الغيث الهامع شرح جمع الجوامع

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الغيث الهامع شرح جمع الجوامع
المؤلف: ولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي (ت: 826هـ)
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
قال سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، ولي الدين أبو زرعة أحمد العراقي الشافعي، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.
أما بعد حمد الله، والصلاة على رسوله، فهذا تعليق وجيز على (جمع الجوامع) لشيخنا قاضي القضاة تاج الدين بن السبكي ـ رحمه الله ـ أقتصر فيه على حل اللفظ وإيضاح العبارة غالباً تنحلت أكثره من شرح صحابنا العلامة بدر الدين الزركشي ـ رحمه الله تعالى ـ سميته (الغيث الهامع في شرح جمع الجوامع) وأسأل الله النفع به، وأن يرزقنا فهم المشتبه.
ص: نحمدك اللهم على نعم يؤذن الحمد بازديادها.
ش: افتتح بالجملة الفعلية لدلالة الفعل على التجدد والحدوث، وبهذا انفصل المصنف عن سؤال ترك التأسي بالتنزيل بالجملة الاسمية، فإنه قديم، وهذا التصنيف نعمة جديدة.
وافتتح الفعل المضارع بالنون للمشاركة لا لتعظيم نفسه، فإن الحمد على هذه النعمة يعم كل منتفع به.
وقوله: (اللهم) مثل قولك: يألله، زيدت الميم في آخره عوضاً من حرف النداء، هذا هو الصحيح، وقول البصريين.
والتنكير في قوله: (على نعم) للتعظيم بدليل الوصف.
وقوله: (يؤذن) أي: يعلم، والازدياد أبلغ من الزيادة كالاكتساب
(1/17)
 
 
والكسب، والدال بدل عن التاء، وأصله ازتياد، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}.
قلت: وقد تبين أن المراد بالحمد هنا أحد قسميه، وهو ما كان منه على نعمة، ولو أطلقه كما في التنزيل لتناول القسم الآخر، وهو ما كان على غير نعمة، والله أعلم.
ص: ونصلي على نبيك محمد هادي الأمة لرشادها.
ش: قوله: (ونصلي) لفظه خبر، ومعناه الطلب، ليكون امتثالاً لقوله تعالى: {صلوا عليه} فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء، وعطف الخبر على الإنشاء ممتنع عند علماء البيان، والصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة، أو المغفرة، أو الإحسان، أو القدر المشترك بينها، وهو الاعتناء بالمصلى عليه، ومن الخلق الدعاء.
والنبي، قيل: مشتق من النبوة، وهي المرتفع من الأرض، وقيل: من النبأ، وهو الخبر، والرسول أخص منه، لأنه إنما يؤمر بالتبليغ، وفضل ابن عبد السلام/ (1ب/ م) النبوة على الرسالة، والراجح خلافه،
وكان ينبغي قرن الصلاة بالتسليم.
وقوله: (هادي الأمة) مأخوذ من قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وهو بمعنى بيان الطريق كما في قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم} وإما بمعنى الخلق، لقوله تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي} فهو خاص بالله تعالى، والرشاد ضد الغي.
(1/18)
 
 
ص: وآله/ (1/ب/د) وأصحابه، ما قامت الطروس والسطور لعيون الألفاظ مقام بياضها وسوادها.
ش: آل النبي صلى الله عليه وسلم بنو هاشم وبنو المطلب، وأصحابه كل من لقيه مسلماً، ولو أضاف الآل إلى الظاهر لكان أولى، للخروج من خلاف من منع إضافته إلى ضمير، وقدم الآل على الأصحاب للأمر بالصلاة على الآل، ولهذا وجبت في التشهد على قول، وهم أشرف نسباً، وإن كان في الصحابة من هو أفضل من الآل كأبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما،
و (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي مدة قيام الطروس، وهي جمع طرس، بكسر الطاء، وأراد بها هنا الصحيفة، وبها فسر الجوهري، ثم قال: ويقال: هي التي محيت ثم كتبت، وعليه اقتصر في (المحكم).
وفي قوله: (عيون الألفاظ) استعارة مرشحة بالبياض والسواد، فإنهما من لوازم العيون، وفيه لف ونشر مرتب، فالبياض للطروس، والسواد للسطور،
(1/19)
 
 
وبين الطروس والسطور جناس القلب، لاختلافهما في/ ترتيب الحروف، والمراد بهذا تأبيد الصلاة لدوام العلم، وهو مأخوذ من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله)).
ص: ونضرع إليك في منع الموانع عن إكمال جمع الجوامع، الآتي من فن الأصول بالقواعد القواطع، البالغ من الإحاطة بالأصلين مبلغ ذوي الجد والتشمير، الوارد من زهاء مائة مصنف، منهلا يروي ويمير، المحيط بزبدة ما في شرحي على المختصر والمنهاج مع مزيد كثير.
ش: قوله: (نضرع) أي: نخضع ونذل، وهو أبلغ من السؤال، وأصله نتضرع، فحذفت التاء تسهيلاً.
وقوله: (في منع) متعلق به، (وعن) متعلق بـ (منع) و (جمع الجوامع) علم على هذا الكتاب، وسأل انتفاء الموانع، لأن المقتضيات موجودة.
ثم وصفه بأنه أتى، أي: جاء، من فن الأصول، أي: أصول الفقه والدين، (بالقواعد) أي: الأدلة القواطع، وفي هاتين اللفظتين الجناس اللاحق، لاتفاقهما في عدد الحروف والهيئات، واختلافهما في الآخر، وبأنه بلغ من الإحاطة بهما مبلغ ذوي الجد، وهو بالكسر الاجتهاد، (وزهاء) بالمد،
(1/20)
 
 
كما اقتضاه كلام الأخفش/ (2أ/ م)، وعليه اقتصر في (المشارق)، أو بالقصر كما دل عليه ذكر الجوهري له في المعتل، أي: قدر.
وقوله: (يروي) بالضم من الري، وقوله: (يمير) بفتح أوله ويجوز ضمها، يقال: مار، وأمار، أي: حمل الميرة، وهو الطعام، والمراد مختصر ابن الحاجب.
ومنهاج البيضاوي، وإنما شرح المصنف من (المنهاج) من قوله: (وجوب الشيء مطلقاً) وما قبل ذلك من كلام والده
(1/21)
 
 
رحمه الله ـ
ص: وينحصر في مقدمات وسبعة كتب.
ش: إن أراد انحصار هذا التصنيف ورد عليه أن فيه زيادة/ (2أ/د) على ذلك علم أصول الدين، وخاتمة التصوف، وإن أراد انحصار أصول الفقه المدلول عليه بذكر شرحي (المختصر) و (المنهاج) فإنه ليس فيهما غير أصول الفقه، ورد عليه أن من المقدمات حد أصول الفقه، وغيره من قواعد المنطق، وليس من أصول الفقه، وقد يعد منها لتوقفه عليها.
وفي المقدمة لغتان: الكسر وهو أشهر، والفتح، وهي عند المناطقة: القضية المجعولة جزء دليل، وعند الأصوليين: ما يتوقف عليه حصول أمر آخر وهو المراد هنا، فالمقدمات لبيان السوابق، والكتب لبيان المقاصد.
(1/22)
 
 
تعريف أصول الفقه
ص: الكلام في المقدمات، أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل: معرفتها.
ش: هذا تعريف لأصول الفقه باعتبار مدلوله اللقبي، وهل هو دلائل الفقه الإجمالية أو معرفة دلائل الفقه الإجمالية؟ فيه خلاف، ذهب إلى الأول القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، والرازي،
(1/23)
 
 
والآمدي، واختاره ابن دقيق العيد، لأن الأدلة إذا لم تعلم لم تخرج عن كونها أصلاً، ومشى على الثاني البيضاوي وابن الحاجب، إلا أنه عبر بالعلم، ولكل وجه، لأن الفقه كما هو متفرع عن أدلته هو متفرع عن العلم بأدلته، وقيدت الدلائل بالإجمالية لإخراج التفصيلية، فإن النظر فيها وظيفة الفقيه، لأنه يتكلم على أن الأمر في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} للوجوب, والنهي في قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى} للتحريم، بخلاف الأصولي فإنه يتكلم على مقتضى الأمر والنهي، من غير نظر إلى مثال خاص.
والدلائل تتناول الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والأشبه ـ كما قال السبكي ـ: أن الإجمال قيد للمعرفة، فإن أدلة الفقه/ (2/ب/م) لها جهتان/، فالأصولي
(1/24)
 
 
يعرفها من إحداهما، وهو الإجمال، والفقيه يعرفها من الجهة الأخرى وهو التفصيل، وليست الأدلة منقسمة إلى ما هو إجمالي غير تفصيلي، وتفصيلي غير إجمالي، ووجه جعلها قيداً للأدلة أن لها نسبتين، فهي باعتبار إحداهما غيرها باعتبار الأخرى.
وقد أورد على المصنف أنه هلا قال: أصول الفقه: دلائله الإجمالية؟ وأجاب بأجوبة أحسنها: أن الفقه في قولنا: (دلائل الفقه) غير الفقه في (أصول الفقه) لأنه في أصول الفقه أحد جزئي لقب مركب من متضايفين، وفي قولنا: (دلائل الفقه) العلم المعروف.
ص: والأصولي: العارف بها، وبطرق استفادتها ومستفيدها.
ش: لا يكفي في صدق اسم الأصولي معرفة الأصول حتى يعرف مع ذلك أمرين.
أحدهما: طرق استفادتها وذلك يرجع إلى التراجيح، أي ترتيب الأدلة، كتقديم الخاص على العام والظاهر على المؤول.
(1/25)
 
 
ثانيهما: أن يعرف مستفيدها، وهو المجتهد، فإنه الذي يستفيد من الأدلة بخلاف المقلد، فإنه إنما يستفيد من المجتهد، ويدخل في ذلك المقلد أيضاً إن سمينا علمه فقهاً، واعتبار هذين الأمرين في الأصولي/ (2/ب/د) دون الأصول ـ انفرد به المصنف، واعتبر غيره في مدلول الأصول الأمور الثلاثة.
واعترف المصنف بذلك فقال: جعل المعرفة بطرق استفادتها جزءاً من مدلول الأصولي دون الأصول، لم يسبقني إليه أحد، ووجهه: أن الأصول لما كانت عندنا نفس الأدلة لا معرفتها، لزم من ذلك أن يكون الأصولي هو المتصف به، لأن الأصولي نسبة إلى الأصول، وهو من قام به الأصول، وقيام الأصول به، معناه معرفته إياه، ومعرفته إياه متوقفة على معرفة طرق الاستفادة، فإن من لا يعرف الطريق إلى الشيء محال أن يعرف الشيء، انتهى.
وقد يقال: يكتفى في صدق اسم الأصولي بمعرفة الأدلة، لأن المراد معرفتها على وجه به يحصل استفادة الأحكام منها، فيستغنى بذلك عن التصريح باشتراط معرفته طرق استفادتها، لأن المراد معرفة خاصة كما قدمته.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: لو اقتصر في تعريف أصول الفقه على الدلائل وكيفية الاستفادة منها لكفى، ويكون حال المستفيد كالتابع/ (3/أ/م) والتتمة، لكن جرت العادة بإدخاله في أصول الفقه، وضعاً فأدخل فيه جزءاً.
 
تعريف الفقه
ص: والفقه: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية.
ش: هذا حد الفقه من جهة الاصطلاح، فـ (العلم) جنس، وقال الشيخ تقي الدين: لو عبر بالمعرفة لكان أحسن، فإن العلم يطلق بمعنى حصول المعنى في الذهن، ويطلق على أخص من ذلك، وهو الاعتقاد الجازم المطابق
(1/26)
 
 
لموجب، ولهذا جاء سؤال الفقه من باب الظنون.
وأجاب المصنف عن هذا بأن المراد بالعلم هنا الصناعة، كقولك: علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظن أيضاً، ولا يرد السؤال، لكن جوابهم عن ذلك السؤال يدل على أن مرادهم بالعلم اليقين.
وخرج بقوله: (بالأحكام) العلم بالذوات والصفات والأفعال، والمراد (بالحكم) نسبة أمر إلى آخر، بالإيجاب/ أو السلب.
وخرج بقوله: (الشرعية) العقلية واللغوية، والمراد بالشرعية المتوقفة على الشرع.
وخرج بقوله: (العملية) العلمية، كأصول الدين.
قاله القرافي ...............
(1/27)
 
 
وساعده الباجي، وخالفه السبكي فقال: أصول الدين منه ما ثبت بالعقل وحده، كوجود الباري، ومنه ما ثبت بالعقل والسمع كالوحدانية، وما ثبت بالسمع وحده ككثير من أحوال يوم القيامة، فخرج ما ثبت بالعقل بقولنا: (الشرعية) وأما المتوقف على السمع، فقد يقال بدخوله في حد الشرعية، وفي (المحصول): أن الاحتراز بالعملية عن كون الإجماع حجة، والقياس حجة، فإنه ليس علماً بكيفية عمل، واستشكله ابن دقيق العيد، لأن جميع هذه القواعد التي ذكر أنه يحترز عنها، فإنما الغاية المطلوبة منها العمل.
وقوله: (المكتسب) مرفوع صفة للعلم، وخرج به علم الله تعالى، وما يلقيه في قلوب الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام: (3أ/د) من الأحكام.
وخرج بقوله: (من أدلتها التفصيلية) اعتقاد المقلد، كما قال الإمام وغيره، فإنه مكتسب من دليل إجمالي، وهو أنه أفتاه به المجتهد، وكل ما أفتاه به فهو حكم الله في حقه، لكن الحق أن اعتقاد المقلد لم يدخل في الحد حتى يحتاج إلى إخراجه فإنه ليس علماً كما صرح به في (المحصول) وجعله قسيماً للعلم، فلذلك قال المصنف: الأولى/ (3ب/م) أن يخرج به علم الخلاف، لأن الجدلي، لا يقصد صورة بعينها، وإنما يضرب الصورة مثالاً لقاعدة
(1/28)
 
 
كلية، فيقع علمه مستفاداً من الدليل الإجمالي، لا من التفصيلي.
وقال الشارح: الظاهر أن ذكرها ليس للاحتراز عن شيء فإن اكتساب الأحكام لا يكون من غير أدلتها التفصيلية، وإنما ذكر للدلالة على المكتسب منه بالمطابقة، فالصواب عدم وصفها بالتفصيلية، لئلا يوهم أنه قيد زائد.
قلت: لا يقال في الموهم: إنه غير الصواب، وقد علم أنه لبيان الواقع، والله أعلم.
 
تعريف الحكم
ص: والحكم: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف،
ش: لما ذكر الحكم في تعريف الفقه، أخذ في تعريفه، فالخطاب جنس والمراد المخاطب به، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهو: ما يقصد به إفهام من هو متهيئ للفهم، وبإضافته إلى الله تعالى خرج خطاب الملائكة والإنس والجن.
وقوله: (المتعلق) أي: الذي من شأنه أن يتعلق، فهو مجاز من تسمية الشيء، بما يؤول إليه.
والمراد بفعل المكلف، الصادر منه، ليشمل القول والنية، و (المكلف) هو البالغ العاقل، ومن هنا يعلم أن الصبي لا يتعلق بفعله حكم.
وأما قول الفقهاء: إنه يثاب، ويندب له، فهو عند الأصوليين تجوز، قاله المصنف، وسبقه إليه الهندي، قال: والمعني بتعلق الضمان بإتلاف
(1/29)
 
 
الصبي أمر الولي بإخراجه من ماله.
والمراد بالمكلف الجنس، وعبر المصنف بالإفراد ليتناول الأحكام المتعلقة بفعل مكلف واحد، كالخصائص، وإجزاء العتاق عن أبي بردة بن نيار.
وخرج بالمتعلق بفعل المكلف أربعة أمور: ما تعلق بذاته تعالى، نحو: {الله لا إله إلا هو} وبفعله نحو: {خالق كل شيء}، وبالجمادات نحو: {ويوم نسير الجبال} وبذوات المكلفين نحو: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم}.
وقوله (من حيث إنه مكلف) يخرج ما تعلق بفعل المكلف، لا من حيث تكليفه، كخبر الله تعالى عن أفعال المكلفين، نحو: {والله خلقكم وما تعملون} وقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلة الرحم تزيد في العمر)) واكتفى المصنف بذلك عن قول غيره بالاقتضاء أو التخيير، واختار والده أن يقال: (على وجه الإنشاء ليدخل فيه خطاب الوضع، ولا يرد عليه ما
(1/30)
 
 
أوردته المعتزلة من الترديد، وهو عندي/ (4أ/ م) أحسن من تعبير المصنف، لأن اعتبار التكليف يخرج ما لا تكليف فيه، كالإباحة وهي أحد أقسام الحكم، وهي مندرجة في الإنشاء.
وقد أورد على المصنف: أنه كان ينبغي/ (3ب/ د) أن يزيد: (به) فيقول: (من حيث إنه مكلف به).
وأجاب عنه: بأنه لو قال: به، لاقتضى أن المكلف لا يخاطب إلا بما هو مكلف به، وليس كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بما كلف به الأمة بمعنى تبليغهم وكذا جميع المكلفين بفرض الكفاية، وإن كان المكلف به بعضهم، لا الكل على المختار، انتهى.
وهو عجيب، فإنه عليه الصلاة والسلام مخاطب بما كلف به الأمة على سبيل التبليغ لا على سبيل الفعل، فالذي كلف به غير الذي كلفوا به، ولا يمكن القول بأن الإنسان يكلف بفعل غيره.
وكلامه في فرض الكفاية متناقض، كيف يقول أولاً: إن الخطاب للجميع، ثم يقول (إن المكلف البعض) هذا لم يقل به أحد، والخلاف في أن فرض الكفاية يتعلق بالجميع أو بالبعض مشهور.
ص: ومن ثم لا حكم إلا لله.
ش: هذا فرع لما سبق، أي: لأجل أن الحكم خطاب الله، فحيث لا
(1/31)
 
 
خطاب لا حكم، لم يكن الحكم إلا لله تعالى، خلافاً للمعتزلة في دعواهم أن العقل يدرك الحكم بالحسن والقبح، فهو عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي، فهم لم يجعلوا لغير الله حكماً، بل قالوا: إنه يمكن إدراك حكمه بالعقل من غير ورود سمع، وعبارة المصنف توهم خلاف ذلك، و (ثم) هنا للمكان المجازي.
 
تعريف الحسن والقبح
ص: والحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع ومنافرته، وصفة الكمال والنقص عقلي، وبمعنى ترتب الذم عاجلاً، والعقاب آجلاً شرعي، خلافاً للمعتزلة.
ش: الحسن والقبح يطلق بثلاث اعتبارات:
أحدها: ما يلائم الطبع وينافره، كقولنا: إنقاذ الغريق حسن، واتهام البريء قبيح.
والثاني: صفة الكمال والنقص، كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، وهو بهذين الاعتبارين عقلي بلا خلاف، أي: إن العقل يستقل بإدراكهما من غير توقف على الشرع.
والثالث: ما يوجب المدح أو الذم الشرعي عاجلاً، والثواب أو العقاب آجلاً، وهو موضع الخلاف.
فالمعتزلة قالوا: هو عقلي أيضاً، أي: يستقل العقل بإدراكه،
وقال أهل السنة: هو شرعي.
أي: لا يعرف إلا بالشرع.
(1/32)
 
 
تنبيه:
كان ينبغي أن يقول في الأول: عقليان، ولكنه حذف خبر أحد المبتدأين لدلالة الآخر أو التقدير: / (4ب/م) كلاهما عقلي، فحذف أحد جزأي الخبر.
وقوله: (خلافاً للمعتزلة) منصوب على المصدر أو الحال، أي: أقول ذلك خلافاً لهم، أي: مخالفاً لهم.
واقتصر المصنف على الذم والعقاب، مهملاً للمدح والثواب لتلازمهما نفياً وإثباتاً.
والمراد بترتب العقاب نص الشارع عليه، وذلك لا ينافي جواز العفو، فلو قال/: كونه متعلق العقاب، لكان أحسن.
ص: وشكر المنعم واجب بالشرع لا بالعقل.
ش: لا يستقل العقل بإيجاب شكر المنعم خلافاً: للمعتزلة. وأورد عليهم الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود مناقضة، فإنهم قالوا: يجب على الله أن يثبت المطيعين، وأن ينعم على الخلق، وإذا وجب الثواب فلا معنى للشكر، لأن من قضى دينه لم يستحق الشكر، ففي الجمع بين هاتين المقالتين مناقضة، والمراد بشكر المنعم الإتيان بالمستحسنات العقلية، والانتهاء عن المستخبثات العقلية.
ص: ولا حكم قبل الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده وحكمت المعتزلة العقل فإن لم يقض فثالثها لهم الوقف عن الحظر والإباحة.
(1/33)
 
 
ش: مذهب أئمتنا أنه لا حكم قبل ورود الشرع، وظاهر كلام المصنف انتفاء الحكم نفسه، وهو الذي حكاه القاضي أبو بكر في (مختصر التقريب) عن أهل الحق، وقاله الإمام في (البرهان) والغزالي، وقال النووي: إنه الصحيح عن أصحابنا.
وقيل: المراد عدم العلم بالحكم أي: إن لها حكماً قبل ورود الشرع، لكنا لا نعلمه، وقال البيضاوي، إنه مراد الأشعري بالوقف في هذه المسألة، لأن الحكم عنده قديم، فتفسير الوقف بعدم الحكم يلزم منه حدوث الحكم، وهو خلاف مذهبه، وقول المصنف: (بل الأمر موقوف إلى وروده) دفع به توهم ما قاله البيضاوي، وبين أن مرادهم بالوقف أن الأمر موقوف إلى ورود الشرع، وأن الحكم منتف قبل وروده، وذهبت المعتزلة إلى أن ما قضى فيه العقل بحسن أو قبح، اتبع فيه حكمه، وانقسم إلى الأحكام الخمسة، فما قضى
(1/34)
 
 
بحسنه إن لم يرجح فعله على تركه، فهو المباح، وإن ترجح فإن ألحق الذم على تركه فهو الواجب، وإلا فهو المندوب، وما قضى بقبحه إن قضي بالذم على فعله فالحرام، وإلا فالمكروه، وإن لم يقض فيه بشيء ففيه ثلاثة مذاهب: أحدها: الحظر، والثاني: الإباحة، والثالث: الوقف (5أ/م).
قال ابن التلمساني: والقائلون بالحظر لا يريدون أنه باعتبار صفة في المحل، بل حظر احتياطي، كما يجب اجتناب المنكوحة إذا اختلطت بأجنبية، والقائلون بالوقف أرادوا وقف حيرة، هكذا حرر الآمدي وابن الحاجب موضع الخلاف، وأطلقه في (المحصول) وقال القرافي: إطلاقه الخلاف ينافي قواعدهم، إذ الحظر يقتضي تحريم إنقاذ الغريق، والإباحة تقتضي إباحة القتل، أما ما لم يطلع العقل على مفسدته أو مصلحته فيمكن أن يجيء فيه الخلاف، ثم رأيت كلام أبي الحسين، في (المعتمد) حكى عنهم الخلاف من غير تقييد، وهو أعلم بمذهبهم فرجعت إلى طريقة الإمام.
ص: والصواب امتناع تكليف الغافل والملجأ وكذا المكره على الصحيح، ولو على القتل، وأثم القاتل لإيثاره نفسه.
(1/35)
 
 
ش: فيه مسائل:
الأولى: يمتنع تكليف الغافل كالنائم والساهي والمجنون والسكران، وللأشعري قول بجوازه بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، وهو مقابل الصواب في عبارة المصنف، والمشهور منعه، وإن جوزنا ذاك، لأن في ذاك فائدة الابتلاء، ولا فائدة له هنا.
ونقل ابن برهان في (الأوسط) عن الفقهاء جوازه على معنى ترتب الفعل في الذمة، وقد يتوهم أن الشافعي يرى تكليف الغافل/ لنصه على تكليف السكران، وليس كذلك، فإنه إنما قال بتكليف السكران عقوبة له، لتسببه إلى ذلك بمحرم باختياره، واستثنى البيضاوي تبعاً لصاحب (الحاصل) بمعرفة الله تعالى فإنه مكلف بها مع الغفلة عن ذلك، إذ لو عرف تكليفه بها لعرف الله تعالى، فيكون الأمر بمعرفته تحصيلاً للحاصل، وهو محال، والحق أنها لا تستثنى، فإن الحاصل المعرفة الإجمالية، والمكلف به المعرفة التفصيلية.
الثانية: يمتنع تكليف الملجأ، وهو الذي صار كالمرتعش بالنسبة للرعشة، كالملقى من شاهق، وتعبير المصنف يفهم حكاية خلاف فيه، وكلام الآمدي يشير إليه بناء على جواز تكليف ما لا يطاق عقلاً.
الثالثة: في تكليف المكره قولان:
أحدهما وهو قول المعتزلة: المنع، أمر بالمكره عليه دون ما عداه من الأفعال، وهو مختار المصنف هنا.
الثاني: الجواز، وإن كان غير واقع، وهو قول الأشاعرة، وقد رجع إليه
(1/36)
 
 
المصنف آخراً، وطرد المصنف مع تكليفه في القتل، فالإكراه عليه يخرج المكره عن التكليف، ثم استشعر سؤالا، وهو أنه آثم بلا خلاف، ويجب عليه القصاص في الأصح، فكيف لا يكون مكلفاً؟ وأشار إلى الجواب عنه بأنه لم يأثم من جهة الإكراه بل من جهة أنه آثر نفسه على غيره، فإن معنى قول المكره: اقتل زيداً، وإلا قتلتك ـ التخيير بين نفسه ونفس زيد، فإذا قتل زيداً فقد آثر نفسه فأثم لاختياره، فهذا الفعل ذو جهتين: جهة الإكراه، ولا إثم فيها، وجهة الإيثار، ولا إكراه فيها.
وقال الشارح: ما اختاره في القاتل هو بظاهره مضاد للإجماع، ففي (التلخيص) لإمام الحرمين: (أجمع العلماء قاطبة على توجه النهي على المكره على القتل، وهذا عين التكليف في مثال الإكراه، وهو مما لا منجاة منه.
وقال الشيخ في (شرح اللمع): (انعقد الإجماع على أن المكره على القتل مأمور باختيار القتل، ودفع المكره عن نفسه، وأنه آثم بقتل من أكره على قتله، وذلك يدل على أنه مكلف حال الإكراه، وبه صرح الغزالي، وغيره انتهى.
ص: ويتعلق الأمر بالمعدوم تعلقاً معنوياً، خلافاً للمعتزلة.
ش: مذهب الأشاعرة: أن الأمر وكذا النهي يتعلق بالمعدوم تعلقاً معنوياً لا تنجيزياً فأمر الله ونهيه يتعلقان في الأزل بالمكلف لا على معنى تنجيز التعلق في حال عدمه، بل على معنى أنه إذا وجد بصفة التكليف صار مكلفاً بذلك الطلب القديم من غير تجدد طلب آخر، وهذا مبني على إثبات الكلام النفسي، فلذلك خالف فيه المعتزلة لإنكارهم الكلام النفسي، وقال الشيخ/ (4/أ/د) المقترح جد ابن دقيق العيد، لأمه: الأمر لم يتعلق بالمعدوم، بل
(1/37)
 
 
بالموجود المتوقع فكما أن العلم الأزلي يتعلق بالموجود الذي سيكون، فكذلك الطلب الأزلي يتعلق بالمكلف الذي سيكون.
 
الأحكام الشرعية
ص: فإن اقتضى الخطاب الفعل اقتضاء جازماً فإيجاب، أو غير جازم فندب، أو الترك جازماً فتحريم، أو غير جازم بنهي مخصوص فكراهة، أو بغير مخصوص فخلاف الأولى، أو التخيير فإباحة.
ش: هذا تقسيم للحكم، وجعل مورد القسمة الخطاب، لأنه بمعناه، وتقديره: أنه إما أن يقتضي الفعل أو الترك، وعلى كل من التقديرين/، فإما أن يكون جازماً أم لا، فإن اقتضى الفعل جزماً فالإيجاب، أو بدون جزم فالندب، أو الترك جزماً فالتحريم، أو بدون جزم، فإن كان بنهي مخصوص فالكراهة، أو غير مخصوص فخلاف الأولى، وإن خير بين الفعل والترك فهو الإباحة، والمشهور أن الأحكام خمسة: الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة.
وتبع المصنف في زيادة السادس ـ وهو خلاف الأولى ـ إمام الحرمين، لكن عدل عن تعبيره بالنهي المقصود إلى المخصوص، وفيه نظر، لأن المقصود يحترز به عن الأمر بالشيء، فإنه نهي عن ضده، فهو منهي عنه إلا أنه غير مقصود، والمخصوص يحترز به عما استفيد من عموم، من غير تنصيص على المنهي عنه بخصوصه.
قال السبكي: والإمام أول من علمناه ذكره.
(1/38)
 
 
قلت: مع أنه لم ينشئه من عند نفسه، بل نقله عن غيره، فقال: إنه مما أحدثه المتأخرون.
ص: وإن ورد سبباً وشرطاً ومانعاً وصحيحاً وفاسداً فوضع.
ش: إذا لم يكن في الخطاب اقتضاء بل ورد سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً، أو فاسداً فليس خطاب تكليف، وإنما هو خطاب وضع، أي وضعه الله تعالى في شرائعه، لإضافة الحكم إليه، تعرف به الأحكام تيسيراً لنا، فإن الأحكام مغيبة عنا، والفرق بينه وبين خطاب التكليف من حيث الحقيقة: أن الحكم في الوضع هو قضاء الشرع على الوصف بكونه سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وخطاب التكليف لطلب أداء ما تقرر بالأسباب والشروط والموانع، وكان ينبغي للمصنف أن يقول: فإن ورد سببياً أو شرطياً أو مانعياً، لأن السبب ليس نفس الحكم، بل جعل الشارح إياه.
وأجيب عنه بأن انتصابها بمصدر محذوف، أي: بجعل الوصف سببا ... إلى آخره، ولا تردد في أن الثلاثة الأول من خطاب الوضع، وأما الصحة والفساد فهو الصحيح فيهما، لأنه حكم من الشارع بذلك، وقال ابن الحاجب: هما عقليان.
تنبيهان:
أحدهما: ظاهر عبارة المصنف أنه أفرد خطاب الوضع عن خطاب التكليف، وجعله قسيماً له، وكذلك فعل ابن الحاجب في قوله في تعريف الحكم بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، واختار الإمام: (4/ب/ د) فخر الدين إدخاله في خطاب التكليف، لأن معنى كون الشيء شرطاً حرمة المشروط بدون شرطه، وادعى بعضهم اقتضاء عبارة المصنف ذلك، وهو بعيد.
ثانيهما: مقتضى عبارة المصنف أن في الإباحة اقتضاء، لأن تقدير كلامه: إن اقتضى الخطاب التخيير، والمعروف أنه/ (5/ب/م) لا اقتضاء فيه، فإن الاقتضاء
(1/39)
 
 
الطلب، ولا طلب فيه وإنما فيه التخيير بين الفعل والترك.
ص: وقد عرفت حدودها.
ش: أي أنواع القسم الأول، وهو خطاب التكليف، وذلك بأن يؤخذ مورد التقسيم بينها فيجعل جنساً، وما تميز به كل نوع فيجعل فصلاً، فيقال: الإيجاب اقتضاء الفعل اقتضاء جازماً، وهكذا في بقيتها، وكأنه أراد بالحد مطلق التعريف، حتى يدخل فيه الرسم الذي هو بالعرضيات، فقد لا يكون مورد التقسيم جنساً، كقولنا: الماشي إما أن يكون ناطقاً أم لا، فإن قولنا: الإنسان ماش ناطق ليس حداً له، والله أعلم.
ص: والفرض والواجب مترادفان خلافاً لأبي حنيفة وهو لفظي.
ش: الفرض والواجب لفظان مترادفان بمعنى واحد، وفرق أبو حنيفة بينهما فجعل الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل
(1/40)
 
 
ظني.
قال أصحابنا: ونقض الحنفية أصلهم في أشياء منها: جعلهم مسح ربع الرأس، والقعدة في آخر الصلاة فرضاً، مع أنهما لم يثبتا بدليل قطعي، والنزاع في ذلك لفظي، أي: مرجعه إلى الاصطلاح.
ص: والمندوب، والمستحب، والتطوع، والسنة مترادفة، خلافاً لبعض أصحابنا وهو لفظي.
ش: المخالف في ذلك من أصحابنا: القاضي حسين، والبغوي،
(1/41)
 
 
والخوارزمي، قالوا: السنة ما واظب عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمستحب: ما فعله مرة أو مرتين، والتطوع: ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد.
ص: ولا يجب بالشروع خلافاً لأبي حنيفة، ووجوب إتمام الحج لأن نفله كفرضه، نية وكفارة، وغيرهما.
ش: لا يجب التطوع من صلاة وصيام وغيرهما بالشروع فيه، بل له قطعه، ولو بغير عذر.
وقال أبو حنيفة: يلزم بالشروع، وحكي عن مالك أيضاً.
وقد أورد علينا الحج فإنه يلزم من تطوعه بالشروع ويجب إتمامه، وفرق بينه وبين غيره باختصاص الحج بأن نفله كفرضه في النية والكفارة وغيرهما، أي: كالمضي في فاسده، وهذا المطوي في كلام المصنف هو الذي أجاب به الشافعي، ومعناه: أنه يجب المضي في فاسده، فكيف في صحيحه؟ ولا يختص الحج بخروجه عن هذه القاعدة، فالأضحية سنة وإذا ذبحت لزمت
(1/42)
 
 
بالشروع، كما ذكره الساجي في نصوص الشافعي.
وقال بعضهم: لا يحتاج إلى استثناء الحج، لأنه لا يكون من المستطيع تطوعاً قط، بل هو في حق من لم يحج فرض عين، وفي حق من حج فرض كفاية/.
ص: (5أ/د) والسبب/ (6أ/م) ما يضاف الحكم إليه للتعلق به من حيث إنه معرف للحكم أو غيره.
ش: أخذ في بيان أقسام خطاب الوضع، فمنها: الحكم على الوصف بكونه سبباً، وهو خاص بالحكم الذي عرفت علته، وعرفه بما ذكره، وبين بقوله: (للتعلق به) أن معنى كون السبب حكماً تعلق الحكم به، وبهذا يندفع إيراد من أورد أن الزنا حادث، فلا يؤثر في القديم.
وأشار بقوله: (من حيث إنه معرف) إلى أنه ليس المراد منه كونه موجباً لذلك لذاته، أو لصفة ذاتية، كما تقول المعتزلة، بل المراد عند الأكثرين أنه معرف للحكم، وعند الغزالي: أنه موجب لا لذاته ولا لصفة ذاتية، ولكن بجعل الشارع له موجباً، وهو مراد المصنف (بغيره).
وأراد صحة التعريف على المذهبين، ومراد الغزالي أن الموجب للحكم هو الشارع، وإنما نصب السبب للاستدلال به على الحكم لعسر معرفته، لا سيما بعد انقطاع الوحي كالعلامة، فشابه ما يحصل الحكم عنده لا به، فسمى به، فهو من حيث المعنى لا يخالف مذهب الأكثرين، والعلة أخص من السبب،
(1/43)
 
 
لأنه لا بد فيها من المناسبة، ولا يشترط ذلك في السبب.
ص: والشرط يأتي.
ش: أي في التخصيصات.
ص: والمانع: الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المعرف نقيض الحكم كالأبوة في القصاص.
ش: المذكور هنا مانع الحكم، فلا بد أن يزيد في تعريفه مع بقاء حكمة السبب، فإن الأبوة مانعة للحكم، أي الذي هو القصاص لحكمة، وهو كون الأب سبباً في إيجاده، فلا يكون الابن سبباً في إعدامه، وهذه الحكمة تقتضي
(1/44)
 
 
عدم القصاص الذي هو نقيض الحكم مع بقاء حكمة السبب وهي الحياة، والمراد بهذه الزيادة إخراج مانع السبب وهو ما يستلزم حكمة تحل بحكمة السبب، كالدين في الزكاة، إذا قلنا: إنه مانع من الوجوب، فإن حكمة السبب وهو الغنى مواساة الفقراء من فضل ماله، وليس مع الدين فضل يواسى به.
قال المصنف: وإنما لم أذكر هنا مانع السبب، لأن كلامنا هنا في الحكم ومتعلقاته، وليست الأسباب عندنا من الأحكام، خلافاً لابن الحاجب.
وقد تضمن كتاب القياس تعريف مانع السبب حيث قلنا فيه عند ذكر العلة: ومن شروط الإلحاق بها اشتمالها على حكمة تبعث على الامتثال، وتصلح شاهداً لإناطة الحكم، ومن ثم كان مانعها وصفا وجودياً يخل بحكمتها.
فإن قيل: هو إن لم يكن من/ (6/ب/م) الأحكام فهو من متعلقات الأحكام، فكان ينبغي ذكره.
قلنا: المعنى بمتعلقات الأحكام حاكم ومحكوم به وعليه، وشروط كل واحد منها، وليست الأسباب من ذلك، انتهى.
ويرد عليه أنه كان ينبغي لذلك أن لا يذكر السبب، وقد ذكره، والله أعلم.
ص: والصحة موافقة ذي (5 ب/ د) الوجهين الشرع وقيل في العبادة: إسقاط القضاء.
(1/45)
 
 
ش: المشهور تعريف الصحة سواء أكانت في عبادة أو معاملة بموافقة الشرع ـ أي أمر الشرع ـ وهو مذهب المتكلمين، لكن لا يوصف بالصحة وعدمها إلا الفعل ذو الوجهين، وهو الذي يمكن وقوعه تارة على موافقة الشرع، وتارة على غيرها، فما لا يقع إلا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى لا يوصف بذلك.
وقال بعضهم: الصحة في العبادة إسقاط القضاء، وهو محكي عن الفقهاء، وتظهر فائدة الخلاف فيمن صلى محدثاً على ظن أنه متطهر ثم ظهر له حدثه فصلاته على رأي المتكلمين صحيحة، لأنها موافقة للأمر، وعلى رأي الفقهاء باطلة.
وقال السبكي: إن تسمية الفقهاء هذه الصلاة باطلة ليس لاعتبارهم سقوط القضاء في حد الصحة كما ظنه الأصوليون، بل لأن شرط الصلاة الطهارة في نفس الأمر، والصلاة بدون شرطها فاسدة، وغير مأمور بها.
ثم استدل على هذا بأن الفقهاء يقولون: كل من صحت صلاته صحة مغنية عن القضاء جاز الاقتداء به، فإنه يقتضي انقسام الصحة إلى ما يغني عن القضاء وإلى ما لا يغني، ثم استدل بغير هذا أيضاً، ثم قال: فالصواب أن يكون حد الصحة عند الفريقين موافقة الأمر، غير أن الفقهاء يقولون: ظان الطهارة مأمور مرفوع عنه الإثم بتركها.
والمتكلمون يقولون: ليس مأموراً، فلذلك تكون صلاته صحيحة عند المتكلمين لا الفقهاء. انتهى.
وقال القرافي وغيره: هذا الخلاف لفظي، لأنه إن لم يتبين له حدثه فلا قضاء، وإلا وجب اتفاقاً في الصورتين.
وقال الشارح: ليس كذلك، بل الخلاف معنوي، فالمتكلمون لا
(1/46)
 
 
يوجبون القضاء، ووصفهم إياها بالصحة صريح في ذلك، فإن الصحة هي الغاية من العبادة، ولا يستنكر هذا، فللشافعي في القديم مثله، فيما إذا صلى بنجس لم يعلمه، أنه لا يجب القضاء، نظراً لموافقة الأمر حال التلبس، وكذا من صلى إلى جهة ثم تبين الخطأ، ففي القضاء قولان للشافعي، بل الخلاف/ (7أ/م) بينهم مفرع على أصل، وهو أن القضاء هل يجب بالأمر الأول أو بمتجدد؟ فعلى الأول بنى الفقهاء قولهم: أنها سقوط القضاء، وعلى الثاني رأى المتكلمون أنها موافقة الأمر، فلا يوجبون القضاء، ما لم يرد نص جديد به، انتهى.
ص: وبصحة العقد ترتب آثاره.
ش: قوله: (بصحة العقد) خبر مقدم، وقوله (ترتب آثاره) مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر لأمر صناعي، وهو عود الضمير من المبتدأ وهو (الهاء) في آثاره، على بعض الخبر، وهو العقد، فهو كقوله تعالى: {أم على قلوب أقفالها} وآخر بياني، وهو الحصر، فإن تقديم المعمول يفيده عند جماعة، والمعنى أن ترتيب الآثار، وهي ما شرع ذلك العقد له كالتصرف في البيع والاستمتاع في النكاح واقع بصحة العقد لا بغيره/ (6/أ/د) وهذا أولى من تعريف صحة العقد بترتب الأثر، فإن ترتب الأثر ليس نفس الصحة، وإنما هو ناشئ عنه، مع أنه لو عبر بهذه العبارة: (وقيل: صحة العقد ينشأ عنها ترتب الأثر) لأورد عليه أنه قد يتخلف ترتب الأثر كالمبيع قبل القبض، أو في زمن الخيار، فكان تعبير المصنف بأن (بصحة العقد ترتب الأثر) أولى، أي أن ترتب الأثر إذا وجد فهو ناشئ عن الصحة، ولا يلزم منه أن الصحة يلازمها
(1/47)
 
 
ترتب الأثر، ومع ذلك فيرد عليه الخلع والكتابة الفاسدان، فإنه يترتب عليهما أثرهما من البينونة والعتق، مع أنهما غير صحيحين، ويجاب عنه بأن ترتب الأثر فيهما ليس من جهة العقد بل للتعليق، وهو صحيح لا خلل فيه، ونظير ذلك القراض والوكالة الفاسدان، يصح فيهما التصرف لوجود الإذن فيه وإن لم يصح العقد.
ص: والعبادة إجزاؤها ـ أي كفايتها ـ في سقوط التعبد وقيل إسقاط القضاء.
ش: قوله: (العبادة) مجرور عطفاً على صحة العقد، أي وبصحة
(1/48)
 
 
العبادة إجزاؤها كما قال: (وبصحة العقد ترتب آثاره) أي إن إجزاء العبادة ينشأ عن صحتها فيقال: صحت العبادة فأجزأت، ثم عرف الإجزاء بأنه الكفاية في سقوط التعبد، أي كون الفعل كافياً في سقوط التعبد، ولم يقيد الفعل بكونه من المتعبد، ليتناول حج النائب عن المعضوب، ولو عبر بإسقاط/ (7/ب/م) التعبد لكان أولى، ثم حكى قولاً آخر أن الإجزاء إسقاط القضاء، وحكاه في (المنتخب) عن الفقهاء.
ص: ويختص الإجزاء بالمطلوب وقيل بالواجب.
ش: الصحة أعم من الإجزاء، فإنه يوصف بها العبادات والمعاملات، وأما الإجزاء فالمشهور اختصاصه بالمطلوب، سواء أكان واجباً أو مندوباً، وقيل: يختص بالواجب، فلا يوصف به المندوب، ونصره القرافي والأصبهاني شارحاً (المحصول) واستبعده السبكي، وقال: كلام الفقهاء يقتضي أن المندوب يوصف بالإجزاء كالفرض، وقد ورد في الحديث: (أربع لا تجزئ في الأضاحي) واستدل به من قال بوجوب الأضحية، وأنكر عليه، انتهى.
(1/49)
 
 
ص: ويقابلها البطلان وهو الفساد خلافاً لأبي حنيفة.
ش: أي إن البطلان والفساد لفظان مترادفان، وهما يقابلان الصحة، وذلك شامل للعبادات، والمعاملات، وفرق أبو حنيفة بينهما، وتحرير مذهبه في ذلك أن العوضين إن كانا غير قابلين للبيع، كبيع الملاقيح، وهي ما في بطون الأمهات بالدم فهو باطل قطعاً، وإن كانا بأصلهما قابلين للبيع ولكن اشتمالا على وصف يقتضي عدم الصحة كالربا، فإن الدراهم بأصلها قابلة للبيع، وإنما جاء البطلان/ (6/ب/ د) من الزيادة في أحدهما ففاسد قطعاً، وإن كان المبيع غير قابل للبيع دون الثمن كبيع الملاقيح بالدراهم، أو بالعكس، كبيع ثوب مثلاً بدم، ففي كل منهما خلاف، والصحيح عندهم إلحاق الأول بالأول، والثاني بالثاني، وفائدة التفصيل عندهم أن الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض دون الباطل.
(1/50)
 
 
ص: والأداء فعل بعض ـ وقيل: كل ما دخل وقته قبل خروجه.
ش: عرف المصنف الأداء بأنه فعل بعض ما دخل وقته قبل خروجه، فقوله: (فعل) جنس، وقوله: (بعض) لم يقصد به إخراج الكل، بل التنبيه على دخوله بطريق الأولى، فإنه إذا كان فعل البعض أداء ففعل الكل أولى، لكن فيه إجمال، لأنه ليس كل بعض تصير العبادة بفعله أداء، وإنما خاص بركعة بناء على الأصح أن من صلى ركعة في الوقت وباقيها خارجه كان الجميع أداء، وهذا ماش على أحد احتمالين للسبكي قال: إنه المتبادر من كلامهم: أن الوقت خرج في حق هذا كغيره، وله احتمال آخر أن الوقت لم يخرج في حقه، بل اتسع له إلى فراغ صلاته، وحينئذ فلم يفعل البعض في الوقت، والبعض خارجه، بل الجميع في الوقت، واستشهد لهذا/ (8/أ/م) الاحتمال بمفهوم قول الشافعي في (المختصر): فإذا طلعت الشمس قبل أن يصلي منها ركعة فقد خرج وقتها.
وخرج بقوله: (ما دخل وقته) فعله قبل دخول وقته، وهو باطل إلا فيما جوزه الشرع، كزكاة الفطر، فهو تعجيل، والوقت يتناول الأصل والتابع، وهو وقت العصر والعشاء في جمع التأخير، فالصحيح أن المؤخرة أداء.
وقوله: (قبل خروجه) خرج به فعله بعد خروجه، وهو القضاء، ثم حكى في تعريفه قولاً آخر: أنه فعل كل ما دخل وقته قبل خروجه، وهذا على الوجه الذاهب إلى أن الجميع قضاء، وهذا الذي اعتبره في الأداء من فعل البعض لم يعتبره الأصوليون، والظاهر أنهم لا يسمون فعل البعض ولو كان ركعة أداء، وتبع المصنف في ذلك الفقهاء، وما كان ينبغي ذلك في بيان مصطلح أهل الأصول، ولا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)) أن تكون أداء، وغايته أن الشارع
(1/51)
 
 
جعل حكمه كحكم المدرك على طريق الفضل والامتنان، والتوسيع، وإعطائه حكمه لا أنه مؤد حقيقة، كيف وتأخير الصلاة بحيث يخرج بعضها عن الوقت حرام؟ فكيف يساوي فعل هذا المرتكب للحرام فعل المصيب الموقع لجميع الصلاة في وقتها؟ ولعله عليه الصلاة والسلام إنما ذكر هذا الإدراك بالنسبة إلى إلزام الزائل عذره فعل تلك العبادة لا بالنسبة لجعله مؤدياً، ويدل لذلك أن هذا لم يطرده الفقهاء في الجمعة، بل قالوا/ (7/أ/ د) بامتناع الجمعة بخروج جزء منها عن الوقت، وإنما يكمل ظهراً، والله أعلم.
وقوله: (بعض وكل) غير منونين للإضافة، فإن أحدهما مضاف إلى قوله: (ما) والآخر إلى نظيره تقديراً، وفعل ذلك المصنف اختصاراً، وهو كقوله: (قطع الله يد ورجل من قالها) وجواز مثله خاص بالمصطحبين، كاليد والرجل، والبعض والكل، ولو اجتنب المصنف مثل هذا في التعريفات لكان أولى، فإنها موضوعة للإيضاح والبيان، وهذا ينافيه.
ص: والمؤدى ما فعل.
ش: أي ما فعل بعضه، وقيل: كله، بعد دخول وقته، وقبل خروجه، وإنما عرف المؤدى مع أنه مفهوم من تعريف الأداء لينبه على التنكيت على ابن الحاجب في تعريفه الأداء، بأنه ما فعل ... إلى آخره، فأشار إلى أنه إنما ينبغي أن يصدر بهذا تعريف المؤدى لا الأداء، ولا يجوز جعل (ما) في عبارة ابن الحاجب مصدرية، لإعادته الضمير عليها في قوله: (في وقته) ولأن الضمير إنما يعود على الأسماء، والمصدرية حرف./ (8ب/م).
ص: والوقت: الزمان المقدر له شرعاً مطلقاً.
ش: هذا تعريف للوقت المذكور في تعريف الأداء، فقوله: (الزمان) جنس، وقوله: (المقدر له شرعاً) أي للفعل، خرج به زمان الفعل المأمور
(1/52)
 
 
به من غير تعرض للزمان، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الشرع لم يقدر له زماناً، وإن كان الأمر يدل على الزمان بالالتزام، ومن ضرورة الفعل وقوعه في زمان، ولكن ليس مقصوداً للشارع، وقوله: (مطلقاً) أي سواء أكان مضيقاً كصوم رمضان، أو موسعاً كالصلوات الخمس.
قال الشارح: وقد توقت العبادة بوقت لا نهاية له، كطواف الإفاضة.
قلت: هذا مردود، فإن طواف الإفاضة لم يحد له الشرع وقتاً معيناً حتى يقال: إنه موقت، والله أعلم.
ولم يتعرض المصنفون لتعريف الوقت، وإن كانت عبارة ابن الحاجب في حد الأداء تستلزم ذلك.
وأخذ المصنف ذلك من كلام والده حيث قال: الأحسن عندي في تفسيره أنه الزمان المنصوص عليه للفعل من جهة الشرع.
وسبقه إلى ذلك الشيخ عز الدين، فقال في أماليه: الوقت على قسمين: مستفاد من الصيغة الدالة على المأمور، ووقت يحده الشارع للعبادة، والمراد بالوقت في حد الأداء هو الثاني، دون الأول، ويترتب على ذلك أنا إذا قلنا بالفور في الأمر، فأخر المأمور به، لا يكون قضاء، لأنها إنما خرجت عن الوقت الذي دل عليه اللفظ لا الوقت الذي قدره الشرع.
ص: والقضاء فعل كل ـ وقيل بعض ـ ما خرج وقت أدائه استدراكاً لما سبق له مقتض للفعل مطلقا.
ش: عرف المصنف القضاء بأنه فعل كل ما خرج وقت أدائه إلى آخره.
فالفعل جنس، وقولنا: (كل) خرج به البعض، فإنه/ (7ب/د) متى فعل البعض في الوقت كان الجميع أداء، وهذا معترض كما تقدم في تعريف الأداء، فإن
(1/53)
 
 
ذلك مخصوص في بعض، وهو ركعة.
وخرج بقوله: (ما خرج وقت أدائه) الأداء، وقوله: (استدراكاً لما سبق له مقتض للفعل) احتراز عما فعل بعد وقت الأداء، لا بقصد الاستدراك، فإنه لا يسمى قضاء، ودخل في قوله: (مقتض للفعل) أي طالب له ـ الواجب والمندوب، فكلاهما مطلوب شرعاً، وكلاهما يوصف بالقضاء، وهذا أحسن من تعبير ابن الحاجب والبيضاوي بالوجوب، والحق أنه لا يحتاج إلى هذه الزيادة، فإنه متى لم يسبق مقتض للفعل لا يكون المفعول/ (9/أ/م) بعد خروج وقت الأداء تلك العبادة بل غيرها.
وقوله: (مطلقاً) أي سواء أكان أداؤه واجباً كالصلاة المتروكة عمداً، أو لم يجب وأمكن كصوم المسافر، أو امتنع عقلاً كصلاة النائم أو شرعاً كصلاة الحائض.
ثم حكى المصنف في تعريف القضاء قولاً آخر: إنه فعل بعض ما خرج وقت أدائه إلى آخره، لأجل القول الآخر.
وقوله: (كل وبعض) غير منونين للإضافة الملفوظة والمنوية كما تقدم في نظيره.
ص: والمقضي المفعول.
ش: عبر هنا بالمفعول، لأنه أحسن وعبر هناك بما فعل إشارة للاستدراك على ابن الحاجب كما تقدم، فلا حاجة إلى تكريره.
ص: والإعادة فعله في وقت الأداء قيل: لخلل وقيل: لعذر، فالصلاة المكررة معادة.
ش: الإعادة نوع من الأداء، وهي فعله، أي فعل الأداء المعاد في وقت الأداء، ويفهم من هذا التعبير أن المراد فعله ثانياً.
وخرج بقوله: (في وقت الأداء) القضاء، ثم حكى خلافاً في أنه هل يعتبر
(1/54)
 
 
في الإعادة أن يكون فعل الثانية لخلل واقع في الأولى، وهو أن يختل فيها ركن أو شرط أو لعذر، وإن لم تكن مختلة، والمراد به أن تكون الثانية أكمل من الأولى، وإن كانت الأولى صحيحة، وبنى عليهما الصلاة المكررة فهي على الثاني معادة، وعلى الأول ليست معادة، إذ لا خلل في الأولى، وجزم البيضاوي بالأول، ورجحه ابن الحاجب.
وقال السبكي: إن كلام الأصوليين يقتضي الأول، والأقرب إلى إطلاقات الفقهاء الثاني، واللغة تساعد على ذلك، فليكن هو المعتمد، انتهى.
ولم يرجح المصنف واحداً من القولين: لأنه زيفهما في (شرح المختصر) بما إذا تساوت الجماعتان من كل وجه، ثم اختار أنها ما فعل في وقت الأداء ثانياً مطلقًا، أي أعم من أن يكون لخلل أو عذر أو غيرهما.
قال الشارح: وهو ممنوع، لأنه لا يدرى القبول في أيتهما، فالاحتياط الإعادة، كما لو ترجحت الثانية، وقد أشار إليه احتمالاً.
قلت: فيكون العذر لازماً للإعادة، لو لم يكن إلا احتمال عدم القبول، والله أعلم.
وما ذكرناه من أن الإعادة قسم/ (8/أ/د) من الأداء، وهو ما صرح به الآمدي/ (9/ب/م) وغيره.
وقال السبكي: إنه مقتضى إطلاق الفقهاء، ومقتضى كلام الأصوليين، القاضي أبي بكر في (التقريب)، و (الإرشاد) والغزالي في (المستصفى) والإمام في (المحصول)، ولكن الإمام لما أطلق ذلك ثم قال: إنه إن فعل ثانياً بعد خلل سمي إعادة، ظن صاحبا (الحاصل) و (التحصيل) أن
(1/55)
 
 
هذا مخصص للإطلاق المتقدم فقيداه، وتبعهما البيضاوي، فجعلوا الإعادة قسيمة للأداء، واعتبروا في حق الأداء ألا يسبق بأداء مختل.
قال: وليس لهم مساعدة من إطلاق الفقهاء، ولا من كلام الأصوليين، فالصواب: أن الأداء اسم لما وقع في الوقت مطلقاً مسبوقاً كان أو سابقاً، أو منفرداً، انتهى.
(1/56)
 
 
تقسيم الحكم إلى رخصة وعزيمة
ص: والحكم الشرعي إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فرخصة، كأكل الميتة، والقصر، والسلم، وفطر مسافر لا يجهده الصوم، واجباً ومندوباً ومباحاً وخلاف الأولى وإلا فعزيمة.
ش: هذا تقسيم للحكم إلى رخصة وعزيمة، ولا يحتاج لتقييده بالشرعي، فإن كلامه فيه وقد قال قبل ذلك: (ومن ثم لا حكم إلا لله) وتقديره أن الحكم إن تغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فرخصة، وإلا فعزيمة.
فخرج بقولنا: (تغير) ما كان باقياً على حكمه الأصلي وبقولنا: (إلى سهولة) الحدود والتعازير، مع تكريم الآدمي المقتضي للمنع منها، وبقولنا: (لعذر) التخصيص، فإنه تغير، لكن لا لعذر، وبقولنا: (مع قيام السبب للحكم الأصلي) ما نسخ في شريعتنا من الآصار التي كانت على من قبلنا تيسيراً وتسهيلاً، كإباحة الغنائم والإبل والشحوم، فلا يسمى نسخها لنا رخصة، وفهم من هذا أن شرط الرخصة أن يكون المقتضي للحكم الأصلي قائماً، وإنما يرجح معارضه، كأكل الميتة للمضطر، فإن دليل تحريم أكل الميتة
(1/57)
 
 
قائم مستمر، ثم قسم حكم الرخصة إلى أربعة أقسام.
أحدها: أن تكون واجبة، كأكل الميتة للمضطر على الصحيح، وقيل: بالجواز فقط.
الثاني: أن تكون مندوبة، كقصر الصلاة للمسافر إذا بلغ سفره ثلاث مراحل، خروجاً من خلاف أبي حنيفة، فإنه يوجب القصر في هذه الحالة، فإن كان دون ذلك فالإتمام أفضل، للخروج من خلافه أيضاً، فإنه يمنعه فيما دون ذلك.
(1/58)
 
 
الثالث: أن تكون مباحة كالسلم، ولو مثل بالعرايا لكان أحسن، للتصريح في الحديث بالرخصة فيها، وهو قوله/ (10أ/م): (وأرخص في العرايا) وقد تردد الغزالي في (المستصفي) في السلم فقال: قد يقال: إنه رخصة، لأن عموم نهيه عن بيع ما ليس عنده، يوجب تحريمه، ويمكن أن يقال: هو عقد آخر، فهو بيع دين، وذاك بيع عين، فافتراقهما في الشرط لا يلحق / (8ب/د) أحدهما بالرخص، فيشبه أن يكون هذا مجازاً وأن قول الراوي (نهى عن بيع ما ليس عندك) (وأرخص في السلم) تجوز في العبارة، انتهى.
الرابع: أن تكون خلاف الأولى، كالفطر في حق المسافر إذا لم يجهده الصوم، أي لم يحصل له به جهد، وهو المشقة، فإن أجهده فالأولى له الفطر.
تنبيه: فهم من اقتصاره على هذه الأقسام أنها لا تكون محرمة، ولا مكروهة، وهو ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه))
(1/59)
 
 
لكن في كلام الأصحاب ما يوهم مجيئهما مع الرخصة، أما التحريم فإنهم قالوا: لو استنجى بذهب أو فضة أجزأه مع أن استعمالهما حرام، والاستنجاء بغير الماء رخصة، كذا قال الشارح.
لكن المنقول جوازه على الصحيح، وأنه يجوز بالديباج قطعاً، وأما الكراهة فالقصر في أقل من ثلاثة مراحل فإنه مكروه، قاله الماوردي.
وقوله: (وإلا فعزيمة) أي: وإن لم يتغير الحكم بل استمر على أصله، أو تغير ولكن لا إلى سهولة، أو لا لعذر، أو لا مع قيام السبب للحكم الأصلي، فهو العزيمة، فاندرج في العزيمة هذه الأقسام كلها، وظاهر كلام المصنف انقسامها إلى الأحكام الخمسة، وهو مقتضى كلام البيضاوي، وجعلها الإمام منقسمة إليها ما عدا الحرمة، وخصها الغزالي والآمدي وابن الحاجب في مختصره الكبير بالوجوب، وخصها القرافي بالواجب والمندوب فقط، لأنها طلب مؤكد فلا يجيء المباح.
وقول والدي رحمه الله في نظم المنهاج (إن لطلب جزم حوى) يحتمل موافقة الغزالي، ويحتمل اختصاصها بالوجوب والتحريم وله وجه حسن، وإن لم أر أحداً صرح به، لأن كلاً منهما فيه عزم مؤكد، الأول في فعله، والثاني في تركه، بخلاف غيرهما من الأحكام.
ص: والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
(1/60)
 
 
ش: عبر بقوله: (ما يمكن) ولم يقل: ما يتوصل، لأن المراد التوصل بالقوة، فقد لا ينظر في الدليل، / (10 ب/ م) ولا يخرجه ذلك عن كونه دليلاً، وخرج (بصحيح النظر) فاسده، وتناول قوله: (إلى مطلوب) القطعي والظني، وهو الأمارة، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وخطأ من خصه بالقطعي، وخرج بقوله: (خبري) التصوري كالحد والرسم، فإنهما لبيان التصور، لا التصديق.
ص: واختلف أئمتنا هل العلم عقيبه مكتسب.
ش: ذهب جمهور أئمتنا إلى أن حصول العلم عقب الدليل مكتسب بقدرة حادثة، وقال الأستاذ أبو إسحاق والإمام في البرهان: هو واقع بقدرة الله تعالى اضطراراً، وليس مكتسباً حاصلاً بقدرة حادثة، إذا لو لم يكن ذلك لأمكنه / (9أ /د) تركه، وليس كذلك، فدل على أنه مضطر إليه، وعبر بقوله: (أئمتنا) ليبين أن الخلاف في ذلك بين أهل السنة.
ص: والحد الجامع المانع، ويقال: المضطرد المنعكس.
ش: عقب ذكر الدليل بذكر الحد، لأن المطلوب بالأول التصديق،
(1/61)
 
 
وبالثاني التصور، وهم قسما العلم، ولهم في الحد عبارتان.
إحداهما: أن يكون جامعاً مانعاً، أي جامعاً لأفراد المحدود، مانعاً من دخول غيره فيه، كقولنا: الإنسان حيوان ناطق، فلو جمع ولم يمنع كالإنسان حيوان، أو منع ولم يجمع، كالإنسان رجل، لم يكن حداً صحيحاً.
والثانية: أن يكون مطرداً منعكساً، أي كلما وجد الحد وجد المحدود، وكلما انتفى الحد انتفى المحدود، وقد يفهم من تقديم الاطراد على الانعكاس، أن المطرد هو الجامع والمنعكس هو المانع، وبه قال القرافي وسبقه إليه أبو علي التميمي في التذكرة في أصول الدين, لكن المشهور عكسه أن المطرد هو المانع, والمنعكس هو الجامه, وبه قال الغزالي وابن الحاجب وغيرهما.
واعلم أن استعمال المطرد مردود في العربية، وقد نص على ذلك سيبويه، فقال: يقولون: طردته فذهب، ولا يقولون: فانطرد، ولا:
(1/62)
 
 
فاطرد، وفي (الصحاح) أنه يقال في لغة رديئة، وفي (المحكم) على هذه اللغة.
أتعرف رسما كاطراد المذاهب .....
ص: والكلام في الأزل، قيل: لا يسمى خطاباً، وقيل: لا يتنوع.
ش: فيه مسألتان.
إحداهما: اختلف في أن كلام الله تعالى هل يسمى في الأزل خطاباً، أو لا يسمى بذلك إلا عند وجود المخاطب؟ والأول محكي عن الأشعري، والثاني عن القاضي أبي بكر، ولذلك قال الأشعري: إن المعدوم مأمور بالأمر الأزلي على تقدير الوجود، ويعترض على المصنف في جزمه بذلك/ (11/أ/ م) فيما تقدم عن أصحابنا فقال: ويتعلق الأمر بالمعدوم خلافاً للمعتزلة، وحكي هذا الخلاف من غير ترجيح مع أن هذه المسألة أصل لذلك.
الثانية: اختلف أيضاً في أن كلام الله تعالى هل يتنوع؟ فقال الجمهور: لا، وكونه أمراً ونهياً وخبراً، أوصاف للكلام لا أقسام له، وقال بعضهم: يتنوع إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ونداء، وزاد بعضهم أمرين آخرين وهما: الوعد الوعيد.
ص: والنظر: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن.
(1/63)
 
 
ش: هذا الحد للقاضي أبي بكر.
فقوله: (الفكر) جنس، والمراد به الفكر الذي يعد في خواص الإنسان، وهو حركة الذهن في المعقولات، أي حركة كانت، سواء في محسوس وهو المتخيل، أو في خلافه، وليس المراد به الفكر المرادف للنظر، لأنه ليس أظهر منه حتى يفسر به، ولأنه لو أراده لم يقيده بما قيده به.
وقوله: (المؤدي إلى علم أو ظن) فصل خرج به ما لا يؤدي لذلك، وهو الحدس، ودخل في إطلاق العلم التصور والتصديق، وأما الظن فلا يتناول إلا التصديق، ويسمى الأول دليلاً/ (9ب/ د) والثاني أمارة.
ص: والإدراك بلا حكم تصور، وبحكم تصديق، وجازمه الذي لا يقبل التغير علم كالتصديق، والقابل اعتقاد صحيح إن طابق فاسد إن لم يطابق، وغير الجازم ظن ووهم وشك، لأنه إما راجح أو مرجوح أو مساو.
ش: إدراك الماهية من غير حكم عليها يسمى تصوراً، ومع الحكم يسمى تصديقاً، لكن هل التصديق مجموع الأمرين، أو الحكم وحده؟ ذهب الإمام فخر الدين إلى الأول، وقال الشيخ تقي الدين: إنه أقرب.
ثم قسم المصنف الإدراك مع الحكم إلى جازم وغيره، فالجازم إن لم يقبل التغير ـ أي لا في نفس الأمر، ولا بالتشكيك ـ فهو العلم، وإن قبل التغير فهو اعتقاد، ثم إن طابق الواقع فهو اعتقاد صحيح، وإن لم يطابق فهو اعتقاد فاسد، وأما غير الجازم فهو منقسم إلى ظن ووهم وشك، لأنه إما أن يترجح أحد طرفيه أو لا، بل يتساويان، فإن ترجح أحدهما فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإن تساويا يسمى كل منهما شكا، هذه طريقة الأصوليين.
(1/64)
 
 
وأما الفقهاء، فالأغلب عندهم إطلاق/ (11 ب/ م) الشك على غير الجازم، ولو راجحاً أو مرجوحاً.
واعترض على المصنف فإنه جعل الشك والوهم من أقسام التصديق، مع أنه لا حكم فيهما، وأجيب عنه بأن الوهم حاكم بالطرف المرجوح حكماً مرجوحاً، والشاك حاكم بجواز وقوع كل من النقيضين بدلاً عن الآخر، والله أعلم.
ص: والعلم قال الإمام: ضروري، ثم قال: هو حكم الذهن الجازم المطابق لموجب، وقيل: ضروري فلا يحد، وقال إمام الحرمين: عسر فالرأي الإمساك عن تعريفه.
ش: اختلف في العلم، فقال الإمام في المحصول: هو ضروري، أي: تصوره بديهي، لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا به فيستحيل أن يكون غيره كاشفاً له، ثم إن الإمام بعد ذلك ذكر تقسيماً حصر فيه العلم وأضداده، عرفه فيه بأنه الحكم الجازم المطابق لموجب، فاقتضى كلامه أنه ضروري، وأنه يحد وهذا متناقض، فإنه إذا كان تصوره ضرورياً، فكيف يحد ليتصور؟!
فقوله: (الجازم) خرج به الظن والشك والوهم.
وقوله: (المطابق) خرج به الجهل.
وقوله: (لموجب) خرج به التقليد.
ثم حكى المصنف قولاً أنه ضروري فلا يحد، واقتضى كلامه أن هذا غير مقالة الإمام.
وقال إمام الحرمين: (حده عسر) وإنما يعرف بالتقسيم والمثال، وهذا
(1/65)
 
 
أولى من نقل ابن الحاجب عنه منع حده، فإنه صرح في البرهان وغيره بإمكان التعبير عنه، وأن العسر الحد بجميع أنواع التعريف.
وفي المستصفى اختصاص ذلك بالحقيقي، وهو توسط بينهما، ومال المصنف إلى مقالة إمام الحرمين فقال: فالرأي الإمساك عن تعريفه.
ص: ثم قال المحققون: لا يتفاوت، وإنما التفاوت بكثرة المتعلقات.
ش: كذا حكاه إمام الحرمين في (الشامل) عن المحققين، واختاره هو/ (10/أ/د) والإبياري في (شرح البرهان)، ولكن الأكثرون على التفاوت، أي يكون علم أجل من علم، ونقله في (البرهان) عن أئمتنا ومن فوائد الخلاف أن الإيمان هل يزيد وينقص بناء على أنه من قبيل العلوم لا الأعمال خلافاً للمعتزلة.
ص: والجهل انتفاء العلم بالمقصود وقيل تصور المعلوم على خلاف هيئته.
ش: هذا الخلاف أخذه المصنف من قصيدة ابن مكي المعروفة بـ
(1/66)
 
 
(الصلاحية) لترغيب السلطان صلاح الدين/ (12أ/م) فيها، فصدر كلامه بأنه انتفاء العلم بالمقصود، ثم حكى قولاً: أنه تصور المعلوم على خلاف هيئته.
والمعروف تقسيم الجهل إلى بسيط ومركب، فالبسيط هو المذكور في الحد الأول، والمركب هو المذكور في الحد الثاني، هكذا ذكره الإمام والآمدي وغيرهما، وقال الرافعي في الكلام على قاعدة مد عجوة: معنى الجهل المشهور الجزم بكون الشيء على خلاف ما هو عليه، ويطلق ويراد به عدم العلم انتهى.
ويسمى الأول بسيطاً، لأنه جزء واحد، كانتفاء علمنا بما تحت الأرض، وفي قعر البحر، وسمي الثاني مركباً، لأنه مركب من جزأين: أحدهما عدم العلم، والثاني اعتقاد غير مطابق، ولو قال المصنف: (تصور الشيء) لكان أولى من المعلوم، لأن هذا جهل لا علم فيه، وقوله: (على خلاف هيئاته) أي على خلاف الواقع، وخرج به تصوره بهيئاته فإنه علم.
قال المصنف: وهذا أحسن من قول إمام الحرمين: (على خلاف ما هو
(1/67)
 
 
به) فإن ظاهره التدافع، لأن تصور المعلوم يعطي وقوع تصوره، وقوله: (على خلاف ما هو به) يعطي أنه لم يقع تصوره.
قال الشارح: وقد يجاب عن إمام الحرمين بأن المراد بقوله: (تصور الشيء) على ما في زعمه، وقوله: (على خلاف ما هو به في نفس الأمر.
قلت: لم يظهر لي التفاوت بين تعبير إمام الحرمين، والمصنف.
ص: والسهو الذهول عن المعلوم.
ش: خرج بقوله: (عن المعلوم) الذهول عما لا يعلم، لا يقال له سهو، وقال السكاكي: السهو ما ينبه صاحبه بأدنى تنبيه، وقال بعضهم: زمن السهو قصير، بخلاف النسيان، فإن زمنه طويل لاستحكامه.
ص: مسألة: الحسن: المأذون واجباً ومندوباً ومباحاً، قيل: وفعل غير المكلف، والقبيح: المنهي ولو بالعموم، فدخل خلاف الأولى، وقال إمام الحرمين: ليس المكروه قبيحاً ولا حسناً.
ش: ينقسم الفعل الذي هو متعلق الحكم إلى حسن وقبيح، وعرف المصنف رحمه الله الحسن بالمأذون فيه، ثم ذكر أنه يندرج فيه الواجب والمندوب والمباح وفعل غير المكلف، وفي اندراج فعل غير المكلف في ذلك إشكالان:
(1/68)
 
 
أحدهما أن كلامه في الفعل/ (12/ب/ م) الذي هو متعلق الحكم وهو فعل المكلف، فلا يصح أن يدخل تحت أحد قسميه ـ وهو الحسن ـ فعل غير المكلف، وهذا كما لو قال: فعل المكلف ينقسم إلى فعل مكلف، وإلى فعل غير مكلف.
وأجيب عنه بأن الحسن مع قطع النظر عن كونه أحد قسمي فعل المكلف يتناول فعل المكلف وغيره، ومن حيث كونه أحد قسمي فعل المكلف لا يتناول فعل/ (10 ب/ د) غيره، فكلامه في الحسن مع قطع النظر عن كون فعل المكلف.
ثانيهما: أن فعل غير المكلف لم يؤذن فيه شرعاً، فكيف يندرج تحت المأذون.
وفي بعض النسخ ذكر فعل غير المكلف بصيغة التمريض، فقال: (قيل، وفعل غير المكلف) وكأنه أشار بذلك للبيضاوي، ولو عبر كما عبر البيضاوي بأنه: (ما لم ينه عنه) لكان اندراج فعل غير المكلف فيه واضحاً، فإنه لا نهى عنه، ولا أذن فيه.
ثم ذكر المصنف أن القبيح هو المنهي عنه، فاندرج فيه المنهي عنه بالجزم، وهو الحرام، وبغير الجزم، وهو المكروه، ثم ذكر أنه لا فرق في النهي
(1/69)
 
 
غير الجازم بين أن يكون بخصوص وهو المكروه، أو بعموم وهو خلاف الأولى.
قال الشارح: وفي إطلاق القبيح على خلاف الأولى نظر، ولم أره لغير المصنف، وغايته أنه أخذه من إطلاقهم المنهي عنه والأقرب أنهم أرادوا النهي المخصوص، ولا يساعده قول ابن الحاجب تبعاً للغزالي وغيره: إن المكروه يطلق على خلاف الأولى، لأنه لبيان إطلاق حملة الشرع والكلام في حقيقة القبيح، والظاهر أن المصنف أخذ هذا من كلام الهندي، فإنه قال: القبيح عندنا ما نهي عنه، ونعني به ما يكون تركه أولى، وهو القدر المشترك بين المحرم والمكروه، فإن جعل النهي حقيقة فيه فلا كلام وإلا فاستعماله فيه بطريق التجوز، فيدخل تحته المحرم والمكروه، انتهى.
ثم حكي عن إمام الحرمين أن (المكروه ليس قبيحاً ولا حسناً) وقد علل ذلك بأن القبح ما يذم عليه، والحسن ما يسوغ الثناء عليه، وهذا لا يذم عليه، ولا يسوغ الثناء عليه.
قال السبكي: ولم نر أحداً نعتمده خالف إمام الحرمين فيما قال، إلا أناساً أدركناهم قالوا: إنه قبيح، لأنه منهي عنه، والنهي أعم من نهي تحريم وتنزيه.
وعبارة البيضاوي بإطلاقها تقتضي ذلك/ (13أ/م) وليس أخذ المذكور من هذا الإطلاق بأولى من رد هذا الإطلاق، لقول إمام الحرمين، انتهى.
قلت: وإذا قال إمام الحرمين هذا في المكروه، فكيف يقول في خلاف الأولى، والله أعلم.
ص: مسألة: جائز الترك ليس بواجب وقال أكثر الفقهاء، يجيب الصوم على الحائض والمريض والمسافر، وقيل: المسافر دونهما، وقال الإمام: عليه أحد الشهرين، والخلف لفظي.
ش: صدر المسألة بأن جائز الترك ليس بواجب، لأنه يدخل في ذلك
(1/70)
 
 
مسائل، ووجهه أن الواجب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك، فلو كان جائز الترك واجباً لاستحال كونه جائزاً، وكان ينبغي أن يزيد: (مطلقاً) ليخرج الواجب الموسع والمخير، فإنه يجوز تركهما في حالة لا مطلقاً، ومع ذلك فهما واجبان.
فمن المسائل الداخلة في الأصل أن الحائض والمريض والمسافر لا يجب عليهم صوم شهر رمضان، لأنهم يجوز لهم تركه، وقد نص الشافعي على ذلك/ (11/ أ/د) في الحائض، وقال النووي: أجمع المسلمون على أنه لا يجب عليهم الصوم في الحال، ثم قال الجمهور: ليست مخاطبة به في زمن الحيض، وإنما يجب القضاء بأمر جديد، وذكر بعض أصحابنا وجهاً: أنها مخاطبة به في حال الحيض، وتؤمر بتأخيره، انتهى.
وخالف في ذلك بعض الفقهاء، فأوجب الصوم عليهم، وتبع المصنف في نقله ذلك عن أكثر الفقهاء صاحب (المحصول) قاله الشارح.
قلت: الذي في (المحصول) نقله عن كثير من الفقهاء، وحكاه الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول عن مذهبنا، والقول بوجوبه على المسافر دونهما حكاه ابن السمعاني عن الحنفية.
وقوله: (وقال الإمام عليه) أي على المسافر (أحد الشهرين) أي:
(1/71)
 
 
إما الحاضر أو آخر غيره، وأيهما أتى به كان هو الواجب، كخصال الكفارة، وهذا قول القاضي أبي بكر.
وقوله: (والخلف لفظي) تبع فيه الشيخ أبا إسحاق فقال: لا فائدة له، لأن تأخير الصوم حالة العذر جائز بلا خلاف، والقضاء بعد زواله واجب بلا خلاف، وحكى ابن الرفعة عن بعضهم أن فائدة الخلاف تظهر فيما إذا قلنا: إنه يجب التعرض للأداء والقضاء في النية.
انتهى.
وقال الشارح: فائدته في أنه هل وجب بأمر جديد أو بالأمر الأول؟
قلت: وقد تظهر فائدته فيما إذا حاضت المرأة بعد الطواف وقبل أن تصلي ركعتيه، هل تقضيهما؟ / (13/ب/م) وقد نقل النووي في شرح المهذب عن ابن القاص،
(1/72)
 
 
والجرجاني أنها تقضيهما، وأن الشيخ أبا علي أنكره، قال: هو الصواب، ولكنه جزم في شرح مسلم بمقالة ابن القاص والجرجاني ونقلها عن الأصحاب.
ص: وفي كون المندوب مأموراً به خلاف، والأصح ليس مكلفاً به.
ش: فيه مسألتان:
إحداهما: في كون المندوب مأموراً به خلاف أكثر أصحابنا، كما حكاه ابن الصباغ في (العدة) على أنه مأمور به حقيقة، وحكاه القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي، واختار الشيخ أبو حامد وغيره أنه ليس مأموراً به حقيقة بل مجازاً.
(1/73)
 
 
قال الشارح: وظاهر كلام المصنف أن الخلاف في كونه مأموراً به أم لا، وإنما الخلاف في أنه حقيقة أو مجاز.
قلت: إذا قلنا: إن الأمر به مجاز صح نفي أنه مأمور به، فإن علامة المجاز صحة النفي، فصح ما قاله المصنف.
الثانية: في كونه مكلفاً به خلاف أيضاً، الأصح ليس مكلفاً به، فإن التكليف يشعر بتطويق المخاطب الكلفة من غير خيرة، والندب فيه تخيير، وهذا اختيار إمام الحرمين ومقابله مذهب القاضي.
ص: وكذا المباح، ومن ثم كان التكليف إلزام ما فيه كلفة لا طلبه، خلافاً للقاضي.
ش: أي اختلف في المباح أيضاً هل هو مكلف به؟ والأصح عند الجمهور أنه غير مكلف به، ومقابله للأستاذ، ووجهه أنا كلفنا، باعتقاد إباحته، ورد بأن العلم بحكم الشيء خارج عنه.
فأشار بقوله: (ومن ثم) / (11ب/ د) إلى أن الخلاف في المسألتين مبني على الخلاف في حقيقة التكليف، فالجمهور على أنه إلزام ما فيه كلفة، فلا يكون المندوب والمباح مكلفاً بهما.
وقال القاضي أبو بكر: هو طلب ما فيه كلفة، فيكونان مكلفاً بهما، وما أدري أي طلب في المباح!!
(1/74)
 
 
وهذا النقل عن القاضي هو في (البرهان) لإمام الحرمين، لكنه في التلخيص من (التقريب) للقاضي صرح بأنه إلزام ما فيه كلفة، وإذا كان المندوب والمباح غير مكلف بهما فالمكروه أولى بذلك، ففهم الخلاف فيه منهما، وقد صرح بهما ابن الحاجب في (مختصره).
ص: والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب.
ش: هذا مبني على تفسيره بأنه التخيير بين الفعل والترك، فإنه لو كان جنساً له لكان نوعه وهو الواجب كذلك، وهذا محال، ومقابله مبني على تفسيره بعدم الحرج، وثبوت هذا للواجب صحيح، ولهذا كان الخلاف في ذلك لفظياً، كما ذكره المصنف بعد، وهو راجع/ (14أ/م) للمسألتين معاً.
ص: أنه غير مأمور به من حيث هو، والخلف لفظي.
ش: الجمهور على أن المباح غير مأمور به.
وقال الكعبي: هو مأمور به لكنه دون الأمر بالندب، كما أن الأمر بالندب دون الأمر بالإيجاب، كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر والغزالي، وحكى عنه الإمام الرازي أنه واجب، لأن فعل المباح ترك الحرام، وترك الحرام واجب، ففعل المباح واجب، ثم رده بأن فعل المباح ليس هو ترك الحرام، بل هو شيء يحصل به، وفي هذا تسليم لكلامه لأنه إذا حصل به وبغيره كان من الواجب المخير، ولهذا قال الآمدي: إنه صادر ممن لم يعرف غور كلامه، وأنه لا خلاص عنه إلا بمنع وجوب المقدمة، ولهذا لما نفى
(1/75)
 
 
المصنف أنه مأمور به قيد ذلك بقوله: (من حيث هو) أي بالنظر إلى ذاته، أي إما بالنظر إلى غيره، وهو أنه يحصل به ترك الحرام كما يحصل بغيره، فهو مأمور به أو بغيره، فهو من الواجب المخير، ولذلك قال: إن الخلاف في ذلك لفظي، ومن العجب، ما حكاه عنه إمام الحرمين وابن برهان والآمدي من إنكار المباح في الشريعة، وأنه لا وجود له أصلاً وهو خلاف الإجماع.
ص: وأن الإباحة حكم شرعي.
ش: أي ورد بها الشرع، وهذا مبني على تفسيرها بالتخيير بين الفعل والترك، والمخالف فيه بعض المعتزلة، وهو مبني على تفسيرها بنفي الحرج، وهذا ثابت من قبل الشرع، فهذا الخلاف أيضاً لفظي، فلو أخر المصنف قوله (والخلف لفظي) عن هذه المسألة لعاد للمسائل الثلاث.
ص: وأن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز أي عدم الحرج، وقيل: الإباحة وقيل: الاستحباب.
ش: إذا أوجب الشارع شيئاً ثم نسخ وجوبه/ (12أ/ د) فهل يبقى جوازه؟ قال الأكثرون: نعم. وقال الغزالي: لا، بل يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل الإيجاب، من إباحة، أو تحريم، أو براءة أصلية.
وحكاه القاضي أبو بكر عن بعض الفقهاء، وقال: تشبث صاحبه بكلام ركيك تزدريه أعين ذوي التحقيق، وادعى الشارح أنه الذي وجده في كلام أكثر أصحابنا الأقدمين، ثم حكى المصنف ثلاثة أقوال في المراد بالجواز هنا:
أشهرها: أنه رفع الحرج، عن الفعل.
والثاني: رفع الحرج عن الفعل والترك مع استواء الطرفين، وهو المراد بالإباحة.
والثالث: رفع الحرج عنهما، مع ترجيح الفعل وهو الاستحباب، وهذا غريب.
(1/76)
 
 
وكلام الغزالي وغيره/ (14ب/م) يقتضي أنه لم يقل به أحد، لكن كلام المجد ابن تيمية في (المسودة) يقتضيه، فإنه قال: إذا صرف الأمر عن الوجوب جاز أن يحتج به على الندب والإباحة، وبه قال بعض الشافعية والحنفية، كذا قال الشارح، وفيه نظر، فإن الذي في كلام ابن تيمية هو القول الأول، وهو بقاء القدر المشترك بين الندب والإباحة، وهو رفع الحرج عن الفعل، وليس فيه تعيين أن الباقي الندب كما في القول الثالث، والله أعلم.
وقال بعضهم: الخلاف لفظي، فإنا إن فسرنا الجواز برفع الحرج عن الفعل فلا شك أنه في ضمن الوجوب، وإن فسرناه برفع الحرج عن الفعل والترك، فليس هو في ضمن الواجب بل ينافيه.
ص: مسألة: الأمر بواحد من أشياء يوجب واحداً لا بعينه، وقيل: الكل ويسقط بواحد، وقيل: الواجب معين، فإن فعل غيره سقط، وقيل: هو ما يختاره المكلف.
ش: الأمر بواحد من أشياء وهو الواجب المخير كخصال الكفارة فيه مذاهب.
أصحها: أن الواجب منها واحد لا بعينه، وحكى القاضي أبو بكر إجماع سلف الأمة وأئمة الفقهاء عليه، وحرر ابن الحاجب معنى الإبهام فيه فقال: إن متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال، ولا تخيير فيه، لأنه لا يجوز تركه، ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال، ولا وجوب فيها.
(1/77)
 
 
قلت: أراد بالقدر المشترك أحد قسميه وهو المبهم بين شيئين أو أشياء، كأحد الرجلين، فأما القسم الآخر وهو المتواطئ، كالرجل فلا إبهام فيه، لأن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها، ولا يقال: إن الوجوب يتعلق بخصوصياته لا على التعيين، ولا على التخيير، وليس من الواجب المخير في شيء، والله أعلم.
الثاني ـ وهو قول المعتزلة ـ أن الكل واجب، لا على معنى أنه يجب الإتيان بجميعها، بل يسقط الواجب بفعل واحد منها، فلا خلاف بيننا وبينهم في المعنى، لكن فروا من انتفاء وجوب بعضها، لما فيه من التخيير بين واجب وغيره، بناء على قاعدتهم في أن الأحكام تابعة للمصالح، فإن كان بعض الخصال ليس فيه مقتضى الوجوب لم يصح التخيير بينه وبين/ (12ب/د) ما فيه مقتضى الوجوب وإلا لزم القول بوجوب الكل.
الثالث: أن الواجب معين، أي عند الله تعالى، ويسمى هذا قول التراجم، لأن كلا من الأشاعرة والمعتزلة ترويه عن الأخرى/ (15أ/م) وهي تنكره، فاتفق الفريقان على بطلانه.
قال والد المصنف: وعندي أنه لم يقل به قائل، وعلى هذا القول قولان:
أحدهما: أن الآتي ببعض الخصال إن صادف الواجب فذاك، وإلا فقد أتى ببدله، فيسقط الوجوب بفعل ذلك البدل.
ثانيهما: أن الواجب يتعين باختيار المكلف، فأي خصلة أتى بها تعينت للوجوب.
ص: فإن فعل الكل فقيل الواجب أعلاها وإن تركها فقيل: يعاقب على أدناها.
(1/78)
 
 
ش: المراد ما إذا فعلها دفعة واحدة، فإنه إذا أتى بها على التعاقب كان الأول هو الواجب، والقول بأن الواجب أعلاها، وأنه في الترك يعاقب على أدناها حكاه في (المحصول).
وقال ابن التلمساني: إنه الحق، وحكاه ابن السمعاني في (القواطع) عن الأصحاب، وضعفه صاحب (الحاصل) لأنه يوجب تعيين الواجب، وفيه نظر، فإنه لا يلزم من تعيينه بعد الإيقاع تعينه في أصل التكليف والمحذور هو الثاني.
ص: ويجوز تحريم واحد لا بعينه، خلافاً للمعتزلة، وهي كالمخير، وقيل: لم ترد به اللغة.
ش: اختلف في الحرام المخير فأثبته الأشاعرة، ونفاه المعتزلة، ومثاله نكاح الأختين، ونقل السبكي عن شيخه علاء الدين الباجي أنه قال: الحق نفيه، لأن المحرم، الجمع بينهما لا إحداهما، ولا كل واحدة منهما، ثم قال السبكي: وأنا أقول كذلك: إن المحرم في الأختين الجمع بينهما، وأثبت الحرام المخير، وأمثله، بما إذا أعتق إحدى أمتيه، فإنه يجوز له وطء إحداهما، ويكون الوطء تعييناً للعتق في الأخرى، وكذا طلاق إحدى امرأتيه، إذا قلنا بأحد القولين: إن الوطء تعيين، قال: ففي هذين المثالين الحرام واحدة، لا بعينها.
وهذه المسألة كالتخيير، وهو الأمر بخصلة مبهمة من خصال معينة، وبنى المعتزلة نفي الحرام المخير على أصلهم في تبعية الحكم للمصالح، وقالوا: النهي عن إحداهما يدل على قبحهما، فيجب اجتنابهما فلا يثبت الحرام المخير، فامتناعه من جهة العقل، وحكى المصنف قولاً أن امتناعه من جهة اللغة، فإنها لم ترد به، وأجاب قائل هذا عن قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفوراً}
(1/79)
 
 
بأن (أو) بمعنى (الواو) وقال إمام الحرمين: إنه ساقط لا طائل وراءه.
ص: مسألة: فرض الكفاية، مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله.
ش: عرف الغزالي فرض الكفاية بأنه كل مهم ديني، يقصد به الشرع حصوله، من غير نظر إلى فاعله، وحذف المصنف قوله: (ديني) لأن فرض/ (15ب/ م) الكفاية يكون في الحرف والصناعات/ (13أ/د) وليست دينية، وزاد قوله: (الذات) لأنه لا يقال في فرض الكفاية: (إن فاعله غير مقصود مطلقاً، فإن انتفاء ذلك إنما هو بالذات، لكن هو مقصود بالعرض، إذ لا بد للفعل من فاعل، ولهذا تعلق به الثواب، فقوله: (مهم يقصد حصوله) جنس متناول لفرض الكفاية والعين، وقوله: (من غير نظر إلى فاعله) فصل أخرج فرض العين.
ص: وزعمه الأستاذ وإمام الحرمين وأبوه أفضل من العين.
ش: قال النووي في (زيادة الروضة): قال إمام الحرمين: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأن فاعله ساع في صيانة الأمة كلها عن المأثم، ولا شك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهمات الدين، انتهى.
وقوله: (الذي أراه) يوهم أنه تفقه له، وليس كذلك، فقد نقله ابن الصلاح
(1/80)
 
 
في فوائد الرحلة عن الشيخ أبي محمد، والأستاذ أبي إسحاق، بل نقله الشيخ أبو علي السنجي في أول (شرح التلخيص) عن المحققين.
وزعم الشارح أن بين تعبير المصنف بأنه أفضل وبين تعبير غيره بأن القيام به أفضل تفاوتاً، وفيه نظر، فإنه لا يراد تفضيل ذات العبادة، بل تفضيل القيام بها بمعنى كثرة ثوابه، ولذلك علل بسعيه في إسقاط الإثم عن الأمة، فلا تفاوت، لأن هذا التقدير مراد بلا شك، والله أعلم.
ص: وهو على البعض وفاقاً للإمام، لا الكل خلافاً للشيخ الإمام والجمهور.
ش: اختلف في أن فرض الكفاية يتعلق بجميع المكلفين أو ببعضهم، فقال بالأول الجمهور، وعليه مشى الشيخ الإمام والد المصنف، وقال بالثاني الإمام الرازي، كذا في موضع من (المحصول) وفي موضع آخر موافقة الجمهور،
(1/81)
 
 
واحتج المصنف لتعلقه بالبعض بقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} وبقوله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} واستدل القرافي بهاتين الآيتين على أن الوجوب متعلق بالمشترك، لأن المطلوب فعل أحد الطوائف، ومفهوم أحد الطوائف قدر مشترك بينهما لصدقه على كل طائفة، كصدق الحيوان على سائر أنواعه.
ص: والمختار البعض مبهم، وقيل: معين عند الله تعالى، وقيل: من قام به.
ش: هذا الخلاف مفرع على تعلقه بالبعض، فحكي عن المعتزلة أنه يتعلق ببعض مبهم، وهو مقتضى كلام (المحصول) وإذا قلنا ببعض معين، فهل هو بعض معين عند الله دون الناس، أو هو من قام به؟ قولان، وهو نظير الخلاف في الواجب المخير.
ص: / (16أ/م) ويتعين بالشروع على الأصح.
ش: هذه مسألة فقهية، لم يتعرض لها أهل الأصول، وهذا الترجيح لابن الرفعة في (المطلب) في باب الوديعة.
وقال البارزي في (التمييز): لا يلزم فرض الكفاية بالشروع في الأصح، إلا في الجهاد، وصلاة الجنازة، انتهى.
ولم يرجح الرافعي والنووي / (13ب/ د) في هذه القاعدة شيئاً مخصوصاً، وهي عندهما من
(1/82)
 
 
القواعد التي لا يطلق فيها ترجيح لاختلاف الترجيح في فروعها.
ص: وسنة الكفاية كفرضها.
ش: هذا يقتضي انقسام السنة إلى كفاية، وعين، فالقصد في سنة الكفاية الفعل من غير نظر إلى الفاعل، كتشميت العاطس، وابتداء السلام، ويقتضي شيئين آخرين
أحدهما: طرد الخلاف في أنها مطلوبة من الجميع أو البعض.
قال الشارح: ولم أر من تعرض لذلك.
ثانيهما: أنها أفضل من سنة العين.
قلت: قد ينازع في ذلك لانتفاء العلة، وهي السعي في إسقاط الإثم عن الأمة، وهذا لا يحصل بفعله الثواب لغيره، ولا إثم في الترك، والله أعلم.
ص: مسألة: الأكثر أن جميع وقت الظهر جوازاً، ونحوه وقت لأدائه، ولا يجب على المؤخر العزم على الامتثال خلافاً لقوم، وقيل: الأول، فإن أخر فقضاء، وقيل: الآخر فإن قدم فتعجيل والحنفية: ما اتصل به الأداء من الوقت وإلا فالآخر، والكرخي، إن قدم وقع واجباً بشرط بقائه مكلفاً.
ش: اختلف في إثبات الواجب الموسع، وهو ما كان وقته زائداً على فعله، كصلاة الظهر، فأثبته الجمهور، بمعنى أن جميعه وقت لأدائه، فأي جزء أوقعه فيه وقع عن الواجب.
وتقييد المصنف وقت الظهر بالجواز ليخرج وقت الضرورة كوقت العصر في حق المسافر، وهو من زيادة المصنف على غيره.
وقوله: (ونحوه) أي ونحو وقت الظهر من الواجبات الموسع وقتها،
(1/83)
 
 
ثم اختلف هؤلاء في أنه إذا أخرها عن أول الوقت هل يجب عليه العزم على إيقاعها في بقية الوقت أم لا يجب ذلك؟ فنقل الإمام الرازي وجوب العزم عن أكثر أصحابنا، وأكثر المعتزلة، ونصره القاضي أبو بكر والآمدي وصححه النووي في (شرح المهذب) وادعى المصنف أن ذلك لا يعرف إلا عن القاضي ومن تابعه كالآمدي، وأنه معدود من هفواته، ومن العظائم في الدين، فإنه إيجاب بلا دليل.
وعلى القول بإنكار الواجب الموسع أربعة أقوال، حكاها المصنف.
أحدها: أن الواجب يختص بأول الوقت، فإن أخره كان قضاء، حكاه الإمام والرازي في (المعالم) عن بعض الشافعية، وهو غلط، فلم يقل به أحد منهم، ولعل سبب الاشتباه أن الشافعي حكاه في (الأم) عن بعض أهل الكلام وغيرهم ممن/ (16ب/م) يفتي.
الثاني: أن الوجوب يختص بآخر الوقت، فإن فعله في أوله كان تعجيلاً وهو محكي عن الحنفية.
الثالث: أنه يختص بالجزء الذي يتصل به الأداء، وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفضل عنه، وحكاه المصنف عن الحنفية تبعاً لقول والده والصفي الهندي أنه المشهور عندهم.
الرابع: وهو محكي عن الكرخي، أنه إن أوقع العبادة في أول الوقت وقع فعله واجباً بشرط بقائه/ (14أ/ د) مكلفاً، فإن مات في أثناء الوقت أو خرج عن التكليف بجنون أو نحوه فما فعله أولاً نفل، كذا حكاه عنه الإمام والآمدي وابن الحاجب، وحكى عنه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع أن الواجب يتعين بالفعل في أي وقت كان، وحكى عنه الآمدي القولين معاً، ولم يحك المصنف هذه المقالة الأخيرة، وبها تكمل في المسألة سبعة مذاهب.
(1/84)
 
 
ص: ومن أخر مع ظن الموت عصى، فإن عاش وفعله فالجمهور أداء، وقال القاضيان أبو بكر والحسين: قضاء.
ش: إذا ظن المكلف أنه لا يعيش إلى آخر الوقت، تضيق عليه الوقت اعتباراً بظنه، فإن أخر العبادة عصى فإن تخلف ظنه فعاش وفعلها في الوقت فقال الجمهور، هي أداء، إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه، حكاه عنهم ابن الحاجب، وقال السبكي: إنه الحق.
وقال القاضي أبو بكر والقاضي الحسين: هي قضاء.
وقال الشارح: إنه لا يعرف عن القاضي حسين التصريح بذلك، والظاهر أن المصنف أخذه بالاستلزام من قوله، فيما إذا شرع في الصلاة ثم أفسدها ثم صلاها في وقتها إنها قضاء لتضيق الوقت بالشروع، فإنه لا يجوز له الخروج عنها، فلم يبق لها وقت شروع، فكانت قضاء، وفيه نظر، فإن القاضي أبا بكر قال: إنها قضاء لاعتقاده أن الوقت خرج، وقال القاضي الحسين: إن الوقت باق مع كونها قضاء.
قلت: الظاهر أن مراد القاضي حسين بقاء الوقت في حق غيره، لا في حقه هو، فهي كمقالة القاضي أبي بكر، والله أعلم.
واعلم أن تصوير المسألة بالموت مثال، فلو ظن الفوات بسبب آخر كإغماء وجنون وحيض فالحكم كذلك، ولهذا قال في (النهاية): لو اعتادت طرو الحيض عليها في أثناء الوقت من يوم معين تضيق الوقت عليها.
ص: ومن أخر مع ظن السلامة فالصحيح لا يعصي بخلاف ما وقته العمر كالحج.
ش: هذا مقابل لقوله فيما تقدم: (ومن أخر مع ظن الموت) والقسمان في
(1/85)
 
 
الواجب المؤقت المحدود الطرفين، فإذا أخر الصلاة مع ظن السلامة بالاستصحاب فمات في أثناء / (17أ/ م) الوقت فالصحيح أنه لا يعصي، لأنه مأذون له في التأخير، وقيل: يعصي، وإلا لم يتحقق الوجوب، أما لو أخر فنام إلى خروج الوقت عن غير غلبة فإنه يعصي إن غلب على ظنه أنه لا يستيقظ إلا بعد خروجه، أو استوى عنه الاحتمالان كما صرح ابن الصلاح بالثانية.
أما الموسع بمدة العمر كالحج وقضاء الفائتة بعذر فإنه يعصي فيه بالموت، على الصحيح، وإن لم يغلب على ظنه قبل ذلك الموت، وقيل: لا، وقيل: يعصي الشيخ دون الشاب، واختاره الغزالي، وحكى الجوزي عن الأصحاب تقدير التأخير المستنكر ببلوغه نحوا من خمسين سنة أو ستين سنة، وهو غريب، والفرق على الصحيح بين هذا وبين المحدود الطرفين خروج الوقت في الحج بالموت بخلاف الصلاة، فإن وقتها باق، ونظير/ (14 ب/د) الحج أن يموت آخر وقت الصلاة فإنه يعصي لخروج الوقت والله أعلم.
ص: مسألة: المقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب، وفاقاً للأكثرين، وثالثها إن كان سبباً كالنار للإحراق، وقال إمام الحرمين: إن كان شرطا شرعياً لا عقلياً أو عادياً.
ش: الشيء الذي لا يتم الواجب إلا به، وهو المسمى بالمقدمة هل هو واجب أم لا؟ حكى فيه المصنف أربعة مذاهب.
الأول ـ وبه قال الأكثرون ـ: أنه واجب، سواء كان سبباً وهو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، أو شرطاً وهو الذي يلزم من عدم العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وسواء كانا شرعيين أو عقليين أو عاديين.
واعلم أنه دخل فيما لا يتم الواجب إلا به جزء الواجب، وليس مراداً هنا، لأن الأمر بالكل أمر به تضمنا بلا خلاف.
الثاني: أنه غير واجب.
(1/86)
 
 
الثالث: أنه واجب، إن كان سبباً كالنار للإحراق فيما إذا وجب إحراق زيد فإنه يتوقف على النار التي هي سبب الإحراق، بخلاف الشرط، فإنه لا يجب.
الرابع: أنه يجب الشرط إن كان شرعياً كالوضوء للصلاة، دون العقلي والعادي، وبه قال إمام الحرمين، واختاره ابن الحاجب، وإذا قلنا بالأول، فله شرطان.
أحدهما: أن يكون مقدوراً للمكلف، واحترزنا بذلك عن القدرة والداعية فإن الإتيان الفعلي متوقف على القدرة، وهي إرادة الله تعالى له، والداعية وهي العزم المصمم على الفعل، وإلا لكان وقوعه في وقت دون وقت ترجيحاً من غير مرجح، وهما غير مقدورين للمكلف، فلا يجبان عليه.
قال الشارح: وهذا الشرط يعتبره من لم يجوز تكليف ما لا يطاق، دون من يجوزه، كذا قاله الصفي الهندي، وحينئذ فالمصنف ممن يجوزه كما سيأتي، فكيف يحسن منه هذا التقييد!!
قلت: وبما ذكرنا ينتفي هذا الإيراد لتعييننا/ (17ب/م) أن الاحتراز عن القدرة والداعية خاصة، وإيضاح ذلك أن ما يتوقف عليه الفعل إما أن يكون من فعل الله تعالى أو من فعل العبد، وكل منهما إما أن يتوقف عليه الوجوب أم لا، فهذه أربعة أقسام.
الأول: ما هو من فعل الله، ويتوقف عليه الوجوب، كالعقل وسلامة الأعضاء وغيرهما.
والثاني: ما يكون من فعل الله، ولا يتوقف عليه الوجوب، وهو القدرة والداعية.
والثالث: ما يكون من فعل العبد، ويتوقف عليه الوجوب، كتحصيل النصاب بالنسبة للزكاة، والإقامة في بلد بالنسبة للجمعة.
(1/87)
 
 
والرابع: ما يكون من فعل العبد ولا يتوقف عليه الوجوب، كالوضوء للصلاة، والسير للحج.
ولا يصح الاحتراز عن الأول والثالث، لانتفاء الوجوب فيهما، فبقي الثاني والرابع، ولما لم يذكر الرابع علمنا ثبوت وجوبه مع المقدرة عليه، ومع العجز عنه، فالأول بالاتفاق، والثاني عند من جوز التكليف بالمحال، فتعين/ (15أ/د) الاحتراز عن الثاني فإنه غير واجب، لعدم القدرة عليه، والله أعلم.
الشرط الثاني: أن يكون الإيجاب مطلقاً أي غير مقيد بحالة وجود السبب والشرط، فلو قيد التكليف بوجودهما فهما غير مكلف بهما اتفاقاً.
ص: فلو تعذر ترك المحرم إلا بترك غيره وجب، أو اختلطت منكوحة بأجنبية حرمتا، أو طلق معينة ثم نسيها.
ش: المقدمة على قسمين.
أحدهما: يتوقف عليها نفس وجود الواجب.
والثاني: يتوقف عليها العلم بوجوده، فهذه فروع من القسم الثاني.
الأول: إذا لم يمكن الكف عن المحرم إلا بالكف عما ليس بمحرم كما إذا اختلطت نجاسة بماء طاهر قليل: فيجب الكف عن استعماله، وحكي عن ابن السمعاني في (القواطع) خلافاً في أنه يصير كله نجساً، وإنما حرم الكل لتعذر الإقدام على تناول المباح لاختلاط المحرم به، قال: والأول هو اللائق بمذهبنا، والثاني هو اللائق بمذهب الحنفية.
قلت: ولا ينبغي أن يكون هذا من المقدمة إلا على المذهب الثاني، وأما على الأول فالكل نجس مقصود بالتحريم.
الثاني: لو اختلطت منكوحة بأجنبية حرمتا: الأجنبية بالأصالة،
(1/88)