البحر المحيط في أصول الفقه 004

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ)
عدد الأجزاء: 8
عَلَى الْقَوْلِ، حَتَّى يَرْجِعَ الْكَافِرُونَ إلَى الْحَقِّ كَمَا لِلْمُؤْمِنِينَ إنْ رَجَعُوا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْتَبَرُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ الْقَاضِي: فَالْوَاجِبُ كَوْنُهُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ إيمَانِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ، وَبَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ إذَا خَالَفَ مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ عَلَى إجْمَاعٍ سَبَقَ خِلَافُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: إذَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ، ثُمَّ أَسْلَمَ كَافِرٌ، وَبَلَغَ صَبِيٌّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَازَعَةٌ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الِاتِّبَاعُ، وَهُوَ وَاضِحٌ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ، وَالْحَقُّ أَنْ تُبْنَى الْمَسْأَلَةُ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فَإِنْ قُلْنَا بِاشْتِرَاطِهِ اُعْتُدَّ بِقَوْلِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
 
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ مَرَّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ. وَأَمَّا إذَا اسْتَدَلُّوا بِدَلِيلٍ عَلَى حُكْمٍ أَوْ تَأْوِيلِ لَفْظٍ وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ غَيْرِهِ جَازَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ دَلِيلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إلْغَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَا إبْطَالِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ خَرْقًا لِإِجْمَاعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى الشَّيْءِ أَدِلَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَسُلَيْمٌ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَغَيْرُهُمْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْإِجْمَاعُ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْفَتْوَى، فَأَمَّا فِي الدَّلَالَةِ فَلَا يُقَالُ لَهُ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ لَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهَا. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ عَنْ دَلَالَتِهِمْ، وَيَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى الدَّلِيلِ، لَا عَلَى الْحُكْمِ.
وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَحْكَامُهَا لَا أَعْيَانُهَا، وَمَنْعُهُ يَسُدُّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ بَابَ اسْتِخْرَاجِ الْأَدِلَّةِ، وَيَسْتَلْزِمُ مَنْعَ كُلِّ قَوْلٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَوَّلُونَ. نَعَمْ، إنْ أَجْمَعُوا عَلَى إنْكَارِ الدَّلِيلِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ.
(6/514)
 
 
وَحَكَى صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالْوَقْفِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّصِّ، فَيَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ ابْنُ بَرْهَانٍ إلَى خَامِسٍ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ وَبَيْنَ الْخَفِيِّ فَيَجُوزُ، لِجَوَازِ اشْتِبَاهِهِ عَلَى الْأَوَّلِينَ. وَمِثْلُ الظَّاهِرِ بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُطَاوِعَةِ سَبَقَ فِطْرُهَا جِمَاعَهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا شَرِبَ أَوْ أَكَلَ. قَالَ: لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَشَفَةِ دَخَلَ إلَى جَوْفِهَا قَبْلَ دُخُولِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ، وَالْجِمَاعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا تَغَيَّبَ الْحَشَفَةُ. قُلْنَا: وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا قَبْلَ وُصُولِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِحْدَاثُ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى الْأَوَّلِينَ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ نَصُّوا عَلَى صِحَّتِهِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، أَوْ عَلَى فَسَادِهِ لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُمْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّتِهَا إبْطَالُ حُكْمِ مَا أَجْمَعُوا، وَقَالَ سُلَيْمٌ: إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ إلَّا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيَمْتَنِعُ. قُلْت: وَهَذَا مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ فِيهِ تَفْصِيلٌ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ. أَمَّا إذَا اعْتَلُّوا بِعِلَّةٍ، وَقُلْنَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، فَهَلْ يَجْرِي مَجْرَى الدَّلِيلِ فِي الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ؟
(6/515)
 
 
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَسُلَيْمٌ فِي التَّقْرِيبِ ": نَعَمْ، هِيَ كَالدَّلِيلِ فِي جَوَازِ إحْدَاثِهَا إلَّا إذَا قَالُوا: لَا عِلَّةَ لِهَذِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ تُخَالِفُ الْعِلَّةَ الْأُولَى فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ حِينَئِذٍ فَاسِدَةً. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ بِحُكْمٍ عَقْلِيٍّ عَلِمْنَا أَنَّ مَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ لَا يَجِبُ بِعِلَّتَيْنِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَهَا كَالدَّلِيلِ، لَا يَمْنَعُ التَّعَدُّدَ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا تُنَافِيَ الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ عِلَّتَهُمْ، وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى خِلَافِهِمْ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ عِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَبَايَنَا امْتَنَعَ لِذَلِكَ، لَا لِتَعْلِيلٍ بِهِمَا، وَمَنْ مَنَعَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّتَيْنِ، فَيَجِبُ عَلَى أَصْلِهِ مَنْعُ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُمْ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ غَيْرِهَا. قَالَ: وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ الْآتِي، وَتَخْرِيجُهُمْ الْأَخْبَارَ فَهُوَ كَالْمَذْهَبِ لَا كَالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إذَا احْتَمَلَتْ مَعَانِيَ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، أَوْ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْوِيلٍ وَاحِدٍ، صَارَتْ كَالْحَادِثَةِ، فَلَا يُعْدَلُ عَمَّا أَفْتَوْا بِهِ. وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: أَجْمَعَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى الْتِحَاقِ ذَلِكَ بِالْمَذَاهِبِ لَا بِالْأَدِلَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بِالْأَدِلَّةِ أَشْبَهُ، حَتَّى يَجُوزَ قَطْعًا، ثُمَّ مَثَّلَهُ بِمِثَالٍ يَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ.
 
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؟ فِيهِ مَذَاهِبُ:
(6/516)
 
 
الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنْ لَا قَوْلَ سِوَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ إلْكِيَا: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَبِهِ الْفَتْوَى، وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: إنَّهُ مَذْهَبُنَا، وَجَزَمَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَكَذَا الرُّويَانِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَلَمْ يَحْكِيَا مُقَابِلَهُ إلَّا عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَقَدْ رَأَيْته مَوْجُودًا فِي فُتْيَا بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ قَالَ هَذَا مُنَاقَضَةً، أَوْ غَلَطًا، أَوْ كَانَ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَكَذَلِكَ ابْنُ الْقَطَّانِ، لَمْ يَحْكِ مُقَابِلَهُ إلَّا عَنْ دَاوُد، فَقَالَ: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ السُّكْرِ، فَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُمَا، وَقَالَ دَاوُد: لَا يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَقَعَتْ مُخَالَفَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا الِاخْتِلَافَ. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ غَيْرُ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِسَالَتِهِ "، وَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ "؛ لِأَنَّهُ عَدَّ الْأُصُولَ، وَعَدَّ فِي جُمْلَتِهَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ مُطْلَقًا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَخْتَارُهُ وَيَنْصُرُهُ
(6/517)
 
 
وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَنَسَبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى دَاوُد. قَالَ: ثُمَّ نَاقَضَ فَشَرَطَ الْوَلِيَّ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ هَلْ يَلْزَمُ فِيهِمَا، أَوْ لَا يَلْزَمُ فِيهِمَا؟ وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ لِدَاوُدَ، وَإِنَّمَا قَالَ كَلَامًا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إذَا رُوِيَا، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَوْ وَاحِدٍ إنْكَارٌ وَلَا تَصْوِيبٌ، أَنَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ، فَهَذَا مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا إلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إنَّ الْأُمَّةَ إذَا تَفَرَّقَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَدْ قَرَنَتْ بِقَوْلِهَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةً أُخْرَى، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ لِتِلْكَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ صَحَّتْ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ فَالْأُخْرَى صَحِيحَةٌ، وَلِذَلِكَ حُكِمَ بِالتَّحْلِيفِ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْمُقَامِ لِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ عَلَى التَّحْلِيفِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَيَصِحُّ وُجُوبُهُ عِنْدَ الزِّحَامِ بِمَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقُولُ بِهِ، فَقَدْ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَأَرَدْنَا تَحْرِيرَ النَّقْلِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْخِلَافَ إذَا صَحَّ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا لَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا كَالْخِلَافِ فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ، قِيلَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ. فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ أَبَدًا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الثَّالِثَ إنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ، وَإِلَّا جَازَ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " يَقْتَضِيهِ، حَيْثُ قَالَ فِي أَوَاخِرِهَا: الْقِيَاسُ تَقَدُّمُ الْأَخِ عَلَى الْجَدِّ، لَكِنْ صَدَّنَا عَنْ الْقَوْلِ بِهِ أَنِّي وَجَدْت الْمُخْتَلِفِينَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ مَعَ الْأَخِ مِثْلُهُ أَوْ أَكْثَرُ حَظًّا
(6/518)
 
 
مِنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِي عِنْدِي خِلَافُهُمْ، وَلَا الذَّهَابُ إلَى الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مُخْرِجٌ مِنْ جَمِيعِ أَقَاوِيلِهِمْ. اهـ. وَإِنَّمَا مَنَعَهُ؛ لِأَنَّ فِي إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ رَفْعًا لِلْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا حَيْثُ لَا رَفْعَ فَتَصَرُّفُهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْهَرَوِيِّ فِي الْإِشْرَافِ " أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ لَفَّقَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ قَوْلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُعَدُّ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وَطْءِ الثَّيِّبِ، هَلْ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؟ تَحَزَّبَتْ الصَّحَابَةُ حِزْبَيْنِ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا، وَيُرَدُّ مَعَهَا عُقْرَهَا، وَذَهَبَ حِزْبٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي إسْقَاطِ الْعُقْرِ بِقَوْلِ حِزْبٍ، وَفِي تَجْوِيزِ الرَّدِّ بِقَوْلِ حِزْبٍ، وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. اهـ.
وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ إجْمَاعٍ سَابِقٍ عَلَى خِلَافِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَصْرِيُّ، فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ، لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ. وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اخْتِيَارِ الثَّالِثِ، وَقَالَ: لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كَانَ مَرْدُودًا، وَالْخَصْمُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا، لَكِنْ يَدَّعِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، إمَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ وَحِرْمَانِ الْجَدِّ، وَإِمَّا فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَحَدُ الشَّمُولَيْنِ ثَابِتٌ، وَهُوَ ثُلُثُ الْكُلِّ فِي كِلَيْهِمَا، أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي فِي كِلَيْهِمَا. فَثُلُثٌ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
قَالَ: فَالشَّأْنُ فِي تَمْيِيزِ صُورَةٍ يَلْزَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ الْإِجْمَاعِ عَنْ صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنْ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الثَّالِثُ مُسْتَلْزِمًا لِإِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ إمَّا حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ، كَمَسْأَلَةِ الْجَدِّ مَعَ
(6/519)
 
 
الْإِخْوَةِ وَالْعِدَّةِ، أَوْ مُتَعَدِّدٍ. فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ عَنْ الْبَعْضِ الْوُجُودَ فِي صُورَةٍ مَعَ الْعَدَمِ فِي الْأُخْرَى، وَعِنْدَ الْبَعْضِ عَكْسَ ذَلِكَ، كَمَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ وَالْمَسِّ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَاقِضٌ أَوْ لَيْسَ بِنَاقِضٍ، لَا يَكُونُ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ.
تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: ذِكْرُ الْقَوْلَيْنِ مِثَالٌ، فَالثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَمَثَّلَهُ بِأَقْوَالِهِمْ فِي الْجَدِّ. قَالَ: فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ سِوَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ سِوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ. الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْرَفِيَّ أَيْضًا فَرَضَ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ تَوَهَّمَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ مَا أُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فَيَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِحْدَاثُ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَبَّهَ أَيْضًا عَلَى تَصَوُّرِهَا بِالِاخْتِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ فِيهِمْ. قَالَ: فَأَمَّا مَا حَكَى مِنْ فَتْوَى وَاحِدٍ، وَلَمْ يَسْتَفِضْ قَوْلُهُ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إلَى مَا أَيَّدَهُ دَلِيلٌ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَذْهَبٌ آخَرُ مُفَصَّلٌ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَغَيْرِهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْعَبْدَرِيّ: إنَّمَا يَصِحُّ فَرْضُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ الْإِجْمَاعَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَقِيَاسٍ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ اجْتِهَادِيَّةً يَتَجَاذَبُهَا أَصْلَانِ، فَيُجْمِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، فَيَكُونُ حَلَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، فَيَكُونُ حَرَامًا، فَإِذَا لَمْ يَنْقَرِضْ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ وَأَكْثَرَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا حَصْرَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إذَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ، وَخَطَّئُوا مَنْ خَالَفَهُ، وَأَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ وَخَطَّئُوا مَنْ
(6/520)
 
 
خَالَفَهُ، فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَلَكِنَّهُ خِلَافٌ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ أَوْ رَابِعٍ وَأَكْثَرَ فَجَائِزٌ أَيْضًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَأْخُذُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ، بَلْ اللُّغَوِيَّ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ. الْخَامِسُ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَصْرٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَخْتَلِفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ يُحْدِثُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا ثَالِثًا، وَالْقِيَاسُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ، فَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، فَإِنْ قُلْنَا: شَرْطٌ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ أَدْرَكَ بَعْضُ التَّابِعِينَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، فَأَحْدَثَ ثَالِثًا، فَالْقِيَاسُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الِانْقِرَاضِ أَوْ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ التَّابِعِيِّ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَهَلْ يُعْتَدُّ بِهِ؟ وَمِثَالُهُ مَا لَوْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ فَهَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ، أَوْ يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ؟ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ، فَأَحْدَثَ الْحَسَنُ قَوْلًا ثَالِثًا، فَقَالَ: يَسْتَعْمِلُ مَا مَعَهُ ثُمَّ يَجْمَعُ مَا يَتَسَاقَطُ. مِنْ الْمَاءِ فَيَعْمَلُ بِهِ.
 
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إذَا تَعَدَّدَ مَحَلُّ الْحُكْمِ بِأَنْ لَمْ يَفْصِلْ أَهْلُ الْعَصْرِ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ بَلْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى حِكَايَةِ وَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ امْتِنَاعُهُ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ أَصْحَابِهِمْ. قَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ سَائِرِ الْإِجْمَاعَاتِ فِي الْقُوَّةِ؛ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ. اهـ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: إنْ كَانَ طَرِيقُ الْحُكْمِ وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ الْفَصْلُ، وَإِلَّا جَازَ. قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمْ إنْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بِأَنْ قَالُوا: لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فِي
(6/521)
 
 
كُلِّ الْأَحْكَامِ أَوْ فِي الْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ؛ امْتَنَعَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِيهِ خِلَافٌ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ "، وَحَكَاهُ فِي اللُّمَعِ " احْتِمَالًا عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصُّوا كَمَنْ وَرَّثَ الْعَمَّةَ، وَرَّثَ الْخَالَةَ، وَمَنْ مَنَعَ إحْدَاهُمَا، مَنَعَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَأْخَذَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَحْرَمِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الْفَرْقُ، وَالْحَقُّ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّحِدْ الْمَأْخَذُ لَمْ يَمْتَنِعْ الْخِلَافُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنْ عَيَّنُوا الْحُكْمَ، وَقَالُوا: لَا تَفْصِيلَ، حُرِّمَ الْفَصْلُ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنُوا، وَلَكِنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مُجَمَّلًا، فَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، أَوْ أَرَادُوا الْعُمُومَ تَعَيَّنَ الْعُمُومُ. وَمَتَى كَانَ مَدْرُك أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ مُجْمَلًا، أَوْ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا، جَازَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَكَلَامُ التَّبْرِيزِيِّ فِي التَّنْقِيحِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَأْخَذِ، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِيهِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الرَّازِيَّ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ إحْدَاثُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَإِحْدَاثِ قَوْلٍ فِيهِمَا، فَيَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، أَوْ لَيْسَ كَإِحْدَاثِهِ؛ لِأَنَّ الْمُفَصِّلَ قَالَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ تِلْكَ، فَلَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنْ نَصُّوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، حُرِّمَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ التَّفْرِيقُ قَطْعًا، وَإِنْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا فِي حُكْمَيْنِ
(6/522)
 
 
عَلَى الْبَدَلِ فَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَبِالْجَوَازِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ، وَالْأَكْلُ نَاسِيًا. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ، كَقَوْلِهِمْ: لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ إذَا انْفَرَدَتْ السُّدُسُ، لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُ لِأُمِّ الْأُمِّ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُهُمْ فِي الَّتِي تَزِيدُ عَلَى فَرْضِهَا، وَهَكَذَا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِمْ: لِلْأُمِّ مَعَ الْأَبِ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدَّةِ مَعَهُ السُّدُسُ، لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْكَرْمَ وَالنَّخْلَ فِي الْمُسَاقَاةِ سَوَاءٌ مَنْ يُجِيزُهُمَا وَمَنْ يَأْبَاهُمَا يَرُدُّهَا، فَقَالَ دَاوُد: هَذَا إجْمَاعٌ، وَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَيَقُولُ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّسْوِيَةِ. قَالَ: وَهَذَا فَاسِدٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ غَيْرُ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا؛ لِأَنَّا نَجِدُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْعَيْنُ حَلَالٌ، وَهَذِهِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَائِلِينَ. فَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ. وَالْعَجَبُ مِنْ دَاوُد فِي هَذَا، فَيُقَالُ لَهُ: خَبَرُنَا عَنْ الْمُسَاقَاةِ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ أَخَذْتهَا؟ فَقَالَ: مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا، فَرَّقُوا فِي الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ. قُلْنَا لَهُمْ: إنَّمَا أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ مِنْ الْإِجَازَةِ، ثُمَّ هُوَ لَا يُجِيزُ الْمُسَاقَاةَ، وَالْمُجْمِعُونَ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: الْكَرْمُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ النَّخْلُ، وَمَنْ أَجَازَ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَلِمَ فَرَّقْت؟
 
[مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ]
مَسْأَلَةٌ: إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ
(6/523)
 
 
قَوْلًا، وَقَالَتْ الْأُخْرَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْضًا قَوْلًا، ثُمَّ قَامَ دَلِيلٌ عَنْ نَصٍّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَحَدَيْهِمَا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَهَلْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى أَمْ لَا؟ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَاوُد وَابْنُهُ، فَصَارَ دَاوُد إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ ابْنُهُ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَيَقُولُ ابْنُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ دَاوُد لَكَانَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي قَامَ النَّصُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مُصِيبَةً فِي جَمِيعِ مَذَاهِبِهَا وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ. نَعَمْ إنْ صَحَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَقِينًا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَامَ نَصٌّ عَلَى صِحَّةِ حُكْمِ مَا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَقَدْ صَحَّ بِلَا شَكٍّ أَنَّ حُكْمَ الْأُخْرَى كَذَلِكَ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ فِيهِمَا تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، بِخِلَافِ الثَّانِي. ثُمَّ مَثَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِالْمُسَاقَاةِ. فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا جُمْلَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهَا جُمْلَةً، وَمِنْ مُبِيحٍ لَهَا فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ خَاصَّةً، وَمَانِعٍ لَهَا فِي سِوَاهُمَا، فَلَمَّا صَحَّ الْقَوْلُ بِإِبَاحَتِهَا، وَبَطَلَ إبْطَالُهَا، نَظَرْنَا فِي الْمُسَاقَاةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَوَجَدْنَا الْأُمَّةَ مُجْمِعَةً عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى النِّصْفِ كَحُكْمِهَا عَلَى جُزْءٍ مُسَمًّى، أَيِّ جُزْءٍ كَانَ، وَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ، النَّاسُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ، فَلَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا، نَظَرْنَا فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى النِّصْفِ سَوَاءٌ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَقَدْ أَجْمَلَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّصُّ بِإِبَاحَةِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى النِّصْفِ، وَصَحَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى جُزْءٍ مُسَمًّى كَحُكْمِهَا عَلَى النِّصْفِ، صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مُسَمًّى.
(6/524)
 
 
فَائِدَةٌ [مَعْنَى قَوْلِهِمْ: هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ] إذَا قُلْنَا: هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: نَفْيُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، نَفْيُ الصِّحَّةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى رَأْيٍ. فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الصِّحَّةِ مُنْتَفٍ، لَكِنْ هِيَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ مُطْلَقًا، بَلْ ثَابِتَةٌ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَهَا مُطْلَقًا، فَإِذَا قُلْنَا: الْوُضُوءُ بِدُونِ مَسْحِ الرَّأْسِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، كَانَ هَذَا إجْمَاعًا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَإِذَا قُلْنَا: الْوُضُوءُ بِدُونِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، كَانَ هَذَا نَفْيًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، لَا لِحَقِيقَةِ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْمُثِيرُ لِهَذِهِ الْمُبَاحَثَةِ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ رَأَى شَافِعِيًّا قَدْ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ، فَمَازَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: وُضُوءُك هَذَا لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ تَزْعُمُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَيْسَ بِمُعْتَبَرِ الْقَوْلِ. قَالَ: لَا وَقَالَ: كَلَامُك يَقْتَضِي ذَلِكَ، فَبَيَّنَ لَهُ هَذِهِ النُّكْتَةَ فَزَالَ غَضَبُهُ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمَنْفِيَّ هَاهُنَا هُوَ الصِّحَّةُ الْمُطْلَقَةُ، أَوْ الْمُقَيَّدَةُ بِكَوْنِهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا. فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى النَّفْيِ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَهُوَ نَفْيُ الْإِجْمَاعِ.
وَحَاصِلُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ نُصِبَ، لَكِنْ هُوَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ الْحَالِ؟ إنْ قُلْنَا: عَلَى التَّمْيِيزِ فَهُوَ إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، إذْ تَقْدِيرُهُ لَا
(6/525)
 
 
يَصِحُّ إجْمَاعًا إذْ التَّمْيِيزُ رَفْعُ الْإِبْهَامِ عَنْ الذَّاتِ، وَنَفْيُ الصِّحَّةِ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إجْمَاعِيٌّ أَوْ خِلَافِيٌّ، فَبِقَوْلِنَا: إجْمَاعٌ، رَفَعْنَا ذَلِكَ الْإِبْهَامَ، وَقُلْنَا: إنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ إجْمَاعِيَّةٌ، وَإِنْ قُلْنَا عَلَى الْحَالِ، فَهُوَ نَفْيُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الصِّحَّةِ، لَا لِنَفْيِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ نَعْتٌ لِلْفَاعِلِ، فَتَقْدِيرُهُ هَذَا لَا يَصِحُّ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَنَفْيُ الصِّفَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْصُوفِ.
(6/526)
 
 
خَاتِمَةٌ [قَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً] قَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ حُجَّةً كَالْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ. مِنْهَا: مَنْعُ الْخُرُوجِ مِنْهُ إذَا انْحَصَرَ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. وَمِنْهَا: تَسْوِيغُ الذَّهَابِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَمِنْهَا: كَوْنُ الْجَمِيعِ صَوَابًا إنْ قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ. [الِاخْتِلَافُ مَذْمُومٌ وَالِاجْتِمَاعُ مَحْمُودٌ] وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي كِتَابِ ذَمِّ التَّقْلِيدِ ": قَدْ ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ دِينِهِ مَا ذَمَّهُ، وَلَوْ كَانَ التَّنَازُعُ مِنْ حُكْمِهِ مَا رَدَّهُ إلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا أَمَرَ بِإِمْضَاءِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا هُمَا بِهِ، وَمَا حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ أُمَّتَهُ مِنْ الْفُرْقَةِ وَأَمَرَهَا بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ رَحْمَةً، لَكَانَ الِاجْتِمَاعُ عَذَابًا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ خِلَافُ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاخْتِلَافُ وَجْهَانِ: فَمَا كَانَ مَنْصُوصًا، لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الِاخْتِلَافُ، وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُدْرَكُ قِيَاسًا، فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أَوْ الْمُقَايِسُ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، لَمْ أَقُلْ إنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ ضِيقَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَنْصُوصِ. قَالَ الْمُزَنِيّ: فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ضَيَّقَ الْخِلَافَ كَتَضْيِيقِهِ فِي الْمَنْصُوصِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(6/527)
 
 
[كِتَابُ الْقِيَاسِ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَة الْقِيَاس]
ِ وَالنَّظَرُ فِيهِ أَوْسَعُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْأُصُولِ، فَلِهَذَا خَصُّوهُ بِمَزِيدِ اعْتِنَاءٍ. وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مُبَيِّنًا لِشَرَفِهِ: " الْقِيَاسُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ، وَأَصْلُ الرَّأْيِ، وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ وَأَسَالِيبُ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الِاسْتِقْلَالِ بِتَفَاصِيل أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ مَعَ انْتِفَاءِ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَحْصُورَةٌ مَقْصُورَةٌ، وَمَوَاضِعُ الْإِجْمَاعِ مَعْدُودَةٌ مَأْثُورَةٌ، فَمَا يُنْقَلُ مِنْهَا تَوَاتُرًا فَهُوَ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ مُعْوِزٌ قَلِيلٌ، وَمَا يَنْقُلُهُ الْآحَادُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَهِيَ عَلَى الْجُمْلَةِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهَا لَا نِهَايَةٌ لَهَا. وَالرَّأْيُ الْمَبْتُوتُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَلَقًّى مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ وَالْأَصْلُ الَّذِي يَسْتَرْسِلُ عَلَى جَمِيعِ الْوَقَائِعِ الْقِيَاسُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَهُوَ إذًا أَحَقُّ الْأُصُولِ بِاعْتِنَاءِ الطَّالِبِ. وَفِيهِ أَبْوَابٌ:
(7/5)
 
 
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا أَمَّا لُغَةً: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ عَلَى مِثَالِ شَيْءٍ آخَرَ وَتَسْوِيَتُهُ بِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمِكْيَالُ مِقْيَاسًا، وَمَا يُقَدَّرُ بِهِ النِّعَالُ مِقْيَاسًا، وَفُلَانٌ لَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ: أَيْ لَا يُسَاوِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرُ قِسْت الشَّيْءَ إذَا اعْتَبَرْته، أَقِيسُهُ قَيْسًا وَقِيَاسًا. وَمِنْهُ: قِيسَ الرَّأْيُ، وَامْرُؤُ الْقَيْسِ؛ لِاعْتِبَارِ الْأُمُورِ بِرَأْيِهِ. وَقُسْته (بِضَمِّ الْقَافِ) أُقَوِّسُهُ قَوْسًا ذَكَرَ هَذِهِ اللُّغَةَ ابْنُ أَبِي الْبَقَاءِ فِي نِهَايَتِهِ " وَصَاحِبُ " الصِّحَاحِ "، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ مُقْلَةَ فِي كِتَابِ " الْبُرْهَانِ ": الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ: التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّشْبِيهُ فِي الْوَصْفِ أَوْ الْحَدِّ لَا الِاسْمِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي " كِتَابِ الْقَضَاءِ ": الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ، يُقَالُ: هَذَا قِيَاسُ هَذَا، أَيْ مِثْلُهُ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْحُكْمِ. وَقِيلَ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِصَابَةِ، يُقَالُ: قِسْت الشَّيْءَ: إذَا أَصَبْته، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُصِيبُ بِهِ الْحُكْمَ، وَحَكَاهَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ". وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: " الْقِيَاسُ فِعْلُ الْقَائِسِ، وَهُوَ مَصْدَرُ قِسْت الشَّيْءَ قِيَاسًا، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرِ بِالْفِكْرِ، أَوْ جَمِيعِهِمَا بِالْفِكْرِ يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا فِي الشَّيْءِ الَّذِي جُمِعَا مِنْ أَجْلِهِ بِخِلَافِهِمَا. هَذِهِ فَائِدَةُ الْقِيَاسِ وَنَتِيجَتُهُ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ الْمُقَابَلَةُ مُسَاوَاةَ
(7/6)
 
 
الشَّيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ كَانَ جَرَى الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا فِي الشَّيْءِ الَّذِي اجْتَمَعَا فِيهِ وَخُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ اخْتَلَفَا فِيهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي قَضِيَّةِ الْعُقُولِ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ اشْتَبَهَا فِي شَيْءٍ مَا فَحُكْمُهُمَا مِنْ حَيْثُ اشْتَبَهَا وَاحِدٌ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِ وَالْمُتَّفِقِ فَرْقٌ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَاخْتَلَفُوا " أَوَّلًا " فِي إمْكَانِ حَدِّهِ: فَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَتَعَذَّرُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فِي الْقِيَاسِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ: كَالْحُكْمِ فَإِنَّهُ قَدِيمٌ، وَالْفَرْعُ وَالْأَصْلُ فَإِنَّهُمَا حَادِثَانِ، وَالْجَامِعُ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ شَارِحُهُ عَلَى تَعَذُّرِ الْحَدِّ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ نِسْبَةً وَإِضَافَةً وَهِيَ عَدَمِيَّةٌ، وَالْعَدَمُ لَا يَتَرَكَّبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الْحَقِيقِيَّيْنِ الْوُجُودِيَّيْنِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الْحَقِيقِيُّ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَمَّا تَرَكَّبَ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ. وَكَلَامُ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي إمْكَانَهُ، وَاخْتَلَفُوا:
(7/7)
 
 
فَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ: مُسَاوَاةُ فَرْعٍ لِأَصْلٍ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، أَوْ زِيَادَتُهُ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ فِي الْحُكْمِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ مَطْلُوبٍ بِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ وَهُوَ الْفَرْعُ؛ وَذَلِكَ لِثُبُوتِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَهُوَ الْأَصْلُ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ، بَلْ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَمْرٌ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. فَيَخْتَصُّ الْحَدُّ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ. هَذَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ " فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ " سَوَاءٌ ثَبَتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَالْحَقُّ، أَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ شَامِلٌ لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الْمَذْكُورَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ أَمْ لَا. وَقِيلَ: إدْرَاجُ خُصُوصٍ فِي عُمُومٍ. وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ. وَقِيلَ: إنَّهُ إلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِيلَ: إلْحَاقُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: اسْتِنْبَاطُ الْخَفِيِّ مِنْ الْجَلِيِّ، وَقِيلَ: حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: رَدُّ فَرْعٍ مَسْكُوتٍ عَنْهُ وَعَنْ حُكْمِهِ إلَى أَصْلٍ مَنْطُوقٍ بِحُكْمِهِ، وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَقِيلَ: إنَّهُ بَذْلُ الْجُهْدَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ بِالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمِهِ وَإِجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْجَامِعَ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ:
(7/8)
 
 
حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ بِضَرْبٍ مِنْ الشَّبَهِ، وَقَالَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى: إثْبَاتُ حُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لِلْمَقِيسِ وَهُوَ رَكِيكٌ، فَإِنَّ الْمَقِيسَ وَالْمَقِيسَ عَلَيْهِ مُشْتَقَّانِ مِنْ الْقِيَاسِ، فَتَعْرِيفُ الْقِيَاسِ بِهِمَا دَوْرٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْإِحْكَامِ: اسْتِوَاءٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَيَخْرُجُ عَنْهُ الْقِيَاسُ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً، فَإِنْ مُنِعَ كَوْنُهُ قِيَاسًا فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي - وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَّا، كَمَا قَالَهُ فِي الْمَحْصُولِ: هُوَ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِجَامِعِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا، فَالْحَمْلُ اعْتِبَارُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَرَدُّهُ إلَيْهِ، وَالْمَعْلُومُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، بِخِلَافِ الشَّيْءِ وَالْفَرْعِ يُوهِمُ الْمَوْجُودَ. ثُمَّ بَيَّنَ فَبِمَاذَا يَكُونُ الْحَمْلُ بِقَوْلِهِ: " فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ " فَأَفَادَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا، وَالْمَعْلُومُ الثَّانِي لَا بُدَّ مِنْهُ، إذْ الْقِيَاسُ يَسْتَدْعِي مُنْتَسِبِينَ، لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِحُكْمٍ. ثُمَّ قَسَّمَ الْجَامِعَ إلَى حُكْمٍ وَصِفَةٍ. قَالَ إلْكِيَا: وَهُوَ أَسَدُّ مَا قِيلَ عَلَى صِنَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: إنْ أَرَدْت بِالْحَمْلِ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فَقَوْلُك: " فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ " ضَائِعٌ لِلتَّكْرَارِ، وَإِنْ أَرَدْت غَيْرَهُ فَبَيِّنْهُ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِإِثْبَاتِ مِثْلٍ مَعْلُومٍ لِآخَرَ بِجَامِعٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهَا " يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، فَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فَرْعًا عَنْ الْقِيَاسِ لَزِمَ الدَّوْرُ.
(7/9)
 
 
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ لَا بِالنَّصِّ وَكَذَلِكَ فِي الْفَرْعِ، وَالْقِيَاسُ كَاشِفٌ عَمَّا ثَبَتَ فِيهِمَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: هَذَا السُّؤَالُ لَا يَرِدُ مِنْ أَصْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ " بِهِمَا " يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفِ صِلَةٍ لِلْحُكْمِ الْمُنَكَّرِ، كَأَنَّهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَابِتٌ لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَالْمُثْبِتُ لَهُ فِي الْأَصْلِ النَّصُّ، وَفِي الْفَرْعِ الْقِيَاسُ، فَلَا تَنَاقُضَ. وَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِثْبَاتٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الصِّفَةَ ثَبَتَتْ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِهِ: إنَّهُ عَالِمٌ فَلَهُ عِلْمٌ، كَمَا فِي الشَّاهِدِ، فَإِنْ انْدَرَجَتْ الصِّفَةُ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ قَوْلُهُ: بِجَامِعِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمَّا كَانَتْ أَحَدَ أَقْسَامِ الْحُكْمِ كَانَ ذِكْرُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحُكْمِ تَكْرَارًا، وَإِنْ لَمْ تَنْدَرِجْ كَانَ التَّعْرِيفُ نَاقِصًا، فَهُوَ إمَّا زَائِدٌ وَإِمَّا نَاقِصٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِيَاسِ الْجَامِعُ دُونَ أَقْسَامِهِ، وَلَوْ وَجَبَ ذِكْرُ أَقْسَامِهِ لَوَجَبَ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ. وَمِنْهَا: الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ خَارِجٌ عَنْهُ، لِأَنَّ الْجَامِعَ مَتَى حَصَلَ صَحَّ الْقِيَاسُ. وَقَالَ إلْكِيَا: هُوَ شَامِلٌ لِلصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا يَرْجِعُ إلَى شُرُوطٍ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّحْدِيدِ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ بِشُمُولِهِ لَهَا. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالصَّحِيحِ - تَبَعًا لِلْآمِدِيِّ - فَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَمِنْهَا: قَالَ الْآمِدِيُّ: الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقِيَاسِ إجْمَاعًا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْقِيَاسِ، فَإِنَّ نَتِيجَةَ الدَّلِيلِ لَا تَكُونُ رُكْنًا فِي الدَّلِيلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّوْرِ، فَيَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ رُكْنًا فِي الْقِيَاسِ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ. وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّ تَعْرِيفَ الدَّلِيلِ بِنَتِيجَتِهِ تَعْرِيفًا رَسْمِيًّا تَعْرِيفٌ جَائِزٌ،
(7/10)
 
 
لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ بِلَازِمِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ تَعْرِيفِهِ الْحَدِّيِّ. وَرَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِاللَّازِمِ شَرْطُهُ اللُّزُومُ الْبَيِّنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَازِمٌ، وَإِلَّا يَلْزَمُ الدَّوْرُ.
وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمَحْدُودَ الْقِيَاسُ الذِّهْنِيُّ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ أَوْ الْخَارِجِيِّ لَيْسَ فَرْعًا لَهُ. وَرَدَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِ الْفَرْعِ الذِّهْنِيِّ فَرْعُ الْقِيَاسِ الذِّهْنِيِّ، لِأَنَّ نَتِيجَتَهُ ذِهْنًا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلْقِيَاسِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ.
وَأَجَابَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَأْخُذْ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ إلَّا الْإِثْبَاتَ لَا الثُّبُوتَ، وَالْمُتَفَرِّعُ عَنْ الْقِيَاسِ الثُّبُوتُ لَا الْإِثْبَاتُ، وَالْحَقُّ أَنَّ الثُّبُوتَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا النَّاشِئُ بِالْقِيَاسِ اعْتِقَادُ الْمُسَاوَاةِ أَوْ الثُّبُوتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْعِلَّةِ لَا مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الْإِنْصَافُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَيْسَ بِحَدٍّ وَلَا مَطْمَعٍ فِي الْحَدِّ بِمَا يَتَرَكَّبُ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحُكْمِ وَالْجَامِعِ.
 
[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ]
حَاصِلُ الْقِيَاسِ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّينَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحُكْمِ شَيْءٍ عَلَى آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعَمَّ مِنْ الْآخَرِ، وَيُسَمِّيهِ قَوْمٌ " التَّمْثِيلَ ". وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ: فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِحُكْمِ الْعَامِّ عَلَى حُكْمِ الْخَاصِّ، وَيَرْجِعُ إلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ. قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْمَدْلُولِ
(7/11)
 
 
اللُّغَوِيِّ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: " كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " يُنْتَجُ: " كُلُّ نَبِيذٍ حَرَامٌ " لَيْسَ فِيهِ اعْتِبَارٌ بِحَالٍ وَإِنَّمَا النَّبِيذُ أَحَدُ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ. قُلْت: بَلْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ، لِأَنَّهُ تَسْوِيَةُ حُكْمِ الْخَاصِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ قَدْ يُتَجَوَّزُ بِإِطْلَاقِهِ فِي النَّظَرِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ فَرْعٍ وَأَصْلٍ فَيَقُولُ الْمُفَكِّرُ: قِسْت الشَّيْءَ إذَا تَفَكَّرَ فِيهِ. وَنَازَعَهُ الْإِبْيَارِيُّ. وَلَا مَعْنَى لِنِزَاعِهِ، لِوُجُودِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهِ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي أَسَاسِ الْقِيَاسِ: وَأَمَّا نَحْوُ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " أُنْتِجَ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " هَذَا لَا تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا يُسَمِّيهِ ذَلِكَ الْمَنْطِقِيُّونَ، وَهُوَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ عَلَى الِاسْمِ وَخَطَأٌ عَلَى الْوَضْعِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ يَسْتَدْعِي مَقِيسًا وَمَقِيسًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا خَطَأٌ.
 
مَسْأَلَةٌ [لَفْظُ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ]
وَقَالَ " الْغَزَالِيُّ " أَيْضًا: لَفْظُ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى الرَّأْيِ الْمَحْضِ الْمُقَابِلِ لِلتَّوْقِيفِ حَتَّى يُقَالَ: الشَّرْعُ إمَّا تَوْقِيفٌ أَوْ قِيَاسٌ. وَهَذَا الَّذِي نُنْكِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِتَشْنِيعِ الظَّاهِرِيَّةِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَيُطْلَقُ تَارَةً بِمُقَابِلِ التَّعَبُّدِ حَتَّى يُقَالَ: الشَّرْعُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَإِلَى تَعَبُّدٍ. كَرَمْيِ الْجِمَارِ. وَكِلَاهُمَا تَوْقِيفٌ، لَكِنْ يُسَمَّى مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ قِيَاسًا لِمَا انْقَدَحَ فِيهِ مِنْ الْمَعْقُولِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ نَوْعَيْ التَّوْقِيفِ وَلَيْسَ مُقَابِلًا لَهُ
(7/12)
 
 
مَسْأَلَةٌ [يُسَمَّى الْقِيَاسُ اسْتِدْلَالًا]
فِي " الْمُعْتَمَدِ " لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُسَمِّي الْقِيَاسَ اسْتِدْلَالًا، لِأَنَّهُ فَحْصٌ وَنَظَرٌ، وَيُسَمِّي الِاسْتِدْلَالَ قِيَاسًا، لِوُجُودِ التَّعْلِيلِ فِيهِ.
وَحَكَى صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ وَاحِدٌ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي " وَالْمُرَادُ الْقِيَاسُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ إلْكِيَا: يَمْتَازُ الْقِيَاسُ عَنْ الِاجْتِهَادِ بِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ سَوَاءٌ طُلِبَ مِنْ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " إنَّ الْقِيَاسَ الِاجْتِهَادُ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ أَخَصُّ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاجْتِهَادُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَعْمَلًا فِي تَعْرِيفِ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ طَرِيقَ تَعَرُّفِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يُحْمَلَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ فَقَطْ، وَذَلِكَ قِيَاسٌ عِنْدَهُ. وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَا اقْتَضَى غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا خَطَأُ الْمُجْتَهِدِ وَيُقَالُ فِيهَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هَلْ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ مُتَّحِدَانِ أَوْ مُخْتَلِفَانِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ، وَنَسَبَ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ
(7/13)
 
 
الرِّسَالَةِ "، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ يَفْتَقِرُ إلَى الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي الْعُمُومَاتِ وَسَائِرِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ.
 
مَسْأَلَةٌ [مَا وُضِعَ لَهُ الْقِيَاسُ]
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ اسْمُ " الْقِيَاسِ " عَلَى قَوْلَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْمُجْتَهِدِ وَفِكْرُهُ الْمُسْتَنْبَطُ، " وَالثَّانِي " أَنَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ وَفَرْعِهِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ فَإِنَّمَا فَرَّ لِشُبْهَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقِيَاسِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ وَفَرْعٌ، فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَقَدْ وَجَبَ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى بِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْإِلْحَاقِ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى غَيْرِهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ بِهِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَصْلِهِ كَالْكَلَامِ فِيهِ لِنَفْسِهِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَسْتَشْكِلُ عَلَى الْقَائِلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُجْتَهِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالنَّظَرِ وَالْإِلْحَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا ثُمَّ يَعُودُ مَا سَبَقَ. وَمَهْمَا كَانَ جَوَابُهُ فَهُوَ جَوَابُنَا.
 
مَسْأَلَةٌ [الَّذِي يُثْبِتُهُ الْقِيَاسُ]
وَاخْتَلَفُوا كَمَا قَالَهُ الْمُقْتَرِحُ فِي الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقِيَاسُ، هَلْ هُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ
(7/14)
 
 
يَشْمَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ أَوْ حُكْمَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَمَاثِلَانِ وَقَرَّرَهُ بِوَجْهَيْنِ: " أَحَدُهُمَا " جَوَازُ نَسْخِ الْأَصْلِ مَعَ إبْقَاءِ الْفَرْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا حُكْمَانِ " وَالثَّانِي " أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلَّقِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْأَصْلِ غَيْرُ الْفَرْعِ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ لَهُمَا، لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى الْقَضِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ. فَإِنْ أَوْرَدَ جَوَازَ النَّسْخِ، قُلْنَا: لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الْفَرْعِ.
 
[مَسْأَلَةٌ اشْتِمَالُ النُّصُوصِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ]
رَوَى الرَّبِيعُ فِي " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْتَضِي اشْتِمَالَ
(7/15)
 
 
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْفُرُوعِ الْمُلْحَقَةِ بِالْقِيَاسِ أَيْ ابْتِدَاءً أَوْ بِالْوَاسِطَةِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ تَنَاهَتْ فَرَائِضُهُ فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ. وَنَصَّ فِي " الرِّسَالَةِ " عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ ضَرُورَاتٌ حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ فِي طَبَقَاتِهِ " وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ فَلْيُؤَوَّلْ.
وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: جَمِيعُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَرَاتِبِهَا مَعْلُومَةٌ بِالنَّصِّ، لَكِنَّ بَعْضَهَا يُعْلَمُ بِظَاهِرٍ، وَبَعْضُهَا يُعْلَمُ بِاسْتِنْبَاطٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَوْ لَزِمَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ إلَّا بِنَصٍّ لَبَطَلَ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلِيلِهِ.
وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ النُّصُوصَ مُحِيطَةٌ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِقَوْلِ أَحْمَدَ: مَا تَصْنَعُ بِالرَّأْيِ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُغْنِيك عَنْهُ.
وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ لَا نَصَّ فِيهَا بِحَالٍ. وَلِذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ الْقِيَاسُ أَفْضَى إلَى خُلُوِّ كَثِيرٍ مِنْ الْحَوَادِثِ عَنْ الْأَحْكَامِ، لِقِلَّةِ النُّصُوصِ وَكَوْنِ الصُّوَرِ لَا نِهَايَةَ لَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ اتَّسَعَ عِلْمُهُ بِالنُّصُوصِ قَلَّتْ حَاجَتُهُ إلَى الْقِيَاسِ، كَالْوَاجِدِ مَاءً لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْقَلِيلِ.
وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَعْمَالِ الْخَلْقِ الْوَاقِعَةِ، وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُوَلَّدَةِ لِأَعْمَالِهِمْ الْمُقَدَّرَةِ فَالْأُولَى عَامَّتُهَا نُصُوصٌ، وَأَمَّا الْمُوَلَّدَاتُ فَيَكْثُرُ فِيهَا مَا لَا نَصَّ فِيهِ.
(7/16)
 
 
[مَسْأَلَةٌ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ]
الْحَقُّ أَنَّهُ مُظْهِرٌ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مُثْبِتٌ لَهُ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ مُثْبِتَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ. وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ فِي الظَّاهِرِ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُكْمُ اللَّهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ، إشْفَاقًا أَنْ يَقْطَعَ عَلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْجَبَهُ كَانَ عَلَى التَّقْيِيدِ.
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ ": الْقِيَاسُ عِنْدَنَا دِينُ اللَّهِ وَحُجَّتُهُ وَشَرْعُهُ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَدِينُ رَسُولِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ بَعَثَنَا عَلَى فِعْلِهِ بِالْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بِمَعْنَى صِيغَةِ " أَفْعَلَ " فَصَحِيحٌ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ دِينِ اللَّهِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ إذَا عَنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُ ذَلِكَ فَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْهُذَيْلِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْمَ الدِّينِ يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ يَصِفُ مَا كَانَ وَاجِبًا مِنْهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ إيمَانٌ دُونَ مَا كَانَ مِنْهُ نَدْبًا. وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ يَصِفُ بِذَلِكَ وَاجِبَهُ وَمَنْدُوبَهُ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إنْ أُرِيدَ بِالدِّينِ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ وَهُوَ أَصْلِيٌّ فَلَيْسَ الْقِيَاسُ مِنْ الدِّينِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مُطْلَقًا فَهُوَ مِنْ الدِّينِ. وَيَتَحَصَّلُ فِي كَوْنِ الْقِيَاسِ مِنْ الدِّينِ أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ.
(7/17)
 
 
[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِ الْقِيَاسِ]
الْبَابُ الثَّانِي فِي مَوْضُوعِهِ
قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَمَوْضُوعُهُ طَلَبُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا مِنْ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ بِالْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَعَانِيهَا لِيَلْحَقَ كُلُّ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ.
(7/18)
 
 
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ]
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ
وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ: كَمَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَسْعَارِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الصَّادِرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: لِأَنَّ مُقَدِّمَاتِهِ قَطْعِيَّةٌ لِوُجُوبِ عِلْمِ وُقُوعِهِ قَالَ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مِنَّا وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا عُدِمَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَوَاطِعِ ": ذَهَبَ كَافَّةُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا السَّمْعُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ الْقِيَاسِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْمُثْبِتُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ.
(7/19)
 
 
وَالثَّانِي: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَالثَّالِثُ: نَفْيُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ.
وَالرَّابِعُ: نَفْيُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ قَالَ: وَالْمُثْبِتُونَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ أَوْجَبُوهُ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَأَجَازُوهُ فِيمَا فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْأُصُولِ إذَا لَمْ يُرَدَّ إلَى خِلَافِهَا، انْتَهَى. ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لَهُ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: فِي طَرِيقِ إثْبَاتِهِ: فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ دَلِيلٌ بِالشَّرْعِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّمَا أَخَذْنَاهُ اسْتِدْلَالًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَرَدَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ وُجُودِهَا لَتَوَصَّلْنَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ إلَى انْتِصَابِ الْأَقْيِسَةِ عِلَلًا فِي الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الدَّقَّاقُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، حَكَاهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الرَّوْضَةِ " وَجَعَلَهُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ الْقِيَاسِ قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالنَّظَّامُ إلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ مَالَ أَحْمَدُ فِي قَوْلِهِ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى مَا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفًا لَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ.
وَثَانِيهَا: هَلْ دَلَالَةُ السَّمْعِ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ وَالْآمِدِيَّ.
وَثَالِثُهَا: قِيلَ: إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ
(7/20)
 
 
بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ، فَأَوَّلُ مَنْ بَاحَ بِإِنْكَارِهِ النَّظَّامُ، وَتَابَعَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَجَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْإِسْكَافِيِّ، وَتَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِهِ فِي الْأَحْكَامِ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الشَّافِعِيُّ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابٍ فِي الْقِيَاسِ، مِمَّا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ جَامِعِ الْعِلْمِ ": مَا عَلِمْت أَحَدًا سَبَقَ النَّظَّامَ إلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ أَبُو الْهُذَيْلِ فِيهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ " انْتَهَى ". وَقَرَّرَ النَّاقِلُونَ بَحْثَ الظَّاهِرِيَّةِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " الْعِلْمِ ": لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي نَفْيِ
(7/21)
 
 
الْقِيَاسِ فِي التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ نَفَاهُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَنَفَاهُ فِي الْأَحْكَامِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ دَاوُد وَالنَّهْرَوَانِيّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَالْقَاشَانِيِّ أَنَّ الْقِيَاسَ مُحَرَّمٌ بِالشَّرْعِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا دَاوُد فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَا حَادِثَةَ إلَّا وَفِيهَا حُكْمٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفَحْوَى النَّصِّ وَدَلِيلِهِ، وَذَلِكَ مُغْنٍ عَنْ الْقِيَاسِ. فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مُفَصَّلًا، وَمِنْهَا مَا أَجْمَلَ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَمِنْهَا مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. وَمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ فَحُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ بِعَفْوِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَرْكُهُ النَّصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ بِإِخْبَارٍ عَنْ فَاعِلٍ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لَهُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ تُورَدُ الرِّوَايَةُ عَمَّا فَعَلَ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَمْ يُنْكِرْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: ذَهَبَ دَاوُد وَأَتْبَاعُهُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِلٌ وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: ذَهَبَ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرِدْ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ وَالْمَصِيرَ إلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا بِهِ. وَكَذَا نَقَلَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ عَقْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي " الْإِحْكَامِ ": ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ جُمْلَةً وَهُوَ قَوْلُنَا الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَالْقَوْلُ بِالْعِلَلِ بَاطِلٌ قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ إلَى أَنَّ الشَّارِعَ إذَا جَعَلَ شَيْئًا مَا عِلَّةً لِحُكْمٍ
(7/22)
 
 
فَحَيْثُمَا وُجِدَ ذَلِكَ وَجَبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ، كَنَهْيِهِ عَنْ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ. قَالَ: وَإِنَّمَا السِّنُّ عَظْمٌ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ لَا يُذْبَحُ بِهِ. قَالَ: وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ دَاوُد وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ قَوْمٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ مِنْ جُمْلَتِنَا كَالْقَاشَانِيِّ وَضُرَبَائِهِ، وَقَالُوا: أَمَّا مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا لِسَبَبِ كَذَا. وَقَالَ دَاوُد وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ: لَا يَفْعَلُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا لِعِلَّةٍ أَصْلًا، وَإِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى أَنَّهُ لِكَذَا، أَوْ بِسَبَبِ كَذَا، أَوْ لِأَنَّهُ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ النَّصُّ فِيهَا وَلَا تُوجِبُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمُبَيَّنَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَسْنَا نُنْكِرُ وُجُودَ بَعْضِ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ نُثْبِتُهَا وَنَقُولُ بِهَا لَكِنْ نَقُولُ: إنَّهَا لَا تَكُونُ أَسْبَابًا إلَّا حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ أَسْبَابًا وَلَا يَتَعَدَّى بِهَا الْمَوْضِعُ الْمَنْصُوصُ عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ عُرِفَ بِهِ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ دَاوُد وَأَصْحَابَهُ لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا الْقَائِلُ بِهِ الْقَاشَانِيُّ وَضُرَبَاؤُهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ وَالنَّهْرَوَانِيّ الْقَوْلَ بِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أُومِئَ إلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَسْبَابِ،
(7/23)
 
 
كَرَجْمِ مَاعِزٍ لِزِنَاهُ، وَالْمُعَلَّقِ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ كَالسَّارِقِ، وَكَأَنَّهُمَا يَعْنِيَانِ بِهَذَا الْقِسْمِ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ. وَقَالَ الْقَاضِي: وَاخْتُلِفَ هَلْ هُمَا بِهَذَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَمْ لَا؟ وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ عَنْهُمَا الْقَوْلَ بِهِ فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ مَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْأَصْلِ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْقَاشَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حُكْمٍ وَقَعَ فِي شَخْصٍ لِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حُكْمِ كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ إنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ. وَنُقِلَ عَنْ النِّهْرَوَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اُسْتُدِلَّ عَلَى الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ عَلَى السِّنَّوْرِ إذَا وَقَعَ قَالَ: وَهَذَا مِنْهُمَا اعْتِرَافٌ بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي " أُصُولِهِ ": الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّسْمِيَةَ وَإِلَّا فَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ، وَهُوَ الْمَغْرِبِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ النَّهْرَوَانِيُّ وَالْقَاشَانِيُّ. أَمَّا الْقَاشَانِيُّ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا شَرَعَ عَلَى سَبَبٍ فِي شَخْصٍ، فَالْحُكْمُ لِلسَّبَبِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنَّهُ يُسَاوِيهِ، فَإِنْ جَرَى عُلِمَ صِحَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عُلِمَ بُطْلَانُهُ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، فَهَلْ قَالَ أَصْحَابُ الْقِيَاسِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا؟ وَأَمَّا النَّهْرَوَانِيُّ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ عَلَى السِّنَّوْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ ثُمَّ سَلَكَا فِي النَّفَقَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ أَنَّهَا مَعْقُولَةٌ عَنْ الْخِطَابِ وَمَعْلُومَةٌ بِالْعَادَةِ. فَهَؤُلَاءِ مَا اهْتَدَوْا قَطُّ لِنَفْيِ الْقِيَاسِ. وَلَمْ يَنْفِ الْقِيَاسَ قَطُّ فِي الْأَحْكَامِ غَيْرُ إبْرَاهِيمَ (يَعْنِي النَّظَّامَ) مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَتْبَاعِهِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ دَاوُد وَمَنْ بَعْدَهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَنَا: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِأَنَّهَا حُلْوَةٌ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهَا مِنْ كُلِّ حُلْوٍ، وَسَوَاءٌ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ حُلْوٌ أَوْ لَمْ يَقُلْ. انْتَهَى.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّظَّامِ إنْكَارُ الْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ
(7/24)
 
 
قَالَ إنَّ الشَّيْءَ إذَا تَقَدَّمَتْ إبَاحَتُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاحْتَاجَ إلَى الْعِبْرَةِ اُعْتُبِرَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَنَصَّ عَلَى إيجَابِ النَّفَقَاتِ لِلْأَزْوَاجِ وَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ بِنَظَائِرِهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقِيَاسِيُّونَ: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُوجِبُ ابْتِدَاءَ الْحِكَمِ وَوَضْعَهَا، فَإِذَا وُضِعَتْ الْأُصُولُ وَاحْتِيجَ إلَى تَمْيِيزِهَا وَالتَّنْفِيذِ لِلْحُكْمِ اُسْتُدِلَّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ فِي النَّفَقَاتِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: النَّافِي لِلْقِيَاسِ قَائِلٌ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَمِنْهُ رَجْمُ الزَّانِي قِيَاسًا عَلَى مَاعِزٍ، وَإِرَاقَةُ الزَّبَدِ الْمُتَنَجِّسِ قِيَاسًا عَلَى السَّمْنِ، وَجَوَازُ الْخَرْصِ وَالْمُسَاقَاةِ قِيَاسًا عَلَى الْكَرْمِ، وَمَنْعُ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ مَكْرُوهٌ قِيَاسًا عَلَى الْغَضَبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " جَامِعِ الْعِلْمِ ": وَدَاوُد وَإِنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فَقَدْ قَالَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَقَدْ جَعَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي " أَدَبِ الْجَدَلِ " لَهُ: كُلُّ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً فَإِنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِهِ ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِاسْمِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِنْبَاطِ أَوْ الِاجْتِهَادِ أَوْ دَلِيلِ الشَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّظَّامَ إنَّمَا أَنْكَرَ الْقِيَاسَ فِي شَرِيعَتِنَا خَاصَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَلَا الشَّرْعِيَّ السَّالِفَ. ثُمَّ الْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ نَفْيِهِ: فَقِيلَ: يُنْفَى بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقِيلَ: إنَّ الْخَوْضَ فِيهِ قَبِيحٌ
(7/25)
 
 
لِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: يَجِبُ أَنْ يَصْطَلِحَ لِعِبَادِهِ فَيَنُصُّ عَلَى الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ طَرِيقُهَا الْمَصَالِحُ وَلَا يَعْرِفُ الْمَصَالِحَ إلَّا صَاحِبُ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا جُعِلَتْ عَلَى وُجُوهٍ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا قِيَاسًا، كَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ، وَإِيجَابِهِ الْقَسَامَةَ بِاللَّوْثِ، وَالْحُكْمَ بِالشُّفْعَةِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخَابَرَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَجَمَعَتْ الشَّرِيعَةُ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ، وَفَرَّقَتْ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَّفِقَةٍ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ، وَلَا وَجْهَ إلَّا امْتِنَاعُ النَّصِّ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِالشَّرْعِيَّاتِ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْقِيَاسُ فَلَوْ وَقَعَ عَلَى خِلَافِهِ صَحَّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَدْنَى طُرُقِ الْبَيَانِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهَا، وَلَا يُعَلِّقُ عِبَادَتَهُ بِالظَّنِّ الَّذِي يُخْطِئُ دُونَ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ فِي الْأَحْكَامِ، وَحَكَاهُمَا ابْنُ فُورَكٍ، وَقِيلَ لِضَعْفِ الْبَيَانِ الْحَاصِلِ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
وَقِيلَ: بَلْ يُنْفَى بِالشَّرْعِ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ عَنْ دَاوُد. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: إنَّهُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ كَدَاوُد وَالْقَاشَانِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ النِّهْرَوَانِيِّ ثُمَّ إنَّ الْقَاشَانِيَّ وَالنَّهْرَوَانِيّ نَاقَضَا، فَقَالَ الْقَاشَانِيُّ: " كُلُّ حُكْمٍ وَقَعَ. . . " وَنَقَلَ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَالنَّظَّامُ فَأَسْرَفَا، فَقَالَ دَاوُد: لَوْ قِيلَ لَنَا حَرُمَ السُّكَّرُ لِأَنَّهُ حُلْوٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ حُلْوٍ،
(7/26)
 
 
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ. وَالْفِرَقُ الْمُبْطِلَةُ ثَلَاثَةٌ: الْمُحِيلَةُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبَةُ لَهُ عَقْلًا، وَالْحَاظِرَةُ لَهُ شَرْعًا.
قُلْت: وَالْمَانِعُونَ لَهُ سَمْعًا افْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ:
فِرْقَةٌ قَالَتْ: نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ وَفَتْ وَأَثْبَتَتْ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ حَزْمٍ.
وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ حَرُمَ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ صَحَّ مَا قَالَهُ الظَّاهِرِيُّ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِحُكْمِ الْحَوَادِثِ لِمَا افْتَقَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَوَادِثِ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَدِلَّةِ الْعَقْلِ.
وَقَالَ الدَّبُوسِيُّ: نُفَاةُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى دَلِيلَ الْعَقْلِ حُجَّةً وَالْقِيَاسُ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً إلَّا فِي مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ حُجَّةً فِيهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّا نَحْكُمُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِاسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ لَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إلَى قَوْلٍ غَرِيبٍ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فِيمَا أَظُنُّ وَهُوَ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ كَانَ جَائِزًا قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَأَمَّا بَعْدَهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَهُوَ بِدَعٌ مِنْ الْقَوْلِ.
(7/27)
 
 
وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَهْجُورَةٌ وَهُوَ خِلَافٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ الْإِجْمَاعُ بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَوْلًا وَعَمَلًا، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَنْ ذَهَبَ إلَى رَدِّ الْقِيَاسِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِخَطَئِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، مَحْكُومٌ بِكَوْنِهِ مَأْثُومًا. قَالَ الْقَاضِي: وَلَسْت أَعُدُّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ وَلَا أُبَالِي بِخِلَافِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: " وَهُوَ كَمَا قَالَ ". وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي شَرْحِهِ ": ذَكَرَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَاضِيَ إسْمَاعِيلَ أَمَرَ بِدَاوُد مُنْكِرِ الْقِيَاسِ فَصُفِعَ فِي مَجْلِسِهِ بِالنِّعَالِ وَحَمَلَهُ إلَى الْمُوَفَّقِ بِالْبَصْرَةِ لِيَضْرِبَ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ جَحَدَ أَمْرًا ضَرُورِيًّا مِنْ الشَّرِيعَةِ فِي رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ وَالْجَلَّادُ فِي هَؤُلَاءِ أَنْفَعُ مِنْ الْجِدَالِ. انْتَهَى.
 
وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ فَلَنَا مَسَالِكُ:
الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْقُرْآنِ: وَمِنْ أَشْهَرِهَا قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللِّسَانِ عَنْ " الِاعْتِبَارِ " فَقَالَ: أَنْ يَعْقِلَ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ فَيَعْقِلُ مِثْلَهُ. فَقِيلَ: أَخْبِرْنَا عَمَّنْ رَدَّ حُكْمَ حَادِثَةٍ إلَى نَظِيرِهَا أَيَكُونُ مُعْتَبَرًا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. حَكَاهُ الْبَلْعَمِيُّ فِي كِتَابِ " الْغَرَرِ فِي الْأُصُولِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْت الْقَاشَانِيُّ وَابْنَ سُرَيْجٍ قَدْ صَنَّفَا فِي الْقِيَاسِ نَحْوَ أَلْفِ وَرَقَةٍ، هَذَا فِي نَفْيِهِ، وَهَذَا فِي إثْبَاتِهِ. اعْتَمَدَ
(7/28)
 
 
الْقَاشَانِيُّ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وَاعْتَمَدَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " اتِّفَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ تَمْثِيلَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَاعْتِبَارَهُ بِهِ، وَإِجْرَاءَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاتِّعَاظُ وَالْفِكْرُ اعْتِبَارًا؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَمِثْلِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ عَنْ الذَّنْبِ بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَالِانْتِقَامِ بِأَهْلِ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، ثُمَّ حُكِيَ مَا سَبَقَ عَنْ ثَعْلَبٍ. وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ التَّعَجُّبُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَافَقَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ فِي " الْقَوَاعِدِ ": مِنْ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الِاتِّعَاظُ وَالِازْدِجَارُ، وَالْمُطْلَقُ إذَا