عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الكتاب: أصول الفقه المسمى إجابة السائل شرح بغية الآملالمؤلف: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182هـ)عدد الأجزاء: 1بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعينالْحَمد لله رب الْعَالمين وصلواته وَسَلَامه على رَسُول الْأمين وعَلى آله المطهرين وَبعد فَهَذَا شرح لطيف على منظومة الكافل الْمُسَمَّاة بغية الآمل وَقد كَانَ شرحها تلميذنا الْعَلامَة الْمُحَقق إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق قدس الله روحه فِي الْجنَّة شرحا نفيسا بسيطا وَكَانَ مَا كتبه عرضه على شَيْخه النَّاظِم فليحق بِهِ مَا يرَاهُ وَيضْرب على مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ من لَفظه أَو مَعْنَاهُ حَتَّى كمل شرحا بديعا سَمَّاهُ الفواصل شرح بغية الآمل إِلَّا أَنه طَال واتسع فِيهِ مجَال الْمقَام فَطلب مني بعد وَفَاته بعض طلبة الْعلم اختصاره والإتيان بأقوى أَدِلَّة الْمَسْأَلَة وتوضيح الْعبارَة والاقتصار على الْأَدِلَّة المختارة والأقوال المرتضاة عِنْد المهرة النظارة فأجبت إِلَى ذَلِك مستمدا للهداية والإعانة من الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله وسميته إِجَابَة السَّائِل شرح بغية الآمل قَالَ النَّاظِمقَالَ فَقير ربه مُحَمَّدأَعَانَهُ الله على مَا يقْصد ... أَحْمد حمدا يكون شَامِلًاوبالأصول وَالْفُرُوع كافلا(1/17)هَذَا هُوَ مقول القَوْل وَالْحَمْد هُوَ الثَّنَاء بالجميل الِاخْتِيَارِيّ وحمدا مصدر تأكيدي وبوصفه عَاد نوعيا والشامل من شَمله الشَّيْء إِذا عَمه أَي شَامِلًا لأنواع الْحَمد وأنواع الْمَحْمُود عَلَيْهِ والشامل اسْم كتاب فِي الْأُصُول للْإِمَام يحيى وَفِي ذكر الْأُصُول وَالْفُرُوع والكافل براعة الاستهلال مَعَ التورية ... وأستزيد الْمُنْتَهى من عِنْده ... والمجتبى من فَضله لعَبْدِهِ ...اسْتَزَادَ طلب الزِّيَادَة لما حمد مَوْلَاهُ طلب الزِّيَادَة من نعمائه ومنتهى الشَّيْء غَايَته وَفضل الله لَا غَايَة لَهُ وَلَا انْتِهَاء وَهُوَ أَيْضا اسْم لكتاب الْآمِدِيّ فِي الْأُصُول فَفِيهِ تورية والمجتبى بِالْجِيم واجتباه إِذا اخْتَارَهُ وَمن فَضله يتنازع فِيهِ الْمُنْتَهى والمجتبى وَهُوَ اسْم كتاب فِي الْأُصُول أَيْضا والْحَدِيث للنسائي فَفِيهِ مَا فِي الَّذِي قبله من التورية ... ثمَّ صَلَاة الله تغشى الْمُصْطَفى ... وَآله سفن النجَاة الحنفا ...(1/18)عطف الدُّعَاء لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَمده لرَبه عطف اسميه على فَعَلَيهِ وتغشى من غشية الشَّيْء شَمله وَعَمه وَمِنْه {وَاللَّيْل إِذا يغشى} والمصطفى من اصطفاه اخْتَارَهُ وَهُوَ من أَوْصَافه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي اشْتهر بهَا حَتَّى إِذْ أطلقت لَا يتَبَادَر سواهُ والآل على الْمُخْتَار هم من حرمت عَلَيْهِم الزَّكَاة كَمَا فسرهم بذلك زيد بن أَرقم كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم وسفن النجَاة اقتباس من حَدِيث أهل بَيْتِي كسفينة نوح من ركبهَا نجا وَمن تخلف عَنْهَا غرق وَهوى أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس والحنفاء جمع حنيف كشهداء فِي شَهِيد وَهُوَ المائل واشتهر فِي المائل إِلَى الدّين المحمدي لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَآله(1/19)وَسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة وَلم يَأْتِ بِالسَّلَامِ مَعَ الصَّلَاة هُنَا لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ فِي آخر النّظم وَهُوَ كَلَام وَاحِد ... وَبعد فالكافل فِي الْأُصُول ... مُخْتَصر قد خص بِالْقبُولِ ...أَي بعد الْحَمد وَالصَّلَاة حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَبنى بعد على الضَّم لما عرف فِي النَّحْووالكافل هُوَ تأليف الْعَلامَة مُحَمَّد بن يحيى بهران رَحمَه الله تَعَالَى تَلقاهُ النَّاس بِالْقبُولِ وَشَرحه جمَاعَة من الْعلمَاء ودرسوا فِيهِ لما أَفَادَهُ قَوْله ... لِأَنَّهُ مهذب موضح ... مُحَرر مُحَقّق منقح ...(1/20)وَمن هذبه نقاه وأخلصه وَأَصْلحهُ كَمَا فِي الْقَامُوس وموضح من وضح الْأَمر يضح وضوحا بَان وَظهر وتحرير الْكتاب وَغَيره تقويمه والمحقق من الْكَلَام الرصين ومنقح من نقح الشَّيْء هذبه وَكَانَ طلب نظمه مني بعض الطّلبَة أَيَّام قِرَاءَته عَليّ ... وَقد نظمت مَا حوى مَعْنَاهُ ... نظما يلذ للَّذي يقراه ...قَوْله مَعْنَاهُ إِعْلَام بِأَن أَلْفَاظه لم ينظمها وَقد يتَّفق نظم بَعْضهَا ... لِأَن حفظ النّظم فِي الْكَلَام ... أسْرع مَا يعلق بالأفهام ...تَعْلِيل لنظمه فَإِنَّهُ لَا ريب أَن حفظ النّظم أسْرع من حفظ النثر وَلذَا فَإِن الْعلمَاء لَا يزالون ينظمون كتب الْعلم من نَحْو وَفقه وعلوم الْقرَاءَات وعلوم مصطلح أهل الحَدِيث وَغَيرهَا حَتَّى السّير النَّبَوِيَّة كالهمزية ... وأسأل الله بِهِ أَن ينفعا ... لِأَنَّهُ بِأَصْلِهِ قد نفعا ...كَمَا قَرَّرْنَاهُ من أَنه رزق الْقبُول عِنْد الْعلمَاء ... واستمد اللطف وَالْهِدَايَة ... بمبتدا ذَلِك وَالنِّهَايَة ...اللطف بِضَم اللَّام لُغَة الرأفة والرفق وَعبر بِهِ هُنَا عَمَّا يَقع بِهِ صَلَاح العَبْد وَالْهِدَايَة دلَالَة بلطف إِلَى مَا يُوصل إِلَى الْمَطْلُوب وَقيل سلوك طَرِيق توصل إِلَى الْمَطْلُوب نسْأَل الله أَن يوصلنا بهدايته وَرَحمته إِلَى سَوَاء السَّبِيل وَأَن يخلص الْأَعْمَال لوجهه الْكَرِيم من كل دَقِيق وجليلوَأعلم أَنه اسْتحْسنَ الْعلمَاء رَحِمهم الله قبل خوضهم فِي مَقَاصِد مَا يؤلفونه من المؤلفات فِي أَي فن من فنون الْعلم تَقْدِيم مُقَدّمَة يذكر فِيهَا ثَلَاثَة أَشْيَاء(1/21)تَعْرِيف الْفَنّ وموضوعه وغايته قَالُوا لِأَن الشَّرْع فِي الْفَنّ بِوَجْه الْخِبْرَة وفرط الرَّغْبَة يتَوَقَّف عَلَيْهَا كَمَا قَالَه السعد فِي التَّهْذِيب وَقد وَقع الِاقْتِصَار فِي الْمَنْظُومَة صَرِيحًا على تَعْرِيف الْعلم تبعا لاقتصار الأَصْل المنظومفَأول الْكَلَام فِيمَا ينظمحد أصُول الْفِقْه فَهُوَ الأقدمأول مُبْتَدأ خَبره قَوْله حد أصُول الْفِقْه قَوْله فَهُوَ الأقدم تَعْلِيل لأوليته فِي النّظم قاضية بأولويته فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ الْحَد أولى بالتقديم مِمَّا بعده لِأَنَّهُ بِحَدّ الْعلم يحصل تميزه عَمَّا عداهُ فَيعرف الطَّالِب حَقِيقَة مَطْلُوبه من أول الْأَمر وَلِأَن بمعرفته يعرف مَوْضُوع الْعلم وغايته لِأَنَّهُ إِذا قيل إِنَّه علم باحث عَن أَحْوَال كَذَا من حَيْثُ إِنَّه يُفِيد كَذَا علم الْمَوْضُوع والغاية من ذَلِك بالاستلزام وسنذكرهما آخرا مفسرين وَإِذا عرفت أَن الْحَد أول مَا ينظمفالحد علم بأصول وصلَةبهَا لإِخْرَاج عَن الْأَدِلَّة ... أحكامنا الشَّرْعِيَّة الفرعيةوقيدت تِلْكَ بتفصيليةاعْلَم أَنه لَا بُد للحد من مَحْدُود فَقَوله الْحَد التَّعْرِيف فِيهِ عهدي أَي حد أصُول الْفِقْه لتقدمه ذكرا وَهَذَا هُوَ الْمَحْدُود وَمَعْنَاهُ فحد أصُول الْفِقْه وَقد ذكر فِي الْكتب الْأُصُولِيَّة أَن أصُول الْفِقْه لقب لهَذَا الْفَنّ وكلامنا الْآن فِي حَده اللقبي وَهُوَ مَنْقُول عَن مركب إضافي وَقد تكلم الْعلمَاء فِي مبسوطات الْفَنّ على تَعْرِيف كل وَاحِد من جزئيه بِاعْتِبَار الْإِضَافَة والأهم هُنَا معرفَة مَعْنَاهُ اللقبي إِذْ هُوَ المدون لَهُ الْكتابوَاعْلَم أَن التَّعْرِيف يشْتَمل فِي الْغَالِب على جنس وفصول فَقَوله علم جنس الْحَد وَالْعلم هُوَ الِاعْتِقَاد الْجَازِم المطابق الثَّابِت وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ الْأَخَص(1/22)وَقد يُقَال على مَا يَشْمَل الظَّن وَكَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِلهُ الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْأَخير وَهُوَ مَعْنَاهُ الْأَعَمّ وَالْمرَاد بِهِ هُنَا مَا يَشْمَل الْمَعْنيين جَمِيعًا أَي الِاعْتِقَاد الْجَازِم الخ وَالظَّن فَقَط فَإِن كَانَ لفظ الْعلم مُشْتَركا بَينهمَا فاستعمال الْمُشْتَرك فِي معنييه وَإِن كَانَ مَهْجُورًا فِي التعاريف فالمقام هُنَا مشْعر بالمراد فتزول بِهِ الْجَهَالَة وَإِن كَانَ لَيْسَ بمشترك كَمَا أَفَادَهُ فِي المواقف فَإِنَّهُ قَالَ إِن(1/23)تَسْمِيَة الظَّن علما وَجعله مندرجا فِيهِ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحُكَمَاء مُخَالف لاستعمال اللُّغَة وَالْعرْف وَالشَّرْع فقد قيل عَلَيْهِ إِنَّه لَا مَانع من إِطْلَاقه عَلَيْهِ مجَازًا والتعريف بالمجاز الْمَشْهُور قد أجازوهفَإِن قلت فَيحمل هُنَا الْعلم على مَعْنَاهُ الأول وَهُوَ الَّذِي يسمونه الْأَخَص قلت يمْنَع عَن حمله هُنَا عَلَيْهِ أَنه قد تقرر أَن من قَوَاعِد هَذَا الْفَنّ مَا هُوَ ظَنِّي وَقد أوضحناه فِي رِسَالَة مُسْتَقلَّة وَيَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي مَوَاضِع فَلَا تغتر بقَوْلهمْ مسَائِل أصُول الْفِقْه قَطْعِيَّة وَقد أَشَارَ فِي الْفُصُول إِلَى هَذَا فَقَالَ بعد تَعْرِيفه لأصول الْفِقْه بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى آخر مَا هُنَا لَفظه وَقيل الْعلم بهَا أَو الظَّن فَأَشَارَ بقوله أَو الظَّن إِلَى أَن قَوَاعِد أصُول الْفِقْه مَا هُوَ ظَنِّي وَأَرَادَ بِلَفْظ الْعلم فِي عِبَارَته الْمَعْنى الْأَخَص فَلِذَا عطف عَلَيْهِ الظَّن وَقد اسْتشْكل الشَّيْخ لطف الله فِي شَرحه عَلَيْهِ عطفه الظَّن(1/24)عَلَيْهِ وَلَا وَجه لاستشكاله كَمَا عرفتوَقَوله بأصول جمع أصل وَهُوَ لُغَة مَا يبْنى عَلَيْهِ غَيره وترادفه الْقَاعِدَة وعرفوها بِأَنَّهَا قَضِيَّة كُلية تعرف أَحْكَام جزيئات موضوعها نَحْو قَوْلك هُنَا الْأَمر للْوُجُوب مثلا فَإِنَّهُ يدْخل تَحْتَهُ جزيئات تعرف مِنْهُ أَحْكَامهَا نَحْو أقِم الصَّلَاة وَآت الزَّكَاة وَحج الْبَيْت وَغير ذَلِك هَذَا وَلما كَانَت الْأُصُول ترادف الْقَوَاعِد وَقد عرفه ابْن الْحَاجِب بقوله الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى آخِره وَقَوله هُنَاكَ وصلَة بهَا لإِخْرَاج هُوَ صفة لقَوْله بأصول أَي يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِخْرَاج الْأَحْكَام الْخَمْسَة الْآتِيَة عَن أدلتها كَمَا ستعرفه فالباء سَبَبِيَّة وَاللَّام فِي لإِخْرَاج بِمَعْنى إِلَى مثلهَا فِي قَوْله تَعَالَى {سقناه لبلد ميت} {كل يجْرِي لأجل} وَحذف فَاعل لإِخْرَاج للْعلم بِهِ إِذْ فَاعل الْمصدر يجوز حذفه أَي إِخْرَاج الْأُصُول أَو الْمُجْتَهدوَقَوله عَن الْأَدِلَّة وَهِي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس فبها أَي الْأُصُول أَو الْقَوَاعِد يخرج الْمُجْتَهد الْأَحْكَام عَن هَذِه الْأَدِلَّة وَالْأَحْكَام المُرَاد بهَا الْخَمْسَة الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم وَالنَّدْب وَالْكَرَاهَة وَالْإِبَاحَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا والتعريف فِيهَا وَفِي الْأَدِلَّة للْعهد الْخَارِجِي لِأَنَّهَا مَعْلُومَة بَين أهل الْأُصُول فَلَا يتَوَهَّم أَن فِي التَّعْرِيف جَهَالَةوَقَوله أحكامنا مفعول الْمصدر جمع حكم وعرفوه بِأَنَّهُ القضايا وَالنّسب(1/25)التَّامَّة نَحْو قَوْلنَا الْحَج وَاجِب فَخرجت التصورات وَقَوله لإِخْرَاج أولى من قَوْلهم لاستخراج ولاستنباط لما عرف أَن السِّين للطلب غَالِبا وَالْمرَاد هُنَا الْإِخْرَاج نَفسه لَا طلبه وَبِهَذَا الْقَيْد خرج علم الْعَرَبيَّة بأقسامه وَعلم الْكَلَام فَإِن قَوْله بهَا أَي بِسَبَبِهَا المُرَاد بِهِ السَّبَب الْقَرِيب فَإِنَّهَا أَي الْبَاء ظَاهِرَة فِيهِ وَإِضَافَة التَّوَصُّل إِلَى غير أصُول الْفِقْه مِمَّا هُوَ سَبَب بعيد لِأَنَّهُ يتَوَصَّل بِهِ لَكِن بالواسطة وَعبر ابْن الإِمَام فِي الْغَايَة بقوله الموصلة لذاتها الخ لِئَلَّا يرد أَنه قد يتَوَصَّل بغَيْرهَا من قَوَاعِد الْعَرَبيَّة وَالْكَلَام لِأَنَّهُمَا من مبادىء علم الْأُصُول لَكِن التَّوَصُّل بهما لإِخْرَاج الْأَحْكَام لَيْسَ لذاتها فَإِن علم الْعَرَبيَّة وَنَحْوه وَإِن كَانَ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِخْرَاج الْأَحْكَام لكنه توصل بعيد إِذْ يتَوَصَّل بقواعد الْعَرَبيَّة إِلَى معرفَة كَيْفيَّة دلَالَة الْأَلْفَاظ على مدلولتها الوضعية وبواسطة ذَلِك يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِخْرَاج الْأَحْكَام وَأما علم الْكَلَام فَإِنَّهُ يتَوَصَّل بقواعده إِلَى ثُبُوت الْكتاب وَالسّنة وصدقهما وَبِه يتَوَصَّل إِلَى ذَلِكوَقَوله الشَّرْعِيَّة يخرج بِهِ الْعلم بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّة كقبح الظُّلم وَحسن الْعدْلوَقَوله الفرعية تخرج الشَّرْعِيَّة غير الفرعية من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْأَصْلِيَّةوَقَوله وقيدت تِلْكَ أَي الْأَدِلَّة بتفصيلية بَيَان للْوَاقِع لَا إِنَّه لإِخْرَاج الْأَدِلَّة الإجمالية ككون الْكتاب حجَّة فَإِنَّهُ لَا يستنبط مِنْهُ حكم حَتَّى يحْتَاج إِلَى إِخْرَاجه وَلَا خلل فِي زِيَادَة قيد فِي الْحَد للإيضاح وَالْبَيَان فَإِن مثله وَاقع فِي التعريفات مَعَ أَنه يَنْبَغِي أَن يعلم أَن هَذِه الْحُدُود إِنَّمَا هِيَ من التعريفات(1/26)وَلَيْسَت بحدود حَقِيقِيَّة وَسَيَأْتِي بَيَان الْفرق بَين الْأَمريْنِ فِي آخر الْكتاب حَيْثُ ذكره المُصَنّف إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي قَوْله وقيدت إِشَارَة إِلَى عدم الْحَاجة إِلَى التَّقْيِيد وَفِي شرح الْمحلي أَنه قيد بتفصيلية لإِخْرَاج اعْتِقَاد الْمُقَلّد فَإِنَّهُ لَا يُسمى علماوَاعْلَم ان هَذَا التَّعْرِيف لأصول الْفِقْه مَأْخُوذ من تَعْرِيف ابْن الْحَاجِب بمختصره الْمُنْتَهى ومبني على أَن أصُول الْفِقْه هُوَ الْعلم بالقواعد وَمن الْأُصُولِيِّينَ من جعله الْقَوَاعِد بِنَفسِهَا وَقد ذكر فِي الْفُصُول التعريفين مَعًا وَقدم الثَّانِي وَحكى الأول بقيل قَالَ الشَّيْخ لطف الله فِي شَرحه وَكَأَنَّهُ اخْتَار الأول أَي فِي عِبَارَته وَهُوَ الْقَوَاعِد لما قيل من أَنه أرجح لوجوهأَحدهَا أَن أصُول الْفِقْه ثَابت فِي نفس الْأَمر من بَيَانِيَّة تِلْكَ الْقَوَاعِد وَإِن لم يعرفهُ الشَّخْصوَثَانِيها أَن أهل الْعرف يجْعَلُونَ أصُول الْفِقْه للمعلوم وَيَقُولُونَ هَذَا كتاب فِي أصُول الْفِقْهوَثَالِثهَا أَن الْأُصُول فِي اللُّغَة الْأَدِلَّة وَالْقَوَاعِد أَدِلَّة للفقه إِذْ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فَجعله اصْطِلَاحا نفس الْأَدِلَّة أقرب إِلَى الْمَدْلُول اللّغَوِيّ انْتهىوَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين الْعَلامَة المقبلي فِي نجاح الطَّالِب الْحق أَن يُقَال(1/27)أَن أصُول الْفِقْه وَنَحْوه نفس الْقَوَاعِد فَإِن الْعلم الْمُتَعَلّق بهَا الْحَال بقلب زيد لَيْسَ هُوَ حَقِيقَة الْأُصُول كَمَا تَقوله فِي سَائِر الْحَقَائِق فَلَيْسَ السَّيْف الْعلم بالحديد الْمَخْصُوص بل نَفسه فعلى هَذَا لَا يتَحَقَّق الْوُجُود الْخَارِجِي لهَذِهِ الْحَقَائِق المحدودة كَمَا هُوَ شَأْن سَائِر الماهيات لَكِن هَذِه لَيْسَ لَهَا جُزْء خارجي كَمَا لماهية الْفرس مثلا لِأَنَّهَا أشخاص ومسمى أصُول الْفِقْه مثلا مَجْمُوع قَوَاعِد بِمَنْزِلَة مائَة وَألف وَكَون الْأَمر للْوُجُوب وَالنَّهْي للحصر مثلا كأفراد الْمِائَة وَالْألف مثلا جُزْء لمسمى جزئي ذَلِك اللقب ومسمى اللقب الملتئم من أَجزَاء كلهَا عقلية عَقْلِي انْتهى وَهُوَ كَلَام حسن هَذَاوَأما حَده مُضَافا فِي الِاصْطِلَاح فَالْأَصْل الدَّلِيل وَالْفِقْه فِيهِ الْعلم أَو الظَّن للْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الفرعية عَن أدلتها التفصيلية وَقد اسْتُفِيدَ من الْقُيُود خُرُوج الْعلم بِغَيْر الْأَحْكَام كالذوات وَالصِّفَات وَالْأَحْكَام الَّتِي لم تُؤْخَذ من الشَّرْع بل من الْعقل كَالْعلمِ بِأَن الْعَالم حَادث أَو من الْحس كَالْعلمِ بِأَن النَّار محرقة أَو من الْوَضع والاصطلاح كَالْعلمِ بِأَن الْفَاعِل مَرْفُوع وَخرج الْعلم بِالْأَحْكَامِ النظرية الشَّرْعِيَّة اعتقادية أَو أصولية مثل الْإِيمَان وَاجِب وَالْإِجْمَاع حجَّة أصولية وَخرج بقوله عَن أدلتها التفصيلية علم الْمُقَلّد على القَوْل بِأَنَّهُ يُسمى علما وَذَلِكَ لِأَن حرف الْجَرّ مُتَعَلق بِمَحْذُوف صفة للْعلم أَي الْعلم الْحَاصِل عَن الْأَدِلَّة وَعلمه غير حَاصِل عَنْهَا فَلِذَا لَا تسمى أَقْوَال المفرعين الْمُجَرَّدَة عَن الْأَدِلَّة فقها كَمَا حقق فِي مَحَلهوَاعْلَم أَنه قد سبقت إِشَارَة إجمالية إِلَى مَوْضُوع هَذَا الْفَنّ وَهُوَ ان مَوْضُوعه الْأَدِلَّة السمعية الْكُلية وَهِي مَا عرفت الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة(1/28)النَّبَوِيَّة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس فعنها وَقع بحثهم فِي هَذَا الْفَنّ من حَيْثُ دلالتها على الْأَحْكَام إِمَّا مُطلقًا أَو من حَيْثُ تعارضها أَو استنباطها مِنْهَا وَأما غَايَته فالعلم بِأَحْكَام الله تَعَالَى وَبهَا ينَال الْفَوْز فِي الدَّاريْنِ ... وانحصرت أبوابه فِي عشره ... تَأتي على التَّرْتِيب فِي ماذكره ...انحصار أبوابه فِي ذَلِك لَيْسَ بحاصر عَقْلِي اقْتَضَاهُ بل وَقع التدوين كَذَلِك تمييزا بَين أبحاث أَقسَام الْمَوْضُوع وَالضَّمِير عَائِد إِلَى نظم الكافل لِأَن أبوابه كَذَلِك وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْعلم نَفسه لِأَن الْبَاب الأول الْمُشْتَمل على الْأَحْكَام وتوابعها لَيْسَ من مَوْضُوع الْعلم فَلَا يَصح عوده إِلَيْهِ إِلَّا بِنَوْع تَأْوِيل كالتغليب(1/29)- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة... أَولهَا أحكامنا الشَّرْعِيَّة ... تتبعها تَوَابِع مرعية ...هَذَا أول الْأَبْوَاب وَالضَّمِير لَهَا وَالْأَحْكَام جمع حكم تقدم تَفْسِيره آنِفا وإضافتها إِلَيْنَا لكوننا المأمورين بهَا وَجَمعهَا لِأَنَّهَا خَمْسَة كَمَا عرفت قَرِيبا ووصفها بالشرعية لما مر ونسبت إِلَى الشَّرْع لثبوتها بِهِ إِمَّا بنقله عَن أَصله أَو بتقريره على أَصله على حد لَو نقل بَدَلا عَن إِمْسَاكه لصَحَّ كَمَا ورد الْمَنْع عَن ذبح مَا لَا يحل أكله فَإِن الشَّرْع هُنَا قرر مَا فِي الْعقل بِخِلَاف مَا ورد بِهِ الشَّرْع مطابقا لِلْعَقْلِ مِمَّا يقْضِي الْعقل فِيهِ بقضية لَا يَصح أَن يغيرها الشَّرْع كوجوب قَضَاء الدّين ورد الْوَدِيعَة وقبح الظُّلم وَنَحْو ذَلِك فَإِن هَذَا لَا يُسمى شَرْعِيًّا وَقَوله تتبعها أَي الْأَحْكَام تَوَابِع مرعية المُرَاد مَا يتبعهَا من الصِّحَّة والبطلان بل وَمن تَقْسِيم الْوَاجِب إِلَى مُخَيّر وموسع وَنَحْوهَا فَإِن هَذِه تَوَابِع الْأَحْكَام وَالْأَصْل فِي الْبَحْث هُوَ الْأَحْكَام لذاتها وَهَذِه أَقسَام وصفات لَهَا مُلَاحظَة بالتبعية(1/30)وَاعْلَم أَن الْأَحْكَام لَهَا نِسْبَة إِلَى الْحَاكِم وَإِلَى مَا فِيهِ الحكم وَهُوَ الْفِعْل فتسمى بِالنّظرِ إِلَى الأول إِيجَابا مثلا وَتسَمى إِذا نسبت إِلَى الثَّانِي وجوبا فهما متحدان ذاتا مُخْتَلِفَانِ اعْتِبَارا وَمن هُنَا تراهم يجْعَلُونَ أَقسَام الحكم الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم تَارَة وَالْوُجُوب وَالْحُرْمَة أُخْرَى كَمَا وَقع هُنَا وَقد رسمت باعبتار صفة الْحَاكِم وَبِاعْتِبَار متعلقاتها والناظم رسمها بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي مُوَافقَة لأصلهفَقَالَوَهِي وجوب حُرْمَة وَالنَّدْبكَرَاهَة إِبَاحَة يَا ندبفِي الْقَامُوس النّدب الْخَفِيف فِي الْحَاجة الظريف النجيبوَلَا يخفى حسن الجناسوعرفوها بِالَّتِي تعيقتبهَا فَخذ رسومها كَمَا أَتَتأَي تعلّقت بهَا قَالَ فِي الأَصْل وتعرف بمتعلقاتهافَمَا اسْتحق الْفَاعِل الثَّوَاببِفِعْلِهِ وَتَركه العقابا ... فَوَاجِب وَعَكسه الْحَرَامهَذَا هُوَ تَعْرِيف الْوَاجِب وَالْحرَام كَقَوْلِه فَمَا اسْتحق مُبْتَدأ وَكلمَة مَا مَوْصُولَة وَالْجُمْلَة صلتها والعائد أغْنى عَنهُ تَعْرِيف الْفَاعِل وَأَصله فَاعله أَو مَحْذُوف أَي عَلَيْهِ وَقَوله فَوَاجِب خَبره دخلت الْفَاء لتضمن الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط وَلَك تَقْدِيره فَهُوَ وَاجِب وَالْمرَاد بالفاعل الْمُكَلف وَالثَّوَاب الْجَزَاء كَمَا فِي الْقَامُوس وَالْمرَاد بِهِ هُنَا مَا وعد الله بِهِ عباده من الْجَزَاء على فعل الْوَاجِبَات على لِسَان رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتِحْقَاق الْفَاعِل لَهُ(1/31)بوعد من لَا يخلف الميعاد بإثابته وَالْمرَاد مَا من شَأْنه أَن يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب فَيدْخل فِيهِ فرض الْكِفَايَة والمخير وَبِهَذَا الْقَيْد خرج الْحَرَام وَالْمَكْرُوه والمباح لِأَنَّهَا قد دخلت فِي قَوْله وَالْحكم فَإِنَّهُ مُقَدّر أَي فَالْحكم الْوَاجِب مَا اسْتحق إِلَى آخِره ضَرُورَة أَنه جنس للخمسة فَهُوَ مُرَاد وَلِأَن كلمة مَا فِي قَوْله مَا اسْتحق بِمَعْنى فعل أَي فعل اسْتحق فَدخلت فِيهِ وَقَوله وَتَركه العقابا هُوَ من الْعَطف على معمولي عاملين مُخْتَلفين على رَأْي الْفراء وبفعله يتَعَلَّق بالثواب وَهُوَ مصدر يتَعَلَّق بِهِ الظّرْف وَتَركه مَعْمُول الْعقَاب وتقديمه عَلَيْهِ جَائِز من بَاب {فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي} وَبِهَذَا الْقَيْد خرج الْمَنْدُوب والمباح وَبِهِمَا كَانَ التَّعْرِيف جَامعا مَانِعا إِن قلت كَانَ يَكْفِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب بِتَرْكِهِ قلت زِيَادَة قيد الثَّوَاب بِفِعْلِهِ احْتِيجَ إِلَيْهِ ليتم الِاخْتِصَار بقوله وَعَكسه الْحَرَام وَيعرف بِهِ المُرَاد وَلَو حذف مَا عرف المُرَاد بِالْعَكْسِ وَهُوَ وَجه إِيرَاده فِي الأَصْل كَذَلِك والناظم يعْتَمد عبارَة مَا نظمه فَلَا يرد أَنه كَانَ يَكْفِي أَن يُقَال الْوَاجِب مَا اسْتحق تَاركه الْعقَاب وَالْحرَام بِالْعَكْسِ على أَن الْعبارَة قد اشْتَمَلت على لطف الْمُقَابلَة بَين الْفِعْل وَالتّرْك وَالْعِقَاب وَالثَّوَاب وفيهَا من الْإِشَارَة إِلَى التَّرْغِيب والترهيب مَا يزيدها حسنا ولطفا وَلِأَنَّهُ لَا بُد من ذكر ذَلِك فِي الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه والمباح فَحسن الْإِتْيَان بِهَذَا فِي الْوَاجِب وَالْحرَام ليَكُون الْكل على منوال وَاحِد وَالْمرَاد بِالْعَكْسِ اللّغَوِيّ أَي مَا يسْتَحق الثَّوَاب بِتَرْكِهِ وَالْعِقَاب بِفِعْلِهِ فَهُوَ الْحَرَام فَيخرج بالقيد الأول الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَبِالثَّانِي الْمَكْرُوه والمباح وَالْمرَاد أَن من شَأْنه عِقَاب فَاعله كَمَا أَن من شَأْن تَارِك الْوَاجِب عِقَابه فَلَا يُنَافِيهِ جَوَاز الْعَفو فَإِن ذَلِك مُقْتَض(1/32)للعقاب مَا لم يمْنَع مَانع الْعَفو وَالتَّوْبَة والشفاعة وَاعْلَم أَنه لَا يَشْمَل الْحَد التروك عِنْد من يَجْعَلهَا أفعالا وَيَأْتِي تَحْقِيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَىفَائِدَة وَاعْلَم أَن كل فعل طلب الشَّارِع تَركه أَو ذمّ فَاعله أَو مقته أَو لَعنه أَو نفى محبته إِيَّاه أَو محبَّة فَاعله أَو نفي الرِّضَا بِهِ أَو الرِّضَا عَن فَاعله أَو شبه فَاعله بالبهائم أَو بالشياطين أَو جَاءَ لَهُ مَانِعا للهدى أَو استعاذ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مِنْهُ أَو جعله سَببا لنفي الْفَلاح أَو لعذاب عَاجل أَو آجل أَو نسبه الله تَعَالَى أَو رَسُوله إِلَى عمل الشَّيْطَان أَو تزيينه أَو لعداوة الله أَو محاربته أَو الِاسْتِهْزَاء بِهِ أَو سخريته أَو دَعَا إِلَى التَّوْبَة مِنْهُ أَو وصف فَاعله بخبث أَو بضلالة أَو بِأَنَّهُ لَيْسَ من الله فِي شَيْء أَو بِأَنَّهُ لَيْسَ من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أَنه لَا يقبل من فَاعله صرفا وَلَا عدلا أَو أخبر ان من فعله قيض الله لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين أَو جعل فعله سَببا لإزاغة قلب فَاعله أَو لصرفه عَن آيَاته وَفهم آلائه أَو يسْأَل الله تَعَالَى عَن عِلّة الْفِعْل لم فعل {تصدُّونَ عَن سَبِيل الله من آمن} {لم تلبسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ} {مَا مَنعك أَن تسْجد} فَهَذِهِ كلهَا وَنَحْوهَا تدل على الْمَنْع من الْفِعْل ودلالتها على التَّحْرِيم أظهر من دلالتها على الْكَرَاهَة وَأما نَحْو يكرههُ الله وَرَسُوله فدلالتها على التَّحْرِيم أظهر فاكثر مَا يسْتَعْمل فِي الْمحرم ... وَبعده الْمَنْدُوب يَا همام ...الْهمام كغراب العالي الهمه كَمَا فِي الْقَامُوس وَالْمَنْدُوب لُغَة الْمَدْعُو إِلَيْهِ يُقَال ندبته لكذا فَانْتدبَ وَأَصله الْمَنْدُوب إِلَيْهِ فتوسع فِيهِ بِحَذْف حرف الْجَرّ فاستتر فِيهِ الضَّمِير ثمَّ صَار إسما لهَذَا الْقسم من الْأَحْكَام ورسموه بقوله ... مَا يسْتَحق الْأجر فِيهِ إِن فعل ...(1/33)خرج بِهِ الْحَرَام وَالْمَكْرُوه والمباح وَبَقِي الْوَاجِب أخرجه بقوله ... وَلَا عِقَاب إِن يكن عَنهُ غفل ...فالمندوب مَا اسْتحق فَاعله الثَّوَاب وَلم يسْتَحق تَاركه الْعقَابوَاعْلَم أَن كل فعل عظمه الله تَعَالَى أَو رَسُوله أومدحه أومدح فَاعله لأَجله أَو فَرح بِهِ أَو أحبه أَو أحب فَاعله أَو رَضِي بِهِ أَو رَضِي عَن فَاعله أَو وَصفه بالطيب أَو الْبركَة أَو الْحسن أَو نَصبه سَببا لمحبته أَو لثواب عَاجل أَو آجل أَو نَصبه سَببا لذكره لعَبْدِهِ أَو لشكره أَو لهدايته إِيَّاه أَو لرضاه عَنهُ أَو لمغفرة ذَنبه أَو لتكفير سيئاته أولقبوله أَو لنظره إِلَيْهِ أَو لنصره أَو وَصفه بِأَنَّهُ قربَة أَو أقسم بِهِ أَو بفاعله كالقسم بخيل الْمُجَاهدين وإغارتها وَضحك الرب سُبْحَانَهُ من فَاعله أَو إعجابه بِهِ فَهُوَ دَلِيل على مشروعيته الْمُشْتَركَة بَين الْوُجُوب وَالنَّدْبوَالرَّابِع وَالْخَامِس مَا فِي قَوْله ... وَعَكسه الْمَكْرُوه والمباح ... مَا فقدا فِيهِ فَلَا جنَاح ...فالرابع الْمَكْرُوه مَا اسْتحق تَاركه الثَّوَاب وَلم يسْتَحق الْفَاعِل عَلَيْهِ الْعقَاب وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيه الْفُقَهَاء بِأَنَّهُ مَكْرُوه تَنْزِيها ويسمونه خلاف الأولى وَأما الْمَكْرُوه كَرَاهَة حظر فَإِنَّهُ دَاخل فِي قسم الْحَرَام وَلَيْسَ قسما(1/34)مُسْتقِلّا وَالْمرَاد بغفل عَنهُ تَركه عمدا فَلَا يتَوَهَّم من لفظ غفل أَنه من لم يعلم بِهِ إِذْ الغافل لَا يُكَلف بِشَيْء من الْأَحْكَام والقرينة على الْإِرَادَة الْمقَام فبالفصل الأول يخرج الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح وبالفصل الثَّانِي الْحَرَام وَالْخَامِس الْمُبَاح المرسوم بقوله مَا فقدا فِيهِ أَي فعل فقد فِيهِ الإثابة على فعله وَالْعِقَاب على تَركه وَلذَا قيل فَلَا جنَاح أَي لَا حرج على فَاعله وتاركه وَضمير فِيهِ للمباح وَالْمرَاد فقدا فِيهِ فعلا وتركاوَاعْلَم أَنَّهَا تستفاد الْإِبَاحَة من كَلَام الشَّارِع من لفظ الْإِحْلَال وَرفع الْجنَاح وَالْإِذْن وَالْعَفو وَإِن شِئْت فافعل وَإِن شِئْت فَلَا تفعل وَمن الامتنان بِمَا فِي الْأَعْيَان من الْمَنَافِع وَمَا يتَعَلَّق بهَا من الْأَفْعَال نَحْو من أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا وَنَحْوه من السُّكُوت عَن التَّحْرِيم وَمن الْإِقْرَار على الْفِعْل فِي زمن الْوَحْي وَهُوَ نَوْعَانِ إِقْرَار الرب وَإِقْرَار رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن إِقْرَار الرب حَدِيث جَابر كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل وَمن إِقْرَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول حسان لعمر كنت أنْشد وَفِيه من هُوَ خير مِنْكوَاعْلَم أَن المُرَاد من قَوْله مَا اسْتحق فَاعله الخ أَي مَا صَار حَقًا على فعله الإثابة وَصَارَ حَقًا على تَركه الْعقُوبَة وَالْحق عَلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ وَإِن كَانَ يُوَافق رَأْي الْمُعْتَزلَة لَكنا قد أَشَرنَا إِلَى تَوْجِيهه وَكَانَ الأوفى بمقام الْأَدَب أَن يُقَال الْوَاجِب مَا وعدنا بِالْإِثَابَةِ على فعله وتوعدنا بالعقاب على تَركه وَعَكسه الْحَرَام وَلَك أَن تكتفي بِمَا توعد على تَركه وَعَكسه الْحَرَامهَذَا وَقد أورد الْجلَال فِي النظام وَسَبقه إِلَيْهِ غَيره بِأَنَّهُ دور فَلَا يعرف(1/35)الِاسْتِحْقَاق إِلَّا بعد معرفَة الْوُجُوب وَلَا الْوُجُوب إِلَّا بعد معرفَة الِاسْتِحْقَاق وَأجِيب بِأَن اسْتِحْقَاق الإثابة وَالْعِقَاب يعرف بتعريف الشَّارِع إِمَّا بنصه على ذَلِك وَذَلِكَ يعرف باستقراء الْأَدِلَّة وَحِينَئِذٍ فَلَا يتَوَقَّف معرفَة الِاسْتِحْقَاق على معرفَة الْوُجُوب ثمَّ إِنَّه لَو رسم الْأَمْرَانِ بقوله فِي الأول الْوَاجِب مَا أَمر بِهِ الشَّارِع وَالْحرَام مَا نهى عَنهُ مَعَ تقريرهم أَن الأَصْل فِي الْأَمر الْوُجُوب وَفِي النَّهْي الْخطر لَكَانَ رسما صَحِيحا سالما عَمَّا أوردهُ على غَيره ... وَالْفَرْض وَالْوَاجِب قد ترادفا ... والناصر الاطروش فِيهِ خالفا ...الْخلاف بَين الْجُمْهُور والناصر وَالْحَنَفِيَّة فَذهب الْأَولونَ إِلَى ترادف اللَّفْظَيْنِ أَي يتحدان معنى كاتحاد لَيْث وَأسد وَذهب الْآخرُونَ إِلَى أَنَّهُمَا متغايران فَمَا كَانَ دَلِيله قَطْعِيا سندا وَدلَالَة سموهُ فرضا وَمَا كَانَ ظنيا سندا وَدلَالَة أَو أَحدهمَا سموهُ وَاجِبا وَقد يستعملون أَحدهمَا مَكَان الآخر وَفِي شرح الْمُخْتَصر إِن الْخلاف لَفْظِي وَقيل معنوي وَإِن تَارِك الْفَرْض يفسق بِخِلَاف تَارِك الْوَاجِب هَذَا وَأما الْحَرَام فَإِنَّهُ يرادفه الْمَحْظُور وَيُسمى مَعْصِيّة وذنبا ومزجورا عَنهُ ومتوعدا عَلَيْهِ ثمَّ أَشَارَ إِلَى تَقْسِيم الْوَاجِب إِلَى أقسامه فالقسمة الأولى هِيَ الْمشَار إِلَيْهَا بقوله ... وانقسم الْوَاجِب فِي الدرايه ...(1/36)بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة درى يدْرِي أَي علم وَيسْتَعْمل لما فِيهِ ضرب من الْحِيلَة وَهُوَ يُقَابل الرِّوَايَة عِنْد إِطْلَاقه ... إِلَى فروض الْعين والكفاية ...انقسام الْوَاجِب لَهُ جهتان الأولى بِالنّظرِ إِلَى الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلف فَإِن كَانَ الْفِعْل الْمَطْلُوب من الْمُكَلف لَا يسْقطهُ عَنهُ فعل مُكَلّف آخر فَفرض عين أَو يسْقطهُ فَفرض كِفَايَة فَالْأول كَالصَّلَاةِ وَالثَّانِي كالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَاعْلَم أَن سنة الْكِفَايَة كفرضها قَالَ فِي جمع الْجَوَامِع وَسنة الْكِفَايَة كفرضها قَالَ الزَّرْكَشِيّ هَذَا يَقْتَضِي انقسام السّنة إِلَى كِفَايَة وَعين وَالْفرق بَينهمَا أَن سنة الْكِفَايَة يكون النّظر فِيهَا إِلَى الْفِعْل من غير نظر إِلَى الْفَاعِل كتشميت الْعَاطِس وَابْتِدَاء السَّلَام وَالْأُضْحِيَّة فِي حق الْبَيْت الْوَاحِد والجهة الثَّانِيَة أفادها قَوْله ... ثمَّ إِلَى التَّعْيِين والتخيير ...وَهَذَا بِالنّظرِ إِلَى الْمَحْكُوم فِيهِ وَهُوَ الْفِعْل فَإِنَّهُ إِن كَانَ الْمَطْلُوب مِنْهُ إِيقَاعه بِعَيْنِه كالصلوات الْخمس فمعين وَإِلَّا فمخير بَين إِفْرَاده كخصال الْكَفَّارَة ثمَّ لَهُ تَقْسِيم آخر بِاعْتِبَار إِيقَاع الْفِعْل هُوَ المفاد بقوله ... وَمُطلق والغير فِي تحبير ...التحبير مصدره حبره تحبيرا إِذا حسنهفَالْوَاجِب انقسم إِلَى مُطلق وَهُوَ مَا لم يعين وقته كالنذر الْمُطلق وَقَضَاء صَوْم رَمَضَان وَإِلَى معِين وقته وَذَلِكَ كالصلوات الْخمس وَالْحج وَالصِّيَام وَقَوله ... مُؤَقّت مضيق أَو وسعا ...(1/37)بدل من الْغَيْر أَو بَيَان لَهُ أُتِي بِهِ لبَيَان المُرَاد بِالْغَيْر أَي غير الْمُطلق وَإِدْخَال آلَة التَّعْرِيف عَلَيْهِ شَائِع فِي عِبَارَات الْعلمَاء غير وَارِد فِي كَلَام الْعَرَب أَي وَالْوَاجِب الْمُؤَقت يَنْقَسِم أَيْضا إِلَى مضيق وقته وموسع فَالْأول هُوَ مَا لَا يَتَّسِع الْوَقْت الْمُقدر لَهُ شرعا إِلَّا لفعل الْوَاجِب وَذَلِكَ مثل الصّيام وَالثَّانِي وَهُوَ مَا يزِيد وقته على فعل الْوَاجِب وَذَلِكَ كالصلوات الْخمس وَهَذَا هُوَ الَّذِي أفيد بقوله مضيق اَوْ وسعا فمضيق مجرور صفة لمؤقت وَقد يعبر عَنهُ بِالْوَاجِبِ الموسع وَالْوَاجِب الْمضيق على سَبِيل الْمجَاز وَإِنَّمَا الْمضيق والموسع صفة للْوَقْت وَلما فرغ من تَقْسِيم الْوَاجِب بِتِلْكَ الاعتبارات أَخذ فِي بَيَان ترادف بعض الْأَلْفَاظ عِنْد بعض أهل الْأُصُول فَقَالَوَالْمُسْتَحب رادف التطوعاورادف الْمَنْدُوب الْمسنون ... أخص من كليهمَا يكونهَا هُنَا أَلْفَاظ حكمُوا عَلَيْهَا بالترادف فَقَالُوا الْمَنْدُوب وَالْمُسْتَحب والتطوع مترادفة معنى كل مِنْهُمَا معنى الآخر فَهِيَ مَا يسْتَحق الثَّوَاب بِفِعْلِهَا وَلَا عِقَاب فِي تَركهَا وَقَوله والمسنون مُبْتَدأ خَبره أخص من كليهمَا فَإِنَّهُم(1/38)رسموه بِمَا أَمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وواظب عَلَيْهِ فزادوا فِيهِ قيد الْمُوَاظبَة وَأَرَادُوا بِمَا أَمر بِهِ أَمر ندب فَلَا يرد الْوَاجِب فَكل مسنون مَنْدُوب وَلَا عكس وَعبر عَن ذَلِك فِي الْغَايَة بقوله مَا أَمر بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ندبا فَإِن واظب عَلَيْهِ فمسنون وَإِلَّا فمستحب وَفِي جمع الْجَوَامِع أَنه يرادف الْمَنْدُوب أَيْضا وَإِن الْكل مَعْنَاهُ الْفِعْل الْمَطْلُوب طلبا غير جازم وَنقل عَن القَاضِي حُسَيْن أَنه يَقُول فِي الْمسنون بِمثل كَلَام النَّاظِم وَأَنه أخص لأخذ الْمُوَاظبَة فِيهِ وَاعْلَم أَن التَّقْسِيم الَّذِي فِي الْوَاجِب يجْرِي فِي الْمَنْدُوب أَيْضا فَيُشبه فرض الْعين التَّوَجُّه فَإِنَّهُ مَشْرُوع فِي الصَّلَاة بِأَلْفَاظ مَخْصُوصَة وَلَا يسْقط بِفعل مُكَلّف آخر فَمن تَركهَا أَو بدلهَا فقد خَالف السّنة وَمثلهَا أَيْضا الْأَذْكَار الْمعينَة عقيب الصَّلَوَات وفيهَا ومندوب الْكِفَايَة كالسلام ابْتِدَاء من جمَاعَة والتشميت للعاطس مِنْهُم على قَول من لم ير وُجُوبه على كل من السامعين وَإِن كَانَ حَدِيث إِذا عطس أحدكُم فَحَمدَ الله كَانَ حَقًا على كل من سَمعه أَن يَقُول لَهُ يَرْحَمك الله أخرجه أَحْمد والشيخان وَأَبُو دَاوُد وَابْن حبَان يَقْتَضِي وجوب تشميت كل عاطس حَامِد على كل سامع والمعين كَسنة الْفجْر مثلا فالمطلوب إيقاعها بخصوصها والمخير كالقراءة ب {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} و {قل هُوَ الله أحد} أَو الْآيَتَيْنِ من سُورَة الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَالْمُطلق كَصَلَاة النَّافِلَة من حَيْثُ هِيَ وَالذكر من حَيْثُ هُوَ والمؤقت كصيام الْبيض وَيكون مضيقا كَهَذا الصّيام وموسعا كرواتب الفراض ... هَذَا وَمَا وَافق أَمر الشَّارِع ... فَهُوَ الصَّحِيح أول التوابع ...(1/39)تقدّمت إِشَارَة إِلَى تَوَابِع الْأَحْكَام هَذَا أَولهَا وَهُوَ تَقْسِيم للْوَاجِب بِالنّظرِ إِلَى إِيقَاعه على وقف شُرُوطه وأسبابه الْمُعْتَبرَة شرعا أَعم من أَن تكون عبَادَة أَو مُعَاملَة فانقسم بِهَذَا الِاعْتِبَار إِلَى صَحِيح وباطل الأول الصَّحِيح وَهُوَ لُغَة السَّلِيم وَاصْطِلَاحا مَا أَفَادَهُ النّظم بِأَنَّهُ الْفِعْل الَّذِي وَافق أَمر الشَّارِع أَي مَا كملت فِيهِ الشُّرُوط الَّتِي اعتبرها الشَّارِع كالصلوات بشرائطها من الطَّهَارَة وَستر الْعَوْرَة وَغَيرهمَا وَهَذَا رسمه بِاعْتِبَار الْعِبَادَة وَأما بِاعْتِبَار الْمُعَامَلَة فالصحة فِيهَا ترَتّب الْأَثر الْمَطْلُوب مِنْهَا عَلَيْهَا وَفِي جمع الْجَوَامِع أَن الصِّحَّة مُوَافقَة الْفِعْل ذِي الْوَجْهَيْنِ الشَّرْع وَقيل فِي الْعِبَادَة إِسْقَاط الْقَضَاء وَفِي الْعُقُود ترَتّب أَثَره عَلَيْهِ وَهُوَ مَا شرع العقد لَهُ كحل الِانْتِفَاع فِي البيعوَاعْلَم أَنه خص فِي الأَصْل التوابع بِمَا ذكر مَعَ أَن تَقْسِيم الْوَاجِب الَّذِي تقدم آنِفا هُوَ من صِفَات الحكم فَلَو عد من التوابع لَكَانَ صَحِيحا وَهُوَ امْر سهل فَإِنَّهُ اصْطِلَاح وَالْقسم الثَّانِي الْبَاطِل أَفَادَهُ مَعَ الْفَاسِد قَوْله ... نقيضه الْبَاطِل أما الْفَاسِد ... فَقيل قد رادفه فواحد ...الْبَاطِل لُغَة الذَّاهِب وَاصْطِلَاحا نقيض الصَّحِيح وَيجْرِي فِي الْعِبَادَات والمعاملات أَيْضا فَهُوَ فيهمَا عدم ترَتّب الْأَثر الْمَقْصُود من الْفِعْل عَلَيْهِ فَفِي الْعِبَادَة عدم مُوَافقَة أَمر الشَّارِع أَو عدم سُقُوط الْقَضَاء وَفِي الْمُعَامَلَة عدم حل الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ وَأما الْفَاسِد فَفِيهِ خلاف مِنْهُم من يَقُول إِنَّه مرادف للباطل فَمَعْنَاه مَعْنَاهُ كَمَا أَفَادَهُ قَوْله فواحد أَي فمعناهما وَاحِد وَمن لم يقل بترادفهما رسمه بقوله ... وَقَالَ فِي تَعْرِيفه من يَنْفِي ... مَا شرع الأَصْل بِدُونِ الْوَصْف ...أَي أَنه عرفه من يَنْفِي الترادف بَينه وَبَين الْبَاطِل ويجعله قسما مُسْتقِلّا بِأَنَّهُ الْمَشْرُوع بِأَصْلِهِ الْمَمْنُوع بوصفه وَهُوَ قَول من يثبت الْوَاسِطَة بَين الْبَاطِل(1/40)وَالصَّحِيح إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن يعلم أَنهم متفقون فِي الْعِبَادَات سوى الْحَج أَنه لَا وَاسِطَة فِيهَا بل إِمَّا صَحِيحَة أَو بطالة وَالْحَاصِل أَن من فسر الْفَاسِد بِعَدَمِ ارْتِفَاع وجوب الْقَضَاء كَانَ كالباطل وَمن قَالَ إِنَّه الْمَشْرُوع بِأَصْلِهِ الْمَمْنُوع بوصفه كَانَ وَاسِطَة فَيَقُول فِي الْعِبَادَات مثلا صَوْم الْعِيدَيْنِ الصَّوْم مَشْرُوع بِأَصْلِهِ وَلَكِن الْوَصْف وَهُوَ كَونه فِي ذَلِك الْيَوْم مثلا مَنعه الشَّارِع وَفِي الْمُعَامَلَات كَبيع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ إِن البيع مَشْرُوع بِأَصْلِهِ وَلَكِن الْوَصْف وَهُوَ اشْتِمَال أحد الْجَانِبَيْنِ على الزِّيَادَة مَمْنُوع فَهُوَ عِنْده خلل يُوجب ترَتّب بعض الْآثَار فَالْبيع الْفَاسِد يُوجب جَوَاز الْفَسْخ وَعدم الْملك إِلَّا بِالْقَبْضِ بإلاذن وَالْقيمَة لَا الثّمن وَأما الْبَاطِل فَلَا يَتَرَتَّب على عقد البيع عَلَيْهِ شَيْء وَجعل الْفَاسِد وَاسِطَة هومذهب الهدوية وَالْحَنَفِيَّة وَأما النَّاصِر وَالشَّافِعِيَّة فهم قَائِلُونَ بالترادف وَعدم الْوَاسِطَة وَلَهُم فِي المطولات أَمْثِلَة لَا نطول بذكرهاتَنْبِيه لم يتَعَرَّض فِي الأَصْل للإجزاء وَهُوَ عِنْدهم كالصحة فرسمه رسمها إِلَّا أَنه يخْتَص بالعبادات وَاجِبَة كَانَت أَو مَنْدُوبَة وَقيل يخْتَص بِالْوَاجِبِ ومنشأ الْخلاف وُرُوده فِي الحَدِيث النَّبَوِيّ فِي الْأَضَاحِي وَمن قَالَ إِنَّهَا سنة قَالَ تتصف بِهِ السّنة وَالْوَاجِب لحَدِيث لَا تجزىء صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَصَححهُ وَقيل لَا يخْتَص بالعبادات بل يجرى فِي الْمُعَامَلَات كرد الْوَدِيعَة فَإِنَّهُ إِذا حجر على الْمُودع مَا أودعهُ لم يجز الرَّد عَلَيْهِ بِخِلَاف إِذا لم يحْجر عَلَيْهِ ورد بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَسْلِيمهَا لمستحق التَّسْلِيم فَلَيْسَ رد الْوَدِيعَة يجْرِي على وَجْهَيْن مجز وَغير مجز(1/41)وَيُطلق الْجَائِز فِي الْمُبَاحوممكن وَالْكل فِي اصْطِلَاح ... كَذَا على الْمَشْكُوك ثمَّ مَا اسْتَوَىالْفِعْل وَالتّرْك بِهِ وَلَا سوىهَذَا فِي ذكر الْجَائِز وَمَا يُطلق عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُطلق على الْمُبَاح فكلمة فِي بِمَعْنى على مثل قَوْله تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} فالنظم قد أَفَادَ أَنه يُطلق الْجَائِز على أَرْبَعَة أَشْيَاءالأول مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ الْمُبَاح الْمُعَرّف بِمَا تقدم من رسمهالثَّانِي الْمُمكن وَهُوَ إِمَّا مَا لَا يمْتَنع شرعا أَي مَا لَا يحرم وَهُوَ شَامِل للأربعة الْأَحْكَام الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب والمباح وَالْمَكْرُوه وَأما مَا لَا يمْتَنع عقلا كَأَن يُقَال كَون جِبْرِيل فِي أَرض جَائِز أَي لَا مَانع مِنْهُ فِي الْعقل ومثلوا مَا لَا يمْتَنع شرعا كَأَن يُقَال الْأكل بالشمال جَائِز أَي لَا مَانع عَنهُ شرعا كَذَا مثلوه بِهِ وَفِيه نظرالثَّالِث أَن يُطلق على مَا اسْتَوَى فعله وَتَركه عقلا كَفعل الصَّبِي وَكَذَلِكَ شرعا كالمباحوَالرَّابِع الْمَشْكُوك فِيهِ وَهُوَ مَا تَعَارَضَت فِيهِ أَمَارَات الثُّبُوت والانتفاء أَمارَة تقضي ثُبُوته وَأُخْرَى تَقْتَضِي نَفْيه فِي الْعقل أَو الشَّرْع ومثلوه فِي الْعقل بِمن يتَوَقَّف فِي أصل الْأَشْيَاء هَل على الْحَظْر أَو الْإِبَاحَة فَإِنَّهُ يَقُول بِأَنَّهُ جَائِز الْأَمريْنِ أَي الْحَظْر وَعَدَمه لِاسْتِوَائِهِمَا عِنْد تعَارض دليليهما وَفِي الشَّرْع كمن يتَوَقَّف فِي لحم الأرنب وَوُجُوب صَلَاة الْعِيدَيْنِ لتعارض أمارتي الْأَمريْنِ فيوصف بِأَنَّهُ جَائِز بِهَذَيْنِ الاعتبارين فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة الْمعَانِي الَّتِي أفادها النّظموللجائز أَرْبَعَة معَان بِاعْتِبَار الْمَشْكُوك فِيهِ استوفاها فِي الفواصل فَلَا نطيل بذكرها لعدم مساس الْحَاجة إِلَيْهَا ثمَّ من تَوَابِع الحكم بِاعْتِبَار إِيقَاع الْفِعْل وَهُوَ يخْتَص بالعبادات مَا تضمنه قَوْلنَا(1/42).. وَمَا أَتَى فِي وقته مِنْك ابتدا ... مُقَدرا شرعا لَهُ فَهُوَ الأدا ...اعْلَم أَن الْعِبَادَة إِمَّا أَن يكون لَهَا وَقت معِين أَو لَا الثَّانِي لَا يُوصف بأَدَاء وَلَا قَضَاء وَلَا إِعَادَة كالنوافل الْمُطلقَة والأذكار الَّتِي لم توقت وَالْأول وَهُوَ مَا لَهُ وَقت معِين إِمَّا أَن يكون وقته الْمعِين مَحْدُود الطَّرفَيْنِ أَو لَا الثَّانِي يُوصف بِالْأَدَاءِ لَا غير كَالْحَجِّ وَلَا يُوصف بِالْقضَاءِ إِلَّا مجَازًا لأجل المشابهة للمقضي فِي الِاسْتِدْرَاك كَمَا قيل وَالْأول يُوصف بِالثَّلَاثَةِإِذا عرفت هَذَا فالأداء قد رسمه النَّاظِم بِمَا سمعته فَقَوله مُقَدرا حَال من وقته أَي الْفِعْل الَّذِي أَتَى مِنْك فِي وقته الْمُقدر لَهُ ابْتِدَاء هُوَ الاداء وَحمل الْأَدَاء على قَوْله مَا أَتَى صَحِيح لِأَن الْمصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول قيل وَقد صَار إِطْلَاقه عَلَيْهِ هُنَا حَقِيقَة عرفيه وَابْتِدَاء مَنْصُوب بمقدر الْمَذْكُور أَي فعل فِي وقته الْمُقدر لَهُ ابْتِدَاء فَخرج بقوله فِي وقته النَّوَافِل الْمُطلقَة وَبِقَوْلِهِ الْمُقدر لَهُ ابْتِدَاء الْقَضَاء كَصَلَاة الظّهْر مثلا فَإِن وَقتهَا الأول هُوَ الْأَدَاء وَالثَّانِي وَقت ذكرهَا إِذا نَسِيَهَا أَو نَام عَنْهَا فَإِذا أوقعهَا فِيهِ فَلَيْسَتْ بأَدَاء قلت وَلَك أَن تَقول ابْتِدَاء مَنْصُوب بأتى فَلَا تخرج عَن الْأَدَاء فَإِنَّهُ فعلهَا ابْتِدَاء عِنْد ذكرهَا فِي وَقتهَا وَقد قَالَ الشَّارِع إِنَّه لَا وَقت لَهَا إِلَّا ذَلِك فَهُوَ من قسم الْأَدَاء وَلم يفعل ثَانِيًاوَقَوله شرعا يخرج مَا إِذا عين الْمُكَلف للْقَضَاء الموسع وقتا وَكَذَا الزَّكَاة إِذا عين الإِمَام لقبضها شهرا فَهُوَ عرفي لَا شَرْعِي وعَلى هَذَا التَّقْدِير فالإعادة من قسم الْأَدَاء وَهُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْعَضُد وَتَبعهُ الْجلَال فِي شرح الْفُصُول وَهَذَا على تَقْدِير تعلق ابْتِدَاء بمقدر وَقيل إِنَّه يتَعَلَّق بأتى أَي وَمَا أَتَى مِنْك(1/43)ابْتِدَاء فَتخرج الْإِعَادَة وَقَوله فِي وقته مُقَدرا تخرج النَّوَافِل الْمُطلقَة وعَلى هَذَا بنى الشَّيْخ لطف الله فِي شرح الْفُصُول وَعَلِيهِ اعْتمد صَاحب الْغَايَة فِيهِوَاعْلَم أَن ظَاهر الرَّسْم خُرُوج صَلَاة أدْرك مِنْهَا فاعلها رَكْعَة فِي وَقتهَا ثمَّ خرج الْوَقْت وأتى بباقيها خَارِجَة وَحَدِيث الصَّحِيحَيْنِ من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة يقْضِي بِأَنَّهَا أَدَاء وَلِهَذَا عرف الْأَدَاء فِي جمع الْجَوَامِع بقوله وَالْأَدَاء فعل بعض وَقيل كل مَا دخل وقته قبل خُرُوجه وَإِذا عرفت مِمَّا ذَكرْنَاهُ آنِفا أَن هُنَاكَ ثَلَاث صِفَات للْفِعْل فقد قدمنَا رسم الأول مِنْهَا وَهُوَ الاداء ورسم الآخرين أَفَادَهُ قَوْلنَاوَمَا فعلت بعده استدراكالواجب مطلقه عراكا ... فَهُوَ القضا فِي الشَّرْع للعبادهفَهَذَا هُوَ ثَانِي الثَّلَاثَة وَهُوَ الْقَضَاء وَضمير بعده عَائِد إِلَى الْوَقْت أَي مَا فعلته بعد وَقت الاداء استدراكا إِلَى آخِره وَقيد مُطلقًا فِي قَوْله مطلقه أَي مُطلق الْوُجُوب ليُوَافق قَوْله فِي الأَصْل استدراكا لما سبق لَهُ وجوب مُطلقًا قَالَ شَارِحه وَقَوله مُطلقًا قيد للوجب أَي سَوَاء كَانَ على القَاضِي أَو على غَيره فَيدْخل فِي ذَلِك قَضَاء الْحَائِض للصَّوْم لِأَنَّهُ وَإِن لم يسْبق لَهُ وجوب عَلَيْهَا فقد سبق على غَيرهَا وَحكى ابْن الْحَاجِب أَن بعض الْأُصُولِيِّينَ فِي حَده للْقَضَاء يحذف مُطلقًا فَعَلَيهِ لَا يُسمى صَوْم الْحَائِض قَضَاء وعَلى الأول يُسمى قَضَاء(1/44)وَقد ثَبت حَدِيث عَائِشَة كُنَّا نؤمر بِقَضَاء الصَّوْم لَا الصَّلَاة وَالْمرَاد بِهِ الْأَدَاء وَهُوَ مَعْنَاهُ لُغَة وَالْخلاف لَفْظِي لِأَن حَالَة الْعذر يجب عَلَيْهَا ترك الصَّوْم وَحَالَة عَدمه يجب عَلَيْهِ الْإِتْيَان بِهِ اتِّفَاقًا وَعرفت أَنه خرج بقوله بعد الْأَدَاء والإعادة وَبِقَوْلِهِ استدراكا الصَّلَاة المؤداة خَارج الْوَقْت قَضَاء ثمَّ أَعَادَهَا بِجَمَاعَة على القَوْل بِأَنَّهَا تكون أَي الأولى نَافِلَةفَإِن قلت من مَاتَ فحج عَنهُ يكون من الْأَدَاء أَو الْقَضَاء قلت قد جعلُوا الْحَج من الْمُؤَقت وَوَقته الْعُمر فَمَا فعل بعده كَانَ قَضَاء وَأما من فسد حجه فَأتى بِهِ صَحِيحا فَلَا يُسمى قَضَاء إِلَّا مجَازًا كَمَا يُطلق عَلَيْهِ الْفُقَهَاءوَاعْلَم أَن لفظ النُّسْخَة من النّظم الأولى الَّتِي شرحها مؤلف الفواصل رَحمَه الله كَانَت بِلَفْظ السَّابِق وُجُوبه علاكا بِحَذْف قيد الْإِطْلَاق فَخرج مِنْهَا صَوْم الْحَائِض عَن أَن يُسمى قَضَاء وَهُوَ قَول بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَّا أَنا حولنا إِلَى مَا هُنَا ليُوَافق الأَصْل فَإِنَّهُ قيد بِالْإِطْلَاقِ لإدخال ذَلِك وَأما السَّبق فَإِنَّهُ وَإِن فَاتَ فِي الَّذِي عوضناه فَقَوله بعده يُغني عَن ذَلِك وَقيد استدراكا قيل لَا حَاجَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من مَفْهُوم الْقَضَاء وَإِن كَانَ عرضا لِأَن الْعرض للشَّيْء خَارج عَن ذَاتهوَالثَّالِث وَهُوَ الْإِعَادَة أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَاوَخذ هديت الرَّسْم للإعادةبِمَا فعلت ثَانِيًا وَقت الأدا ... لخلل فِيمَا أَتَى فِي الإبتداالْإِعَادَة هِيَ مَا فعل ثَانِيًا فِي وَقت الْأَدَاء لخلل فِي الْفِعْل الأول فَقَوله ثَانِيًا يخرج الْأَدَاء وَقَوله وَقت الْأَدَاء يخرج الْقَضَاء وَقَوله خلل فِي الأول أَي من فَوَات ركن أَو شَرط يخرج مَا لَيْسَ كَذَلِك كالمنفرد إِذا صلى ثَانِيَة مَعَ(1/45)الْجَمَاعَة يَعْنِي فَلَا تسمى إِعَادَة وَبَعْضهمْ رسم الْإِعَادَة بِمَا فعل ثَانِيًا فِي وقته لعذر من خلل أَو نُقْصَان فَضِيلَة وَهُوَ أَعم من الأول لشُمُوله إِعَادَة الْمُنْفَرد مَعَ الْجَمَاعَة وَلَا يخفى أَن هَذَا إِنَّمَا يتمشى على رَأْي من يَجْعَل الْفَرِيضَة هِيَ الْفِعْل الثَّانِي وعَلى صِحَة الرَّفْض شرعا وتجدد الطّلب بعده وَذَلِكَ مِمَّا لَا دَلِيل عَلَيْهِ كَمَا بَيناهُ فِي حَوَاشِي ضوء النَّهَار وَغَيره هَذَا وللحكم تَقْسِيم آخر بِاعْتِبَار وَصفه بِالرُّخْصَةِ والعزيمة أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَاوالرسم للرخصة والعزيمةمَا شرعت وَمَا اقْتضى تَحْرِيمه ... بَاقٍ لعذر فَهُوَ رسم الأولىوعكسها قرينها فِي الإملاهَذَا بَيَان الْعَزِيمَة والرخصة فالعزيمة لُغَة الْقَصْد الْمُؤَكّد وَمِنْه عزمت على فعل كَذَا والرخصة لُغَة التَّيْسِير والتسهيل وَمِنْه رخص السّعر إِذا تيَسّر وتسهل وَهَذَا تَقْسِيم للْحكم بِاعْتِبَار مشروعيته فإمَّا أَن يشرع لعذر مَعَ بَقَاء مُقْتَضى التَّحْرِيم لولاه أَو لَا الأول الرُّخْصَة وَالثَّانِي الْعَزِيمَة فرسم الرُّخْصَة قَوْله مَا شرعت فَمَا الموصولة مُبْتَدأ وَقَوله فَهُوَ رسم الأولى خَبره وَقَوله مَا شرعت أَي مَا شرع الله للمكلف فعله كَأَكْل الْميتَة أَو تَركه كَتَرْكِ الصَّوْم وَهَذَا جنس الْحَد وَقَوله وَمَا اقْتضى تَحْرِيمه بَاقٍ فصل ثَان يخرج مَا نسخ تَحْرِيمه أَي شرعت وَدَلِيل التَّحْرِيم بَاقٍ وَقَوله وَمَا اقْتضى تَحْرِيمه مَا مَوْصُولَة وَاقْتضى صلتها وفاعله ضمير للموصول وتحريمه مفعول وباق خبر الْمَوْصُول أَي مَا شرعت وَالدَّلِيل الْمُقْتَضِي لتحريمه بَاقٍ وَهَذَا الْقَيْد يخرج بِهِ مَا نسخ من الْأَحْكَام لعذر كوجوب ثبات الْوَاحِد للعشرةوَقَوله لعذر فصل أول وَالْمرَاد بِهِ أَمر طارىء فِي حق الْمُكَلف فَخرج(1/46)الحكم ابْتِدَاء وَمِنْه وجوب الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الظِّهَار عِنْد فقد الرَّقَبَة لِأَنَّهُ الْوَاجِب ابْتِدَاء على فَاقِد الرَّقَبَة كَمَا أَن الْإِعْتَاق هُوَ الْوَاجِب ابْتِدَاء على واجدها وَاعْلَم أَنه قد زَاد فِي مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب فِي الرَّسْم لفظ لَوْلَا الْعذر وحذفها فِي الأَصْل الَّذِي نظمناه وحذفه فِي جمع الجوافع أَيْضا وَوجه حذفه أَنه قد تمّ الرَّسْم من دون ذكره وَوجه ذكره مِمَّن ذكره رفع إِيهَام اجْتِمَاع الضدين فِي حَالَة وَاحِدَة وَهُوَ بَقَاء مُقْتَضى التَّحْرِيم ومشروعيته للْعُذْر وَلَا خَفَاء أَن دفع الْإِيهَام لَيْسَ من وَظِيفَة الرَّسْم هَذَاوَقد قسموا الرُّخْصَة إِلَى وَاجِبَة كَأَكْل الْميتَة للْمُضْطَر ومندوب ومباح ومكروه وبيانها وأمثلتها فِي المطولات إِلَّا أَن ظَاهر عبارَة النّظم وَالْأَصْل أَنَّهَا لَا تجْرِي إِلَّا فِي الْوَاجِب وَالْمحرم وَقد زَاد فِي الْفُصُول مَعَ بَقَاء الْمحرم أَو الْمُوجب ثمَّ لَا يخفى أَن رسم الرُّخْصَة بِمَا شرع إِلَى آخِره هُوَ الْوَاقِع فِي غَالب كتب الْأُصُول وَفِيه تسَامح لَا يخفى لِأَن الَّذِي شرع هُوَ الْفِعْل لَا الرُّخْصَة فَإِنَّهَا رفع التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة عَن نَحْو أكل الْميتَة لعذر الْجُوع وَأما الْعَزِيمَة فقد أَفَادَ رسمها بقوله(1/47)وعكسها قرينها فِي الإملافَهِيَ مَا شرعت لَا لعذر مَعَ بَقَاءمُقْتَضى التَّحْرِيم هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهر الْعَكْس وَإِلَى هُنَا انْتهى الْكَلَام فِي الحكم التكليفي وتوابعه وَلما أهمل مُصَنف الأَصْل الحكم الوضعي مَعَ عُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ زَاده النَّاظِم بقولهوهما هُنَا زِيَادَة فِي الحكمأهملها فِي أصل هَذَا النّظم ... قد قسموا الحكم إِلَى تَكْلِيفوَهُوَ الَّذِي قد مر فِي تأليف ... ثمَّ إِلَى الوضعي وَهُوَ الْمَانِعوَالشّرط والأسباب هَذَا جَامعأَي جَامع لأقسامها وَهِي ثَلَاثَة الأول الشَّرْط أَشَارَ إِلَى تَعْرِيفه بقولهفَإِن يُؤثر عَدمه فِي الْعَدَمالأول بِسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَالثَّانِي بتحريكها مَفْتُوحَةفَالشَّرْط أَو وجوده فلتعلمقَوْله فَالشَّرْط جَزَاء قَوْله فَإِن يُؤثر أَي حَقِيقَة الشَّرْط ان يُؤثر عَدمه فِي عدم الْمَشْرُوط وَلَا يلْزم من وجوده وجود الحكم ومثلوه بالحلول فِي وجوب الزَّكَاة وَقَوله أَو وجوده عطف على قَوْله عَدمه أَي وَإِن أثر وجوده وَجَوَابه مَا يَأْتِي فِي قَوْلهبِأَنَّهُ إِن أثر الْعَدَم فقدسموهُ بالمانع ثمَّ مَا ورد(1/48)فَهُوَ الثَّانِي وَهُوَ الْمَانِع ورسموه بِأَنَّهُ مَا أثر وجوده عدم الحكم وَذَلِكَ كالأبوة فِي منع الْقصاص وَقَوله ... مؤثرا وجوده الوجودا ... وَعَدَمه فِي عدم فقودا ...يُرِيد فقودا مصدر فقدت الشَّيْء فقودا نَحْو قعدت قعُودا مؤثرا حَال من فَاعل ورد أَي وَالَّذِي ورد من المعرفات وَهِي الْأَحْكَام الوضعية مؤثرا وجوده وجود الحكم عَدمه الحكم فعدمه عطف على قَوْله وجوده أَي ومؤثرا عَدمه عدم الحكم وفقودا مفعول مؤثرا الْمُقدر أَي مؤثرا فِي عدم الحكم فقوده وَقَوله ... فالسبب الْمَعْرُوف كالزوال ... لواجب الظّهْر بِلَا مقَال ...خبر لقَوْله مَا ورد فَهَذَا هُوَ ثالت الْأَحْكَام الوضعية وَهُوَ السَّبَب فَتحصل من هَذَا ان مَا أثر عَدمه عدم الحكم فَهُوَ الشَّرْط وَمَا أثر وجوده عدم الحكم فَهُوَ الْمَانِع وَمَا أثر وجوده وجودا لحكم وَعَدَمه عَدمه فهوالسبب فَهَذِهِ الثَّلَاثَة هِيَ الْأَحْكَام الوضعية وَهِي مُقَابلَة للخمسة التكليفية وَمن قَالَ بإدراجها فِيهَا فقد تكلّف وَلَا غنى لطَالب هَذَا الْفَنّ من مَعْرفَتهَا تَفْصِيلًافأولها على تَرْتِيب ذكرهَا فِي النّظم الشَّرْط وَهُوَ يُطلق على انواع المُرَاد مِنْهَا هُنَا مَا يُؤثر عَدمه فِي عدم الحكم الْمَشْرُوط ومثلوه بالحول لوُجُوب الزَّكَاة وبالطهارة فِي صِحَة الصَّلَاة وَإِن كَانَ قد نُوقِشَ فِي هَذَا الْمِثَال الآخر وَيُطلق على الشَّرْط اللّغَوِيّ وَهُوَ مَا علق بِأحد حُرُوف الشَّرْط وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي فِي بَاب التَّخْصِيص وَيُطلق على جعل الشَّيْء شرطا لشَيْء آخر كَشِرَاء الدَّابَّة بِشَرْط كَونهَا حَامِلا وَهُوَ من أبحاث علم الْفُرُوع وَالْمرَاد هُنَا الأول الَّذِي رسموه بِمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ ويعبرون عَنهُ فِي رسمه بِأَنَّهُ وصف ظَاهر منضبط يلْزم من عَدمه الْعَدَم وَلَا يلْزم من وجوده وجود وَلَا عدم لذاته واقتصرنا فِي النّظم على(1/49)الْقَيْد الَّذِي يتَحَقَّق بِهِ كَونه شرطا وَهُوَ عدم الحكم الْمَشْرُوط بِهِ لعدمه لِأَنَّهُ كَاف فِي تَمْيِيزه عَن أَخَوَيْهِ وهما السَّبَب وَالْمَانِع ولعلماء الْأُصُول فِي الشَّرْط تَفْصِيل وأمثلة فِي إيرادها تَطْوِيلوَالثَّانِي الْمَانِع الْمشَار إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مَا أثر وجوده الْعَدَم فَإِنَّهُم رسموه أَيْضا فِي الْأُصُول بقَوْلهمْ إِنَّه وصف ظَاهر منضبط يلْزم من وجوده عدم الحكم وَقد قسموه إِلَى مَانع الحكم ومانع سَبَب الحكم ومانع السَّبَب تقدم مِثَاله بالأبوة فِي مَانع الْقصاص وَمنعه هُنَا لحكمة وَهِي أَن الْأَب سَبَب لوُجُود الابْن(1/50)فَلَا يكون الابْن سَببا فِي عدم أَبِيه وَلَهُم هُنَا تَطْوِيل وَذكر أَمْثِلَة إِذا عرفت الْقَاعِدَة عرفتالثَّالِث السَّبَب وَقد رسموه أَيْضا بِأَنَّهُ وصف ظَاهر منضبط يلْزم من وجوده الْوُجُود وَمن عَدمه الْعَدَم ومثلوه بالزوال لوُجُوب صَلَاة الظّهْر كَمَا أَشَرنَا إِلَى ذَلِك كُله فَهَذَا بَيَان لما ذكره مِمَّا أهمله صَاحب الأَصْل وَفِي هَذِه الثَّلَاثَة الْأَحْكَام الوضعية تفاصيل وإيرادات فِي بَيَان الفروق بَينهَا قد أَتَى بهَا فِي الفواصل وَنقل أَقْوَال الْعلمَاء فِي ذَلِك مِمَّا لَا يَخْلُو عَن تَطْوِيل وَلَا يصفو عَن كدر فَلَا يرْوى الغليل وَفِيمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ مَا يَكْفِي أهل التَّحْصِيلفقد تحصل أَن الْأَحْكَام ثَمَانِيَة خَمْسَة تكليفية وَثَلَاثَة وضعية وتوابع الأولى الْأَدَاء والإعادة وَالْقَضَاء والرخصة والعزيمة وَالصِّحَّة والبطلان فَهَذِهِ الْمعَانِي المبحوث عَنْهَا فِيمَا سلف خَمْسَة عشر وَأما الْفَاسِد فَالْحق أَنه الْبَاطِل وَلَيْسَ قسما بِرَأْسِهِ(1/51)- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِي الْأَدِلَّةوَجَاء فِي الثَّانِي من الْأَبْوَابأَدِلَّة السّنة وَالْكتابأَي مَا دلا على حكمه أَو على دليليته فَدخل الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس كَمَا هُوَ مُبين فِيمَا سَيَأْتِي من فُصُول هَذَا الْبَاب هَذَا والأدلة جمع دَلِيل وَالدَّلِيل فِي اللُّغَة المرشد وَهُوَ الْعَلامَة الهادية وناصبها وذاكرها قَالُوا إِنَّه يُطلق على كل وَاحِد من الثَّلَاثَة قَالَ فَالله تَعَالَى دَلِيل لِأَنَّهُ ناصب الْأَدِلَّة وذاكرها فِي كِتَابه وَإِن كَانَ إِطْلَاق الدَّلِيل عَلَيْهِمَا لَا يكون إِلَّا مجَازًا لما تقرر من أَن حَقِيقَة الدَّلِيل مَا يلْزم من الْعلم بِهِ الْعلم بِشَيْء آخر وعَلى رَأْي من يشْتَرط فِي حَقِيقَة إِطْلَاق الْمُشْتَقّ وجود مَعْنَاهُ لَا يكون الدَّلِيل أَيْضا هُوَ نفس الْمَنْصُوب وَالْمَذْكُور بل الدَّلِيل هُوَ الْعلم بِوَجْه دلالتها كَمَا يَقْتَضِيهِ رسم الدّلَالَة الْمَذْكُور وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ فِي مَعْنَاهُ لُغَة لم أَجِدهُ فِي الْقَامُوس كَمَا ذَكرُوهُ وَأما مَعْنَاهُ اصْطِلَاحا فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلنَادليلنا مَا يُمكن التَّوَصُّلبِالنّظرِ الصَّحِيح فَهُوَ الْموصل ... لنا إِلَى الْعلم وبالأمارهظن وَقد يدعى بِهِ استعارهأضَاف الدَّلِيل إِلَى نَفسه وَإِلَى غَيره من الْعلمَاء إرشادا إِلَى أَن المُرَاد رسم(1/52)مَعْنَاهُ الاصطلاحي وأتى بِقَيْد الْإِمْكَان للْإِشَارَة إِلَى أَن الدَّلِيل من حَيْثُ هُوَ دَلِيل يَكْفِي فِيهِ التَّوَصُّل بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ فَلَا يخرج الدَّلِيل عَن كَونه دَلِيلا بِأَن لَا ينظر فِيهِ أصلا وَلَو اعْتبر فِيهِ وجود التَّوَصُّل لخرج من التَّعْرِيف مَا لم ينظر فِيهِ أحد أبدا وَقَوله التَّوَصُّل قَالَ الْمحلي هُوَ الْوُصُول بكلفة وَقَوله بِالنّظرِ النّظر لُغَة الِانْتِظَار وتقليب الحدقة والرؤية وَبِهَذَا الْمَعْنى يتَعَدَّى بَالَام وَبِهَذَا الْمَعْنى يتَعَدَّى بإلى واالتأمل وَالِاعْتِبَار وَبِهَذَا الْمَعْنى يتَعَدَّى بفي وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاح الْفِكر الْمَطْلُوب بِهِ علم أَو ظن والفكر انْتِقَال النَّفس بالمعاني انتقالا بِالْقَصْدِ ويفسر بِأَنَّهُ مُلَاحظَة الْمَعْقُول لتَحْصِيل الْمَجْهُول وَقد يُفَسر الْفِكر بِأَنَّهُ حَرَكَة النَّفس فِي المعقولات بانتقاله فِيهَا انتقالا قصديا تدريجيا وَالْمرَاد بِالنّظرِ مَا يتَنَاوَل النّظر فِي الدَّلِيل نَفسه وَفِي صِفَاته وأحواله فَيشْمَل الْمُقدمَات الَّتِي هِيَ بِحَيْثُ إِذا ركبت أدَّت إِلَى الْمَطْلُوب والمفرد الَّذِي من شَأْنه أَنه إِذا نظر إِلَى أَحْوَاله أوصل إِلَيْهِ كالعالم وَقَيده بِالصَّحِيحِ وَهُوَ الْمُشْتَمل على شَرَائِطه مَادَّة وَصُورَة لِأَن الْفَاسِد لَا يُمكن أَن يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب(1/53)إِذْ لَيْسَ هُوَ فِي نَفسه سَببا للتوصل وَلَا آلَة لَهُ وَمَعْرِفَة النّظر الصَّحِيح من الْفَاسِد يعرف من علم الْمِيزَان الْمُؤلف لمعْرِفَة شَرَائِط الْأَدِلَّة من حَيْثُ الْمَادَّة وَالصُّورَة وَنَحْوهمَاوَقَوله فَهُوَ الْموصل أَي أَنه لَا يُوصل إِلَى النّظر الصَّحِيح إيصالا مطردا وَالْفَاسِد وَإِن اتّفق الْوُصُول بِهِ نَادرا لَا اعْتِدَاد بِهِ وَقَوله إِلَى الْعلم قد حذف مُتَعَلّقه وَهُوَ مَطْلُوب خبري فَالْمُرَاد الْموصل إِلَى الْعلم بمطلوب خبري وَهُوَ من تَمام الرَّسْم وحذفه للْعلم بِهِ فَلَا يرد دُخُول القَوْل الشَّارِح فِي التَّعْرِيف وَبِهَذَا الْقَيْد أخرجه فِي الْفُصُولوَاعْلَم أَن هَذَا التَّعْرِيف جَار على اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين فِي أَنه لَا بُد فِي الدَّلِيل من إفادته الْعلم فَيخرج مَا يُفِيد الظَّن فَلَا يُسمى دَلِيلا عِنْدهم وَيُسمى أَمارَة وَقد أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْله بالأمارة أَي والتوصل بالأمارة يُفِيد الظَّن لَا الْعلم لُزُوما عاديا لَا عقليا كَمَا إِذا أغيم الْهوى بالغيم الرطب فَإِنَّهُ يحصل ظن حُدُوث الْمَطَر وَقد يتَخَلَّف وَلَو كَانَ عقليا لما تخلف هَذَا كَلَام الْجُمْهُور وَقد اخْتلف فِيهِ على قَوْلَيْنِ الأول مَا سمعته من عدم اللُّزُوم الثَّانِي أَنه لَازم وَهُوَ قَول الملاحمية قَالَ فِي نظام الْفُصُول هُوَ الْحق لِأَن الأمارة إِنَّمَا سميت أَمارَة بدلالتها على مدلولها ظنا فَمَا لم تدل على مدلولها رَأْسا لَا تسمى أَمارَة وَحَاصِله أَن ظن الْمَطَر فِي الْمِثَال الْمَذْكُور ملازم لظن رُطُوبَة الْغَيْم بِحَيْثُ(1/54)لَا يَنْفَكّ أَحدهمَا عَن الآخر كَمَا لَا يَنْفَكّ الْعلم الْحَاصِل عَن الدَّلِيل عَن الْعلم بِوَجْه دلَالَة الدَّلِيل فَإِذا زَالَ ظن الْمَطَر كشف زَوَاله عَن زَوَال ظن الرُّطُوبَة فَإِنَّهُ هُوَ الأمارة لَا نفس الْغَيْم فَإِنَّهُ مشَاهد لَا مظنون وَلَا نفس الرُّطُوبَة فَإِنَّهَا فِي حيّز المجهولات لعدم تحققها إِلَّا بتحقق الْمَطَر نعم بَين الْعلم وَالظَّن فرق فَإِن الْعلم لَا يَنْفَكّ عَن مُتَعَلّقه بِخِلَاف الظَّن انْتهى بتلخيص وَخلاف الملاحمية لم يذكرهُ ابْن الْحَاجِب وَلَا شرَّاح كَلَامه بل أطبقوا على القَوْل الأول وَقَالَ الْعَضُد فِي تَعْلِيله إِنَّه لَيْسَ بَين الظَّن وَبَين شَيْء علاقَة لانتفائه مَعَ بَقَاء سَببه قَالَ عَلَيْهِ المقبلي فِي نجاح الطَّالِب وَلَا يسع عَقْلِي ذَلِك فَإِنَّهُ إِذا كَانَ الْغَيْم الرطب والبرق والرعد والوابل الَّذِي بَيْنك وَبَينه مثلا مائَة ذِرَاع متزاحفا إِلَيْك بِسُرْعَة يحصل مَعَك الظَّن قطعا وَرُبمَا انْكَشَفَ عدم وُصُول الْمَطَر إِلَى حيزك ثمَّ قَالَ وعَلى الْجُمْلَة فَكل صُورَة حصل عَنْهَا الظَّن فَإِنَّهُ يحصل عِنْد مساويها وكل عَاقل رَاجع نَفسه لَا يُنكر ذَلِك وَالَّذِي أَظُنهُ أَن مُوجب تطبيقهم بِسَبَب انْتِقَال ذهني من أَمارَة الظَّن إِلَى الظَّن وَمَعَ هَذَا فَهُوَ بعيد على الْجُمْهُور وتحقيقه أَن الدَّلِيل يلْزم عَنهُ الْعلم وَالْعلم يلْزمه مُطَابقَة الْمَعْلُوم وَلَا يجوز عدم الْمُطَابقَة إِذْ حَقِيقَته ذَلِك والأمارة يلْزم عَنْهَا الظَّن كلزوم الْعلم سَوَاء وهما عاديان لَا يفترقان لَكِن لَيْسَ من لَازم الظَّن الْمُطَابقَة وَلِهَذَا قد يحصل الظَّن وَلَا يحصل المظنون وَلَا يجوز حُصُول الْعلم وَلَا يحصل الْمَعْلُوم وَهَذَا الِافْتِرَاق غير ذَلِك الِاتِّفَاق وَكَأَنَّهُ اتّفق للنظار التباس أحد الْأَمريْنِ بِالْآخرِ وَقد بحثت عَن هَذَا جهدي فِي كَلَام الرَّازِيّ وَأَبُو الْحُسَيْن وَغَيرهمَا(1/55)قلت وَكَأَنَّهُ مَا عرف خلاف الملاحمية وَقد وَافقه كَلَام النظام وَالْحق مَعَهُمَا وَهَذَا مِمَّا تَركه الأول للْآخر وَالْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء قَوْله وَقد يدعى بِهِ اسْتِعَارَة أَي أَنه قد يُسمى أَي الظَّن علما فَإِنَّهُ قد يُطلق لُغَة على الْيَقِين نَحْو الَّذِي يظنون أَنهم ملاقو رَبهم وَعَن الْخَلِيل بن أَحْمد أَنه قَالَ الظَّن شكّ ويقين وَظَاهر كَلَامه أَنه مُشْتَرك فَقَوله اسْتِعَارَة لَيْسَ المُرَاد الِاسْتِعَارَة الاصطلاحية بل المُرَاد أَنه لُغَة يكون بِأحد معنييه بِمَعْنى الْعلم ثمَّ لما ذكر الْعلم بِالدَّلِيلِ أَخذ فِي ذكر حَقِيقَته فَقَالَوَالْعلم معنى يَقْتَضِي السكونالنَفس من قَامَ بِهِ يَقِينا ... بِأَن مَا يُعلمهُ كَمَا اعْتقداعْلَم أَن كلامنا هُنَا فِي الْعلم بِالْمَعْنَى الْأَخَص الَّذِي لَا يَشْمَل الظَّن لِأَنَّهُ قسيمه كَمَا عرفت هُنَا وتعرفه مِمَّا يَأْتِي فِي تَعْرِيف الظَّن وَإِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَنه قد اخْتلف الْعلمَاء هَل يحد الْعلم أَو لَا فَقيل يحد وَقيل لَا يحد لتعسر معرفَة جنسه وفصله وَقيل بل لجلائه ووضوحه فَهُوَ ضَرُورِيّ وعَلى القَوْل الأول فَلهُ تعريفات كَثِيرَة قد أودعت شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب وَغَيره وَقد أَشَرنَا إِلَى رسمه بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الأَصْل فَقَوله معنى جنس الْحَد شَامِل لجَمِيع أَنْوَاع التصورات والتصديقات وَقَوله يَقْتَضِي السكونا لنَفس من قَامَ بِهِ فصل يخرج الظَّن وَالشَّكّ وَالوهم والتبخيت والتقيلد وَقَوله بِأَن مَا يُعلمهُ كَمَا اعْتقد أَي لَا يُمكن تغيره وَلَا يحْتَمل النقيض بِوَجْه من الْوُجُوه فصل ثَان يخرج بِهِ الْجَهْل الْمركب إِذْ هُوَ معرض للزوال لاحْتِمَال أَن يعرف صَاحبه حَقِيقَة الْأَمر فَانْدفع(1/56)مَا قيل من أَنه لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الْقَيْد وَلَا يحْتَرز بِهِ عَن شَيْء بل الْحَاجة إِلَيْهِ ضَرُورِيَّة فَإِنَّهُ لَا يخرج الْجَهْل الْمركب إِلَّا بِهِ فَإِنَّهُ يَشْمَلهُ قَوْله معنى يَقْتَضِي سُكُون النَّفسفَإِن قلت علم الله غير دَاخل فِي الْحَد فَإِن سُكُون النَّفس يخْتَص بِعلم الْإِنْسَان قلت لَا ضير فِي خُرُوجه لِأَن الرَّسْم للْعلم الكاسب والمكتسب وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ علم الْمَخْلُوق من الْملك وَالْجِنّ وَالْإِنْس بِخِلَاف الْخَالِق فَإِنَّهُ لذاته لَا لسَبَب من الْأَسْبَاب وَعلم الله تَعَالَى قديم لَا يُوصف بضرورة وَلَا كسب ثمَّ إِن التَّعْرِيف إِنَّمَا يُرَاد بِهِ تَعْمِيم إِفْرَاد مَا يحْتَاج إِلَى مَعْرفَته بِحَسب الْحَاجة وَلَا ضَرُورَة ملحة إِلَى دُخُول علمه تَعَالَى فِي الرَّسْم لَا يُقَال الرَّسْم دوري لِأَنَّهُ أَخذ الْعلم فِي رسم نَفسه لِأَنَّهُ يُقَال الْمَأْخُوذ فِي التَّعْرِيف هُوَ الْمَعْلُوم والمحدود الْعلم وَهَذَا كَاف فِي الْمُغَايرَة فِي الْجُمْلَة وَلَقَد تعدّدت الْعبارَات فِي رسمه وَمَا خلا شَيْء عَن مقَالثمَّ إِن يَنْقَسِم إِلَى ضَرُورِيّ وكسبي وكل مِنْهُمَا لَهُ حَقِيقَة تخصه فَأَشَارَ إِلَى ذَلِك قَوْلنَاوَهُوَ ضَرُورِيّ أَتَى بِغَيْر كدخِلَافه الكسبي ثمَّ الأول ... ماليس للتكشيك فِيهِ مدْخلهَذَا رسم الضَّرُورِيّ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِغَيْر كد أَي بِلَا طلب واكتساب كعلم أَحَدنَا بِنَفسِهِوَأما البديهي فَقَالَ فِي المواقف وَشَرحه البديهي إِنَّمَا يُثبتهُ مُجَرّد الْعقل أَي يُثبتهُ بِمُجَرَّد التفاته إِلَيْهِ انْتهى من غير استعانة بحس أَو غَيره تصورا كَانَ أَو تَصْدِيقًا فَهُوَ أخص من الضَّرُورِيّ وَقد يُطلق مرادفا لَهُ والكسبي هُوَ الْحَاصِل بِالْكَسْبِ وَهُوَ مُبَاشرَة الْأَسْبَاب بِالِاخْتِيَارِ كصرف(1/57)الْعقل وَالنَّظَر فِي الْمُقدمَات والاستدلالات والإصغاء وتقليب الحدقة وَنَحْو ذَلِك فِي الحسياتوَفِي النسفية وَشَرحهَا أَن أَسبَاب الْعلم ثَلَاثَة الْحَواس الْخمس السليمة وَالْخَبَر الصَّادِق وَالْعقل وَقَالَ السعد لَا تَنْحَصِر فِي الثَّلَاثَة بل هَاهُنَا أَشْيَاء أخر مثل الوجدان والحدس والتجربة وَنظر الْعقل بِمَعْنى تَرْتِيب المبادىء والمقدمات والضروري يُقَال تَارَة فِي مُقَابلَة الْكسْب ويفسر بِمَا لَا يكن تَحْصِيله مَقْدُورًا للمخلوق وَتارَة فِي مُقَابلَة الاستدلالي ويفسر بِمَا يحصل بِدُونِ فكر وَنظر فِي دَلِيله وَمن هُنَا جعل بَعضهم الْعلم الْحَاصِل بالحواس اكتسابيا أَي حَاصِلا بِمُبَاشَرَة الْأَسْبَاب بِالِاخْتِيَارِ وَبَعْضهمْ جعله ضَرُورِيًّا أَي حَاصِلا بِدُونِ اسْتِدْلَال نَص عَلَيْهِ السعد فِي شرح العقائدوَاعْلَم أَن انقسام الْعلم إِلَيْهِمَا لَا يحْتَاج إِلَى الِاسْتِدْلَال بل يعرف بالوجدان فكم بَين الْعلم بِأَن الشَّمْس مشرقة وَالنَّار محرقة وَبَين الْعلم بِأَن الْعَالم حَادث فَالْأول ضَرُورِيّ وَالثَّانِي كسبي نَظَرِي وَقَوله مَا لَيْسَ للتشكيك فِيهِ مدْخل خبر عَن قَوْله ثمَّ الأول أَو عَن مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالْكل خبر عَن الأول فالضروري مَا لَا يقبل التشكيك فَإِن قيل النظري بعد النّظر الصَّحِيح لَا يقبل أَيْضا التشكيك كعلمنا بِأَن الْعَالم حَادث فَإِنَّهُ لَا يقبل التشكيك بِأَنَّهُ غير حَادث قطّ فَمَا الْفرق أُجِيب بِأَن الضَّرُورِيّ لَا يقبل التشكيك الْبَتَّةَ بِخِلَاف الكسبي فَإِنَّهُ يدْخل عَلَيْهِ التشكيك فِي الْجُمْلَة وينفيه تَصْحِيح النّظر وتجديده وَحين فرغ من تَعْرِيف الْعلم أَخذ فِي تَعْرِيف الظَّن بقوله ... وَالظَّن تَجْوِيز يكون راجحا ...(1/58)أَي إذعان نفس المجوز بِوُقُوع أحد الْأَمريْنِ بِعَيْنِه دون الآخر سَوَاء كَانَ الْحَال كَذَلِك فِي الْوَاقِع أَو لَا وَالْمرَاد بالأمرين طرفا الْمُمكن كوجود زيد وَعَدَمه إِذْ كل من الْوَاجِب والممتنع لَا يتَصَوَّر فِيهِ التجويز الْمَذْكُور ... وَالوهم مَرْجُوح فَخذه وَاضحا ...الْوَهم تَجْوِيز مَرْجُوح فَهُوَ الطّرف الْمُقَابل للظن الَّذِي أذعنت النَّفس لتجويز وُقُوعه وَفِي قَوْله فَخذه وَاضحا لطف لَا يخفى ... والاستوا شكّ والاعتقاد ...أَي اسْتِوَاء طرفِي الْمُمكن وَالْمرَاد إذعان النَّفس بِإِمْكَان وُقُوع كل من الْأَمريْنِ بَدَلا عَن الآخر لَا مزية لأَحَدهمَا عَن الآخر تَقْتَضِي رُجْحَان وُقُوعه دون الآخر عِنْد المجوز هُوَ الشَّك وَقد يُطلق لُغَة على الظَّن وَقَوله والاعتقاد مُبْتَدأ خَبره قَوْله ... جزمك بالشَّيْء كَمَا أفادوا ...فَخرج من قَوْله جزمك الظَّن وَالوهم إِذْ لَا جزم فيهمَا وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن الِاعْتِقَاد قسم ثَالِث مُقَابل للْعلم وللظن وَقد يُطلق على مَا يشملهما مَعَ غَيرهمَا فَهُوَ كَالْعلمِ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمّ وَقد يُطلق على الْعلم بِالْمَعْنَى الْأَخَص وَقَوله ... لَا تسكن النَّفس بِهِ فَإِن غَدا ...جملَة لَا تسكن النَّفس صفة لموصوف مَحْذُوف أَي جزمك بالشَّيْء جزما لَا تسكن النَّفس بِهِ وَجُمْلَة كَمَا أفادوا جملَة اعتراضية جِيءَ بهَا لإِصْلَاح النّظم وفيهَا إِشَارَة إِلَى أَن فِي كَلَامهم شَيْئا لِأَن أَخذ عدم سُكُون النَّفس خلاف الْمَطْلُوب إِذْ يرد عَلَيْهِ بِأَن الْجَزْم بالشَّيْء يُنَافِي عدم سُكُون النَّفس فَلَا يُمكن الْجَزْم مَعَ عدم سكونها وَقد يُجَاب بِأَن المُرَاد الْجَزْم هُنَا فِي الْجُمْلَة بِمَعْنى أَن طرفِي الْأَمر المعتقد مِمَّا يجوز فِي نفس الْأَمر أَن يكون على خلاف مَا اعْتقد وَلَا يمْتَنع حِينَئِذٍ أَن يَنْتَفِي سُكُون النَّفس أَو يكون فِي نفس الْأَمر كَمَا أعتقده وَلَكِن(1/59)لَا يمْتَنع أَن يَنْتَفِي ذَلِك الْجَزْم والاعتقاد مَعَه بانتقاله إِلَى خلاف مَا كَانَ عَلَيْهِ كَمَا يتَّفق فِي كثير من الاعتقادات فَكَأَنَّهُ قيل الِاعْتِقَاد هُوَ الْجَزْم الَّذِي يقبل التشكيك فِي الْجُمْلَة أَشَارَ إِلَيْهِ السعد فِي حَوَاشِي شرح الْعَضُدثمَّ إِنَّه يَنْقَسِم الِاعْتِقَاد إِلَى صَحِيح وفاسد كَمَا أَفَادَهُ قَوْلنَا ... مطابقا فَهُوَ الصَّحِيح أَو عدا ...ذَلِك هُوَ فَاسد وَجَهل فَالصَّحِيح من الِاعْتِقَاد مَا طابق الْوَاقِع وَالْفَاسِد بِخِلَافِهِ فَالْأول كاعتقاد الْمُقَلّد بمشروعية رفع الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام فِي الصَّلَاة مثلا وَالثَّانِي كاعتقاد الْمَلَاحِدَة أَن الْعَالم قديم فَهُوَ اعْتِقَاد فَاسد وَيُقَال لَهُ جهل مركب أَيْضا إِذْ هُوَ جهل لما فِي الْوَاقِع وَجَهل بِكَوْنِهِ جَاهِلاوَاعْلَم أَن مطابقته للْوَاقِع قد تكون مَعْلُومَة بِالدَّلِيلِ لنا كاعتقاد حُدُوث الْعَالم لقِيَام الْأَدِلَّة عَلَيْهِ الَّتِي يُمكن مَعهَا معرفَة مُطَابقَة الِاعْتِقَاد للْوَاقِع وَمثل مَسْأَلَة رفع الْيَدَيْنِ فِيمَا مثل وَقد لَا يعلم بالأدلة وَلَا ضير فِي ذَلِك لِأَن حَقِيقَة الِاعْتِقَاد الصَّحِيح مطابقته للْوَاقِع لَا الِاطِّلَاع عَلَيْهَا كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْمُجْتَهد الْمُصِيب للحق الْمَأْجُور أَجْرَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يعرف إِصَابَته للحق إِلَّا يَوْم الْجَزَاء أَو بِخَبَر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد فقد الْوَحْي وَإِذا عرفت هَذَا فَلَا يرد الترديد الَّذِي أوردهُ الْجلَال فِي شرح الْفُصُول من أَنه إِن أُرِيد الْوَاقِع فِي نفس الْأَمر فَكيف السَّبِيل إِلَى ذَلِك وَلَا يتم إِلَّا فِي مَا طَرِيقه التَّوَاتُر أَو كَانَ ضَرُورِيًّا وَإِن أُرِيد مَا هُوَ حَاصِل عِنْد المعتقد فَكَذَلِك الْفَاسِدوَلَا يخفى أَن المعتقد لَيْسَ عِنْده مُطَابقَة وَاقع وَلَا عدمهَا فَكيف يَجعله قسيما لما طابق فِي نفس الْأَمر فالتحقيق أَنه لَيْسَ المُرَاد إِلَّا مُطَابقَة مَا فِي نفس الْأَمر وَلَا يلْزم الِاطِّلَاع عَلَيْهَا فِي المغيبات وَلَا فِي غَيرهَا فَمن اعْتقد أَن زيدا فِي الدَّار لأمارة دلّت على ذَلِك وسكنت إِلَيْهِ نَفسه وانكشف أَنه فِيهَا فاعتقاده صَحِيح وَإِن لم يكن فِيهَا فَهُوَ فَاسد(1/60)وَاعْلَم أَنه قد تحصل من قَوْله وَالْعلم معنى يَقْتَضِي السكونا إِلَى هُنَا تَعْرِيف الْأَقْسَام كلهَا فالعلم هُوَ الْمَعْنى الَّذِي اقْتضى سُكُون النَّفس بِمَا عَلمته وَهُوَ الَّذِي يعبرون عَنهُ بانه التَّصْدِيق الْجَازِم المطابق مَعَ سُكُون النَّفس والاعتقاد الصَّحِيح هُوَ التَّصْدِيق الْجَازِم المطابق مَعَ عدم سكونها والاعتقاد الْفَاسِد هُوَ التَّصْدِيق الْجَازِم غير المطابق وَالظَّن هُوَ الْإِدْرَاك الرَّاجِح غير الْجَازِم وَالوهم هُوَ الْإِدْرَاك غير الْجَازِم الْمَرْجُوح وَالشَّكّ هُوَ الْإِدْرَاك غير الْجَازِم المستوي الطَّرفَيْنِ وَبَقِي من الْأَقْسَام الْمشَار إِلَيْهَا فِي النّظم الْجَهْل وَهُوَ قِسْمَانِ مركب وبسيط فَأَشَارَ إِلَى الأول قَوْلنَا ... مركب جَاءَ بِهَذَا النَّقْل ...صفة لقَوْله جهل فالجهل الْمركب هُوَ إِدْرَاك الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِع وَإِنَّمَا سمي مركبا لِأَنَّهُ جهل الْمدْرك مَا فِي الْوَاقِع فَهَذَا جهل أول وَجَهل أَنه جَاهِل فَهَذَا جهل ثَان فَكَانَ مركبا وَهُوَ الِاعْتِقَاد الْفَاسِد ومثاله الْمِثَال الْمُتَقَدّم وَسَوَاء كَانَ هَذَا الْإِدْرَاك مُسْتَندا إِلَى شُبْهَة أَو تَقْلِيد قَالَ الْمُحَقِّقُونَ إِن هَذَا الْجَهْل يخْتَص بالتصديقات وَلَا يجْرِي فِي التصورات بِنَاء على مَا هُوَ عِنْدهم من الْحق من أَن التصورات لَا تحْتَمل عدم الْمُطَابقَة بِخِلَاف التصديقات قَالَ فِي شرح المواقف لَا يُوصف التَّصَوُّر بِعَدَمِ الْمُطَابقَة أصلا فَإنَّا إِذا رَأينَا من بعيد شبحا هُوَ حجر مثلا وَحصل مِنْهُ فِي أذهاننا صُورَة إِنْسَان فَتلك الصُّورَة صُورَة إِنْسَان وَعلم تصوري لَهُ وَالْخَطَأ إِنَّمَا هُوَ فِي حكم الْعقل بِأَن هَذِه الصُّورَة للشبح المرئي إِنْسَان فالتصورات كلهَا مُطَابقَة لَهُ مَوْجُودا كَانَ أَو مَعْدُوما أَو مُمْتَنعا وَعدم الْمُطَابقَة فِي أَحْكَام الْعقل الْمُقَارن لتِلْك التصوراتفَهَذَا هُوَ الْقسم الأول من قسمي الْجَهْل وَالثَّانِي مِنْهُ مَا فِي قَوْلنَا ... والفقد للْعلم يُسمى جهلا ... وَهُوَ الْبَسِيط فَاتبع مَا يملا ...(1/61)والفقد هُوَ الْعَدَم فَقده يفقده فقدا وفقدان وفقودا عَدمه قَالَه فِي الْقَامُوس فَالْمُرَاد عدم الْعلم بالشَّيْء عَمَّن من شَأْنه أَن يكون عَالما فَخرج الجماد والبهيمة وَلَا يتصفان بِالْجَهْلِ وَفِي جمع الْجَوَامِع أَنه انْتِفَاء الْعلم بِالْمَقْصُودِ قَالَ فَخرج الجماد والبهيمة لِأَن انْتِفَاء الْعلم إِنَّمَا يُقَال فِيمَن من شَأْنه الْعلم وَخرج بقوله بِالْمَقْصُودِ مَا لَا يقْصد كأسفل الأَرْض وَمَا فِيهِ فَلَا يُسمى انْتِفَاء الْعلم بِهِ جهلا وَدخل فِي عدم الْعلم بالشَّيْء السَّهْو والغفلة والذهول قَالَ الْآمِدِيّ الذهول والغفلة وَالنِّسْيَان عِبَارَات مُخْتَلفَة لَكِن يقرب أَن تكون مَعَانِيهَا متحدة وَكلهَا مضادة للْعلم بِمَعْنى أَنه يَسْتَحِيل اجتماعها مَعَهوَفِي جمع الْجَوَامِع وَشَرحه السَّهْو الذهول أَي الْغَفْلَة عَن الْمَعْلُوم الْحَاصِل فينبهه لَهُ أدنى تَنْبِيه بِخِلَاف النسْيَان فَهُوَ زَوَال الْمَعْلُوم فيستأنف تَحْصِيلهفصل حوى الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّةوَهِي أصُول مَا أَتَت فرعيةبعد تَعْرِيف الدَّلِيل وَمَا تفرع عَنهُ من الْعلم وأقسامه أَخذ فِي ذكر الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَهِي الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة النَّبَوِيَّة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس فَهَذِهِ أصُول الْمسَائِل الفرعيةوَوجه الْحصْر فِي الْأَرْبَعَة أَن الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون صادرا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لَا وَالْأول إِمَّا أَن يكون قولا فَقَط مَعَ قصد الإعجاز فَهُوَ الْكتاب أَو لَا يكون كَذَلِك يَعْنِي بل أَعم من القَوْل مَعَ عدم قصد الإعجاز فَالسنة وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون صادرا عَن جمَاعَة معصومة فَهُوَ الْإِجْمَاع أَو لَا فَالْقِيَاس وَلم يَجْعَل الِاسْتِدْلَال قسما مُسْتقِلّا لكَونه عَائِدًا إِلَى الْأَرْبَعَة كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقه وَلما كَانَ الْكتاب أصل الْأَدِلَّة قدم الْبَحْث فِيهِ فَقَالَأَولهَا الْكتاب فَهُوَ الْمنزلعلى الَّذِي أَوْصَافه لَا تجْهَل ... مُحَمَّدًا قصدا لإعجاز الْبشربِسُورَة مِنْهُ كأقصر السُّور(1/62)الْكتاب لُغَة اسْم الْمَكْتُوب غلب فِي عرف الشَّرْع على الْقُرْآن كَمَا غلب فِي عرف الْعَرَبيَّة على كتاب سِيبَوَيْهٍ فَهُوَ علم بالغلبة للمجموع الشخصي الْمُؤلف من سُورَة الْفَاتِحَة إِلَى سُورَة النَّاس إِلَّا أَنه لَا يخفى أَنه لَا بحث للأصولي عَنهُ من هَذِه الْجِهَة بل بَحثه عَنهُ من حَيْثُ إِنَّه دَلِيل على الحكم وَذَلِكَ إِفْرَاد آيَاته بل جمله الصَّادِق عَلَيْهَا بعض آيَة فَالْمُرَاد مِنْهُ عِنْد الأصولي الْمَفْهُوم الْكُلِّي الصَّادِق على الْمَجْمُوع وعَلى أَي بعض مِنْهُ وتعريف النَّاظِم هُنَا صَادِق على هَذَا الْمَعْنى كَمَا أَنه صَادِق على الْمَعْنى العلميوَقَوله وَهُوَ الْمنزل أَي الْكَلَام الْمنزل فَالْكَلَام جنس الرَّسْم وَقَوله الْمنزل فصل يخرج مَا لم ينزل من اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَقَوله على الَّذِي أَوْصَافه لَا تجْهَل فصل يخرج مَا أنزل على غير مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْكتب السماوية وَقَوله لإعجاز الْبشر قيد تخرج بِهِ الْأَحَادِيث القدسية وَغَيرهَا من الْوَحْي وَقَوله الْبشر لَيْسَ لإِخْرَاج غَيرهم كالجن مثلا بل لِأَن الْخطاب ظَاهر فِي أَن طلب التحدي وَقع لَهُم غَالِبا وَإِن وَقع للْجَمِيع أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ} وَقَوله بِسُورَة من تَمام الْفَصْل الثَّالِث بتحقيق المُرَاد من التَّعْرِيف ولبيان الْقدر الَّذِي يكون بِهِ الإعجاز فَإِنَّهُ لَو أطلق لتوهم أَن الإعجاز بكله وَمرَاده بقوله بِسُورَة أَي بِقدر سُورَة من كَلَامهم لَا أَنَّهَا نَفسهَا فَإِنَّهُ لَا يعجز عَن الْإِتْيَان بهَا ووضوح المُرَاد كفى عَن بَيَانه كَمَا أَن وضوحه فِي قَوْله مِنْهُ أَي من مثله لَا مِنْهُ كفى وضوحه عَن بَيَانه وَقد اتّفقت كلمة الْأُصُولِيِّينَ على هَذَا الرَّسْم وَقد أَفَادَ تميز الْقُرْآن عَن غَيره وَهُوَ المُرَاد من الرسوموَقد أوردت عَلَيْهِ أسئلة وأجوبة اشْتَمَل عَلَيْهَا الفواصل لَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بهَا وَمِمَّا أورد وَلم يذكرهُ فِيهَا أَن تَعْلِيل الْإِنْزَال بالإعجاز لم يثبت فِي كتاب وَلَا سنة وَأَنه وَإِن وَقع التَّعْجِيز بِمثلِهِ فَلذَلِك آيَة من آيَاته لَا عِلّة لتنزيله(1/63)قلت جَوَابه أَنه قد طلب تَعَالَى من عباده المعاندين أَن يَأْتُوا بِسُورَة من مثله وبعشر سور من مثله فَيصح منا أَن نعلل إنزاله بِأَنَّهُ إِنْزَال لإعجازهم وَإِن لم يات التَّعْلِيل لإنزاله بذلك فَإِنَّهُ صَالح للعلية فِي نفس الْأَمر لوُقُوع الْعَجز عَنهُ وَلَا يُنَافِي ذَلِك أَنه تَعَالَى علل إنزاله بقوله {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك ليدبروا آيَاته وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب} فَإِنَّهَا تعدّدت الْعِلَل للإنزال وَلَا مَانع من التَّعْلِيل نصا أَو استنباطا وَقد علله تَعَالَى بِأَنَّهُ أنزلهُ تبيانا لكل شَيْء وَمِنْه بَيَان عجزهم عَن معارضته إِذا عرفت هَذَا الرَّسْم وَأَنه لمفهومه الْكُلِّي الصَّادِق على الْمَجْمُوع وعَلى أَي بعض مِنْهُ فقد قَالَ السعد فِي التَّلْوِيح ثمَّ كل من الْكتاب وَالْقُرْآن يُطلق عِنْد الْأُصُولِيِّينَ على الْمَجْمُوع وعَلى كل جُزْء مِنْهُ لأَنهم إِنَّمَا يبحثون عَنهُ من حَيْثُ إِنَّه دَلِيل على الحكم وَذَاكَ آيَة لَا مَجْمُوع الْقُرْآن فاحتاجوا إِلَى تَحْصِيل صِفَات مُشْتَركَة بَين الْكل والجزء مختصه بهما كَكَوْنِهِ معجزا منزلا على الرَّسُول مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِف مَنْقُولًا بالتواتر فَاعْتبر بَعضهم فِي تَفْسِيره جَمِيع الصِّفَات لزِيَادَة التَّوْضِيح وَبَعْضهمْ التَّنْزِيل والإعجاز لِأَن الكتبة وَالنَّقْل ليسَا من لَوَازِم الْقُرْآن لتحَقّق الْقُرْآن بدونهما فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَعْضهمْ اعْتبر الْإِنْزَال والكتبة وَالنَّقْل لِأَن الْمَقْصُود تَعْرِيف الْقُرْآن لمن لم يُشَاهد الْوَحْي وَلم يدْرك زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم إِنَّمَا يعرفونه بِالنَّقْلِ والكتبة فِي الْمَصَاحِف لَا يَنْفَكّ عَنْهُمَا فِي زمانهم فهما بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم من أبين اللوازم وأوضحها دلَالَة على الْمَقْصُود بِخِلَاف الإعجاز فَإِنَّهُ لَيْسَ من اللوازم الْبَيِّنَة وَلَا الشاملة لكل جُزْء مِنْهُ إِذْ المعجزة هُوَ السُّورَة أَو مقدارها أخذا من قَوْله {فَأتوا بِسُورَة من مثله}