البحر المحيط في أصول الفقه 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف: أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى: 794هـ)
عدد الأجزاء: 8
الثَّانِي: أَنَّهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ النُّحَاةُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَبُو يُوسُفَ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزَيْدٌ مِثْلُ زُهَيْرٍ، وَاشْتَرَيْت كِتَابَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَحَصَّلْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ، وَيَجِبُ تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِالْأَعْلَامِ الْمُجَدَّدَةِ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَإِنَّهَا حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ.
 
[مَسْأَلَةٌ الْحَقِيقَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ]
َ] قَالُوا: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ؛ إذْ الْوَضْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الثَّانِي، وَالْأَصْلُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْفَرْعَ، وَلَيْسَ كُلُّ الْحَقِيقَةِ تَكُونُ فِي غَيْرِهَا عَلَاقَةً فِيهَا مُسَوِّغَةً لِلتَّجَوُّزِ، بَلْ الْحَقِيقَةُ يَكُونُ لَهَا مَجَازٌ كَالْبَحْرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالْفَرَسِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: وَمِنْ حُكْمِ هَذَا أَنَّهُ إذَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فَهَلْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَا يُعْدَلُ بِهِ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ؟ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ثَانِيًا كَمَا فَرَّعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ؟ إذْ الْحَقِيقَةُ فِيهَا قَيْدُ الْأَوَّلِيَّةِ. ثُمَّ رَأَيْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " حَكَى عَنْ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَجَازٍ، وَمَا لَا مَجَازَ لَهُ فَلَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ حَقِيقَةً، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى حِكَايَتِهِمْ الْإِجْمَاعَ فِيمَا سَبَقَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَجَازِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ قَدْ وُجِدَتْ وَاسْتُعْمِلَتْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(3/102)
 
 
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ فُورَكٍ. قَالَ: كَمَا أَنَّ لِكُلِّ فَرْعٍ أَصْلًا، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَالْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " وَغَيْرُهُمْ، فَكُلُّ مَجَازٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا، وَالْفَرْعُ يَسْتَلْزِمُ الْأَصْلَ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَدْعِي أَوَّلًا. وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ: الْمَنْعُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّاعَاتِيِّ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمِرْصَادِ "؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَفَائِدَةُ الْوَضْعِ التَّهَيُّؤُ لِلِاسْتِعْمَالِ، وَلِأَنَّ اللَّفْظَ بَعْدَ وَضْعِهِ وَقَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ لَا حَقِيقَةٌ وَلَا مَجَازٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ حِينَئِذٍ غَيْرُهُ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مَجَازًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمَجَازَ يَفْتَقِرُ إلَى سَبْقِ وَضْعٍ أَوَّلَ، لَا إلَى سَبْقِ حَقِيقَةٍ، وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْحَقُّ أَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَلْزِمُ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ، بِإِزَاءِ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَالْحَقِيقَةُ لَيْسَتْ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ بَلْ الْمُسْتَعْمَلَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُ الرَّازِيَّ فِي مُنْتَخَبِهِ " وَأَوَّلَهُ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ بِأَنَّهُ حَيْثُ قَالَ: لَا يَسْتَلْزِمُ، أَرَادَ بِهِ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ، وَحَيْثُ يُقَالُ: يَسْتَلْزِمُهُ، أَرَادَ بِهِ الْوَضْعَ، فَإِنَّا لَمْ نَعْرِفْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ مَوْضُوعَةٌ بِإِزَاءِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا نَعْرِفُ عَيْنَ الْوَاضِعِ مِنْ تَوَقُّفٍ أَوْ مُصْطَلَحٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُفْرَدِ لَا الْمُرَكَّبِ.
(3/103)
 
 
وَالْمَانِعُونَ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ الرَّحْمَنَ مَجَازٌ فِي الْبَارِي تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَطُّفِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي اللَّهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: عَلِيٌّ رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ أَيْضًا، وَمَعْنَاهُ: مُنْعِمُ الْيَمَامَةِ، وَبِأَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَنُّتٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الِاسْتِعْمَالَ فِي حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يُعَلِّلُ الْوَاقِعَ، وَهُوَ تَأَكُّدُ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، إذْ لَا اعْتِدَادَ بِالِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ أَصْلِ الْوَضْعِ مُضَادًّا لَهُ مُنَافِيًا إيَّاهُ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ.
 
[مَسْأَلَةٌ هَلْ يُتَجَوَّزُ بِالْمَجَازِ عَنْ الْمَجَازِ]
هَلْ مِنْ شَرْطِ الْمَجَازِ أَنْ يُتَجَوَّزَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُتَجَوَّزَ عَنْ الْمَجَازِ؟ هَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأُصُولِيُّونَ. وَسَبَقَ عَقْدُ مَسْأَلَةٍ فِيهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافٌ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ، فَإِنْ نَوَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْعِتْقِ صَحَّ، وَإِنْ نَوَى كِنَايَةً بِأَنْ أَرَادَ لَفْظَ التَّحْرِيمِ، فَيُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ قُلْنَا: الْحَرَامُ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ يُكَنَّى عَنْهُ فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهَا لَمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ يَكُونُ لَهَا كِنَايَةٌ لِضَعْفِهَا، وَإِنَّمَا الْكِنَايَةُ عَنْ الصَّرِيحِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ.
(3/104)
 
 
وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ، هَذَا التَّصْوِيرُ؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي بِاللَّفْظِ مَعْنَى لَفْظٍ آخَرَ لَا صُورَةَ اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ الْمَنْوِيُّ الْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: نَوَى التَّحْرِيمَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ: نَوَى أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
 
[مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ فَرْعٌ لِلْحَقِيقَةِ]
ِ] الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْ فَرْعٌ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْأَصْلُ الرَّاجِحُ الْمُقَدَّمُ فِي الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخَلَفِ انْعِدَامُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْوُجُودِ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ هَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ أَوْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ مَقْصُودًا فِيهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ إلَى أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ حُكْمِ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُوجِبًا حَقِيقَةً، ثُمَّ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَعْنًى، فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِنَا؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْكَلَامِ. وَلِأَنَّ الْمَجَازَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صِحَّةُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظٌ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ هَلْ يُشْتَرَطُ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لَا يَصِحُّ الْمَجَازُ.
وَعِنْدَهُ: لَا: بَلْ يَكْفِي صِحَّةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ احْتِرَازًا مِنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ. وَنَكْتُبُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَنَا إذَا كَانَ مُحَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ لَغْوٌ، وَعِنْدَ
(3/105)
 
 
أَبِي حَنِيفَةَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: مِنْهَا: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلْعَبْدِ الْأَكْبَرِ مِنْهُ سِنًّا: هَذَا ابْنِي فَحَقِيقَتُهُ مُسْتَحِيلَةٌ إذْ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ ابْنَهُ، فَهَلْ يُنَزَّلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَيُقَالُ: الْمُرَادُ مِثْلُ ابْنِي فِي الْحُرِّيَّةِ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِهَذَا اللَّفْظِ، أَوْ لَا يُنَزَّلُ عَلَيْهِ بَلْ يَلْغُو؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْأَوَّلِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ بِالثَّانِي، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ الْإِمْكَانِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ بِنَسَبِهِ بَالِغًا وَكُذِّبَ الْمُقِرُّ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ جَزْمًا، وَفِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ لِلْإِمْكَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَقَالُوا: لَوْ حَلَفَ لِيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ فَإِنَّ يَمِينَهُ تَنْعَقِدُ عَلَى الْأَصَحِّ لِإِمْكَانِ الْبِرِّ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصْعَدُ السَّمَاءَ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. لَكِنْ خَالَفُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ وَلَا مَاءَ فِيهَا، فَقَالُوا: يَحْنَثُ عَلَى الْأَصَحِّ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَكَانَ يَنْبَغِي تَصْحِيحُ عَدَمِ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الْبِرُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ. لَنَا أَنَّ الْمَجَازَ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَى لَازِمِهِ، فَاللَّازِمُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّازِمُ خَلَفًا وَفَرْعًا لِلْمَوْضُوعِ لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ الْأَوَّلِ لِتَوَقُّفِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَلَيْهِ، فَاَلَّذِي ثَبَتَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ مَثَلًا، فَلَفْظُ: هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ مَثَلًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَفْظُ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ: هَذَا حُرٌّ، فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُهُ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ الْمُتَكَلِّمِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَقِيلَ: بَلْ أَرَادَ أَنَّ لَفْظَ: هَذَا ابْنِي إنْ أُرِيدَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ: هَذَا ابْنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الْبُنُوَّةُ.
(3/106)
 
 
وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ بِهَذَا قَوْلُهُمْ: هَذَا أَسَدٌ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ، لِمَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ مُحَالٌ، وَقَدْ أَطْبَقَ عَلَى صِحَّتِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا أَسَدٌ لَيْسَ مُسْتَعَارًا بِجُمْلَتِهِ، بَلْ أَسَدٌ مُسْتَعَارٌ، وَهَذَا اسْتِعَارَةٌ لَهُ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَهَذَا ابْنِي بِجُمْلَتِهِ مُسْتَعَارٌ فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ.
 
[مَسْأَلَةٌ الْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ]
ِ] إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً، وَالْمَجَازُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، أَوْ كَانَا مُسْتَعْمَلَيْنِ، وَالْحَقِيقَةُ أَغْلَبُ اسْتِعْمَالًا فَالْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَا فِي الِاسْتِعْمَالَيْنِ سَوَاءً، فَالْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ: بَلْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ فِي " الْوَاضِحِ "، فَقَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ يُفِيدُ مَجَازًا مُتَعَارَفًا وَحَقِيقَةً مُتَعَاَرَفَةً، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقِيلَ: بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُتَعَارَفَةٌ فِيهِ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ، كَقَوْلِهِ: لَا أَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، فَحَقِيقَتُهُ الْعُرْفِيَّةُ الْكَرْعُ، وَمَجَازُهُ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ فَيَشْرَبَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِقُوَّتِهَا وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ.
(3/107)
 
 
قَالَ: وَاَلَّذِي أَقُولُهُ: أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقَوْلِ حُكْمُ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ، وَحَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي بِحُكْمِ الْعُرْفِ الطَّارِئِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَالْعُرْفِ وَتَسْمِيَتُهُ مَجَازًا خَطَأٌ. اهـ.
وَكَذَلِكَ حَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْمَحْصُولِ " فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ الْبَابِ التَّاسِعِ بِالْمُسَاوَاةِ، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِهِ ": إنَّهُ الْحَقُّ. وَإِنْ هُجِرَتْ الْحَقِيقَةُ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا تُرَادُ فِي الْعُرْفِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْمَجَازِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِثَمَرِهَا لَا بِخَشَبِهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقِيقَةَ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أُمِيتَتْ بِحَيْثُ لَا تُرَادُ فِي الْعُرْفِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا إذَا غَلَبَ الْمَجَازُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْحَقِيقَةُ تُتَعَاهَدُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْحَقِيقَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا رَاجِحَةٌ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَكَوْنُهَا مَرْجُوحَةً أَمْرٌ عَارِضٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْمَجَازُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ رَاجِحًا فِي الْحَالِ ظَاهِرًا فِيهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي " شَرْحِ التَّنْقِيحِ ": وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ فِي " الْمَعَالِمِ " وَالْبَيْضَاوِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ " اسْتِوَاءَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ رَاجِحٌ عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ، فَالْحَقِيقَةُ بِالْأَصْلِ وَالْمَجَازُ بِالْغَلَبَةِ
(3/108)
 
 
فَيَتَعَادَلَانِ وَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ تَعَادُلِ الْمُرَجِّحَيْنِ، وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَعُزِيَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ.
قُلْت: وَيَشْهَدُ لَهُ الْمِثَالُ، فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوا الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ مِنْهُ، وَلَا يَحْنَثُ بِالشُّرْبِ مِنْ الْأَوَانِي الْمَمْلُوءَةِ مِنْهُ، وَعِنْدَنَا يَحْنَثُ بِالِاغْتِرَافِ مِنْهُ كَمَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عِنْدَنَا كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ أَلْفَاظِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. قَالُوا: وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ السَّابِقِ وَهُوَ أَنَّ الْمَجَازَ هَلْ هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ؟ فَإِنْ كَانَ الْمَجَازُ خَلَفًا فِي حَقِّ الْمُتَكَلِّمِ لَا تَثْبُتُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ، فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ عَامِلًا فِي حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. هَذَا تَحْرِيرُ التَّصْوِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالنَّقْلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَاعْتَمِدْهُ وَاطْرَحْ مَا عَدَاهُ. وَجَعَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا صَدَرَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا عُرْفَ لَهُ وَلَا قَرِينَةَ، فَإِنْ صَدَرَ ذَلِكَ مِنْ الشَّارِعِ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَطْعًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ حُمِلَ عَلَيْهَا. وَالْحَقُّ: أَنَّ الْمَجَازَ إنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ كَالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ إنْ صَدَرَ مِنْ الشَّرْعِ، وَعَلَى الْعُرْفِيَّةِ إنْ صَدَرَ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ أَوْ انْتَهَى إلَيْهِ وَلَكِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَّا بِالْقَرِينَةِ أَوْ النِّيَّةِ.
(3/109)
 
 
وَهَاهُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآمِدِيَّ ذَكَرَ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ أَنَّ مَا لَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ قِيلَ: هُوَ مُجْمَلٌ، وَأَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ. وَفَرَّقَ الْغَزَالِيُّ بَيْنَ حَالَةِ الْإِثْبَاتِ فَكَذَلِكَ، أَوْ النَّفْيِ فَمُجْمَلٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ الْمَجَازِ الرَّاجِحِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، لَكِنَّ كَلَامَ الْأَصْفَهَانِيِّ السَّابِقَ يَأْبَاهُ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " بَعْدَ أَنْ حَكَى الْخِلَافَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَعَارَفِ، وَلَكِنْ لَا أُسَمِّيهِ مَجَازًا، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ كَالْغَائِطِ، وَرَأَيْت فِي " شَرْحِ الْوَسِيطِ " لِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ الرِّفْعَةِ فِي بَابِ الْإِيلَاءِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: مَحَلُّ هَذَا الْخِلَافِ فِي جَانِبِ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي جَانِبِ النَّفْيِ فَيُعْمَلُ بِالْمَجَازِ الرَّاجِحِ جَزْمًا؛ لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى الْمَجَازِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْحَقِيقَةِ فَسَلْبُهَا يَقْتَضِي سَلْبَ سَائِرِ الْأَفْرَادِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يُرَجَّحُ فِي الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ: وَلِهَذَا جَزَمَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ لَفْظَيْ الْجِمَاعِ وَالْإِيلَاءِ صَرِيحَانِ وَإِنْ حَكَوْا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: لَا أُبَاشِرَنَّك وَلَا أَقْرَبَنَّك لِمُلَاحَظَةِ أَصْلِ الْحَقِيقَةِ، وَالرُّجْحَانُ فِي لَا أُجَامِعُك دُونَهُمَا. اهـ.
وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ. الثَّانِي: مَثَّلَ فِي " الْمَعَالِمِ " هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الْعِتْقَ، هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فَتُعْتَقُ بِهِ؟ ؛ لِأَنَّ مَادَّةَ " ط ل ق " حَقِيقَتُهَا فِي الْخَلِيَّةِ وَحِلِّ الْقَيْدِ سَوَاءٌ مِنْ النِّكَاحِ وَالرِّقِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي عِتْقِهَا
(3/110)
 
 
بِالْوَضْعِ، لَكِنَّهَا مَرْجُوحَةٌ لِاشْتِهَارِهَا فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ حِلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مَجَازٌ رَاجِحٌ ثُمَّ أَوْرَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُصْرَفَ إلَى الْمَجَازِ الرَّاجِحِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لِمَنْكُوحَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ عَنَى بِهَذَا اللَّفْظِ الْحَقِيقَةَ الْمَرْجُوحَةَ وَهُوَ إزَالَةُ مُطْلَقِ الْقَيْدِ وَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُسَمَّى الْقَيْدِ، وَإِذَا زَالَ هَذَا الْمُسَمَّى فَقَدْ زَالَ الْقَيْدُ الْمَخْصُوصُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْمَجَازَ الرَّاجِحَ فَقَدْ زَالَ قَيْدُ النِّكَاحِ، فَلَمَّا كَانَ يُفِيدُ الزَّوَالَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ.
قَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ وَالسُّؤَالُ لَازِمٌ؛ إذْ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَقَوْلُهُ: إنْ نَوَى حُمِلَ عَلَى السُّؤَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ " الْمَعَالِمِ " لَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بَلْ هُوَ مُبَايِنٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَصْلُحُ لِلْإِيقَاعِ، وَهَذَا مَبْحَثٌ فِي أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَوَّلًا وَهُوَ بَحْثٌ صَحِيحٌ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِوَاءِ الْحَقِيقَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمَجَازِ الرَّاجِحِ إلَّا إنْ قِيلَ: إنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ نَقَلَهُ إلَى حِلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَصَارَ فِيهِ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً، وَارْتَفَعَ عَنْ هَذَا الْمَجَازِ الرَّاجِحِ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ. وَمَسْأَلَةُ التَّعَارُضِ فِيمَا إذَا لَمْ يَصِلْ الْمَجَازُ إلَى هَذَا الْحَدِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَمَاتُهُ، وَالْحَقِيقَةُ هُنَا لَمْ تَمُتْ، لَكِنَّ سِيَاقَ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَعَالِمِ " أَنَّهُ يَنْوِي الْحَقِيقَةَ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْقَيْدِ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إنَّمَا قَالُوا يَنْوِي الْعِتْقَ، وَهُوَ
(3/111)
 
 
إزَالَةُ قَيْدٍ خَاصٍّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. فَخَرَجَ عَنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَالْمَجَازِ الرَّاجِحِ، فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ. وَلَا نَدْرِي مَا يَقُولُ الْأَصْحَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْأَمَةِ إزَالَةَ مُطْلَقِ الْقَيْدِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْعِتْقِ بِخُصُوصِهِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: تُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إزَالَةِ الْأَعَمِّ إزَالَةُ الْأَخَصِّ. وَبَعْدُ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمْثِيلُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً أَوْ عُرْفِيَّةً فِي حِلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُمَا مُقَدَّمَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ قَطْعًا.
 
مَسْأَلَةٌ [قِلَّةُ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ] قَدْ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ فِي مَعْنَاهَا فَتَصِيرُ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَتْ حَقِيقَةً فِيهِ إلَّا بِقَرِينَةٍ، فَتُلْحَقُ بِالْمَجَازِ كَالْغَائِطِ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ ثُمَّ هُجِرَ، وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ مَجَازًا فِيهِ فَيَصِيرُ بِحَيْثُ إذَا أُطْلِقَ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ فَيُلْتَحَقُ بِالْحَقَائِقِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا تَابِعٌ لِاخْتِيَارِ الْوَاضِعِ وَالْمُسْتَعْمِلِ، لَا لِأَنْفُسِهَا. وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ قَوْمٍ مَنَعُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ تُغَيَّرَ الْحَقِيقَةُ عَنْ دَلَالَتِهَا لَا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي مَجَازِهَا، وَلَا بِقِلَّتِهِ فِيهَا وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنَعُوا أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَجَازُ عَنْ دَلَالَتِهِ بِأَنْ يَصِيرَ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ بِلَا قَرِينَةٍ. قَالُوا:؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ قَلْبَ دَلَالَةِ الِاسْمِ وَمَعْنَاهُ، وَالْأَدِلَّةُ لَا تَنْقَلِبُ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ.
(3/112)
 
 
قَالَ الْقَاضِي. وَهَذَا بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ عَنْ عِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ بِالْمُوَاطَأَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اُتُّفِقَ عَلَى تَسْمِيَةِ كُلِّ مُسَمًّى بِغَيْرِ اسْمِهِ لَدُلَّ عَلَيْهِ، كَدَلَالَةِ الْيَوْمِ عَلَى مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ قَلْبَ الْأَدِلَّةِ فَذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَمَّا مَا ثَبَتَ بِالْمُوَاطَأَةِ وَالْمُوَاضَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صَيْرُورَةِ الْمَجَازِ حَقِيقَةً، وَالْحَقِيقَةِ مَجَازًا إنَّمَا نُجَوِّزُهُ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِهِ فَلَا، وَإِلَّا لَانْسَدَّ عَلَيْنَا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِمُرَادِ خِطَابِهِ، وَيَتَطَرَّقُ الْوَهْمُ إلَى الْحَقَائِقِ. اهـ.
وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا.
 
[تَعَدُّدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ]
مَسْأَلَةٌ [تَعَدُّدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ] إذَا تَعَذَّرَتْ الْحَقِيقَةُ وَتَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ، وَكَانَ بَعْضُهَا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقٍ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": هَذِهِ إذَا كَانَتْ الْمَجَازَاتُ بَيْنَهَا تَنَافٍ فِي الْحَمْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَمَنَعَ مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهَا مَانِعٌ، وَأَحَدُهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَقْرَبِ مِنْهُمَا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِتَنَاوُلِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْعَامِّ لَهَا، وَعَدَمُ الْمُنَافِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَقْرَبِ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَقْرَبِ مَحْذُورَ التَّخْصِيصِ مَعَ إمْكَانِ التَّعْمِيمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ، وَوَقَعَ التَّنَافِي فِي الْحَمْلِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَحْذُورُ. وَمِثَالُ مَا إذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَعَدَّدَتْ وُجُوهُ الْمَجَازِ مَعَ التَّنَافِي: مَا إذَا دَخَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا، كَمَا فِي لَا عَمَلَ إلَّا بِنِيَّةٍ
(3/113)
 
 
مَثَلًا، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ مُتَعَذِّرَةٌ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَدَّرَ: لَا صِحَّةَ عَمَلٍ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَدَّرَ لَا كَمَالَ عَمَلٍ فَهَذَانِ وَجْهَانِ مِنْ الْمَجَازِ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى أَحَدِهِمَا مُنَافَاةٌ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: لَا صِحَّةَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْكَمَالِ، وَإِذَا قُلْنَا: لَا كَمَالَ لَمْ يَلْزَمْ انْتِفَاءُ الصِّحَّةِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الصِّحَّةِ أَقْرَبُ إلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْكَمَالِ. قُلْت: وَمِنْ الْمُرَجِّحَاتِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ وَتَعَدُّدِ الْمَجَازِ فِيهَا مَا تَحَقَّقَتْ عَلَاقَتُهُ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ عَلَاقَتُهُ: مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» . فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِمَا بَائِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُمَا الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَجَازٌ، لَكِنَّ مَجَازَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَلَاقَةَ مُتَحَقِّقَةٌ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْفِعْلِ، وَإِرَادَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ صُدُورُ الْبَيْعِ. الثَّانِي: الِاتِّفَاقُ عَلَى مَجَازِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ فَكَانَ رَاجِحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
(3/114)
 
 
[الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ]
مَسْأَلَةٌ [الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ] وَلَنَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. قَالَ ابْنُ الْخَبَّازِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ " النِّهَايَةِ ": وَهُوَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ لِشَيْءٍ وَضَعَ الْوَاضِعُ مِثْلَهُ لِعَيْنِهِ كَالْأَعْلَامِ لِلشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ. وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: اللَّفْظُ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَاللَّفْظِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا الِاسْتِعْمَالُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَكَالْأَعْلَامِ الْمُتَجَدِّدَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُسَمَّيَاتِهَا، فَإِنَّهَا أَيْضًا لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ مُسْتَعْمِلَهَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، إمَّا لِأَنَّهُ اخْتَرَعَهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ وَضْعٍ كَالْمُرْتَجَلَةِ أَوْ نَقَلَهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ كَالْمَنْقُولَةِ، وَلَيْسَتْ مَجَازًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُنْقَلْ لِعَلَاقَةٍ. قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَ " الْمَحْصُولِ " أَمَّا الْأَعْلَامُ الْمَوْضُوعَةُ بِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَهِيَ حَقَائِقُ لُغَوِيَّةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْقُولَةِ وَالْمُرْتَجَلَةِ خِلَافًا لِلْهِنْدِيِّ حَيْثُ خَصَّهَا بِالْمَنْقُولَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ.
 
مَسْأَلَةٌ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ، كَذَلِكَ فِيهَا مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى وَاحِدٍ بِحَسَبِ وَضْعَيْنِ كَلُغَوِيٍّ وَعُرْفِيٍّ مَثَلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ وَاحِدٍ لِاجْتِمَاعِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
(3/115)
 
 
[فَصْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ]
ِ] الْحَقِيقَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى النَّقْلِ عَنْ وَاضِعِ اللُّغَةِ كَالنُّصُوصِ فِي بَابِ الشَّرْعِ. حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ وَلَمْ يُخَالِفْهُ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَطْرُقُهُ الْخِلَافُ فِي الْمَجَازِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَمَّا الْمَجَازُ فَيُعْرَفُ إمَّا بِالنَّصِّ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ، وَالنَّصُّ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ، وَيَنْقُلُ ذَلِكَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَارِضِ فِي " نُكَتِهِ ": وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا نَصَّ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ قَالُوهُ نَقْلًا عَنْ الْعَرَبِ فَهُوَ حُجَّةٌ، أَوْ إجْمَاعٌ بِإِجْمَاعِهِمْ كَذَلِكَ. اهـ.
وَقَدْ تَصَدَّى لِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِأَسَاسِ الْبَلَاغَةِ ": وَقِيلَ: يُعْرَفُ بِالضَّرُورَةِ بِثَلَاثَةِ طُرُقٍ: بِأَنْ يُصَرِّحَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِاسْمِهِ، بِأَنْ يَقُولُونَ: هَذَا اللَّفْظُ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى الْفُلَانِيِّ، أَوْ بِحَدِّهِ بِأَنْ يَقُولُونَ: هُوَ مَوْضُوعٌ فِيهِ بِوَضْعٍ ثَانٍ، أَوْ بِخَاصَّتِهِ كَمَا يُقَالُ: اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الْعَلَاقَةِ، وَهَذَا قَالَهُ فِي " الْمَحْصُولِ ". وَيُمْكِنُ رُجُوعُ الثَّالِثِ إلَى الْقِسْمِ النَّظَرِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْعَلَامَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْقِسْمَ الْعَبْدَرِيُّ وَابْنُ الْحَاجِّ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى " الْمُسْتَصْفَى ": وَقَالَا: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَجَازِ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّصَفُّحِ لِلِسَانِ الْعَرَبِ. اهـ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ خِلَافُهُ.
 
فَمِنْ خَوَاصِّ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ أَقْوَاهَا: تَبَادُرُ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ الْمَعْنَى بِغَيْرِ قَرِينَةٍ
(3/116)
 
 
لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ. يَعْنِي أَنَّ مَنْ عَلِمَ الْوَضْعَ وَسَمِعَ اللَّفْظَ بَادَرَ إلَى حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ. وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا: لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ عَمَّا إذَا بَدَرَ الْفَهْمُ إلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْوَضْعِ كَقَرَائِنَ احْتَفَتْ بِهِ أَوْ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالٍ لَا تَنْتَهِي إلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مَنْقُولًا إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَرُبَّمَا يَتَبَادَرُ الْفَهْمُ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِهِ، وَيَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنًى آخَرَ لَمْ يَتَبَادَرْ الْفَهْمُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَحْضُرْ السَّامِعَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَلَا تَكُونُ الْمُبَادَرَةُ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِصَاصِ الْحَقِيقَةِ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ إيرَادُ مَنْ أَوْرَدَ عَلَى طَرْدِ هَذِهِ الْعَلَامَةِ، الْمَجَازَ الْمَنْقُولَ وَالْمَجَازَ الرَّاجِحَ، وَعَلَى عَكْسِهَا الْمُشْتَرَكُ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهِ مَعَ عَدَمِ التَّبَادُرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ إنَّمَا يَتَبَادَرُ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَجَازًا، وَأَمَّا الْمَجَازُ الرَّاجِحُ فَنَادِرٌ، وَالتَّبَادُرُ فِي الْأَغْلَبِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْحَقِيقَةِ، وَتَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ لَا يَقْدَحُ فِيهِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَالتَّعْرِيفُ بِالْعَلَامَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِانْعِكَاسُ. وَمِنْهَا. عَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَرِينَةِ، وَلَا يَرُدُّ الْمُشْتَرَكُ حَقِيقَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لِعَارِضِ الِاشْتِرَاكِ لَا لِذَاتِهِ. وَمِنْ خَوَاصِّ الْمَجَازِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُهُ بِهِ؛ إذْ الِاسْتِحَالَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهُ، فَيَكُونَ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ: أَهْلَهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ. وَاسْتَشْكَلَهُ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ نَحْوُ {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] فَإِنَّهُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَجَازًا لُغَوِيًّا، فَإِنْ
(3/117)
 
 
أَرَادَ بِاسْتِحَالَةِ التَّعَلُّقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَبَاطِلٌ. قُلْت: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ لُغَوِيٌّ عَلَى الصَّحِيحِ.
 
وَمِنْهَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْمَنْسِيِّ بِأَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى لَهُ أَفْرَادٌ فَيَتْرُكُ أَهْلُ الْعُرْفِ اسْتِعْمَالَهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَفْرَادِ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مَنْسِيًّا، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَنْسِيِّ، فَيَكُونُ مَجَازًا عُرْفِيًّا كَالدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فَتَرَكَ بَعْضُ أَهْلِ الْبُلْدَانِ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْحِمَارِ بِحَيْثُ نُسِيَ، فَإِطْلَاقُهَا عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ.
 
وَمِنْهَا: صِحَّةُ نَفْيِ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَتَسْمِيَةِ الْجَدِّ أَبًا. حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي أُصُولِهِ " عَنْ الْكَرْخِيِّ، وَكَقَوْلِك: لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِحِمَارٍ. وَقُلْنَا: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، فَقَدْ نَفَيْت الْحَقِيقَةَ لَكِنْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بِعَكْسِ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ عَلَامَتَهَا عَدَمُ صِحَّةِ النَّفْيِ؛ إذْ لَا يُقَالُ لِلْبَلِيدِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ عِنْدَ قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ وَتَشْبِيهِهِ بِالْحِمَارِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ نَفْيُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 13] .
 
وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ يَجِبُ اطِّرَادُهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا مَعْنَاهَا إلَّا لِمَانِعٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَا إنْسَانًا بِضَارِبٍ لِوُقُوعِ الضَّرْبِ مِنْهُ أَوْ مَحَلًّا بِأَنَّهُ أَسْوَدُ لِحُلُولِ السَّوَادِ فِيهِ وَجَبَ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ بِأَنَّهُ ضَارِبٌ، وَكُلُّ مَنْ مَاحَلَهُ السَّوَادُ وَاتَّصَفَ بِهِ بِأَنَّهُ أَسْوَدُ، وَإِلَّا لَانْتَقَضَ قَوْلُنَا: إنَّهُ سُمِّيَ ضَارِبًا لِوُقُوعِ الضَّرْبِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَجَازِ. فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اطِّرَادُهُ، بَلْ يُقَرُّ حَيْثُ وَرَدَ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا اسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهِ أَوْ فِي نَظِيرِهِ، فَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِالِاطِّرَادِ عَلَى الْحَقِيقَةِ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الِاطِّرَادِ عَلَى
(3/118)
 
 
الْمَجَازِ كَالنَّخْلَةِ لِلْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ، فَلَا يُقَالُ لِكُلِّ طَوِيلٍ: نَخْلَةٌ كَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَيَّدَهُ الْهِنْدِيُّ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوُجُوبُ أَيْ يَجِبُ كَوْنُ الْحَقِيقَةِ جَارِيَةً عَلَى الِاطِّرَادِ لِئَلَّا يَرِدَ الْمَجَازُ الْمُطَّرِدُ نَقْضًا عَلَى طَرْدِهِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا، لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ طَرْدُهُ بِدَلِيلِ عَدَمِ اطِّرَادِ مِثْلِهِ فِي الْمَجَازِ. وَثَانِيهِمَا: بِشَرْطِ عَدَمِ الْمَانِعِ أَيْ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً إنْ لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ، لِئَلَّا يَرِدَ مِثْلُ السَّخِيِّ وَالْفَاضِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - نَقْضًا عَلَى عَكْسِهِ، اهـ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ عَلَامَةَ الْحَقِيقَةِ الِاطِّرَادُ دُونَ الْمَجَازِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْهُ فِي " التَّلْخِيصِ "، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ سَدِيدٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي كَبِيرَ مَعْنًى، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَقَائِقِ نَتْبَعُ أَصْلَ الْوَضْعِ، وَفِي الْمَجَازُ نَتْبَعُ اسْتِعْمَالَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ كُلُّ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ الضَّرْبُ ضَارِبًا بِالِاتِّبَاعِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " عَنْ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَفْسَ الِاطِّرَادِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ اطِّرَادِ الِاسْمِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَاطِّرَادُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ اطِّرَادُهُ فَلَا يَمْنَعُ مَانِعٌ مِنْ اطِّرَادِهِ. وَقِيلَ: لَيْسَ الِاطِّرَادُ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ مِنْ الْمَجَازِ مَا قَدْ يَطَّرِدُ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ وَنَحْوِهِ.
(3/119)
 
 
وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَقَائِقَ تُقَاسُ عَلَيْهَا قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا قِيَاسَ فِي اللُّغَةِ أَصْلًا، فَلَا يُسَمَّى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الضَّرْبُ ضَارِبًا قِيَاسًا، وَلَكِنْ تَوْقِيفًا، وَلَوْ ثَبَتَ الِاطِّرَادُ فِي الْمَجَازِ نَقْلًا طَرَدْنَاهُ.
 
وَمِنْهَا: أَنَّا إذَا وَجَدْنَا لَفْظَةً صَالِحَةً لِمَعْنَيَيْنِ وَجَمْعُهَا بِحَسَبِهِمَا مُخْتَلِفٌ عَلِمْنَا أَنَّهَا مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا، سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْآخَرِ أَمْ لَا. ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. فَقَالَ: إنْ تَخْتَلِفْ صِيغَةُ الْجَمْعِ عَلَى الِاسْمِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا وَسَبَقَهُ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَمِثْلُهُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَجَمْعُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى " أَوَامِرُ "، وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ جُمِعَ عَلَى " أُمُورٍ " وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إلَّا أَنْ يَدَّعِي فِيهِ اسْتِقْرَاءً، فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهِ حِينَئِذٍ، وَقَدْ يَتَّحِدُ الْجَمْعُ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَالْحُمُرِ جَمْعُ حِمَارٍ، وَالْأُسُدُ جَمْعٌ لِلرَّجُلِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا كَالْيَدِ، فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي النِّعْمَةِ وَالْجَارِحَةُ عَلَى قَوْلٍ، وَجَمْعُ النِّعْمَةِ عَلَى أَيَادٍ، وَجَمْعُ الْجَارِحَةِ عَلَى أَيْدٍ.
قِيلَ: وَعَلَى مَنْ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْعَلَامَةَ سُؤَالٌ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَبَرْنَا اخْتِلَافَ الْجَمْعِ وَجَعْلَهُ مَعَ اتِّحَادِ الْمُفْرَدِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى، فَهَلَّا فُعِلَ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَصْدَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ مِثْلُ شَعَرَ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالنَّظْمِ، وَمَصْدَرُهُ، فِي النَّظْمِ شِعْرٌ وَفِي الْعِلْمِ شُعُورٌ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْفِعْلِ فِي الْحَرَكَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَصْدَرِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ اخْتِلَافُ أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى
(3/120)
 
 
أَنَّ الْآخَرَ مَجَازٌ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ وَالْفِعْلَ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَحَدَهُمَا فَرْعُ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ فَرْعَ الْفِعْلِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ. بِخِلَافِ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فَرْعَ الْمُفْرَدِ بَلْ بِمَثَابَةِ تَكْرَارِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: شَعَرَ مَجَازٌ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَصْدَرِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ مَجَازٌ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْجَمْعِ. وَقَالَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى " الْمُنْتَخَبِ ": وَالْحَقُّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ مُطْلَقًا إلَّا بِزِيَادَةِ قَيْدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى أَوَامِرَ، فَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ جُمِعَ عَلَى أُمُورٍ فَخُولِفَ بِهِ جَمْعَ الْحَقِيقَةِ، فَقَدْ عُدِلَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ، وَمَا عُدِلَ بِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ يَكُونُ مَجَازًا، وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِلتَّمْثِيلِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَوَامِرَ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا هُوَ جَمْعُ آمِرَةٍ كَفَاطِمَةَ وَفَوَاطِمَ، وَتَسْمِيَةُ الصِّيغَةِ أَمْرًا مَجَازٌ.
 
وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ يُشْتَقُّ مِنْهَا الصِّفَةُ، وَالْمَجَازُ لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ حِينَئِذٍ يُشْتَقُّ مِنْهُ فَيُقَال: أَمَرَ يَأْمُرُ أَمْرًا فَهُوَ آمِرٌ، وَبِمَعْنَى الْبَيَانِ وَالصِّفَةِ مَجَازٌ لَا يَتَصَرَّفُ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ بَرْهَانٍ بِأَنَّهُ رُبَّ مَجَازٍ يُشْتَقُّ مِنْهُ إذَا وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ كَالْغَائِطِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: تَغَوَّطَ الرَّجُلُ يَتَغَوَّطُ تَغَوُّطًا، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِي الْفَضْلَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: الْفِعْلُ " شَأَنَ " حَقِيقَةٌ ثُمَّ لَا يُقَالُ: شَأَنَ يَشْأَنُ فَهُوَ شَائِنٌ، وَرُبَّ مَجَازٍ يَتَصَرَّفُ. وَكَذَلِكَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ "، رُبَّ حَقِيقَةٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهَا الِاشْتِقَاقُ، وَهُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا، وَرُبَّ مَجَازٍ وَرَدَ التَّجَوُّزُ بِنُعُوتٍ صَادِرَةٍ
(3/121)
 
 
عَنْهُ، فَكُلُّ مَا حَلَّ مَحَلَّ الْمَصَادِرِ وَضْعًا وَاسْتِعْمَالًا فَالْأَغْلَبُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ النُّعُوتُ، وَهَذَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَهْلِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْأَفْعَالِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِ لِلْمَصَادِرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُتَجَوَّزَ فِي الْمَصْدَرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُشْتَقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ. اهـ.
وَأَوْرَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": الرَّائِحَةَ فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي مُسَمَّاهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْفَاعِلِ لِمَحَلِّهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ يُقَالُ لِلْجِسْمِ الَّذِي فِيهِ مُتَرَوَّحٌ. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّ " ظَنَّ ": بِمَعْنَى أَيْقَنَ مَجَازٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ اسْمُ فَاعِلٍ فَيُقَالُ: ظَانٌّ.
 
وَمِنْهَا: الْتِزَامُ تَقْيِيدٍ فِي مَعْنَى مَعَ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ كَجَنَاحِ الذُّلِّ وَنَارِ الْحَرْبِ وَرَحَى الْحَرْبِ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّتِهِ وَالْتِهَابِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْتِزَامُ التَّقْيِيدِ دَالًّا عَلَى التَّجَوُّزِ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ الْأَصْلُ فِيهَا الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَهُ مَعْنًى يَخُصُّهُ مَعْلُومٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْقَرِينَةِ، فَجُعِلَ الْتِزَامُ التَّقَيُّدِ دَلِيلَ الْمَجَازِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالِالْتِزَامِ الْمَنْعَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمَحْصُولِ ": وَفِيهِ نَظَرُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا نِسْبِيٌّ وَالْآخَرُ غَيْرُ نِسْبِيٍّ.
 
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِ الْمُسَمَّيَيْنِ مُتَوَقِّفًا عَلَى إطْلَاقِهِ عَلَى الْمُسَمَّى الْآخَرِ، فَالتَّوَقُّفُ مَجَازٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَلْفُوظًا بِهِ كَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] ، أَوْ مُقَدَّرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِمَكْرِهِمْ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ مَعْنًى، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ هَذَا التَّقْرِيرَ، فَيَظُنُّ بُطْلَانَ الْقَاعِدَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
(3/122)
 
 
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْغَيْرِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنًى وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ لَهُ تَعَلُّقٌ فَيَكُونُ مَجَازًا فِيهِ، كَالْقُدْرَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ الْمَقْدُورُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْمَقْدُورُ كَإِطْلَاقِهَا عَلَى النَّبَاتِ الْحَسَنِ الْعَجِيبِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُنَبِّهُهُ عَلَى حُسْنِ النَّبَاتِ: اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ أَيْ: إلَى مَقْدُورِهِ وَهُوَ النَّبَاتُ هُنَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ؛ إذْ النَّبَاتُ لَا مَقْدُورَ لَهُ ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِيهَا وَيَكُونَ لَهُ بِحَسَبِ إحْدَى حَقِيقَتَيْهِ مُتَعَلِّقٌ دُونَ الْأُخْرَى. وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ التَّعَلُّقِ فِي الْمَجَازِ هُنَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَجَازِ، بَلْ لِأَنَّهُ نُقِلَ إلَى النَّبَاتِ وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ، فَلَوْ نُقِلَ إلَى شَيْءٍ لَهُ مُتَعَلِّقٌ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ عَلَى الْإِرَادَةِ قُدْرَةً مَجَازًا لَكَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ.
 
وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُؤَكَّدُ بِالْمَصْدَرِ وَبِأَسْمَاءِ التَّوْكِيدِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَإِنَّهُ لَا يُوَكَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَتَمَدَّحَ بِذِكْرِهِ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ الْفُرُوقِ الْمَغْفُولِ عَنْهَا. قُلْت: قَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " قَالَ، فَلَا يَقُولُونَ: أَرَادَ الْجِدَارَ إرَادَةً وَلَا قَالَتْ الشَّمْسُ وَطَلَعَتْ قَوْلًا، وَكَذَلِكَ وُرُودُ الْكَلَامِ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] حَقِيقَةً لَا عَلَى مَعْنَى التَّكْوِينِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ حَيْثُ أَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] يُفِيدُ الْحَقِيقَةَ، وَأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ وَكَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ لَا كَلَامًا قَامَ بِغَيْرِهِ. اهـ.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ إنَّمَا يَرْفَعُ التَّجَوُّزَ عَنْ الْحَدِيثِ لَا عَنْ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةُ تَكْلِيمِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَك أَنْ تُورِدَ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(3/123)
 
 
بَكَى الْحُرُّ مِنْ رُوحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامِ الْمَطَارِقِ
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ فِيهِ الْمُبَالَغَةَ بِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْحَقِيقَةِ فَأَكَّدَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَئِمَّةِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ تَأْكِيدُ الْمَجَازِ إلَّا فِي هَذَا الْبَيْتِ الْوَاحِدِ، وَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَجَّتْ لَوْ كَانَتْ غَافِلَةً. قُلْت: وَأَنْشَدَ ابْنُ بَرْهَانٍ:
قَرَعْت طَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ ... وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْت الْهَوَى قَسْرَا
وَقَالَ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرِ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ.
(3/124)
 
 
[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ تَعَارُضِ مَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ]
فِي ذِكْرِ تَعَارُضِ مَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَهِيَ عَشَرَةٌ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِعَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ. وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ وَالنَّقْلُ وَالْإِضْمَارُ وَالتَّخْصِيصُ. وَمِنْهَا: مَا يَرْجِعُ لِغَيْرِ ذَلِكَ إمَّا لِلْحُكْمِ كَالنَّسْخِ أَوْ لِلتَّرْكِيبِ كَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَوْ لِلْوَاقِعِ كَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ أَوْ لِلُّغَةِ كَتَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْخَمْسَةِ السَّابِقَةِ فَقَطْ لِرُجُوعِهَا إلَى اللَّفْظِ وَاحْتَجُّوا عَلَى الْحَصْرِ بِأَنَّهُ إذَا انْتَقَى احْتِمَالُ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ، كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الْإِضْمَارِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ الْمَجَازِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَدْلُولَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَإِذَا انْتَفَى احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا وُضِعَ لَهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ خَلَلٌ فِي الْفَهْمِ أَلْبَتَّةَ.
وَأُورِدَ عَلَى الْحَصْرِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: احْتِمَالُ النَّسْخِ، فَإِنَّ السَّامِعَ إذَا جَوَّزَ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَلَا يَجْزِمُ بِثُبُوتِهِ. الثَّانِي: احْتِمَالُ التَّقْيِيدِ. الثَّالِثُ: احْتِمَالُ الِاقْتِضَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي» لِمَا عُلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ لِوُقُوعِهِ فِي الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ
(3/125)
 
 
يَكُونَ مُرَادُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَيْئًا آخَرَ لِئَلَّا يَلْزَمَ كَذِبُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ، فَقَدْ نَشَأَ الْخِلَافُ فِي فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النَّسْخَ دَاخِلٌ فِي التَّخْصِيصِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْأَزْمَانِ، وَالْأَمْرُ لَا يَقْتَضِي بِصِيغَتِهِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ أَبَدًا. وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ النَّسْخَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَحْكَامِ لَا الْأَلْفَاظِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تُنْسَخُ التِّلَاوَةُ وَلَيْسَتْ مَعْنًى. قُلْنَا: نَسْخُهَا أَيْضًا عَدَمُ جَوَازِ تِلَاوَةِ ذَلِكَ الْمَنْسُوخِ. قَالَهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ التَّخْصِيصِ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ رَاجِعٌ لِلْإِضْمَارِ عَلَى رَأْيِ جَمْعٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ الشَّرْعِ أَوْ إلَيْهِمَا لَا نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْإِضْمَارِ فَنَقُولُ: إنَّ الْخَلَلَ النَّاشِئَ مِنْ احْتِمَالِ الِاقْتِضَاءِ، مِثْلُهُ النَّاشِئُ مِنْ احْتِمَالِ الْإِضْمَارِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ مُغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ فَالْعَوَارِضُ الْمُخِلَّةُ بِالْفَهْمِ تَرْجِعُ إلَى احْتِمَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ عَلَى ذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ النَّقْلَ وَالْإِضْمَارَ وَالتَّخْصِيصَ يَرْجِعُ لِلْمَجَازِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ يَكُونُ بِالنُّقْصَانِ، وَالْعَامُّ إذَا خُصَّ يَكُونُ مَجَازًا فِي الْبَاقِي عَلَى الصَّحِيحِ. فَإِذَنْ الْمُرَادُ بِالْمَجَازِ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ لَا الْمُقَابِلُ لِلْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ، فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمُحْتَمَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَيَنْدَرِجَانِ تَحْتَ مُطْلَقِهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ فَلَا شَكَّ أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَجَازِ لَا تَنْحَصِرُ فِي خَمْسَةٍ.
(3/126)
 
 
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوَسُّعُ، وَاقْتُصِرَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِغَلَبَتِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْإِضْمَارَ لَيْسَ بِمَجَازٍ، وَالتَّخْصِيصُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ فِعْلُ الْمُخَصَّصِ وَلَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى مَوْضِعِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخِلًّا بِالْفَهْمِ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ حَاصِلٌ مَعَ تَجْوِيزِهَا، إنَّمَا الْمُمْتَنِعُ الْقَطْعُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُخِلٌّ بِالْفَهْمِ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهِ مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ كَإِرَادَةِ الْمَجَازِ مَعَ عَدَمِهَا، فَإِنَّهُ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ وَيُوقِعُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِضْمَارَ وَالتَّخْصِيصَ نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَكَيْفَ جَعَلَهُمَا مُقَابِلَيْنِ لَهُ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّوَسُّعُ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَيْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِغَلَبَتِهِمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْإِضْمَارَ لَيْسَ بِمَجَازٍ، وَالتَّخْصِيصُ أَيْضًا كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ فِعْلُ الْمُخَصَّصِ، وَلَيْسَ بِلَفْظٍ حَتَّى يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ، ثُمَّ التَّعَارُضُ الَّذِي يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بَيْنَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ يَقَعُ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ، وَهَذِهِ؛ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَارِضُ نَفْسَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا يُعَارِضُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخِيرَةَ فِيهَا فَتُضْرَبُ الْخَمْسَةُ فِي الْأَرْبَعَةِ فَحَصَلَ عِشْرُونَ وَجْهًا مِنْ التَّعَارُضِ، لَكِنَّ الْعِدَّةَ مُكَرَّرَةٌ فَيَجِبُ حَذْفُهَا بِنَفْيِ عَشَرَةٍ تُكَرَّرُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعَةِ فَيَحْصُلُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، ثُمَّ مِنْ تَعَارُضِ النَّقْلِ مَعَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ صَارَتْ سَبْعَةً، ثُمَّ مِنْ تَعَارُضِ الْمَجَازِ مَعَ الْبَاقِينَ وَجْهَانِ صَارَتْ تِسْعَةً ثُمَّ مِنْ تَعَارُضِ الْمَجَازِ مَعَ التَّخْصِيصِ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَصَارَ الْمَجْمُوعُ عَشَرَةً.
(3/127)
 
 
وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
تَجُوزُ ثُمَّ إضْمَارٌ وَبَعْدَهُمَا ... نَقْلٌ تَلَاهُ اشْتِرَاكٌ فَهُوَ يَخْلُفُهُ
وَأَرْجَحُ الْكُلِّ تَخْصِيصٌ وَآخِرُهُمْ ... نَسْخٌ فَمَا بَعْدَهُ قِسْمٌ يَخْلُفُهُ
وَالضَّابِطُ: تَقَدُّمُ التَّخْصِيصِ فَالْإِضْمَارِ فَالْمَجَازِ فَالنَّقْلِ فَالِاشْتِرَاكِ، وَالتَّخْصِيصُ يُرَجَّحُ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ رَاجِحٌ عَلَى الْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ، وَعَلَى النَّقْلِ لِتَوَقُّفِ النَّقْلِ عَلَى مَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ، وَعَلَى الِاشْتِرَاكِ لِإِخْلَالِهِ بِالْفَهْمِ. الْأَوَّلُ: التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْلِ يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ مُفْرَدًا قَبْلَ النَّقْلِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَهُ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَبَعْدَهُ لِلْعُرْفِيِّ أَوْ الشَّرْعِيِّ الَّذِي نُقِلَ إلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاشْتِرَاكِ يَكُونُ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَالْمُجْمَلِ. مِثَالُهُ: لَفْظُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي النَّمَاءِ، وَفِي الْقَدْرِ الْمُخْرَجِ مِنْ النِّصَابِ، فَيُحْتَمَلُ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا أَوْ فِي الْأَصْلِ لِلنَّمَاءِ وَاسْتُعْمِلَتْ فِي الثَّانِي بِطَرِيقِ النَّقْلِ، فَحَمْلُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَجَّحَ الِاشْتِرَاكُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي نَسْخَ وَضْعٍ سَابِقٍ بِخِلَافِ النَّقْلِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي النَّقْلِ، وَأَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، فَالْمَجَازُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ الْمُشْتَرَكِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَإِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ مَعَ الْقَرِينَةِ، فَيَكُونُ مَجَازًا وَدُونَهَا فَيَكُونُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ فِي مَبَاحِثِ الْأَمْرِ: تَرْجِيحُ الِاشْتِرَاكِ.
(3/128)
 
 
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ تَصْوِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ وَالْمَجَازِ، فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالَاتِهِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ الْمَعَانِي، وَالْمَجَازُ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ دَلَالَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا ضَعِيفَةً وَالْأُخْرَى قَوِيَّةً، وَاللَّفْظُ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْقُولًا إذَا يُطْلَبُ دَلَالَتُهُ الْأُولَى وَارْتَفَعَتْ. وَأُجِيبَ بِتَصَوُّرِ ذَلِكَ فِي لَفْظٍ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَيَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمْ تَسَاوِي دَلَالَتِهِ عَلَيْهِمَا وَلَا رُجْحَانُهَا فِي أَحَدِهِمَا، فَيُحْتَمَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ النَّقْلِ، أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا وَمَجَازًا فِي الْآخَرِ عَلَى السَّوَاءِ. الثَّالِثُ: الْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَرِينَةِ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْإِضْمَارِيِّ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْقَرِينَةِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ؛ إذْ لَيْسَ الْبَعْضُ مِنْهُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ
الرَّابِعُ: التَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ خَيْرٌ مِنْ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَالْخَيْرُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ خَيْرًا مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ أَضْعَفُ الْخَمْسَةِ. الْخَامِسُ: الْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ النَّقْلِ، لِاسْتِلْزَامِ النَّقْلِ نَسْخَ الْأَوَّلِ وَتَغْيِيرَ الْوَضْعِ، كَدَعْوَى الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَنْقُولَةٌ إلَى الْأَفْعَالِ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ، وَهُوَ أَوْلَى. السَّادِسُ: الْإِضْمَارُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ مُسَاوٍ لِلْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ. السَّابِعُ: التَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنْ النَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنْ النَّقْلِ. وَعُلِمَ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنَّ النَّقْلَ أَضْعَفُ مِنْ الثَّلَاثَةِ بَعْدُ. الثَّامِنُ: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ قِيلَ:
(3/129)
 
 
الْمَجَازُ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِ، وَبِهِ جَزَمَ فِي " الْمَعَالِمِ " وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيُّ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَاخْتَارَهُ فِي " الْمَحْصُولِ " وَتَبِعَهُ فِي " الْمِنْهَاجِ " لِاحْتِيَاجِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى قَرِينَةٍ تَمْنَعُ مِنْ فَهْمِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْمُضْمَرِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَيْنِ نَوْعَا مَجَازٍ، فَيَنْبَغِي ذِكْرُهُ فِي تَرْجِيحِ أَنْوَاعِ بَعْضِ الْمَجَازِ عَلَى بَعْضٍ. التَّاسِعُ: التَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَتَعَيَّنُ بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَعَيَّنُ، وَمِنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَجَازَ أَضْعَفُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَالتَّخْصِيصِ. الْعَاشِرُ: التَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنْ الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجَازِ وَالْمَجَازُ مُسَاوٍ لِلْإِضْمَارِ عَلَى مَا فِي " الْمَحْصُولِ "، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَهَذَا خِطَابٌ خَاصٌّ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اقْتَصُّوا حَصَلَتْ الْحَيَاةُ لَهُمْ بِدَفْعِ شَرِّ هَذَا الْقَاتِلِ الَّذِي صَارَ عَدُوًّا لَهُمْ، أَوْ هُوَ عَامٌّ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ مُضْمَرَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا مَشْرُوعِيَّتَهُ كَانَ أَنْفَى لِلْقَتْلِ فِيهَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِثَالٌ، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي.
 
فُرُوعٌ أَحَدُهَا: الِاشْتِرَاكُ خَيْرٌ مِنْ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا إبْطَالَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ النَّسْخِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ نَسْخُ
(3/130)
 
 
مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى إبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إنْ كَانَ الْقُرْآنُ مُتَأَخِّرًا، أَوْ نَسْخُهُ إنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا أَوْ لَا سَبِيلَ إلَى التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنْ الْآخَرِ حَتَّى يُصَارَ إلَيْهِ.
 
ثَانِيهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فَالْمَعْنَوِيُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَطَّلُ فِيهِ النَّصُّ بِحَالٍ بِخِلَافِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ يَتَعَطَّلُ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: رَجَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَيْسَ بِصَوَابٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ فَقَدْ تُقَدَّمُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِسَبْقِ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ اللَّفْظِ عِنْدَ الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ وَافْتِقَارِ الْمَعْنَى الْآخَرِ إلَى الْقَرِينَةِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ.
 
ثَالِثُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ عَلَمَيْنِ أَوْ بَيْنَ عَلَمٍ وَمَعْنًى أَوْ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ كَانَ جَعْلُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ عَلَمَيْنِ أَوْ مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ يُدَّعَى الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَعْلَامِ، وَالِاشْتِرَاكُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَقَائِقِ، وَالْأَعْلَامُ لَيْسَتْ بِحَقَائِقَ كَمَا سَبَقَ.
 
رَابِعُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُشَكَّكِ فَالْمُشَكَّكُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُتَوَاطِئَ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُتَوَاطِئُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، وَالْمُشَابِهُ لِلرَّاجِحِ رَاجِحٌ، وَلِأَنَّ اخْتِلَالَ الْفَهْمِ فِيهِ أَقَلُّ.
 
خَامِسُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْمُتَوَاطِئِ وَبَيْنَ الْمُشَكِّكِ فَالْمُتَوَاطِئُ أَوْلَى.
 
سَادِسُهَا: إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ احْتِمَالِ النَّسْخِ وَاحْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، فَفِي تَقْدِيمِ أَيِّهِمَا أَوْلَى، قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " تَأْلِيفُهُ. قَالَ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى النَّسْخِ.
(3/131)
 
 
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ إلَى حَمْلِهِ عَلَى التَّخْصِيصِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْكِتَابِيَّاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَلَمَّا جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ فِي تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ. وَخَرَّجَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: النَّسْخُ كَمَا قَالُوا، وَالثَّانِي: التَّخْصِيصُ، ثُمَّ قَطَعَ بِأَنَّ ذَلِكَ خُصُوصٌ وَعُمُومٌ لَمَّا عَدِمَ الدَّلِيلَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّسْخِ. اهـ.
(3/132)
 
 
[فَصْلٌ فِي التَّرْجِيحَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمَجَازِ]
فِي التَّرْجِيحَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمَجَازِ إذَا كَانَ لِلْمَجَازِ عَلَاقَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ وَاحْتُمِلَ التَّجَوُّزُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ أَنَّ أَوْلَاهَا إطْلَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ جَعْلُ التَّخْصِيصِ جُزْءًا مِنْ الْمَجَازِ، وَالتَّخْصِيصُ مِنْ الْمَجَازِ هُوَ كَذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَحْسَنَ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ الِاسْتِعَارَةُ فَلْتَكُنْ أَقْوَاهَا، وَلِقُوَّتِهَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ، ثُمَّ يَلِيهَا الْإِضْمَارُ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْفَهْمِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَمْرٍ مَحْذُوفٍ لَا مَذْكُورٍ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ لَمْ يُوجِبْ بِمُجَرَّدِهِ خَلَلًا، فَكَانَ قَوِيًّا، وَبَقِيَّةُ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالُوا: إنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ أَحْسَنُ مِنْ الْعَكْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالُوا فِي بَابِ التَّرْجِيحِ: إنَّ الْعِلَّةَ الْغَائِيَّةَ اجْتَمَعَ فِيهَا السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهَا أَوْلَى فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. وَإِنْ تَعَارَضَ مَجَازَانِ، وَأَحَدُهُمَا تَحَقَّقَتْ عَلَاقَتُهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الَّذِي لَمْ تَتَحَقَّقْ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ حَمَلُوهُ عَلَى الْمُسَاوِمَيْنِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمَا بَائِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُمَا الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَجَازٌ، وَمَجَازُ الشَّافِعِيَّةِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِيهِ مُتَحَقِّقَةٌ فِيهِ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَحَقَّقُ صُدُورُ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: الِاتِّفَاقُ عَلَى مَجَازِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ فَرُجِّحَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
(3/133)
 
 
[فَصْلٌ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ]
فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْقَذْفِ. [الصَّرِيحُ] فَأَمَّا الصَّرِيحُ فَفِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ بِحَيْثُ يَسْبِقُ إلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ، بِعْت وَاشْتَرَيْت مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ الْحَقُّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَصْرُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ. وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ مَا انْكَشَفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَيَّنُ وَالْمُحْكَمُ. [الْكِنَايَةُ] وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ: اسْمٌ لِمَا اسْتَتَرَ فِيهِ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ كَقَوْلِهِ فِي الْبَيْعِ: جَعَلْته لَك بِكَذَا، وَفِي الطَّلَاقِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ
(3/134)
 
 
وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُجْمَلُ، وَنَحْوُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَنَّيْت وَكَنَوْتُ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَأَكْنُو عَنْ قُدُورٍ بِغَيْرِهَا ... وَأُعْرِبُ أَحْيَانًا بِهَا وَأُصَارِحُ
وَعِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ: أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى شَيْءٍ لُغَةً، وَيُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا خَاصَّةٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إمَّا قُبْحُ ذِكْرِ الصَّرِيحِ نَحْوُ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] أَوْ إخْفَاءُ الْمُكَنَّى عَنْهُ عَنْ السَّامِعِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ الْكِنَايَةُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: مَجَازٌ. وَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ يَقْتَضِيهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْكَشَّافِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ} [البقرة: 235] الْكِنَايَةُ: أَنْ يَذْكَرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالتَّعْرِيضُ: أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ. وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْبَيَانِيِّينَ يَقْتَضِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ أَيْضًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهَا مَعْنَاهَا وَحْدَهُ، أَوْ مَعْنَاهَا وَغَيْرُ مَعْنَاهَا مَعًا، وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالثَّانِي الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالثَّالِثُ: الْكِنَايَةُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَرَادَ هُنَا بِالْحَقِيقَةِ التَّصْرِيحَ بِهَا بِقَرِينَةِ جَعْلِهَا فِي مُقَابَلَةِ الْكِنَايَةِ. وَتَصْرِيحُهُ فِيمَا بَعْدُ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْكِنَايَةَ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا حَقِيقَتَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَدَمِهِ. وَجَزَمَ الْجَاجَرْمِيُّ فِي رِسَالَتِهِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَجَازِ،؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَالْكِنَايَةُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَوْضُوعِهِ غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَعْنًى
(3/135)
 
 
ثَانٍ، فَإِذَا قُلْت: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ، فَإِنَّك تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَقِيقَةَ طُولِ النِّجَادِ دَلِيلًا عَلَى طُولِ الْقَامَةِ، فَقَدْ اسْتَعْمَلْت اللَّفْظَ فِي مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ لَكِنَّ غَرَضَك مَعْنًى ثَانٍ يَلْزَمُ الْأَوَّلَ، وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ، وَإِذَا شُرِطَ فِي الْكِنَايَةِ اعْتِبَارُ الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ لَمْ تَكُنْ مَجَازًا. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت لِزَوْجَتِك: أَنْتِ بَائِنٌ، فَقَدْ اسْتَعْمَلْت لَفْظَ الْبَيْنُونَةِ فِي مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْوَصْلَةِ غَيْرَ أَنَّ مَقْصُودَك الطَّلَاقُ، وَلِهَذَا قَالُوا: تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْكِنَايَةِ، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْمَجَازِ. اهـ.
وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، وَهُوَ فِيهِ مُتَابِعٌ لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي نِهَايَةِ " الْإِيجَازِ ": وَاللَّفْظَةُ إذَا أُطْلِقَتْ وَكَانَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، غَيْرَ مَعْنَاهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا مَقْصُودًا أَيْضًا لِيَكُونَ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْكِنَايَةُ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَجَازُ، فَالْكِنَايَةُ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، فَقَوْلُنَا: طَوِيلُ النِّجَادِ اُسْتُعْمِلَ لَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ مَعْنَاهُ بَلْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طُولِ الْقَامَةِ. قَالَ: وَلَيْسَتْ الْكِنَايَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَقْصُودَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُعْتَبَرًا، وَإِذَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِيمَا نُقِلَتْ اللَّفْظَةُ عَنْ مَوْضُوعِهَا، فَلَا تَكُونُ مَجَازًا، فَإِذَا قُلْت: فُلَانٌ كَثِيرُ الرَّمَادِ فَإِنَّك تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَقِيقَةَ كَثْرَةِ الرَّمَادِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ جَوَادًا، فَأَنْتَ اسْتَعْمَلْت هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ غَيْرَ مُنْكِرٍ أَنَّ فِي إفَادَةِ كَوْنِهِ كَثِيرَ الرَّمَادِ مَعْنًى ثَانِيًا يَلْزَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْجُودُ، وَإِذَا وَجَبَ فِي الْكِنَايَةِ اعْتِبَارُ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَجَازًا. انْتَهَى.
وَيَشْهَدُ لِتَغَايُرِهِمَا مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: إنَّ الْكِنَايَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهَا النِّيَّةُ دُونَ الْقَرَائِنِ مَعَ أَنَّ الْمَجَازَ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْقَرِينَةُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْكِنَايَةُ تَارَةً تَكُونُ حَقِيقَةً وَتَارَةً تَكُونُ مَجَازًا إلَّا
(3/136)
 
 
أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْإِشْعَارُ بِمَا كَنَّى بِهَا عَنْهُ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَالْكِنَايَةُ أَعَمُّ لِانْقِسَامِهَا إلَيْهِمَا، فَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَصْفَانِ لِلَّفْظِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَالِاسْتِعْمَالُ غَيْرُ الدَّلَالَةِ، فَافْهَمْ هَذَا. فَائِدَةٌ ظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ " الْكَشَّافِ " أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكِنَايَةِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77] أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الِاسْتِهَانَةِ وَالسَّخَطِ، وَأَنَّ النَّظَرَ إلَى فُلَانٍ بِمَعْنَى الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ كِنَايَةٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ، وَمَجَازٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. [التَّعْرِيضُ] وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَهُوَ لُغَةً: ضِدُّ التَّصْرِيحِ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكَلَامَ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَتَحْصُلُ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ مَقْصُودِهِ إلَّا أَنَّ إشْعَارَهُ بِخِلَافِ الْمَقْصُودِ أَتَمُّ وَأَرْجَحُ. وَأَصْلُهُ مِنْ عَرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ حَوْلَهُ وَلَا يُظْهِرُهُ. قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ لَوَازِمِهِ، كَقَوْلِك: فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ كَلَامًا مُحْتَمِلًا لِمَقْصُودِك، إلَّا أَنَّ قَرَائِنَ أَحْوَالِك تُؤَكِّد