن الْخطاب وَإِن كَانَ مشافهة فَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى جَمِيع الْأمة إِلَى آخر الزَّمَان فَلَا يخْتَص بالصحابة وَإِن سلم اختصاصهم فَهُوَ إِنَّمَا يدل على أَن إِجْمَاعهم حجَّة لَا على أَن قَول الْوَاحِد أَو مذهبَة حجَّةوَيُمكن الْجَواب عَن هَذَا الثَّانِي بِأَن وَصفهم بذلك أَعم من أَن يكون ذَلِك صدر من الْجَمِيع أَو من وَاحِد مِنْهُم فتندرج هَذِه الصُّورَة فِي الْآيَة لَا سِيمَا والاتفاق على أَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لَا يتَوَقَّف على إِجْمَاع الْكل على فعله بل كل وَاحِد مُخَاطب بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بمفرده وَيجب عَلَيْهِ الْقيام بِهِ وَإِن لم يساعده غَيره وَأما الِاعْتِرَاض الأول فَهُوَ قويالْوَجْه الثَّانِي ثَنَاء الله تَعَالَى عَلَيْهِم كَقَوْلِه تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} وَقَوله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} وَمن كَانَ مرضيا عَنهُ كَيفَ لَا يقْتَدى بِفِعْلِهِ وَيتبع فِي قَوْله(1/57)وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه} الْآيَة وَكَذَلِكَ قَوْله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ الحَدِيثوَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحابا فجعلهم وزراء وأنصارا الحَدِيث وَإِسْنَاده حسن إِلَى غير ذَلِك من الْأَحَادِيث المشبهة لَهُوَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن مَضْمُون الْجَمِيع الثَّنَاء عَلَيْهِم ووصفهم بِمَا اختصهم الله بِهِ من الْكَرَامَة وَلَا يلْزم أَن تكون أَقْوَالهم حجَّة بل يحْتَاج ذَلِك إِلَى دَلِيل يَخُصُّهُالْوَجْه الثَّالِث قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَهَذَا مِمَّا أطبق عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وأئمة الْأُصُول على ذكره إِمَّا للإحتجاج بِهِ وَإِمَّا من جِهَة من يَقُول بذلك ثمَّ يعْتَرض على وَجه دلَالَته وَكَأن الحَدِيث صَحَّ وَلَا بُدوَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يخرج فِي الْكتب السِّتَّة وَلَا فِي المسانيد الْكِبَار وَقد رُوِيَ من طرق فِي كلهَا مقَالأَحدهَا مَا روى نعيم بن حَمَّاد عَن عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي عَن أَبِيه عَن سعيد بن الْمسيب عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلت رَبِّي فِيمَا اخْتلفت فِيهِ أَصْحَابِي من بعدِي فَأوحى الله إِلَيّ يَا مُحَمَّد إِن أَصْحَابك عِنْدِي بِمَنْزِلَة النُّجُوم فِي السَّمَاء بَعْضهَا أَضْوَأ من بعض فَمن أَخذ بِشَيْء مِمَّا هم عَلَيْهِ فَهُوَ عِنْدِي على هدى(1/58)وَعبد الرَّحِيم بن زيد هَذَا قَالَ فِيهِ يحيى بن معِين كَذَّاب وَقَالَ مرّة لَيْسَ بِشَيْء وَقَالَ أَبُو زرْعَة واهي الحَدِيث وَقَالَ البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم تَرَكُوهُ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره مَتْرُوك وَقَالَ الْجوزجَاني لَيْسَ بِثِقَة وَالْكل متفقون على نَحْو هَذَا فِيهِ فَلَا عِبْرَة بِهَذَا الطَّرِيقوَثَانِيها مَا روى عبد بن حميد أَخْبرنِي أَحْمد بن يُونُس ثَنَا أَبُو شهَاب عَن حَمْزَة بن أبي حَمْزَة الْجَزرِي عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم يهتدى بهَا فَأَيهمْ أَخَذْتُم بقوله اهْتَدَيْتُمْ وَحَمْزَة الْجَزرِي هَذَا قَالَ فِيهِ ابْن معِين لَا يُسَاوِي فلسًا وَقَالَ البُخَارِيّ مُنكر الحَدِيث وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ مَتْرُوك وَقَالَ ابْن عدي عَامَّة رواياته مَوْضُوعَة وَثَالِثهَارَوَاهُ عبد الله بن روح الْمَدَائِنِي ثَنَا سَلام بن سُلَيْمَان ثَنَا الْحَارِث ابْن غصين عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل أَصْحَابِي فِي أمتِي مثل النُّجُوم بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَهَذَا السَّنَد أمثل من اللَّذين قبله فَإِن سَلام بن سُلَيْمَان هَذَا وثقة الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن مزِيد وَلَكِن قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ الْعقيلِيّ وَفِي حَدِيثه مَنَاكِير وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي هُوَ عِنْدِي مُنكر الحَدِيث وَعَامة مَا يرويهِ حسان إِلَّا أَنه لَا يُتَابع عَلَيْهِقلت وَشَيْخه الْحَارِث بن غصين لم أجد من ذكره بتوثيق وَلَا جرح فَهُوَ مَجْهُول ثمَّ الحَدِيث شَاذ بِمرَّة لكَونه من رِوَايَة الْأَعْمَش وَهُوَ مِمَّن يجمع حَدِيثه وَلم يجىء إِلَّا من هَذِه الطَّرِيق وَلَا يحْتَمل من راوية الِانْفِرَاد بِمثلِهِ فَهُوَ شَاذ أَو مُنكر كَمَا هُوَ مُقَرر فِي مَوْضِعه(1/59)وَرَابِعهَا مَا رَوَاهُ عَمْرو بن هَاشم البروقي عَن سُلَيْمَان بن أبي كَرِيمَة عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهما أُوتِيتُمْ من كتاب الله فَالْعَمَل بِهِ وَلَا عذر لأحد فِي تَركه فَإِن لم يكن فِي كتاب الله فَسنة مني مَاضِيَة فَإِن لم يكن سنة مني فَمَا قَالَ أَصْحَابِي إِن أَصْحَابِي بِمَنْزِلَة النُّجُوم فِي السَّمَاء فأيما أَخَذْتُم بِهِ اهْتَدَيْتُمْ وَاخْتِلَاف أَصْحَابِي لكم رَحْمَة وجويبر هُوَ ابْن سعيد الْمُفَسّر مُتَّفق على ضعفه أَيْضا قَالَ فِيهِ ابْن معِين لَيْسَ بِشَيْء وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ مَتْرُوك وَقَالَ النَّسَائِيّ والداقطني مَتْرُوك وَقَالَ الْجوزجَاني لَا يسْتَقلّ بِهِقَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث مَتنه مَشْهُور وَأَسَانِيده ضَعِيفَة لم يثبت فِي هَذَا إِسْنَادقلت وَفِي كَلَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ مَا يَقْتَضِي تقويته وَلَكِن الِاعْتِمَاد على أسانيده وَهِي واهية كلهَا بَينا مَعَ نَص جمَاعَة من الْأَئِمَّة على أَنه لم يثبت مِنْهَا شَيْءوَوجه الدّلَالَة مِنْهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الِاقْتِدَاء لَازِما للاهتداء بِأَيّ وَاحِد مِنْهُم كَانَ وَذَلِكَ يدل على أَنه حجَّة وَإِلَّا لفرق بَين الْمُصِيب وَغير الْمُصِيب فَإِن الِاقْتِدَاء بِغَيْر الْمُصِيب لَيْسَ اهتداءوَبِهَذَا التَّقْرِير يخرج الْجَواب عَمَّن يَقُول إِنَّمَا دلّ الحَدِيث على أَن الِاقْتِدَاء بهم موصل إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا أَمر مجمع عَلَيْهِ فِي حَقهم وَحقّ غَيرهم من الْمُجْتَهدين وَكلهمْ طرق إِلَى الله تَعَالَى وَإِن تفاوتت مَرَاتِبهمْ فَكَمَا أَن قَول غَيرهم لَيْسَ بِحجَّة كَذَلِك قَوْلهم وَفَائِدَة التَّنْصِيص عَلَيْهِم التشريف وَأَنَّهُمْ أولى بذلك من غَيرهم وَلَا يلْزم من كَون تقليدهم هِدَايَة أَن يكون مدْركا(1/60)للمجتهدين إِذا سلم عَن الْمعَارضوَيُجَاب عَن هَذَا أَيْضا بِأَن تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُشْتَقّ يشْعر بالعلية فَيظْهر اخْتِصَاص هَذَا حكم بالصحابة رَضِي الله عَنْهُم وَحِينَئِذٍ فَلَا يرد مَا ذَكرُوهُ وَيلْزم أَن يكون ذَلِك لحجيته لَا لكَوْنهم مجتهدين فَقَط وترتيب هَذَا الحكم على هَذَا الْوَصْف يَقْتَضِي سلبه عَن غَيرهم لفَوَات الْوَصْف الْمُرَتّب عَلَيْهِم فيهموَاعْترض عَلَيْهِ أَيْضا بِأَنَّهُ لَا دَلِيل فِيهِ على الْعُمُوم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الاهتداء فِي كل مَا يَقْتَدِي بِهِ وعَلى هَذَا فَيمكن حمله على الِاقْتِدَاء بهم فِيمَا يَرْوُونَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَكْفِي ذَلِك فِي مَدْلُول اللَّفْظوَجَوَابه مَا تقدم أَيْضا من أَن تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف يشْعر بعليته لذَلِك الحكم فَيلْزم فِي كل اقْتِدَاء لَا سِيمَا مَعَ عُمُوم لفظ أَي الَّذِي هُوَ شَامِل لكل الصَّحَابَة وَأما الْحمل على الرِّوَايَة فضعيف لِأَن ذَلِك لَا يُسمى اقْتِدَاءوَالَّذِي يتَوَجَّه على دلَالَة الحَدِيث أَن الْخطاب فِيهِ مشافهة فَلَا بُد وَأَن يكون من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَاخِلا فِي ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَيكون الْخطاب للعوام من الصَّحَابَة وَيكون لفظ أَصْحَابِي لَيْسَ على عُمُومه بل خَاصّا بالمجتهدين(1/61)وَالْفُقَهَاء مِنْهُم كَمَا قَالَه العالمي من الْحَنَفِيَّة وَهُوَ قويوَيدل عَلَيْهِ أَيْضا تنصيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تفَاوت مَرَاتِبهمْ فِي الْعُلُوم كالحديث الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أرأف أمتِي بأمتي أَبُو بكر وأشدها فِي دين الله عمر وأصدقهم حَيَاء عُثْمَان وأقضاهم عَليّ وأعلمهم بالحلال وَالْحرَام معَاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثَابت وأقرؤهم أبي بن كَعْب وَلكُل قوم أَمِين وَأمين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنْهُم وَإِسْنَاده حسن وَقد أعل بَعضهم لصححهوَكَذَلِكَ تنصيصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَخذ الْقُرْآن من أَرْبَعَة عبد الله بن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِوَعند التِّرْمِذِيّ أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر واهتدوا بِهَدي عمار وتمسكوا بِعَهْد ابْن أم عبد يَعْنِي عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُموبهذه الطَّرِيق أَعنِي تَخْصِيص القَوْل بذلك بالمجتهدين من الصَّحَابَة يحصل الِانْفِصَال عَن كثير من الاعتراضات الْوَارِد فَظَاهر كَلَام أَحْمد بن حَنْبَل يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لم يَأْخُذ بِحَدِيث عَمْرو بن سَلمَة الْجرْمِي فِي إِمَامَته قومه وَهُوَ صبي وَأَشَارَ إِلَى أَنهم أَعْرَاب فِي باديتهم فَلم يحْتَج بفعلهمالْوَجْه الرَّابِع من أَدِلَّة الْقَائِلين بِأَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ حجَّة ادِّعَاء(1/62)الْإِجْمَاع فِي ذَلِك من جِهَة أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بَايع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ بِشَرْط الِاقْتِدَاء بالشيخين بَعْدَمَا ذكر الْكتاب وَالسّنة أَولا فَقبل ذَلِك مِنْهُ وَكَانَ بِمحضر الصَّحَابَة وَلم ينكروا عَلَيْهِ فَكَانَ إِجْمَاعًاوَاعْترض عَلَيْهِ بَان المُرَاد بِهِ الِاقْتِدَاء بهما فِي سيرتهما وعدلهما وَنَحْو ذَلِك لَا على أَن قَوْلهمَا حجَّة يلْزم اتباعها لِأَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ حجَّة على صَحَابِيّ آخر اتِّفَاقًا لَا سِيمَا فِي الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة بَعضهم مَعَ بعضوَيدل لهَذَا الْحمل أَيْضا أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لما عرض ذَلِك أَولا على عَليّ رَضِي الله عَنهُ لم يقبل وَقبل مِنْهُ عُثْمَان فَالْقَوْل بذلك على الإحتجاج يَقْتَضِي تخطئة أَحدهمَا لِأَن اتِّبَاع مَذْهَب الصَّحَابِيّ إِمَّا وَاجِب أَو محرم وَفِي كل مِنْهُمَا لَا يخْتَص بِبَعْض الآخذين بِهِ دون بعض بل هُوَ على عُمُوم النَّاس وَإِذا تعذر الْحمل على ذَلِك حمل على مَا تقدم هَكَذَا ذكره جمَاعَة من الْأُصُولِيِّينَوَلَا يُوجد فِي شَيْء من كتب الحَدِيث مُسْند مُعْتَمد أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عرض ذَلِك أَولا على عَليّ فَلم يقبله ثمَّ عرضه على عُثْمَان فَقبله بل الَّذِي فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَجَمِيع كتب السّير أَن عبد الرحمن بن عَوْف أَخذ الْعَهْد على كل من عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا لَئِن ولي ليعدلن وَلَئِن أَمر عَلَيْهِ الآخر ليسمعن وليطعين ثمَّ بعد ذَلِك بَايع عُثْمَان رَضِي الله عَنهُوَالَّذِي ذكره رُوِيَ من طَرِيق سُفْيَان بن وَكِيع عَن قبيصَة عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن عَاصِم عَن أبي وَائِل قَالَ قلت لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف كَيفَ بايعتم عُثْمَان وتركتم عليا قَالَ مَا ذَنبي بدأت بعلي فَقلت أُبَايِعك على كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسيرة أبي بكر وَعمر فَقَالَ فِيمَا اسْتَطَعْت ثمَّ عرضت ذَلِك على عُثْمَان فَقَالَ نعم رَوَاهُ عبد الله بن أَحْمد ابْن حَنْبَل فِي زيادات مُسْند أَبِيه وسُفْيَان بن وَكِيع ضَعِيف تكلم فِيهِ جمَاعَة وَقَالَ فِيهِ ابْن أبي حَاتِم وَابْن حبَان وَابْن عدي إِن وراقه أَدخل عَلَيْهِ أَحَادِيث(1/63)واهية فَحدث بهَا وَقَالَ فِيهِ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ مُتَّهم بِالْكَذِبِ وَالَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره هُوَ الصَّحِيحنعم قرينَة السِّيَاق تشعر بِأَن المُرَاد بالسيرة مَا كَانَا عَلَيْهِ من الْعدْل والإنصاف وَالْقُوَّة فِي دين الله وَنَحْو ذَلِكوَبعد الِانْفِصَال عَن كل مَا يعرض على هَذَا الْوَجْه وَتَسْلِيم أَن المُرَاد بالسيرة عُمُوم أقوالهما وأفعالهما لَا ينتهض دَلِيلا إِلَّا لمن يَقُول بِأَن الْحجَّة فِي قَول أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا خَاصَّة وَأَن ذَلِك لَازم لسَائِر الصَّحَابَة أما الإحتجاج بِهِ على حجية قَول جَمِيع الصَّحَابَة فَلَا لما تقدمالْوَجْه الْخَامِس أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم خضروا التَّنْزِيل وفهموا كَلَام الرَّسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واطلعوا على قَرَائِن القضايا وَمَا خرج عَلَيْهِ الْكَلَام من الْأَسْبَاب والمحامل الَّتِي لَا تدْرك إِلَّا بالحضور وخصهم الله تَعَالَى بالفهم الثاقب وحدة القرائح وَحسن التَّصَرُّف لما جعل الله فيهم من الخشية والزهد والورع إِلَى غير ذَلِك من المناقب الجليلة فهم أعرف بالتأويل وَأعلم بالمقاصد فيغلب على الظَّن مصادفة أَقْوَالهم وأفعالهم الصَّوَاب أَو الْقرب مِنْهُ والبعد عَن الْخَطَأ هَذَا مَا لَا ريب فِيهِ فَيتَعَيَّن الْمصير إِلَى أَقْوَالهم وَلَا يَعْنِي كَونه مدْركا إِلَّا ذَلِك(1/64)وَأما الِاعْتِرَاض بِعَدَمِ عصمتهم وَجَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِم وَمَا يقْضِي إِلَيْهِ(1/65)الإحتجاج بقَوْلهمْ من التَّعَارُض لاخْتِلَاف أَقْوَالهم فِي الحكم الْوَاحِد فَسَيَأْتِي الْجَواب عَنهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَىالْوَجْه السَّادِس وَهُوَ الْمُعْتَمد أَن التَّابِعين أَجمعُوا على اتِّبَاع الصَّحَابَة فِيمَا ورد عَنْهُم وَالْأَخْذ بقَوْلهمْ والفتيا بِهِ من غير نَكِير من أحد مِنْهُم وَكَانُوا من أهل الإجتهاد أَيْضاقَالَ مَسْرُوق وجدت علم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى إِلَى سِتَّة عمر وَعلي وَأبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وَأبي الدَّرْدَاء وَعبد الله بن مَسْعُود وَقَالَ أَيْضا كَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة عمر وَعلي وَعبد الله وَأبي وَزيد وَأَبُو مُوسَى يَعْنِي الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنْهُموَقَالَ الشّعبِيّ كَانَ الْعلم يُؤْخَذ عَن سِتَّة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ عمر وَعلي وعبد الله يَعْنِي ابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت يشبه بَعضهم بَعْضًا وَكَانَ يقتبس بَعضهم من بعض وَكَانَ عَليّ وَأَبُو مُوسَى وَأبي بن كَعْب يشبه علم بَعضهم بَعْضًا وَكَانَ يقتبس بَعضهم من بعضوَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ لم يكن من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد لَهُ أَصْحَاب 4 يقومُونَ بقوله فِي الْفِقْه إِلَّا ثَلَاثَة عبد الله بن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ ذكر أَصْحَاب كل وَاحِد مِنْهُم من(1/66)التَّابِعين الَّذين كَانُوا يفتون النَّاس بقول ذَلِك الصَّحَابِيّوَمن أمعن النّظر فِي كتب الْآثَار وجد التَّابِعين لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الرُّجُوع إِلَى أَقْوَال الصَّحَابِيّ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كتاب وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع ثمَّ هَذَا مَشْهُور أَيْضا فِي كل عصر لَا يَخْلُو عَنهُ مستدل بهَا أَو ذَاكر لأقوالهم فِي كتبهوَلَا يُقَال فَيكون الْمُخَالف فِي ذَلِك خارقا للْإِجْمَاع لما تقدم أَن مُخَالفَة الْإِجْمَاع الاستدلالي والظني لَا يقْدَح وَمَا نَحن فِيهِ من ذَلِك وَالله ولي التَّوْفِيقوَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة بِوُجُوهالْوَجْه الأول قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} . . الْآيَة وَالرَّدّ إِلَى مَذَاهِب الصَّحَابِيّ يكون تركأ لهَذَا الْوَاجِب(1/67)وَجَوَابه أَن الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الحكم الْمَطْلُوب مَوْجُودا فِي الْكتاب أَو السّنة وَحِينَئِذٍ مَتى عدل عَنْهُمَا كَانَ تركا للْوَاجِب فَأَما إِذا لم يُوجد ذَلِك فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة مَنْصُوصا عَلَيْهِ فَلَا يكون فِي الرُّجُوع إِلَى أَقْوَال الصَّحَابَة ترك للْوَاجِب وَالْقَوْل بِاتِّبَاع مَذْهَب الصَّحَابِيّ مَشْرُوط بِعَدَمِ معارضته للْكتاب أَو السّنة إِلَّا فِي تَخْصِيص أَو حمل على أحد المحملين على مَا فِي ذَلِك من الْخلاف كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَىوَأَيْضًا إِذا كَانَ الرُّجُوع إِلَى أَقْوَال الصَّحَابَة مدلولا عَلَيْهِ بالنسة كَمَا تقدم أَو باستنباط من ثَنَاء الله عَلَيْهِم فِي الْكتاب وتفضيلهم لَا يكون الرَّد إِلَيْهِم منافيا لمدلول الْآيَةوَإِلَى هَذَا يرشد قَول إمامنا الشَّافِعِي فِيمَا روينَا عَنهُ من طَرِيق عبد الله ابْن مُحَمَّد الْفرْيَابِيّ قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي رَحمَه الله بِبَيْت الْمُقَدّس يَقُول سلوني عَم شِئْتُم أخْبركُم بِهِ عَن كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فَقلت إِن هَذَا لجريء مَا تَقول أصلحك اله فِي الْمحرم يقتل الزنبور فَقَالَ نعم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَحدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن ربعي عَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَاوَحدثنَا سُفْيَان عَن مسعر عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق بن شهَاب أَن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَمر الْمحرم بقتل الزنبور (أهـ)(1/68)فَهَذِهِ الْحِكَايَة تدل على رُجُوع الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَى قَول الصَّحَابِيّ وَأَنه أَخذ ذَلِك من الْكتاب وَالسّنةوَهَذَا أَيْضا كَمَا يُقَال فِي الْقيَاس إِنَّه غير منَاف للْكتاب وَالسّنة لدلالتهما على الْعَمَل بِهِالْوَجْه الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} قَالُوا وَذَلِكَ يُنَافِي جَوَاز التَّقْلِيدوَجَوَابه منع دلَالَة الْآيَة على الِاجْتِهَاد وَالْمَنْع من التَّقْلِيد كَمَا هُوَ مَبْسُوط فِي كتب الْأُصُول وَلَئِن سلم ذَلِك فَلَا نسلم أَن الْأَخْذ بقول الصَّحَابِيّ يكون على وَجه التَّقْلِيد لَهُ بل ذَلِك على أَنه مدرك من مدارك الشَّرْع يجب على الْمُجْتَهد الْأَخْذ بِهِ كَمَا فِي النَّص وَالْقِيَاس وَغَيرهمَا من المدارك وكما أَن الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ إِذا كَانَ دَالا على الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ لَا يكون منافيا للأخذ بِالنَّصِّ لكَون الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ إِنَّمَا هُوَ بعد فقدان النَّص فَكَذَلِك الْأَخْذ بقول الصَّحَابِيّ فَإِنَّهُ أَيْضا مقدم على الْقيَاس عِنْد الْقَائِلين بِهِ فَلَا يكون الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ منافيا لحجيتهالْوَجْه الثَّالِث قَالُوا أَجمعت الصَّحَابَة على جَوَاز مُخَالفَة بَعضهم بَعْضًا حَتَّى لم يُنكر أحد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين على من خَالفه وَقد تقدم نبذة من ذَلِك فَلَو كَانَ مَذْهَب الصَّحَابِيّ حجَّة لما كَانَ كَذَلِك ولكان يُنكر كل مِنْهُم على من خَالفهوَجَوَابه أَنه غير دَال على صُورَة النزاع فَإِن صورته أَن قَوْلهم أَو مَذْهَبهم هَل هُوَ حجَّة على من بعدهمْ من التَّابِعين الْمُجْتَهدين وَمن بعدهمْ أم لَا فَأَما كَون الْوَاحِد من مجتهدي الصَّحَابَة يكون قَوْله حجَّة على مثله مِنْهُم فَلَيْسَ مَحل النزاع(1/69)الْوَجْه الرَّابِع أَن الصَّحَابِيّ من أهل الإجتهاد وَالْخَطَأ جَائِز عَلَيْهِ لكَونه غير مَعْصُوم وفَاقا وَقد وجد من أَفْرَاد مِنْهُم أَقْوَال على خلاف مَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يكن الْأَخْذ بقوله وَاجِبا كَغَيْرِهِ من الْمُجْتَهدين وكما لَا يجب على غَيره من مجتهدي الصَّحَابَة الْأَخْذ بقوله أَيْضاوَجَوَابه أَنه لَا يلْزم من عدم وجوب الْعَمَل بقول الصَّحَابِيّ على صَحَابِيّ مثله وَبقول التَّابِعِيّ على تَابِعِيّ مثله عدم وجوب الْعَمَل بقول الصَّحَابِيّ على التَّابِعِيّ وَمن بعده لِأَن فِي تِلْكَ الصُّورَة التَّسَاوِي مَوْجُود وَفِي هَذَا الَّذِي هُوَ مَحل النزاع التَّفَاوُت مَوْجُود فِي الْفَضِيلَة والرتبة والتأييد للإصابة وَالْعلم بالناسخ والمنسوخ والمخصص المقالي والحالي وَمَعْرِفَة مَقَاصِد الْكَلَام وسياقه وسباقه وَسبب النُّزُول إِلَى غير ذَلِك كَمَا تقدم فَلَا يَصح قِيَاس إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ على الْأُخْرَى مَعَ ظُهُور الْفرقالْوَجْه الْخَامِس أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم اخْتلفُوا فِي مسَائِل الْحَرَام وَزوج وأبوين وَزَوْجَة وأبوين وَأم وجد وَأُخْت إِلَى غير ذَلِك من الْمسَائِل الْكَبِيرَة فَلَو كَانَ مَذْهَب الصَّحَابِيّ حجَّة لزم أَن تكون حجج الله تَعَالَى مُخْتَلفَة متناقضة وَلم يكن اتِّبَاع التَّابِع للْبَعْض أولى من اتِّبَاع الآخروَجَوَابه أَن اخْتِلَاف مَذَاهِب الصَّحَابَة لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا حجَجًا كَمَا فِي تعَارض الْخَبَرَيْنِ من أَخْبَار الْآحَاد وَنَحْوهَا كالقياس فَإِن وجد مُرَجّح من خَارج عمل بِهِ وَإِلَّا كَانَ الْوَقْف أَو التَّخْيِير كَمَا عرف فِي مَوْضِعه فَكَذَلِك هُنَاالْوَجْه السَّادِس أَن التَّابِعِيّ الْمُجْتَهد مُتَمَكن من إِدْرَاك الحكم(1/70)بطريقة وَلَا يجوز لَهُ التَّقْلِيد فِيهِ كَمَا فِي مسَائِل أصُول الدّينوَجَوَابه مَا تقدم من منع كَون ذَلِك تقليدا عِنْد الْقَائِلين باتباعه بل إِثْبَات الحكم بِهِ بطريقة كَمَا فِي إثْبَاته بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاسوَالْفرق بَين مسَائِل أصُول الدّين وَهَذِه ظَاهر لِأَن مسَائِل الْفُرُوع يعْمل فِيهَا بِالظَّنِّ بِخِلَاف أصُول الدّينالْوَجْه السَّابِع أَن الصَّحَابِيّ يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ والسهو وَلم تثبت عصمته فَلَا حجَّة فِي قَوْله مَعَ جَوَاز ذَلِك عَلَيْهِ وَقد كَانَ الْوَاحِد رُبمَا يجْتَهد ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ الحكم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف قَوْله كَمَا قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كُنَّا نخابر وَلَا نرى بذلك بَأْسا حَتَّى روى لنا رَافع بن خديج أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنْهَا فتركناهاوَجَوَابه أَنه لَا يلْزم من عدم الْعِصْمَة وَجَوَاز الْخَطَأ ترك الْأَخْذ بقوله كَمَا أَن الْمُجْتَهد من الْعلمَاء بعد الصَّحَابَة من الْعلمَاء غير مَعْصُوم وَيجب على الْعَاميّ تَقْلِيده وَالْخَطَأ فيهم بمخالفة مَا فِيهِ نَص نَادِر جدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقْوَالهم وأفعالهم مَعَ مَا قدمنَا من اطلاعهم على مَقَاصِد الشَّرِيعَة واختصاصهم بِالسَّبقِ والأفضلية وَكَانَ الحكم فيهم الْأَغْلَب من أَحْوَالهم دون النَّار وَأَيْضًا فَمَا ثَبت فِيهِ نَص عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُعَارض قَول الصَّحَابِيّ فَلَا يكون ذَلِك مَحل النزاع كَمَا أَنه لَا يحْتَج من أفعالهم بِمَا وَقع فِي الْفِتَن مِمَّا لَا فَائِدَة فِي ذكره(1/71)الْوَجْه الثَّامِن أَن الْقيَاس أصل من أصُول الدّين وَحجَّة من الْحجَج الشَّرْعِيَّة وَالْعَمَل بِهِ عِنْد عدم النَّص وَاجِب فَلَا يتْرك لقَوْل الصَّحَابِيّ وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث معَاذ الْمَشْهُور وَقَوله للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه يجْتَهد رَأْيه بعد الْكتاب وَالسّنة وَأقرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلموَجَوَابه أَنه لَا يلْزم من كَون الْقيَاس حجَّة إِلَّا تتقدم عَلَيْهِ غَيره من الْحجَج كَمَا أَن الْإِجْمَاع يتَقَدَّم عَلَيْهِ بل وَكَذَلِكَ على النَّص ويتضمن الْإِجْمَاع وجود نَص نَاسخ لذَلِك أَو مؤول لَهُ وَإِنَّمَا لم يذكر معَاذ رَضِي الله عَنهُ قَول الصَّحَابِيّ لِأَن قَول غَيره لَيْسَ حجَّة عَلَيْهِ فَلَا فَائِدَة فِي ذكره حِينَئِذٍ(1/72)الْمرتبَة الْخَامِسَة قَول الصَّحَابِيّ إِذا خَالف الْقيَاسوَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن قَول الصَّحَابِيّ إِنَّمَا يكون حجَّة إِذا خَالف الْقيَاس بِأَنَّهُ فِي هَذِه الْحَالة لَا يكون قَوْله إِلَّا عَن تَوْقِيف إِذْ لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِي ذَلِك