البحر المحيط في أصول الفقه 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ)
عدد الأجزاء: 8
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ تُحْبَسُ وَلَا تُقْتَلُ، فَخَصَّ الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ، فَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ، خُصَّ عَلَى الْمُخْتَارِ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الَّذِي يُقَلِّدُ الصَّحَابِيَّ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُخَصَّصُ بِهِ، إلَّا إذَا انْتَشَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَجُعِلَ ذَلِكَ نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ قُلْنَا: قَوْلُهُ: غَيْرُ حُجَّةٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُخَصُّ بِهِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الْعَدْلَ لَا يَتْرُكُ مَا سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَعْمَلُ بِخِلَافِهِ إلَّا لِنَسْخٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَلَنَا أَنَّ الْحُجَّةَ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ عَامٌّ، وَتَخْصِيصُ الرَّاوِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَصَّهُ بِدَلِيلٍ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ لَوْ ظَهَرَ، فَلَا يَتْرُكُ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْمُحَقَّقَةَ لِمُحْتَمَلٍ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَدْ يُخَالِفُ فِي هَذَا وَيَقُولُ: إنَّ الْقَرَائِنَ تُخَصِّصُ الْعُمُومِ، وَالرَّاوِي يُشَاهِدُ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يُشَاهِدُهُ غَيْرُهُ، وَعَدَالَتُهُ وَتَيَقُّظُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِمَّا لَا يُخَصُّ إلَّا بِمُوجِبٍ مِمَّا يَمْنَعُهُ أَنْ يُحْكَمَ بِالتَّخْصِيصِ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ، وَجَهَالَتُهُ دَلَالَةَ مَا ظَنَّهُ مُخَصِّصًا عَلَى التَّخْصِيصِ يَمْنَعُ مِنْهُ مَعْرِفَتُهُ بِاللِّسَانِ، وَتَيَقُّظُهُ. اهـ. وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " فِي هَذَا الضَّرْبِ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ لَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: لَا يَخُصُّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَكَلَامُ مَنْ جَزَمَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَمْ لَا، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ
(4/530)
 
 
الرَّاوِي لَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اطَّلَعَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى قَرَائِنَ حَالِيَّةٍ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لَمْ يَرْوِ الْخَبَرَ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ.
وَإِلَى هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ يُرْشِدُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْمُخْتَصَرِ " بِقَوْلِهِ: مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَا يُخَصِّصُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاوِي، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ وَالرَّازِيَّ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ إنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِهِ، لَمْ يُخَصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي بَلْ بِهِ، إنْ اقْتَضَى نَظَرُ النَّاظِرِ فِيهِ ذَلِكَ وَإِلَّا خُصَّ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَمَثَّلَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " هَذَا الْقِسْمَ بِحَدِيثِ «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» . قَالَ: وَحَمَلَهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَرَسِ الْغَازِي لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا، وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَاَلَّذِي نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِفِعْلِهِ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَنَّ مُجَرَّدَ مَذْهَبِ الرَّاوِي لَا يُبْطِلُ الْحَدِيثَ وَلَا يَدْفَعُهُ، لَكِنْ إنْ صَدَرَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ مِنْهُ مَصْدَرَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ فَيُقْبَلُ، وَتَخْصِيصُهُ أَوْلَى. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا رَوَاهُ إذَا كَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا.
وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَعَمِلَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ. قَالَ وَالِاخْتِيَارُ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ إنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ، أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَتَهُ
(4/531)
 
 
لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ وَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ، وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ. وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمِيعِ امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَعْمِدَ إلَى مُخَالَفَةِ مَا رَوَاهُ إلَّا عَنْ سَبَبٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ فَلَا احْتِجَاجَ بِمَا رَوَاهُ، وَإِنْ فَعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ عَنْ رُتْبَةِ الْفِقْهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا يَقْتَضِي تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ. وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُثْبِتَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الْتِبَاسٍ، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ: إذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالتَّعَلُّقُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ، فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ نُحَقِّقْهُ، فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ، وَيُخَصُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ.
وَقَالَ إلْكِيَا وَابْنُ فُورَكٍ: الْمُخْتَارُ أَنَّا إنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنْ حَمَلَهُ عَلَى وَجْهِ اسْتِدْلَالٍ أَوْ تَخْصِيصًا بِخَبَرٍ آخَرَ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. قُلْت: وَسَكَتَا عَنْ حَالَةٍ ثَالِثَةٍ، وَهِيَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ الْحَالُ. وَكَأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ "
(4/532)
 
 
فَالْأَحْوَالُ إذَنْ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَخْرَجِ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْخُصُوصُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ الرَّاوِي فِيهِ. الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ خُصَّ الْخَبَرُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، أَوْ ضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْخَبَرِ قَطْعًا. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ مَا لِأَجْلِهِ خُصَّ الْخَبَرُ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاوِي لِلْخَبَرِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ قَالَ: وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَإِذَا فَسَّرَهُ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ أَخَذْنَا بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» حَيْثُ فَسَّرَهُ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ. فَأَمَّا مَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْكَرْخِيّ
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ عُمُومُ الْخَبَرِ، وَتَرْكُ ظَاهِرِهِ بِقَوْلِ الرَّاوِي وَبِمَذْهَبِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْخَبَرِ بِأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، فَالْمَكَانُ الَّذِي نَقْبَلُ قَوْلَهُ فِيهِ لَا يَقْبَلُونَهُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي يَقْبَلُونَهُ لَا نَقْبَلُهُ
 
تَنْبِيهَاتٌ
[هَلْ يُخَصُّ الْحَدِيثُ بِقَوْلِ رَاوِيهِ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ]
الْأَوَّلُ: زَعَمَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي صَحَابِيًّا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَاهَدَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خِلَافَ مَا رَوَاهُ، فَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. أَمَّا غَيْرُ الصَّحَابِيِّ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ فِي أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى رِوَايَتِهِ. اهـ. وَغَرَّهُ فِي ذَلِكَ بِنَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الصَّحَابِيِّ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الرَّاوِي لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ وَلَا بِصُورَةِ التَّخْصِيصِ؛ بَلْ الرَّاوِي
(4/533)
 
 
مُطْلَقًا مِنْ الصَّحَابِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ، إذَا خَالَفَ الْخَبَرَ بِتَخْصِيصٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، حَتَّى إذَا تَرَكَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ مَذْهَبُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْخَبَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ " بِالرَّاوِي الصَّحَابِيِّ، بَلْ أَطْلَقَ. وَلَكِنْ قَيَّدَ الْمُخَالَفَةَ بِحَالَةِ التَّخْصِيصِ، وَلَا تَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَصَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ " بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ: وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ حَدِيثًا، وَعَمِلَ بِخِلَافِهِ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارَ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى بِنَائِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ، وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ؟ وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ أَيْضًا لَا تَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي كِتَابِهِ هَكَذَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي، ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ يَجْرِي فِيمَنْ بَلَغَهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِي لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا، وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِي، فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهْ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعِلْمٌ بِضَعْفِهِ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِ الرَّاوِي مُطْلَقَةٌ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
(4/534)
 
 
الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَتَعَقَّبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلًا أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ هَلْ تَقَدَّمَ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ قَبْلَ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْحَقُّ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ بَعْدَ رِوَايَتِهِ اتَّجَهَ قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ. اهـ. وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ. وَهَذَا الْبَحْثُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَسْأَلَةِ بِالصَّحَابِيِّ
وَمِثَالُ تَخْصِيصِ الرَّاوِي غَيْرِ الصَّحَابِيِّ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ: وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَحْتَكِرُ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كَانَ مَعْمَرٌ يَحْتَكِرُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَا يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ، وَحَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى احْتِكَارِ الْقُوتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَالْغَلَاءِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الشَّافِعِيُّ، لَكِنَّهُ خُصِّصَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، لَا بِقَوْلِ سَعِيدٍ. نَعَمْ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " الشَّهَادَاتِ ": إنَّمَا اخْتَصَّ الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينُ بِالْأَمْوَالِ، لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَوَى الْخَبَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمَّا رَوَاهُ قَالَ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ. وَقَوْلُ الرَّاوِي مُتَّبَعٌ فِي تَفْسِيرِ مَا يَرْوِيهِ وَتَخْصِيصِهِ. انْتَهَى.
الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَهُ وَانْتَشَرَ، وَلَمْ يُخَالَفْ، خُصَّ بِهِ هُوَ الصَّوَابُ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَارِدَةٌ عَلَى مَنْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ غَيْرُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ.
(4/535)
 
 
الثَّالِثُ: إنْ عَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ، يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ أُخْرَى سَيَأْتِي فِي بَابِ الْأَخْبَارِ بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
 
[مَسْأَلَةٌ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ]
مَسْأَلَةٌ
فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقِلِّ فَيُخَصُّ، وَغَيْرُهُ فَلَا، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَحْصُولِ " وَقَدْ سَبَقَتْ.
 
[مَسْأَلَةٌ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ]
مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِقَضَايَا الْأَعْيَانِ كَإِذْنِهِ فِي الْحَرِيرِ لِلْحَكَّةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِصْحَابُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ بَعْضُ ضُعَفَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. قَالَ: لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ نَاقِلٌ. فَجَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ. وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَسْقُطَ بِالْعُمُومِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِهِ. إذْ مَعْنَاهُ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يَنْقُلُ عَنْهُ، وَالْعُمُومُ دَلِيلٌ نَاقِلٌ.
(4/536)
 
 
[مَسْأَلَةٌ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إذَا كَانَ هُوَ الْأَعْظَمَ الْأَشْرَفَ]
مَسْأَلَةٌ
مَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ إذَا كَانَ هُوَ الْأَعْظَمَ الْأَشْرَفَ وَبَنَى عَلَيْهِ مَنْعَ إطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَوْ جَازَ لَلَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِي قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا ذَكَرْنَا. حَكَاهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ
(4/537)
 
 
[خَاتِمَةٌ لَيْسَ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ]
خَاتِمَةٌ
لَيْسَ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلَا رُجُوعُ الضَّمِيرِ إلَى الْبَعْضِ خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَلَا ذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، وَلَا وُرُودُهُ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي الْعُمُومِ.
(4/538)
 
 
[الْقَوْلُ فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ]
وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ: تَخْصِيصُهُ وَتَفْسِيرُهُ لَهُ. إذَا وُجِدَ نَصَّانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرُ خَاصٌّ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، وَالْآخَرُ مِنْ السُّنَّةِ إمَّا مُتَوَاتِرًا وَغَيْرَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ السُّنَّةِ؛ إمَّا مُتَوَاتِرَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُتَوَاتِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ. وَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، إلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّسْخِ عِنْدَمَا يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ ظَنِّيًّا، وَالْمُقَدَّمُ قَطْعِيًّا، عِنْدَ مَنْ مَنَعَهُ. وَحَيْثُ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُمَا صِرْنَا إلَيْهِ، وَنَقَلَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ النَّصَّانِ مِنْ الْكِتَابِ، وَيَسْقُطُ الْخَبَرَانِ، وَعَنْهُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ رِوَايَتَانِ: هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ أَوْ يَتَسَاقَطَانِ.
ثُمَّ فِيهِ أَقْسَامٌ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَا مَعًا، كَأَنْ تُنَزَّلَ آيَةٌ عَامَّةٌ، ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهَا بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلَ التَّخْصِيصِ، كَقَوْلِهِ: زَكُّوا الْبَقَرَ وَلَا تُزَكُّوا الْعَوَامِلَ، فَالْخَاصُّ هُنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ، لِأَنَّ الْخَاصَّ مُبَيِّنٌ لِلْعَامِّ وَمُخَصِّصٌ لَهُ؛ لَكِنْ فِي الْمَحْصُولِ " أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْعَامِّ يَصِيرُ مُعَارِضًا لِلْخَاصِّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: الْمُخَصِّصُ مَعَ الْعَامِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]
(4/539)
 
 
ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا. فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَارِنًا لِلْعَامِّ، كَمَا مَثَّلْنَا، أَوْ يَكُونَ الْعَامُّ مُقَارِنًا لِلْخَاصِّ، كَأَنْ يَقُولَ: «لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» ، ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَهُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» ، وَإِنْ جَوَّزْنَا نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ، فَلَا يُمْكِنُ هُنَا، لِأَنَّ النَّاسِخَ شَرْطُهُ التَّرَاخِي، وَهُوَ هَاهُنَا مُقَارِنٌ، فَتَعَيَّنَ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ.
الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْخَاصُّ وَإِمَّا الْعَامُّ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ أَوْ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْخَاصُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ، فَهَاهُنَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ وِفَاقًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ غَيْرُ جَائِزٍ قَطْعًا، فَيُعْمَلُ بِالْعَامِّ فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْعَامِّ دُونَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَهَذِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، فَمَنْ جَوَّزَهُ جَعَلَ الْخَاصَّ بَيَانًا لِلْعَامِّ، وَقَضَى بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَنَعَهُ، حَكَمَ بِنَسْخِ الْعَامِّ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَارَضَهُ الْآخَرُ.
هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَسُلَيْمٌ، قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يَخْتَصُّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فِيهَا إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. اهـ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " نَحْوَهُ.
(4/540)
 
 
وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " إذَا تَأَخَّرَ الْخَاصُّ، فَإِنْ وَرَدَ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ كَانَ تَخْصِيصًا، أَوْ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ كَانَ نَسْخًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ
وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ وَلَمْ يُجَوِّزْ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، كَالْمُعْتَزِلَةِ أَحَالَ الْمَسْأَلَةَ. وَمَنْ جَوَّزَهُمَا، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْخَاصَّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْعَامِّ لَكِنَّ التَّخْصِيصَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ النَّسْخِ وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ فَيَتَعَيَّنُ. وَنُقِلَ عَنْ مُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَاصَّ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ الْعَامِّ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى الْعَامِّ كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ الْعَامِّ لِأَنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا تَنَافٍ فَيُجْعَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ عَنْ الْإِمْكَانِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُصِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ فَهَاهُنَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ، وَالْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى. قَالَ إلْكِيَا: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا عُلِّلَ بِهِ. اهـ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ الْفَارِضِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: إذَا تَأَخَّرَ الْعَامُّ كَانَ نَسْخًا لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخَاصُّ، مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ. قَالَ: وَكَانَ يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدُ.
(4/541)
 
 
ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ نَاقَضَ الشَّافِعِيُّ أَصْلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسَائِلَ:
مِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُنَيْس: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَاضِيًا عَلَى قَضِيَّةِ مَاعِزٍ فِي اعْتِبَارِ تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ، وَقَضِيَّةَ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ: الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ مَنْسُوخٌ «بِأَكْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمًا وَخُبْزًا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِنْهَا خَاصٌّ بِهِمَا، ثُمَّ يُنْسَخُ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ مَعَ امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ، كَيْفَ مُنِعَ مِنْ إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لِلْقَاعِدَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَقْبَلُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ زَعَمَ (أَنَّ قَتْلَ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ)
(4/542)
 
 
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ» فَجَعَلَ الْعَامَّ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ.
وَزَادَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ: تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَفِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ النَّصُّ عَلَى تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، وَلَمْ يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَتَيْنِ فَكَيْفَ فِي وَاحِدَةٍ؟ وَالْجَوَابُ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يَتَأَخَّرَ الْعَامُّ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِالْخَاصِّ، لَكِنَّهُ قَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّسْخِ، إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ مِنْهُمْ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ،
(4/543)
 
 
فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فِيهِ، وَجَعَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عَنْ مَوْرِدِ اللَّفْظِ، جَعَلَهُ نَسْخًا لِلْخَاصِّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَاصَّ مِنْهُمَا يَخُصُّ الْعَامَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ، وَإِلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالدَّقَّاقِ أَيْضًا.
وَكُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّهُ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا وَمُقَارِنًا إذَا عُلِمَ التَّارِيخُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، وَحَالَةُ الْجَهْلِ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْجَهْلُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَوْ التَّخْصِيصِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، لَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَا فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وَيُخَصِّصُ الْعَامَّ أَوْ يَنْسَخُهُ بِهِ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ دَارَ الْأَمْرُ فِي الْخَاصِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مُخَصِّصًا أَوْ نَاسِخًا، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّوَقُّفَ إلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ ذَكَرُوا فِي التَّرْجِيحِ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا أَوْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهَا وُجُوهًا، فَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيُسْتَعْمَلَانِ، وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى
(4/544)
 
 
الْخَاصِّ «كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَتَرْخِيصُهُ فِي السَّلِمِ " وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجِبِ أَحَدِهِمَا وَيُسْقِطُوا الْآخَرَ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا أَسْقَطُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا عَمِلُوا بِهِ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَيَعْمَلُ بَعْضُهُمْ بِأَحَدِهِمَا، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخَالِفُهُ، فَالْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا، وَتَجَرَّدَا عَنْ دَلَالَةِ النَّسْخِ، يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَإِنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِآخَرَ.
قَالَ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مَتَى اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْآخَرِ، كَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَاضِيًا عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، وَحَدِيثُ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ، فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعَشَرَةِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عَلَيْهِ بِإِيجَابِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ، تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ.
وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ: تَرْجِيحَ الْخَاصِّ فِيهِمَا عَلَى النَّسْخِ، وَالْمُفِيدُ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَزَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: كَوْنَ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْآيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ التَّرْجِيحَاتِ.
(4/545)
 
 
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ: قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: خِلَافُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ نَصٌّ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ، وَحِينَئِذٍ فَإِذَا قَضَى الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فِي جُزْءٍ تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ، وَالْعَامُّ يَقْضِي عَلَى الْخَاصِّ فِي خَبَرٍ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ، فَيَتَعَارَضَانِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّ شَرْطَ الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّنَافِي فِي الْكُلِّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الْخَاصِّ، أَمَّا إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّنَافِي فَلَا. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَعَلَى هَذِهِ فَإِذَا وَرَدَ عَامٌّ وَخَاصٌّ فِي طَرَفَيْ النَّهْيِ وَالنَّفْيِ فَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَلَا يُقَيَّدُ الْمُطْلَقُ: كَمَا فِي نَهْيِهِ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ.
وَالنَّهْيِ عَنْ مَسِّهِ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا، فَبَقِيَ دَالًّا عَلَى عُمُومِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّهْيِ فِي مَحَلٍّ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا ثَبَتَ لَنَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مُتَعَدِّدَانِ، لَيْسَا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ اُخْتُلِفَ فِي لَفْظِهِ.
 
[مَسْأَلَةُ تَعَارُضِ الْمُفَسَّرِ وَالْمُجْمَلِ]
ِ؛ كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ؛ فَيُقَدَّمُ الْمُفَسَّرُ عَلَى الْمُجْمَلِ مُطْلَقًا؛ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ.
(4/546)
 
 
[الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ]
ُ الْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَقَالَ: فِي " الْمَحْصُولِ ": مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا. وَالْمُرَادُ بِهَا عَوَارِضُ الْمَاهِيَّةِ اللَّاحِقَةُ لَهَا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ فِي الذِّهْنِ، أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ مَعَ الْمَاهِيَّةِ عَارِضٌ مِنْ عَوَارِضِهَا وَهِيَ الْكَثْرَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مَحْصُورَةً فَهِيَ الْعَدَدُ، وَإِلَّا فَالْعَامُّ قَالَ: وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْمُطْلَقُ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ أَمْرَانِ مُغَايِرَانِ لِلْمَاهِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، زَائِدَانِ عَلَيْهَا، ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَحْدَةَ وَعَدَمَ التَّعَيُّنِ لَا يَدْخُلَانِ فِي مَفْهُومِ الْحَقِيقَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْحَاصِلِ ": الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَالدَّالُّ عَلَيْهَا مَعَ وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ هُوَ النَّكِرَةُ. وَقَالَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ ": الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَيُسَمَّى مَفْهُومُهُ كُلِّيًّا، وَحَاصِلُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَأَتْبَاعِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي " الْمُسْتَصْفَى ": اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِرَاكِ الْمَعْنَى وَخُصُوصِيَّتِهِ، يَنْقَسِمُ إلَى لَفْظٍ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَإِلَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَنُسَمِّيهِ مُطْلَقًا، فَالْمُطْلَقُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَكُونُ تَصَوُّرُهُ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ.
(5/5)
 
 
وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ فِي " الْبُرْهَانِ ": جَعَلَ صَاحِبُ " الْمَحْصُولِ " الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، وَخَطَّأَ الْقُدَمَاءَ فِي حَدِّهِمْ لَهُ بِمَا سَبَقَ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْوَحْدَةَ وَالتَّعَيُّنَ قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. قَالَ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الْأَجْنَاسِ كَأُسَامَةَ وَثُعَالَةَ، فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً. وَرَدَّ عَلَيْهِ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ "، وَقَالَ: لَمْ يَجْعَلْ الْإِمَامُ الْمُطْلَقَ وَالنَّكِرَةَ سَوَاءً، بَلْ غَايَرَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالنَّكِرَةَ الدَّالُّ عَلَيْهَا بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ، وَأَمَّا إلْزَامُهُ عِلْمَ الْجِنْسِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ بِقَيْدِ التَّشْخِيصِ الذِّهْنِيِّ بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَا: إنَّهُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ الشَّائِعَةِ كَالنَّكِرَةِ. قَالَ فِي " الْإِحْكَامِ ": الْمُطْلَقُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْمُطْلَقُ مَا دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ عَرَّفَ النَّكِرَةَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، إلَّا أَنَّ الَّذِي دَعَا الْآمِدِيَّ إلَى ذَلِكَ هُوَ أَصْلُهُ فِي إنْكَارِ الْكُلِّيِّ الطَّبِيعِيِّ. وَأَمَّا ابْنُ الْحَاجِبِ فَإِنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ، بَلْ هُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي إثْبَاتِهِ؛ لَكِنَّ الدَّاعِيَ لَهُ إلَى ذَلِكَ مُوَافَقَةُ النُّحَاةِ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ.
قَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ النَّحْوِيِّ: النَّكِرَةُ: كُلُّ اسْمٍ دَلَّ عَلَى مُسَمَّاهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، أَيْ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِهَذَا وَلِهَذَا. اهـ. وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ يَعْنِي مُوَافَقَةَ ابْنِ الْحَاجِبِ لِلنُّحَاةِ، فَإِنَّ النُّحَاةَ إنَّمَا دَعَاهُمْ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُمْ فِي الْفَرْقِ، لِاشْتِرَاكِ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ فِي صِيَاغَةِ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ قَبُولُ " أَلْ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا إلَى الْفَرْقِ، أَمَّا الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمَا عِنْدَهُمْ حَقِيقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ.
(5/6)
 
 
أَمَّا الْأُصُولِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ وَجْهَ الْمُمَيِّزِ فِيهِمَا، فَإِنَّا قَطْعًا نُفَرِّقُ بَيْنَ الدَّالِّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَالدَّالُّ عَلَيْهَا بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، كَمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الدَّالُّ عَلَيْهَا بِوَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ النَّكِرَةُ، وَمُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ، فَهِيَ حَقَائِقُ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا.
وَأَمَّا الْفَقِيهُ، فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اسْتَشْعَرَ بَعْضُهُمْ التَّنْكِيرَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ اشْتَرَطَ الْوَحْدَةَ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا فَأَعْطُوهُ كَذَا، فَكَانَ غُلَامَيْنِ، لَا شَيْءَ لَهُمَا، لِأَنَّ التَّنْكِيرَ يُشْعِرُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيَصْدُقُ أَنَّهُمَا غُلَامَانِ لَا غُلَامٌ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَانَ حَمْلُك ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ، فَكَانَا ذَكَرَيْنِ، فَقِيلَ: لَا تَطْلُقُ، لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقِيلَ تَطْلُقُ، حَمْلًا عَلَى الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فَانْظُرْ كَيْفَ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ. .
 
[الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ]
وَأَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطْلَقَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقَعَ فِي الْإِنْشَاءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمُطْلَقُ هُوَ التَّعَرُّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ، لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] .
وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ فِي الْأَخْبَارِ، مِثْلُ رَأَيْت رَجُلًا، فَهُوَ لِإِثْبَاتِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّعْيِينِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَجُعِلَ مُقَابِلًا لِلْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى قَيْدِ الْوَحْدَةِ. وَعَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يُنَزَّلُ كَلَامُ " الْمَحْصُولِ "، وَعَلَى الثَّانِي يُنَزَّلُ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ فِي الْمَاهِيَّةِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَظَاهِرٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَنَظِيرِ الْخِلَافِ فِي الْعُمُومِ، وَلِاسْتِرْسَالِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ يُشْبِهُ الْعُمُومَ، وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّهُ عَامٌّ عُمُومَ بَدَلٍ، وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ
(5/7)
 
 
بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا اصْطِلَاحًا، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْمَعَانِي فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَهُمَا أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ، وَيَرْتَقِي إلَى مُطْلَقٍ لَا إطْلَاقَ بَعْدَهُ كَالْمَعْلُومِ وَإِلَى مُقَيَّدٍ لَا تَقْيِيدَ بَعْدَهُ كَزَيْدٍ، وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ.
وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: الْمُطْلَقُ الْحَقِيقِيُّ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فَقَطْ، وَالْإِضَافِيُّ: يَخْتَلِفُ نَحْوُ: رَجُلٍ، وَرَقَبَةٍ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، وَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَمُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وَاحِدٍ شَائِعٍ، وَهُمَا قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَالْمُقَيَّدُ مُقَابِلُهُمَا. قَالَ صَاحِبُ " خُلَاصَةِ الْمَأْخَذِ ": اخْتِيَارُ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ " أَنَّ الْمُطْلَقَ ثَابِتٌ فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَامِّ إلَى قِيَامِ دَلِيلِ التَّعْيِينِ. فَائِدَةٌ
الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُقَيَّدِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْعُمُومِ. وَلَمْ يَذْكُرُوهُ. .
 
[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْخِطَابِ مُطْلَقًا فِي مَوْضِعٍ وَمُقَيَّدًا فِي مَوْضِعٍ]
اعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا لَا مُقَيِّدَ لَهُ، حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ، أَوْ مُقَيَّدًا لَا مُطْلَقَ لَهُ حُمِلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا فِي مَوْضِعٍ، وَمُقَيَّدًا فِي آخِرِ، فَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُقَيَّدِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ مَقْصُورًا عَلَى الشَّرْطِ الْمُقَيَّدِ بِهِ أَمْ لَا؟
وَالثَّانِي: فِي الْمُطْلَقِ، هَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمِ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا؟
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الْبَحْثُ فِي أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ حُجَّةٌ أَمْ لَا كَمَا
(5/8)
 
 
سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: حُجَّةٌ حُمِلَ. وَلَا بُدَّ فِي الْحَمْلِ مِنْ تَقْدِيمِ كَوْنِ الْقَيْدِ شَرْطًا فِيمَا قُيِّدَ بِهِ. وَالْأُصُولِيُّونَ قَدْ أَهْمَلُوا ذِكْرَهُ هُنَا لِوُضُوحِهِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَاعْتَبَرَا مَعْنَى الْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ خَاصًّا ثَبَتَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا يَسْقُطُ حُكْمُهُ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ فِي إبَاحَتِهِ.
وَالثَّانِي: كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَلَيْسَ الْخَوْفُ شَرْطًا فِي الْقَصْرِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْمَقْصُودُ بَعْدَ ثُبُوتِ كَوْنِ التَّقْيِيدِ شَرْطًا فِي الْمُقَيَّدِ، فَيَنْقَسِمُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالِاتِّفَاقِ، كَتَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ، وَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَشَرَطَ الْآمِدِيُّ أَنْ يَكُونَا ثُبُوتِيَّيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا إذَا قَالَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَقَالَ: لَا تَمْلِكُ رَقَبَةٌ كَافِرَةٌ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْمُسْلِمَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَإِلْكِيَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ عَنْ الْقَاضِي مُحَمَّدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذَا حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ
(5/9)
 
 
رِوَايَةٍ رُوِيَتْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عَجِبْت مِنْ رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إنَّ التَّيَمُّمَ إلَى الْكُوعَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى آيَةِ الْقَطْعِ، فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ آيَةِ الْوُضُوءِ؟ قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ بِقِيَاسٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحَمْلِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهَا الْإِطْعَامُ كَمَا فِي الظِّهَارِ.
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ يَخْرُجُ خِلَافٌ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَيَنْبَغِي الْتِفَاتُهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ، أَوْ اللَّفْظِ. فَإِنْ قُلْنَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ امْتَنَعَ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ اتِّحَادَ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ هُنَا مُخْتَلِفٌ، حَيْثُ أُطْلِقَ الْإِطْعَامُ وَقُيِّدَ الصِّيَامُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ ظَاهَرْتَ فَاعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ فِي " الْأَسْرَارِ "، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَغَيْرُهُمَا. وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مُتَتَابِعَاتٌ. وَكَذَا لَوْ قِيلَ لَهُ: تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِغَيْرِهِ. وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ: الْقَاضِيَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَابْنُ فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَغَيْرُهُمْ؛ وَكَإِطْلَاقِ تَحْرِيمِ الدَّمِ فِي مَوْضِعٍ، وَتَقْيِيدِهِ فِي آخَرَ بِالْمَسْفُوحِ، وَكَقَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {مِنْهُ} [المائدة: 6] . وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ:
(5/10)
 
 
نَحْنُ نَرَى مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا طَلَبًا حَثِيثًا، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ قُلْنَا: قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] فَعَلَّقَ مَا يُؤْتِيهِ بِالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَكَإِطْلَاقِ الْمَسْحِ فِي قَوْلِهِ: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: «إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ» ، وَقَوْلُهُ: «عَمَّنْ تَمُونُونَ» مَعَ قَوْلِهِ: «عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَقَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» مَعَ قَوْلِهِ: «إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ» .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُولِ ": هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةُ الْمَفْهُومِ، كَقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» وَهَذَا مُطْلَقٌ. وَقَوْلُهُ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ»
(5/11)
 
 
فَهَذَا مُقَيَّدٌ بِالسَّوْمِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ، حَمَلْنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى الْخِلَافِ، وَالسَّبَبُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمَالِ الْبَاقِي، وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ. اهـ. وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ، فَقَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْقِسْمِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ يُحْمَلُ. قُلْت: إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ كَذَلِكَ، بَلْ عَمِلُوا بِالنَّصَّيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ اخْتَلَفَ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَحَكَى الطَّرَسُوسِيُّ - بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ - الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا. وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا إذَا كَانَ الْمُقَيَّدُ آحَادًا، وَالْمُطْلَقُ مُتَوَاتِرًا. قَالَ: فَيُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ، هَلْ هِيَ نَسْخٌ؟ وَعَلَى نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ. وَالْمَنْعُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُقَيَّدِ مُطْلَقًا. فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ، فَيُقَدَّمُ خَاصُّهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَمَنْ لَا يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ.
قُلْت: وَهَكَذَا فَعَلَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، قَالُوا: لِأَنَّهُمَا فِي الصَّوْمِ وَرَدَا فِي حُكْمٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِمَوْضِعَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ مُقَدِّمًا التَّقْيِيدَ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْحَمْلِ، فَاخْتَلَفُوا، فَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحَمْلَ بَيَانٌ لِلْمَطْلُوبِ، أَيْ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَقِيلَ يَكُونُ نَسْخًا أَيْ دَالًّا عَلَى نَسْخِ حُكْمِ الْمُطْلَقِ السَّابِقِ بِحُكْمِ الْمُقَيَّدِ الطَّارِئِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْقِسْمِ فِي الْحَمْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " بَعْدَ تَعَرُّضِهِ لِهَذَا: وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى
(5/12)
 
 
بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ تَقَابُلَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْقَاضِي مَعَ مَصِيرِهِ إلَى التَّعَارُضِ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ. اهـ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ صَارَ إلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُخَصَّصُ بِالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ هَاهُنَا: إنَّ الْمُطْلَقَ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ لِلْمُقَيَّدِ الْمُتَقَدِّمِ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِمَثَابَةِ الْعَامِّ، وَالْمُقَيَّدَ بِمَثَابَةِ الْخَاصِّ، وَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ الْوَقْفُ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ، كَمَا تَوَقَّفَ هُنَاكَ. كَذَا قَالَ الْهِنْدِيُّ والأردبيلي، وَيَشْهَدُ لَهُ حِكَايَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُقَيَّدُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمُطْلَقِ، يَكُونُ الْمُقَيَّدُ نَاسِخًا لِلْمُطْلَقِ، وَزَيَّفَهُ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَتَّجِهُ فِيمَا إذَا تَأَخَّرَ الْمُقَيَّدُ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ، وَإِلَّا فَالْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْبَيَانِ بَعِيدٌ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ عَكْسُهُ إنْ رَأَى نَسْخَ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ الْقَائِلَ فِي الْعَامِّ بِالنَّسْخِ أَنْ يَقُولَ بِهِ هُنَا فِي الْمُطْلَقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَاصَّ يُنَاقِضُ الْعَامَّ فِي جِهَةِ مَدْلُولِهِ، فَإِنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهِ ظَاهِرًا، وَالْخَاصَّ يَنْفِي الْحُكْمَ فِي بَعْضِهَا. فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْمُقَيَّدِ. لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَثَلًا فِي قَوْلِهِ: (أَعْتِقْ رَقَبَةً) مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُهُ بِقَوْلِهِ: أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْلُولِ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِكُلِّ حَالٍ، فَصَحَّ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَقَابُلِ الْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ وَالْخَاصِّ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَقْيِيدِهَا بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَهُوَ
(5/13)
 
 
وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ. لَكِنَّ الظِّهَارَ وَالْقَتْلَ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ. فَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ. لَا خِلَافَ فِيهِ. لَكِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُول " جَعَلَهُ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَبِهِ تَصِيرُ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً، وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ قَيَّدَ فِيهَا غَسْلَ الْيَدَيْنِ بِالْمَرَافِقِ، وَأَطْلَقَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْحَدَثُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ الْخِلَافَ فِي اتِّحَادِ السَّبَبِ وَاخْتِلَافِ الْحُكْمِ. وَنَقَلَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَيْضًا. وَكَذَا مَثَّلَ بِهَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". .
 
[حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ]
[مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ] [إذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ] إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ تَقَيُّدَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَكَمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَحَمَلَ إطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
(5/14)
 
 
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الظِّهَارِ: إنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ.
وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَأَقْرَبُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ، وَحَقُّ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِيهِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ: وَهَذَا مِنْ فُنُونِ الْهَذَيَان، فَإِنَّ قَضَايَا الْأَلْفَاظِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ، فَمَنْ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ عَلَى حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، وَالْأَمْرَ وَالزَّجْرَ، وَالْأَحْكَامَ الْمُتَغَايِرَةَ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا، وَلَا تُغْنِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إلَى اتِّحَادِ الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ، وَمُضْطَرِبُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْأَلْفَاظِ وَقَضَايَا الصِّيَغِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ لَا مِرَاءَ فِي اخْتِلَافِهَا، فَسَقَطَ هَذَا الظَّنُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ حَصَلَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِهِ قُيِّدَ، وَإِلَّا أُقِرَّ الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُمَا. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْأَوَّلَ، وَهُمْ أَعْرَفُ مِنْ الْآمِدِيَّ بِذَلِكَ. وَفِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى
(5/15)
 
 
قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَعِيبُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا يُقَاسُ الْمُطْلَقُ مِنْ الْكِتَابِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ هَذَا أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] مُطْلَقًا وَلَكِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ إلَّا الْعَدْلُ. نَعَمْ، هَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ، وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ ": إنَّهُ الْأَقْرَبُ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَسَبَهُ إلَى الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ: لَوْ جَازَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ لِتَقْيِيدِ الْمُقَيَّدِ لَجَازَ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ لِإِطْلَاقِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا.
وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِلِسَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ، وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، فَقَالَا: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَاَلَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ. قَالَا: وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصٍ أَوْ عُمُومٍ. وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا عَائِدًا إلَيْهَا وَلَا يُعْدَلُ بِالِاحْتِمَالِ إلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ النَّصُّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ، وَتَعَيُّنِ الْمُرَادِ بِهِ.
(5/16)
 
 
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَحَيْثُ قُلْنَا: يُقَيَّدُ قِيَاسًا أَرَدْنَا بِهِ سَالِمًا عَنْ الْفُرُوقِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمْ: إنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: كُلُّ دَلِيلٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ، يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَتَقْرِيرُهُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَبِمَفْهُومِ الْخِطَابِ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا، هَلْ الْقِيَاسُ مُخَصِّصٌ لِلْمُطْلَقِ أَوْ زَائِدٌ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ لَا الزِّيَادَةَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِيهِ، وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ نَسْخًا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ: اخْتَلَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ فِي أَنَّ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْإِيمَانِ، هَلْ يَقْتَضِي زِيَادَةً أَوْ تَخْصِيصًا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّ: هُوَ زِيَادَةٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ كُلِّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الرَّقَبَةُ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ فِي إجْزَائِهَا الْإِيمَانُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ: هُوَ تَخْصِيصٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْكَافِرَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ يُخْرِجُ الْكَافِرَةَ، فَكَانَ تَخْصِيصًا لَا مَحَالَةَ. قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ قَالَ: زِيَادَةٌ، يَمْنَعُ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَمَنْ قَالَ: تَخْصِيصُ جَوَازِ الْحَمْلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. لَيْسَ هَذَا بِخِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَالْقَاضِي أَرَادَ أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالصِّفَةِ نُقْصَانٌ فِي الْمَعْنَى، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَرَادَ زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ. اهـ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ مَحَلِّ التَّقْيِيدِ، فَلِيَكُنْ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، وَهُوَ عَدَمُ إجْزَاءِ الْمُرْتَدِّ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْ مَحَلِّ التَّقْيِيدِ إنْ كَانَ مَحِلًّا صَالِحًا قُبِلَ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ الْإِحَالَةِ.
(5/17)
 
 
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ حُكْمَيْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ، حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إطْلَاقِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إلْزَامٌ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لَمْ يَسْقُطْ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، فَيُحْمَلُ كَالْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ، أَوْ ذَاتًا فَلَا يُحْمَلُ، كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ وَهُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْأَبْهَرِيِّ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَصْلًا، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: الْأَصَحُّ عِنْدِي الثَّانِي. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ ": وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْخِطَابِ بِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ، لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْعُمُومِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَوْ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ بِظَاهِرِ الْوُرُودِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَهُ حُكْمٌ، وَالْإِطْلَاقَ لَهُ حُكْمٌ، وَحَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ حَمْلِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرَكَ الْخِطَابَ مِنْ تَقْيِيدٍ أَوْ إطْلَاقٍ. اهـ.
قَالَ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ الْمَنْعِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمٍ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَقِيلَ: تَخْصِيصُهُ بِالْإِيمَانِ هُوَ تَخْصِيصُهُ بِحُكْمٍ قَدْ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ.
(5/18)
 
 
وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ النَّسْخِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ شَرْطَ الْإِيمَانِ وَالنَّصُّ لَا يَقْتَضِيهِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: اقْتَضَى النَّهْيُ إجْزَاءَ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، فَشَرْطُ الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مُقْتَضَى النَّصِّ. قَالَ: وَهَذَا يَقْوَى لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى بَيَانَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَأَرْكَانِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِتَحْصِيلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَشَرْطُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ نُقْصَانٌ لَا زِيَادَةٌ. فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ فِيهَا مَا هُوَ نَسْخٌ، وَمَا لَيْسَ بِنَسْخٍ.
[أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ نَصٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: ظَاهِرٌ، جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: نَصٌّ، فَلَا يَسُوغُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ. قَالَ ابْن رَحَّالٍ: وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلَا ظَاهِرٍ فِيهِ، بَلْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلذَّاتِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْقَيْدِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ يَكُونُ آتِيًا بِمَا لَمْ يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ إيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ إيجَابِ الصَّلَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ، تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ،
(5/19)
 
 
كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي " الْمَنْخُولِ " هُنَا، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ، وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. الثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَلِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَدْ تَنَاقَضَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَقْيِيدِهِمْ رَقَبَةَ الظِّهَارِ بِاشْتِرَاطِ نُطْقِهَا، فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ إعْتَاقُ الْأَخْرَسِ، وَفِي تَقْيِيدِهِمْ الْقُرْبَى بِالْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُطْلَقَ كَالْعَامِّ، فَيَتَقَيَّدُ كَالتَّخْصِيصِ، وَالتَّخْصِيصُ تَارَةً يَكُونُ بِقَصْرِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضٍ غَيْرَ مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَارَةً عَلَى مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ، كَحَمْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ.
وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: مُطْلَقُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْمُطْلَقِ يُؤْخَذُ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارٍ زَائِدٍ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي: فَالْمُطْلَقُ لَا يُشْعِرُ بِالْمُقَيَّدِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَاللَّفْظُ لَا إشْعَارَ فِيهِ بِالْمُطْلَقِ، فَضْلًا عَنْ الْمُقَيَّدِ، فَلَا يُحْمَلُ، وَإِنْ قُلْنَا: مَأْخُوذٌ مِنْ إشْعَارِ اللَّفْظِ، فَهَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ نَصٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ عَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ الْحَمْلُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بِهِ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَّحِدَ الْمُوجِبُ، وَيَخْتَلِفَ صِنْفُ الْمُوجِبِ، كَمَا إذَا قَيَّدَ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ
(5/20)
 
 
أَطْلَقَ فِي جَانِبِ الْإِطْعَامِ ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ، فَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمِسْكِينُ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا كَالرَّقَبَةِ الْمُعْتَقَةِ؟ وَقَدْ أَغْفَلَ الْأُصُولِيُّونَ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَاَلَّذِي أَقُولُهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكَ الْقِيَاسِ كَمَا سَلَكْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ فِي الظِّهَارِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ. .
 
[شُرُوطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ]
[شُرُوطُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ] إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَلِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ شُرُوطٌ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَالْإِيمَانِ مَعَ ثُبُوتِ الذَّوَاتِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَأَمَّا فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ مِنْ زِيَادَةٍ خَارِجَةٍ أَوْ عَدَدٍ فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا كَالْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَإِنَّ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَإِنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ، لَا صِفَةٌ. وَكَذَلِكَ إيجَابُ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْوُضُوءِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ. فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ لِيَسْتَحِقَّ تَيَمُّمُ الْأَرْبَعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ لَمْ يُذْكَرْ، وَحَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَخْتَصُّ بِالصِّفَةِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِهَذَا حَمَلْنَا إطْلَاقَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَرَافِقِ، لِتَقْيِيدِ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَرْفِقِ صِفَةٌ، وَذِكْرَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ أَصْلٌ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَتَبِعَهُ
(5/21)
 
 
الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا. لَكِنْ فِي تَمْثِيلِ الْقَفَّالِ وَالْمَاوَرْدِيِّ بِالتَّيَمُّمِ إلَى الْمَرَافِقِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إثْبَاتُ أَصْلٍ، إذْ هُوَ عُضْوٌ زَائِدٌ، لَا وَصْفٌ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ الْمُطْلَقُ إلَى تَقْيِيدِهَا بِعَدَدٍ، وَقَدْ مَنَعَ أَصْحَابُنَا دَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ كَوْنَ التَّقْيِيدِ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَلَا يَتَّجِهُ مَنْعُ كَوْنِهِ زِيَادَةً إلَّا عِنْدَ كَوْنِ الزِّيَادَةِ وَصْفًا، أَمَّا إذَا كَانَتْ ذَاتًا مُسْتَقِلَّةً، فَهِيَ زِيَادَةٌ قَطْعًا.
وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ خِلَافًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَجَزَمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ ابْنُ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. قَالَ: وَفِي هَذَا إثْبَاتُ أَصْلٍ بِغَيْرِ أَصْلٍ. اهـ. وَمِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا، وَاخْتَارَ مِنْ الْخِصَالِ إخْرَاجَ الطَّعَامِ، أَنَّهُ يُفَرِّقُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَاكِينَ فَصَاعِدًا، لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ إلَى جَمْعٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي كَفَّارَةِ الْإِتْلَافِ فِي الْحَجِّ إعْطَاؤُهَا لِجَمْعٍ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِمْ سِتَّةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَمْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ الْمُطْلَقَ فِي الْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ فِي حَمْلِهِ زِيَادَةَ أَجْرَامٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ مَسَاكِينَ وَإِلَّا فَلِمَ لَا يُحْمَلُ؟
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ كَاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ شَرْطٌ فِي الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَقْيِيدُهُ مِيرَاثَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَإِطْلَاقُهُ الْمِيرَاثَ فِيمَا أَطْلَقَ فِيهِ، وَكَانَ مَا أُطْلِقَ مِنْ الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُطْلَقُ دَائِرًا بَيْنَ قَيْدَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ
(5/22)
 
 
مُخْتَلِفًا لَمْ يُحْمَلْ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَوْلَى، أَوْ مَا كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ أَقْوَى، ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " وَإِلْكِيَا. وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَقَدْ حَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِيهِ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا، وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا.
وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الْكَفَّارَاتِ، وَمَثَّلَهُ بِالصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ فِي وُجُوبِ تَتَابُعِهِ قَوْلَيْنِ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ قَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ، وَهُوَ صَوْمُ الظِّهَارِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وَالْآخَرُ، يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ، وَهُوَ صَوْمُ ا