الإبهاج في شرح المنهاج 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الإبهاج في شرح المنهاج ((منهاج الوصول إلي علم الأصول للقاضي البيضاوي المتوفي سنه 785هـ))
المؤلف: تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن حامد بن يحيي السبكي وولده تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب
عدد الأجزاء: 3    
المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها من جملة أفرادها والعمل بالظن واجب
والثاني أن المتتبع لأحوال الصحابة رضي الله عنهم يقطع بأنهم كانوا يقنعون بمجرد معرفة المصالح في الواقع ولا يبحثون عن وجود أمر آخر وراءها فكان ذلك منهم إجماعا على وجوب اعتبار المصالح كيف كانت ولم يتعرض المصنف للجواب عن هاتين الشبهتين ونحن نقول في الجواب عن الأولى ليس اعتبار المصالح المرسلة بمجرد مشاركتها للمصالح التي اعتبرها الشارع في كونها مصالح بأولى من إلغائها لمشاركتها للمصالح التي ألقاها الشارع في ذلك فيلزم اعتبارها وإلقاؤها وعن الثانية لا نسلم أن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمجرد معرفة المصالح وسند المنع أنه لو كان كذلك لم ينعقد الإجماع بعدهم على إلغاء بعض المصالح فدل على أنهم لم يعتبروا من المصالح إلا ما اطلعوا على اعتبار الشرع نوعه أو جنسه القريب فإن الشارع لم يعتبر المصالح مطلقا بل بقيود وشرائط لا تهتدي العقول إليها إذ غاية العقل أن يحكم بأن جلب المصلحة مطلوب لكن لا ينتقل بإدراك الطريق الخاص لكيفيته فلا بد من الإطلاع على ذلك الطريق بدليل شرعي مرشد إلى المقصد فقبله لا يمكن اعتبار المصالح فإن قيل فبأي طريق أبلغ الصحابة رضي الله عنهم حد الشرب إلى ثمانين فإن كان مقدرا فقد زادوا بالمصلحة وإن كان تعذيرا غير مقدر فلم افتقر إلى التشبيه بحد القذف وكيف بلغ الحد
قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب مقدار ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا والتقديرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه يثبت بالإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد صدور الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تقرير فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذا ومن هذا افترا ومظنة الشيء تقام مقام الشيء كما يقام النوم مقام الحدث والوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل والله أعلم
(3/187)
 
 
فقد الدليل بعد التفحص البليغ
...
قال السادس فقد الدليل بعد التفحيص البليغ يغلب عدم ظن عدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل
"ش" الأستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل حق مستقبل عند المصنف وتقريره أن فقدان الدليل بعد بذل الوسع في التفحص يغلب ظن عدم الدليل وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم لأن عدم الحكم الدليل يستلزم عدم الحكم لأنه لو ثبت حكم شرعي ولا دليل عليه للزم منه تكليف الغالب وهو ممتنع
(3/188)
 
 
في الدلائل المردودة
الاستحسان
...
قال "الباب الثاني في المردودة في الاستحسان
قال به أبو حنيفة وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته ورد بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه من فاسدة وفسره الكرخي بأنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى كتخصيص أبي حنيفة قول القائل مالي صدقة بالزكاة لقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وعلى هذا فالاستحسان تخصيص وأبو الحسين بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لأقوى يكون كالطارئ فخرج التخصيص ويكون حاصله تخصيص العلة"
"ش" ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى القول بالاستحسان وأنكر الباقون حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وقد ذكر المصنف ثلاث مقالات لهم
الأولى أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر أن يفوه به وردها صاحب الكتاب بأنه لا بد من ظهور ليتبين ليتبين صحيحه من فاسدة فإن ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وهما لا عبره به وهذا الرد يتضح به أنه لا يجدي شيئا في مجلس المناظرة وأما أن المجتهد لا يعمل به فللقوم منع ذلك وأن يقولوا إذا انقدح له دليل على حادثة وهو جازم بها أفتى بها المقلد ولكن سبيل الرد عليهم أن يقولوا هذا الدليل المنقدح في نفس المجتهد إنما يمتاز عن غيره من الأدلة لكونه لا يمكن التعبير عنه وذلك أمر لا يؤل إلى القدح في كونه دليلا فجاز التمسك به وفاقا فأين الاستحسان المختلف فيه
(3/188)
 
 
المقالة الثانية قال الكرخي الاستحسان قطع المسألة عن نظائرها أي أن المجتهد يعدل عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى الحكم بخلافه لوجه أقوى من الأول يقتضي العدول عنه ومثاله تخصيص أبي حنيفة رضي الله عنه قول القائل مالي صدقة بمال الزكاة فإن هذا القول منه عام في التصدق بجميع أمواله وقال أبو حنيفة يختص بمال الزكاة لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً1} والمراد من الأموال المضافة إليهم أموال الزكاة فعدل عن أن يحكم في مسألة المال الذي ليس هو بزكوى بما حكم به في نظائرها من الأموال الزكوية إلى خلاف ذلك الحكم لدليل أقوى اقتضى العدول وهو الآية ورد المصنف هذا بأنه يلزم من أن يكون التخصيص استحسانا لأنه عدول بالخاص عن بقية أفراد العام بدليل ونحن موافقون على التخصيص فأين الاستحسان المختلف فيه ويلزم منه أيضا أن يكون الناسخ استحسانا لكونه كذلك إذا كان نسخا في بعض الصور
والثالثة قال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله وهو في حكم الطارئ على الأول عن ترك أضعف القياسين للأقوى فإن أقوى القياسين ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن فرض أنه طارئ فذاك الاستحسان
ومثال ذلك العنب حيث يحرم بيعه بالزبيب سواء كان على رؤوس الشجر أم لا قياسا على الرطب ثم إن الشارع أرخص في بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر فقيس عليه العنب وترك القياس الأول لكن الثاني أقوى فلما اجتمع في الثاني القوة والطريان كان استحسانا ورده صاحب الكتاب بأن حاصله راجع إلى أن الاستحسان هو تخصيص العلة ونحن موافقون على ذلك ولك أن تقول هو بهذا التفسير أعم من تخصيص العلة فإنه رجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل طارئ عليه أقوى منه وذلك أعم ورده الإمام بأنه
__________
1 سورة التوبة آية 103
(3/189)
 
 
يقتضي أن تكون الشريعة كأنها استحسان لأن البراءة الأصلية مقتضى العقل وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهذا الأقوى في حكم الطارئ على الأول ثم قال ينبغي أن يزاد في حكم الحد قيد آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية واللفظية بوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأولى
قال صفي الدين الهندي وفي قوله ترك وجه من وجوه الاجتهاد ما ينبئ عن أن ذلك الوجه مغاير للبراءة الأصلية فإنها ليست وجها من وجوه الاجتهاد إذ هي معلومة أو مظنونة من غير اجتهاد فلا حاجة إلى ما ذكره الإمام من القيد ومن وجود الرد على هذا التفسير أنه يقتضي أن يكون العدول من حكم القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانا والخصم لا يقول به ذكره الهندي قال ثم إنه لا نزاع في هذا أيضا فإن حاصله يرجع إلى تغيير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل أقوى منه وهو طارئ عليه من نص أو إجماع أو غيرهما
وقد ذكر للاستحسان تفاسير أخر مزيفة لا نرى التطويل بذكرها وحاصلها يرجع إلى أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه ثم إنا نقول لهم بعد ذلك إن عنيتم ما يستحسنه المجتهد يعقله ورأى نفسه من غير دليل وذلك هو ظاهر لفظة الاستحسان والذي حكاه بشر المريسي والشافعي عن أبي حنيفة رحمه الله وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هو الصحيح عنه فهذا لعمر الله اقتحام عظيم وقول في الشريعة بمجرد التشهي وتفويض الأحكام إلى عقول ذوي الآراء ومخالفة لقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ1} ولكن أصحابه ينكرون هذا التفسير وإن عنيتم جواز استعمال لفظ الاستحسان فأنى ينكر ذلك والله تعالى يقول {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ2} والكتاب والسنة مشحونان بذلك والقوم لا يعنون بالاستحسان ذلك فلا نسهب في الإمعان فيه
__________
1 سورة الشوري آية 10
2 سورة الزمر آية 18
(3/190)
 
 
فإن قلت قد وقع في كلام الشافعي رضي الله عنه استحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما واستحسن أن تثبت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام واستحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة واستحسن أن يضع أصبعيه في صفاحي أذنيه إذا أذن
وقال الغزالي استحسن الشافعي رضي الله عنه التحليف على المصحف وقال في السارق إن أخرج يده اليسرى بدل اليمين القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا يقطع وقال الأوزاعي في أخلاق الأصحاب في مسألة الجارية المعنية وهي التي اشتريت بألفين ولولا الغنى لساوت الفآكل هذا استحسان والقياس الصحة وقال الرافعي في التغليظ على المعطل في اللعان استحسن أن يحلف ويقال قال بالله الذي خلقك ورزقك فقد قيل أن المعطل وإن غلا في إنكاره فإذا رجع إلى نفسه وجدها مذعنه لخالق وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع المدعي من اليمين المردودة وقال أمهلوني لأسأل الفقهاء استحسن قضاء بلدنا إمهاله يوما قال أبو الفرج السرخسي في تقدير نفقة الخادم على الزوج المتوسط استحسن الأصحاب أن يكون عليه مد وسدس لتفاوت المراتب في حق الخادمة فإن الموسر عليه مد وثلث والمعسر مد فليكن المتوسط كذلك كما تفاوتت المراتب في حق المخدومة
وقال الأصحاب ليس لولي المجنونة والصبية المراهقة إذا آلى عنهما الزوج وضربن المدة وانقضت أن لا يطالب بالغيبة لأن ذلك لا يدخل تحت الولاية واستحسن أن يقول الحاكم للزوج على سبيل النصيحة اتق الله يفئ إليها أو طلقها
وقال أبو العباس بن القاص في التخليص لم يقل الشافعي بالاستحسان إلا في ثلاثة مواضع وذكر ثلاثا من هذه الصور المعدودة ونحن أيضا نقول ما الاستحسان الذي قال به الشافعي قلت قد عرفت أنه لا نزاع في ورود هذه اللفظة على الألسنة استعمالا وقول ابن القاص لم يقل به إلا في ثلاثة مسائل يجب أن يكون المراد منه لم يزد على لفظة فيما اطلعت عليه لما هو المعروف المشهور من قاعدته في الرد على الاستحسان ثم نقول في هذه الصورة الدليل
(3/191)
 
 
على أنه ليس فيها إلا استعمال اللفظ أن أحدا من الأصحاب لم يقدر المتعة بثلاثين درهما بل منهم من استحسن هذا القدر لأجل ذهاب ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما إليه وقال في التنمية المستحب أن يمتعها بخادم فإن لم يكن فثلثين أو مقنعة ولم يقل الشافعي ولا أحد من الأصحاب أن دليل ذلك الاستحسان ولم يوجب أحد منهم على السيد أن يترك للمكاتب شيئا من نجوم الكتابة بل أوجبوا الإيتاء ماحطا من نجوم الكتابة وإيتاء من غيرها واستحبوا أن يكون خطا من النجوم وكل مستحب مستحسن قال الشافعي استحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة ولم يقل أن مستنده الاستحسان وأما مسألة السارق فلم يقل أيضا لا تقطع يمناه للاستحسان أن لا يقطع فيلزم من يقول به أن لا يقطعها وكذلك القول في سائر الصور المذكورة فإن قلت ولم جرى الخلاف المذهبي في مسألتي الشفعة والسارق قلت لا أجل الاستحسان معاذ الله لا نجد في عبارة أحد من الأصحاب ذلك بل لمعان أخر نجدها مسطورة في الفقهيات
(3/192)
 
 
قال "الثاني قيل قول الصحابي حجة وقيل إن خالف القياس
وقال الشافعي في القديم إن انتشر ولم يخالف لنا قول فاعتبروا بمنع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا وقياس الفرع على الأصول قيل أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قلنا المراد عوام الصحابة قيل إذا خالف القياس اتبع الخير قلنا ربما خالف لما ظنه دليلا ولم يكن"
"ش" اتفق أهل العلم على أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر مجتهد كما صرح به القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد باختصار إمام الحرمين والمتأخرون منهم الآمدي وغيره واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن عداهم من المجتهدين
فذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد والأشاعرة والمعتزلة وأحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين والكرخي إلى أنه ليس بحجة مطلقا وهو باختيار الإمام والآمدي وعليه جرى صاحب الكتاب وقال آخرون هو حجة مطلقا وعليه الشافعي رحمه الله في القديم كما نقل المصنف أنه حجة بشرط أن ينتشر
(3/192)
 
 
ولا يخالف كذا حكى المصنف هذا المذهب وهو وهم وإنما هذا قول من مسألة أخرى وهي أنه هل يجوز للعالم تقليده وفيها مذاهب
أحدها هذا وقد ذكر الإمام هذه المسألة فرعا بعد ذكر المسألة التي نحن فيها فنقل المصنف هذا القول منها إلى هنا وليس بجيد وفي المسألة التي نحن فيها قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما وهذا القول ليس هو الذي تقدم في الإجماع وإن توهم ذلك بعض الشارحين فإن ذلك في أن قول مجموعها إجماع لا كل واحد منهما على حدته وهذا في إن قول كل واحد منهما وحده حجة ولا يشترط اتفاقهما
وذهب قوم إلى أن قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا وهذا هو القول الذي تقدم في الإجماع فإن قلت ما دلك على أن القائل بأن قول الشيخين حجة لا يشترط اتفاقهما هنا بخلاف القائل ثم وأن القائل بأن قول الأربعة حجة هنا يشترط اتفاقهم كما فعل ثم وعبارة الإمام وغيره لا تعطي ذلك قلت أما الثاني فصرح به الغزالي في المستصفى والإمام وغيرهما
وأما الأول فهو مقتضى عدم تقييد من حكاه ولا سيما الغزالي والإمام حيث قيد أحد القولين دون الآخر والآمدي لم يحك هنا القول باتفاق الأربعة وكأنه اكتفى بحكايته في كتاب الإجماع وحكى القول بحجية قول الشيخين مع حكايته في كتاب الإجماع القول بأن اجتماعهما حجة وذلك دليل على ما قلناه وإلا فكان حكاية قول الشيخين تكريرا وهو قد فر منه في قول الأربعة ثم إن الخلاف هنا في أن قول الشيخين حجة لا في أنه إجماع والخلاف هناك في كونه إجماعا وقد يكون الشيء حجة ولا يكون إجماعا كما قيل في الإجماع السكوتي وغيره إذا عرفت ذلك فقد احتج المصنف على أن قول الصحابي ليس بحجة مطلقا بثلاثة أوجه
أولها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا1} أمر بالاعتبار وذلك ينافي التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند
__________
1 سورة الحشر آية 2
(3/193)
 
 
القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا أمر بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا يقتضي وجوب الاجتهاد خالفناه فيما إذا وجد نص أو إجماع فبقي ما عداهما على الأصل
والثاني أن الصحابة أجمعوا على مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة فإن قلت هذا دليل على غير محل النزاع قلت لا لأنه إذا كان حجة ومن مذهبهم جواز مخالفة بعضهم بعضا جاز لغيرهم ذلك أيضا أعين مخالفة كل منهم لأن مذهبهم جواز المخالفة والفرض أن مذهبهم حجة كذا أجاب به العبري وفيه نظر لأن الإقتداء بهم عند القائل به إنما هو فيما لم يختصوا به وهم مخصوصون بعدم حجية قول بعضهم على بعض ولك أن تضايق في تصوير وقوع إجماعهم على مخالفة بعضهم بعضا لأن الإجماع لا بد وأن يكون من الكل والمجمع على مخالفته غير داخل في المجمعين على فلا يتصور الإجماع دونه وإذا فهمت هذا فنقول يمكن أن يقرر الإجماع على وجه آخر يغاير لفظ الكتاب وهو أنهم سكتوا على مخالفة التابعين لبعضهم وذلك باتفاق منهم على تجويزه
والثالث قياس الفروع التي هي محل الخلاف على الأصول لامتناع كون قولهم حجة فيها على غيرهم من المجتهدين اتفاقا والجامع كون المجتهد متمكنا من إدراك الحكم بطريقة وقد اعترض على هذا بالفرق بين الفروع والأصول إذ الظن الذي هو مطلوب في الفروع يحصل بقول صحابي دون القطع الذي هو مقصود في الأصول وبأن الخصم لا يسلم أن قول الصحابي في الأصول ليس هو حجة بل هو دليل من الأدلة يعم الأصول والفروع واحتج من قال بأن قول
(3/194)
 
 
الصحابي حجة مطلقا بما روى من قوله صلى الله عليه وسلم:"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم1" فدل على أن الإقتداء بهم هدى وطلب الهدى واجب
وقد سلف في الإجماع الكلام على هذا الحديث وأجاب المصنف بأن الخطاب خطاب مشافهة لا يدخل فيه غيرهم ولا يجوز أن يكون مجتهديهم لأنه ليس محل الخلاف فتعين أن يكون لعوامهم ونحن نسلم أن العامي منهم يهتدي بالإقتداء بأي مجتهد كان منهم فإن قلت على هذا لا يختص هذا الحكم بهم قلت نعم من هذا الوجه ولكن فيه فائدة تميزهم عن غيرهم بتقليد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شاركوهم في الصحبة التي هي من أعظم مناقبهم وهذا الوصف لم يحصل لغيرهم فإنه لولا الدليل الدال على أن عامي الصحابة يقلد العالم منهم كهذا الحديث وغيره لكان ينقدح للباحث أن يقول لا يقلد الصحابي صحابيا آخر وإن قلد العامي مجتهدا والفرق أن المجتهد يتميز عن العامي برتبة العلم ولا وصف في العامي يقاومه به وأما عامي الصحابة فقد قاوم مجتهدهم بمشاركته في وصفه الأعظم
وأجاب الآمدي عن الحديث بأنه وإن عم في الأشخاص فلا دلالة على عموم الاهتداء في كل ما يقتدي فيه فيحمل على الإقتداء بهم فما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتراض الهندي على هذا بأن ترتيب الحكم على الوصف وهو كونهم صحابة يشعر بالعلية ومن وجوه الاعتراض عليه أيضا أنا نقول العام في الأشخاص عام في الأحوال وقد سبق في أول كتاب العموم من البحث في هذا ما تقربه عين المسترشد واحتج من قال قول الصحابي حجه إذا خالف القياس بأنه ثقة فلا يحمل مخالفته للقياس إلا على إطلاعه على خبر مخافة القدح في عدالته لو لم يكن ذلك فيعتمد حينئذ على قوله وأجاب بأنه ربما خالف لشيء ظنه دليلا وليس في الأمر كذلك ثم إنا لو سلمنا أنه نفس الأمر كذلك
__________
1 رواه الدارقطني في لافضائل وابن عبد البر في العلم – جامع بيان فضل العلم 2/104 وقال هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن عقبة مجهول ورواه البيهقي في المدخل من حديث ابن عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه من وجه آخر مرسلا ةقال متنه مشهور وسانيده ضعيفة ولم يثبت في إسناد
(3/195)
 
 
فالحجة حينئذ ليست في قول الصحابي بل في الخبر ولم يتعرض المصنف للقول المفصل بين أن ينتشر أم لا لكونه سبق في كتاب الإجماع
قال "مسألة منعت المعتزلة تفويض الحكم إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم أو العالم لأن الحكم يتبع المصلحة وما ليست بمصلحة لا يصير مصلحة قلنا الأصل ممنوع وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون اختياره أمارة المصلحة وجزم بوقوعه موسى بن عمران لقوله بعد ما أنشدت ابنة النضر ابن الحارث لو سمعت لما قلت وسؤال الأقرع في الحج أكل عام فقال لو قلت ذلك لوجبت ونحوه قلنا لعلها ثبتت بنصوص محتملة للاستثناء وتوقف الشافعي"
"ش" أول ما نقدمه تحرير محل الخلاف في المسألة فنقول الحكم المستفاد من العباد على أمور
أحدها ما جاء على طريق التبليغ عن الله تعالى وهذا مختص بالرسل علهم السلام وهم فيه مبلغون فقط
والثاني المستفاد من اجتهادهم وبذلهم الوسع في المسألة وهذا من وظائف المجتهدين من علماء الأمة وفي جوازه للنبي صلى الله عليه وسلم خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد
والثالث ما يستفاد بطريق تفويض الله إلى نبي أو عالم بمعنى أن يجعل له أن يحكم بما شاء في مثله ويكون ما يجيء به هو حكم الله الأزلي في نفس الأمر لا بمعنى أن يجعل له أن ينشئ الحكم فهذا ليس صورة المسألة وليس هو لأحد غير رب العالمين قال الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ1} أي لا ينشئ الحكم غيره إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن هل يجوز أن يفوض الله تعالى حكم حادثة إلى رأي نبي من الأنبياء أو عالم من العلماء فيقول له احكم بما شئت فما صدر عنك فيها من الحكم فهو حكمي في عبادي ويكون إذ ذاك قوله من جملة المدارك الشرعية فذهب جماهير المعتزلة إلى امتناعه وجوزه الباقون منهم ومن غيرهم وهو الحق
__________
1 سورة يوسف آية 40
(3/196)
 
 
وقال أبو علي الجبائي في أحد قوليه يجوز ذلك للنبي دون العالم وهذا هو الذي اختاره ابن السمعاني وذكر الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل عليه وجزم بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة وتوقف الشافعي رضي الله عنه كما نقله المصنف وهذا التوقف يحتمل أن يكون في الجواز وأن يكون في الوقوع مع الجزم بالجواز وبالأول صرح الإمام وكذلك الآمدي فقال ونقل عن الشافعي في كتابة الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ولكن الثاني أثبت نقلا وعليه جرى الأصوليون من أصحابنا الشافعية واحتجت المعتزلة على المنع بأن الأحكام تابعة لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لم يكن الحكم تابعا للمصلحة بل إلى اختياره الذي جاز أن يكون مصلحة فإن ما ليس بمصلحة في نفس الأمر لا يصير مصلحة بتفويض إلى المجتهد وأجاب بمنع الأصل وهو كون الحكم يتبع المصلحة وبأنا لو سلمناه لا يلزم ما ذكرتم لأنه لما قال له إنك لا تحكم إلا بالصواب أمنا من اختياره المفسدة وكان الله تعالى جعل اختياره أمارة على المصلحة وقدر له أن لا يختار سواها واحتج موسى بن عمران على الجزم بوقوعه بأمرين أحدهما قضية النضر بن الحارث التي رواها أهل المغازي والسير فرويناها بإسنادنا إلى عبد الملك بن هشام
قال ثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال بعد أن ذكر غزوة بدر الكبرى وعدد القتلى بها وكان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب في خمسة نفر من بني عبد الدار بن قصى النضر بن الحارث بن كلدة ابن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار قتله علي بن أبي طالب صبرا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء فيما يذكرون قال ابن هشام بالأثيل قال ابن هشام ويقال النضر بن الحارث ابن كلدة بن عبد مناف ثم ذكر ابن هشام بعد ذلك أبياتا قالتها قتيلة بنت الحارث أخت النضر تبكيه أولها
يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح حامسة وأنت موفق
ومنها تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
(3/197)
 
 
قال ابن هشام فقال والله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: "لو بلغني هذا من قبل قتله لمننت عليه1" انتهى وقال الزبير بن بكار في النسب سمعت بعض أهل العلم يقولون إنها مصنوعة انتهى فقوله صلى الله عليه وسلم لمننت عليه يدل على أن الحكم كان مفوضا إلى رأيه فإنه لو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وقد قال المصنف تبعا للإمام إن هذه المرأة ابنة النضر وهو مخالف لما ذكره ابن هشام في رواية أخرى لا تقوم لها الحجة أنه ابنته كما ذكر
وثانيهما ما روى مسلم من حديث أبي بردة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" قال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم2" وهذا الرجل هو الأقرع كما ذكر المصنف وهو ابن حابس والأقرع في الصحابة أربعة هذا أشهرهم وهذا الحديث أيضا يدل على أن الأمر كان مفوضا إلى اختياره قوله ونحوه أو نحو هذين الأمرين كقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة3" وكما قال صلى الله عليه وسلم: "في مكة لا يختلى خلاها ولا يعضدها شجرها" فقال العباس إلا الأزخر فقال: "إلا الازخر4" وغير ذلك وأجاب المصنف عن الكل بأنه يجوز أن تكون هذه
__________
1 السير ابن هشام 3/45
2 أخرجه أبو داود: الحج 2/190 والنسائي: مناسك الحج 5/110 وابن ماجة: المناسك 2/963 ولمسلم نحوه من حديث أبي هريرة ولم يسم الأقرع
3 حديث صحيح أخلرجه الحاكم في مستدركه كما أخرجه سعيد بن منصور في سننه بلفظ "لولا أن أشق علي أمتي لأمرتكم بالسواك والطيب عند كل صلاة" الجامع الصغير 2122
4 حديث صحيح اخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولايختلي خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقتطه إلا لمعرف" فقال العباس: إلا الإذخر "فإنه لابد لهم للقيون والبيوت فقال إلا الإذخر"
(3/198)
 
 
الأحكام ثابتة بنصوص محتملة للاستثناء على وفق سؤال بعض الناس أو حاجتهم فلا يدل على التفويض ولك أن تجيب عما وقع في قضية النضر بأنه لم يصح وابن هشام لم يجزم القول به وقد قال الزبير بن بكار ما قدمته وسمعت والذي أيده الله تعالى يجيب عنه على تقدير صحته بأن النضر كان أسيرا والإمام مخير في الأسارى بين الفعل والاسترقاق والمن والفداء وعندي في هذا نظر فإن الإمام إن خير بين هذه الأشياء فلا خوف بين الأصحاب أنه يجيب عليه رعاية للمصلحة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه وجه المصلحة وما قتل النضر وإلا قد كان قتله مصلحة ولا تزول هذه المصلحة بإنشاد أخته أبياتها هذه ولا يقال لعل الحال كان مستويا لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك إذ لو فرض استواء لكان الواجب عدم القتل فإنه متى لم يظهر بوجه الصواب في الحال حبسهم الى حين يظهر نص عليه أصحابنا وأجيب عن قوله لو قلت نعم لوجب بأنها قضية شرطية لا تقتضي وقوع مشروطها وهو منقدح وعن قوله إلا الإدخر بأنه يحتمل نزول الوحي سريعا عليه والله أعلم
(3/199)
 
 
الكتاب السادس في التعادل والتراجيح
في تعادل الأمارتين في نفس الأمر
...
قال الكتاب السادس في التعادل والترجيح
وفيه أبواب الباب
الأول في تعادل الإمارتين في نفس الأمر منعه الكرخي وجوزه قوم وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه والتساقط عند بعض الفقهاء فلو حكم القاضي بأحديهما مرة لم يحكم بالأخرى أخرى لقوله عليه السلام لأبي بكر:"لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1"
"ش" التعادل بين القاطعين المتنافيين ممتنع كما ستعرفه إن شاء الله تعالى عقليين كانا أو نقليين وكذلك بين القطعي والظني لتقدم القطعي وأما التعادل بين الإمارتين في الأذهان فصحيح وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي والإمام أحمد وجمع من فقهائنا وجوزه الباقون هذا هو النقل المشهور وكلام الغزالي يدل على أن من قال المصيب واحد لم يجوز تعادل الإمارتين وأن الخلاف بين المصوبة حيث قال إذا تعارض دليلان عند المجتهد فالمصوبة يقولون هذا لعجزه وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض انتهى واختار الإمام أن تعادل
__________
1 أخرجه النسائي: أدب القضاء 8/247 ولفظه: "لا يقضين أحد في قضاء بقضاءين ولا يقضي أحد بين خصمين وهو غضبان"
(3/199)
 
 
الإمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد لكون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة غير واقع شرعا أي غير جائز الوقوع شرعا يظهر ذلك بتأمل كلامه وأن تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهة القبلة
وقد احتج من منع من تعادل الأمارتين مطلقا بأنه لو وقع فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو ترجيح من غير مرجح أولا على التعيين بل على التخيير والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ترجيحا لأحد الإمارتين بعينها وقد وضح فساده وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يعمل بأحدهما على التعيين قوله ذلك ترجيح لإمارة الإباحة بعينها قلنا ممنوع وهذا لأن الإباحة في التخيير بين الفعل والترك مطلقا لا التخيير بينهما بناء على الدليلين الذي يدل أحدهما على الإباحة والآخر على الحظر إذ يجوز أن يقول الشارع للمكلف أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة أو بأمارة الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل أو بالحظر فقد حرمته وتصرح له بأن الفعل على أحد التقديرين إباحة وعلى الآخر حرام ولو كان ذلك للفعل لما جاوز ويؤكده أنه يجب عليه اعتقاد كل منهما على تقدير الأخذ بإمارته فلو كان ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين ولا يقال لما بين فعل الركعتين وتركهما كانتا مباحتين وكذلك الصلاة المعادة على الوجه الذاهب إلى أنها فرض وفي الدليل وجوابه مواقف أخر نطول بذكرها واحتج من جوز تعادل الإمارتين في نفس الأمر بالقياس على التعادل في الذهن وبأنه لو امتنع لم يكن امتناعه لذاته فلا يلزم من فرض وقوعه محال أو الدليل والأصل عدمه وأجيب عن الأول بأن التعادل الذهني لا يمنع إمكان التوصل فيه إلى رجحان إحدى الإمارتين فلا يكون نصبهما عبثا
وعن الثاني بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد وليس أولى من
(3/200)
 
 
عكسه وهو إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز وأما اختيار الإمام فعليه كلام طويل ولا نرى الاشتغال بذكره لأن صاحب الكتاب يعمل بحكايته واقتصر في المسألة كلها عن مجرد حكاية المذاهب فلنتبعه في الاختصار وقوله وحينئذ أي إذا قلنا بتجويز تعادل الأمارتين في نفس الأمر وتعادلهما فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم إلى التخيير فيعمل المجتهد في شأنه بما شاء ويخير العامي في الاستفتاء ويختار أحد الأمرين في الحكم للمتخاصمين ولا يخبرهما درأه للتخاصم وذهب قوم إلى أن حكمه التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى البراءة الأصلية
وقال قوم إن وقع هذا التعادل بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير إذ لا يمنع التخيير في الشرع بين الواجبات كما أن ملك مائتين من الإبل يجب عليه أن يخرج ما يشاء من الحقا وبنات اللبون عندما يجعل الخيرة للمالك من أصحابنا ومن دخل الكعبة استقبل ما شاء من جدرانها وإن وقع وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية قوله فلو حكم أي إذا اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى وقد استدل على ذلك بما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: "لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين1" وهذا الحديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الذهبى فلم يعرفه ولا يكاد المجتهد يحيط علما بتعادل الإمارتين في نفس الأمر ويخير المسافر في الركعتين وكونهما مع جواز تركهما يقعان على وجه الوجوب إنما هو في ظن المجتهد ومن أين لنا أن الحال في نفس الأمر كذلك فمن يوجب القصر من العلماء لا يجوز فعلهما لا يوجبه لا يقطع بوقوعه على وجه الوجوب إذ القطع بوقوعه على وجه الوجوب فرع كونه جائز الوقوع وكذا القول في الصلاة المعادة وقد يعلل ما ادعاه المصنف في الحاكم بأنه لو حكم بخلافه مرة أخرى لا تهم والحاكم يتوقى مظان التهم ويجري مثل هذا في المفتي وفيما أن أعمل بأحد الأمرين في شأن نفسه واطلع عليه الناس كيلا يتناقض فعله فيتهمه العامي ولا يرجع إلى فتواه
__________
1 تقدم تخريج الحديث وصوابه "لأبي بكر" بزيادة تاء التأنيث "سنن النسائي8/347"
(3/201)
 
 
قال "مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد يدل على توقفه ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر فهو مذهبه وإلا حكي القولان"
"ش" هذه المسألة في حكم تعارض قولين لمجتهد واحد وهو بالنسبة إلى المقلدين كتعارض الأمارتين عند المجتهدين فلذلك أعقبه بتعادله الأمارتين ومضمون المسألة أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في مسألة واحدة قولان متنافيان فإما أن يكون ذلك في موضع واحد أولا
الحالة الأولى إذا كان في موضع واحد بأن يقول في هذه المسألة قولان مثلا وهو قسمان أحدهما ولم يذكره في الكتاب أن يعقب ذلك بما يشعر بترجيح أحدهما ولو بالتقريع عليه فيكون ذلك قولان له لأن قول المجتهد ليس غير ما يترجح عنده
والثاني أن لا يفعل ذلك فيدل على توقفه في المسألة لعدم ترجيح دليل أحد الحكمين في نظره وقوله فيها قولان محتمل لأن يريد بالقولين احتمالين على سبيل التجوز أي فيها احتمال قولين لوجود دليلين متساويين ولأن يريد بهما مذهبين لمجتهدين وعلى التقديرين لا ينسب إليه قول في المسألة لتوقفه فيها وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله يدل على توقفه ويحتمل أي وهذا التوقف محتمل لأن يكونا احتمالين ولأن يكونا مذهبين
وذهب قوم إلى أن إطلاق القولين يقتضي التخيير وهو ضعيف واعلم أن وقوع ذلك في مجلس واحد من دون ترجيح قليل نقل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن القاضي أبي حامد المروذي لأنه ليس للشافعي مثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعا ستة عشر أو سبعة عشر وقد وقع في المحصول بدل القاضي أبي حامد المروذي الشيخ أبو حامد الإسفرايني وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد ووقع فيه الجزم بأن المواضع سبعة عشر وهو وهم والذي نقله الشيخ أبو إسحاق ما ذكرناه وقال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب قال المحققون إن ذلك لا يبلغ عشرا
(3/202)
 
 
الحالة الثانية أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين بأن ينص في كتاب أو في وقت على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه فهو قسمان أحدهما أن يعلم المتأخر منهما فهو مذهبه ويكون الأول مرجوعا عنه وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا بد وأن ينص على الرجوع فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعا حكاه الشيخ أبو إسحاق والثاني أن يجهل الحال فيحكي عنه القولان من غير الحكم على أحدهما بالترجيح
قال "وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك وهي دليل على علو شأنه في العلم والدين"
ش وقد وقع الحالان المتقدمان للإمام المطلبي قدوتنا أبي عبد الله الشافعي ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك من الأدلة الواضحة على علو شأنه في العلم والدين في الحالتين أما الدليل على العلم في الأولى فإنه كلما زاد المجتهد علما وتدقيقا وكان نظره أتم تنقيحا وتحقيقا ووقوفا على الأدلة المزدحمة مستقيما وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيما تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه
وأما في الدين فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمم على مقالته الأولى ولا قام بنصرتها وشال بضبعها حتى ينادي أولى لك فأولى بل صرح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر
وأما الحالة الثانية وهي تنصيصه على القولين في موضعين فدليل على علمه أيضا لأنه مبني على اشتغاله طول عمره القصير بالنظر والمباحث واشتماله على التدقيق في الوقائع والحوادث وعلى دينه لإظهاره الشيء إذا لاح له غير مبال بما صدر منه أولا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه إلى التناقض في المقال ولا مرجوح لمذهبه وإن كان ذا القدرة العظمى على ما يرومه واليد الطولى فيما يحاوله وقد عاب القولين على الشافعي من لا خلاق له وأتى بخرف من القول زكاة ونمقة والله لا سواه ولا عدله وذلك لنقصان وقصور وحسد كامن في الصدور
(3/203)
 
 
وقال في العلماء قولا كبيرا وفاه بألسنة حداد سيصلى سعيرا وأضمر في نفسه من الزابين عن مسألة سيد المرسلين عقيدة لا يغسل السيف عارها ولا يواري الليل غوارها ونحن لا نحفل بكلمة ولا نقول بكلامه ولا نرى أن يشتمل مثل هذا الشرح على مثل هذا الهذيان الذي هو خيال طرق ذا الخيال في منامه ويكتفي بما صنفه أصحابنا قديما وحديثا في نصرة القولين ويخيل العطن على ذهنه والبليد على الوقوف عليها ولكنا نورد أسئلة قد تختلج في الصدور وتعتور بني الزمان فيجد بها الغبي نفثة مصدور فيقول قد علمت صنعة القولين وكيفية وقوعهما فإن قلت التردد في القولين ينبئ عن نقصان النظر عن إدراك الأرجح قلت معاذ الله بل يخبر عن حال ذلك لأن قوة النظر كلما زادت توالت عليها التشكيكات كما عرفت فإن قلت من سبق الشافعي إلى ذلك من المجتهدين وقد كان قبله أبو بكر الصديق وهو أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبيين
قلت الفاروق الذي أعز الله به الإسلام بدعوة النبي عليه السلام حيث نص في الشورى على ستة وحصر الخلافة فيهم تنبيها على أن الاستحقاق منحصر فيهم وأن غيرهم ليس أهلا لذلك ولم يعترض أحد عليه بل اتبعوا رأيه واقتفوا أثره فإن قلت فما فائدة ذكر القولين قلت التنبيه على أن الحق لا يعدوهما وقصر نظر المتمذهب له على التدقيق فيها وعدم الالتفات إلى غيرهما
فإن قلت من جملة أقواله أن يذكر قولين مع الإشارة إلى ترجيح أحدهما وأي فائدة مع التنبيه على الراجح في ذكر المرجوح قلت ليعلم طرق الاجتهاد والاستنباط والتمييز بين الصحيح والفاسد ومخافة أن يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا يتنبه لفاسده فيتخذه مذهبا وقد عد الأصحاب لأبي حنيفة رضي الله عنه أمثال ذلك فلطالما قال القياس كذا لكني تركته استحسانا وليس لأحد أن يعيب عليه ذلك ولا أن يقول ما فائدة ذكرك القياس مع عدم اعتمادك إياه فإن قلت أي معنى في إطلاق القولين في وقت واحد من غير ترجيح قلت هذا هو الذي لم يوجد معه سوى النذر اليسير
وقد قلنا إنه فيه متوقف وأنه دليل على غزارة العلم والمنتهى في الديانة وفيه
(3/204)
 
 
من الفوائد التنبيه على المآخذ وفحص جهتها في ذينك القولين ولذلك جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه وكان قصده أن الخلافة لا تعدوهم ولو لم يفاجئه هادم اللذات لميز الأصح عن غيره فإن قلت فلا معنى لقولكم في هذا القسم للشافعي في هذا المسألة قولان إذ ليس له ما على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قول واحد ولا قولان بل هو متوقف غير حاكم بشيء قلت قال إمام الحرمين في التلخيص هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما وقد كان الشافعي رضوان الله عليه حديث السن لم تتسع مهلته كثيرا لآلام لم تطل راحته ولا يشغله ذلك عما هو فيه من حياطة الدين والنظر المتين والانجماع على طريق المتقين
وقد سئل بعضهم ما السبب في قصر عمر الشافعي فقال حتى لا يزالون مختلفين ولو طال عمره لرفع الخلاف ولأمعن القول فيما لا يحصره مختصرا ولا معزل من مناقب هذا الخبر ولكن العالم استطرد ووجد للمقال مجالا
فقال ونختم الفصل بما هو من توابع أبواب الترجيح وأمور المقلدين فنقول إن قصر نظر بعض المصنفين عن فهم مراتب المجتهدين فلا عليه لو اقتدى بقوله صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش1" وقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشا ولا تذموها2" ولم يكن أحد من أصحاب المذاهب معزيا إلى صليبة قريش بالمسلك الواضح إلى الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذلك وأنه المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم عالم قريش يملأ طباق الأرض علما لأنه الذي طبق طباق الأرض وتخلق بالطيب ورد ليلها المسود وجبين نهارها المبيض وصار اسمه في مشارقها ومغاربها وعلا على أنجم السماء طوالعها وغواربها
__________
1 رواه النسائي في السنن الكبري "تحفة الأشراف للمزي 1/102"كما رواه الإمام أحمد في المسند 3/129،4/431 ط الحلبي
2 رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا بلفظ: "قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا ولا تعلموها" كما رواه ابن عدي والطبراني، والبزار بطرق مختلفة، قريبة من هذا المعني أنظر الجامع اصغير 2/86
(3/205)
 
 
وقد قام إمام الحرمين مناديا بما لوح به جماعة من الأصحاب من وجوب تقليد الشافعي فقال في كتابه الترجيح بين المذهبين أنه يدعى أنه يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مذهب الشافعي بحيث لا يبغون عنه حولا ولا يريدون به بدلا والذي نقوله نحن إن كتابنا هذا شارح لمختصر أصول لا نرى أن نخرج عنه إلى ما لا يتعلق به من الترجيح بين المذاهب ولكن الذي نفوه به هو أنه يتعين على المقلد النظر بعين التعظيم إلى قدوته والإيماء بطرف التقديم نحو إمامه ونحن نراعي ذلك في حق إمامنا رضوان الله عليه ونقول بجمع الكلام فيما نحاوله أمور ثلاثة أولها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس فللمتأخر الناقد حق التهذيب والتكميل وكل موضوع على الافتتاح فقد يتطرق إلى مبادئه بعد التسبيح ثم يتدرج الناقد حق التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون
فإن قلت فيلزمكم على هذا أن توجبوا الإقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة قلت إن ثبت لأحد بعده رتبة الاجتهاد والتنحل وترتيب ما لم ينظم والإطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها فيلزم ذلك ولكنا لسنا نرى أحدا من الأئمة بعده بلغ هذا المحل كذا أجاب إمام الحرمين وتعالى غيره وقال لم يبلغ أحد بعد الشافعي منصب الاجتهاد المطلق فضلا عن الوصول إلى ما وصل إليه الشافعي وثانيهما أن المذاهب يمتحن بأصولها لأن الفروع تستند إليها وتستقيم بتقومها وتعوج باعوجاجها ولا يخفى على الساري في الظلم رجحان نظر الشافعي في الأصول التي هي أهم ما ينبغي للمجتهد وأنه أول من أبدع ترتيبها ومهد قوانينها وألف فيها رسالته ولم لا يكون ذلك وأعظم ما يستمد منه أصول الفقه اللغة والشافعي كان من صميم العرب العربا ممن تفقأت عنه بيضة بني مضر وأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الاقيسة بالإمارات المنصوبة علامات على الإجماع
ولهذه الأصول مراتب ودرجات فأما الكتاب فهو عربي مبين والشافعي إذا أنصف الناظر عرف أنه المميز عن غيره فيما يحاوله منه لأنه القرشي البليغ ذو
(3/206)
 
 
اللغة التي يحتج بها الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومعرفة الراويات وأما الحديث فلا ينكر منصف مقامه في الأخبار وإلقاءه الأحاديث من حفظه ولذلك ربما قال أخبرني الثقة ومن لا يحضرني اسمه الآن أن ذلك من آيات من آيات حفظه وشدة ضبطه وتحريه حتى قال أبو زرعة ما عند الشافعي حديث غلط فيه وقال أبو داود ما أعلم للشافعي حديثا خطأ وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل الليل بالنهار ينزل الأحاديث منازلها ويقبل كلما صح منها ويجعله مذهبه لا يفرق بين كوفي ومدني
ولذلك قال لأحمد أنتم أعلم بالحديث منا فقل لي كوفية وبصرية يعني أنكم يا أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة فقل لي حتى أنظر فإن كان صحيحا عملت به ولا يظن في ظان الاقتصار على أحاديث المدينة والحجاز من حيث أني من أصحاب مالك وأتى بصيغة الجمع في المخاطب والمخاطب بقوله أنتم ومنا ولم يرد الشافعي أن ابن حنبل أعلم منه بالحديث كما ظن بعض الأغبياء حاش الله وإنما أراد ما ذكرناه والملك العظيم أن أتاه رسول من أخيه الملك من بلدة أخرى يقول له أنتم أعلم بأخبار أخي مني يعني لكونكم في بلدته ولا يلزم من ذلك زيادتهم في القرب منه على أخيه ولا مساواته ولو أراد الشافعي ما زعمه بعض الأغبياء جبرا لأحمد وتأدبا معه وتعظيما لجانب تلميذه لجاز ذلك ولا لوم عليه أما فقه الحديث فهو سيد الناس في ذلك
وأما الإجماع فسيلقي من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهو المنهي في ذلك هذا بيان الأصول وأما تنزيلها منازلها فهو سوق الشافعي فإن قدم كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع نهاية التأدب والوقوف عندما ينبغي السوق عنه للناظر في الشريعة فإذا لم يجدها تأسا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليق بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة بأصولها ولم نر التعليق بكل وجه في الاستصواب ولا الاستحسان بما نهواه ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وما لا يعلل فانسحب على الإتباع فيما لا يعقل معناه
(3/207)
 
 
وقد يقيس إذ لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى المختل المناسب وهو في كل ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ثم لا يبغي بها بدلا ويقول إذا صح الحديث فهو مذهبي وثالثهما أن المذاهب كما يمتحن بأصولها يستخير بفروعها ولننظر المصنف في كتب الخلافيات المنتشرة في الآفاق فإن كان مع اتصافه أهلا للنظر فليعرضها على الشريعة من كتاب وسنة وإجماع وقياس وليحكم بما أراه الله وإن لم يكن أهلا للنظر فلا كلام له معنا وبالله التوفيق
وآخر ما نذكره دليلا لم ير من سبقنا باستنباطه يدل على ما نحاوله وهو حديث يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها واتفق الناس على أن المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز وعلى الثانية الشافعي ويأبى الله أن يبعث مخطئا في اجتهاده أو يختص ناقص المرتبة بهذه المزية بل هذا صريح في أن ما يأتي به المبعوث فهو دين الله الذي شرعه لعباده ومن الغرائب الواقعة في هذا الأمر المؤيدة لما ذكرناه وما حاولناه تأييدا ينثلج به الصدر أن الله تعالى خص أصحاب الشافعي بهذه الفضيلة فكان على رأس الثلثمائة ابن سريج وهو أكبر أصحابه وعلى رأس الأربعمائه الشيخ أبو حامد إمام العراقيين من أصحابه وعلى رأس الخمسمائة الغزالي القائم بالذب عن مذهبه والداعي إليه بكل طريق وعلى السادسة الإمام فخر الدين الرازي أحد المقلدين له والمنتحلين مذهبه والذابين عنه وعلى السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد الذي رجع إلى مذهبه وانتحله وتولى القضاء له وحكم به بعد أن كان في أول نشأته مالكيا
(3/208)
 
 
في الأحكام الكلية للتراجيح
تعريف الترجيح
...
قال "الباب الثاني في الأحكام الكلية للتراجيح الترجيح تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى ليعمل بها كما رجحت الصحابة خبر عائشة على قوله عليه السلام إنما الماء من الماء"
"ش" الأحكام الكلية للتراجيح هي الأمور العامة لأنواعها التي لا تخص فردا منها والباب مشتمل على مقدمة معرفة لماهية الترجيح وأربع مسائل وقد عرف الترجيح بأنه تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى ليعمل بها أي بالإمارة التي قويت وهو مأخوذ من الإمام إلا أن الإمام أبدل الإمارتين بالطريقين
(3/208)
 
 
وما فعله المصنف أصرح بالمقصود إذ يمتنع الترجيح في غير الإمارتين والإمام قال ليعلم الأقوى فيعمل به وحذف المصنف لفظة العلم وهو حسن إذ يكتفي في الظن بالترجيح ولقائل أن يقول جعلتم الترجيح عبارة عن التقوية التي هي مستندة إلى الشارع أو المجتهد حقيقة أو إلى ما به الترجيح مجازا وهو غير ملائم بحسب الاصطلاح وهو في الاصطلاح عبارة عن نفس ما به الترجيح فلا يجوز أن يجعل عبارة عن التقوية ذكره الهندي
وقد اتفق الأكثرون على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف ولا يرجح أحد الظنين وإن تفاوتا وهو قول مردود قال إمام الحرمين في البرهان وقد حكاه القاضي عن البصري وهو الملقب ببعل قال ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها واستدل المصنف على وجوب تقديم الراجح بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وذلك في وقائع كثيرة منها أنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين حيث قالت:"فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا1" على خبر أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الماء من الماء2" أخرجه مسلم وتقدم في كتاب السنة حديث عائشة
وأن الترمذي قال حسن صحيح والوقائع في هذا كثيرة وعليه درج السابقون قبل اختلاف الآراء وقد تعلق الخصم على نفي الترجيح بالبينات في الحكومات فإنه لا ترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهو مردود فإن مالكا رحمه الله يرى ترجيح البينة على البينة ومن لا يرى ذلك يقول البينة مستندة إلى توقيعات تعبدية ولذلك لا تقبل بغير لفظ الشهادة حتى لو أتى العدد الكثير بلفظ الأخيار لم يقل ولو شهد ألف امرأة وعبد على إباقه بقل لردوا
__________
1 رواه الترمذي كتاب الطهارة باب: وجوب الغسل وابن ماجة كما رواه بلفظ: "إذغ جلس بين شعبها الأربع وجاوز الختل الختان فقد وجب الغسل"
2 رواه مسلم – كتاب الطهارة 1/269
(3/209)
 
 
قال "مسألة لا ترجيح في القطعيات إذ لا تعارض بينهما وإلا ارتفع النقيضان أو اجتمعا"
"ش" قدمنا أن الترجيح مختص بالدلائل الظنية ولا جريان له في الدلائل اليقينية عقلية كانت أو نقلية والحجة على ذلك أن الترجيح فرع وقوع التعارض وهو غير متصور فيها لأنه لو وقع لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وذلك لأن الدليل القطعي ما يفيد العلم اليقيني فلو تعارض قطعيا لم يكن إثبات مقتضى أحدهما دون الآخر للزوم التحكم فإن الرأي السديد والقول الذي عليه المحققون أن العلم لا يتفاوت وليس بعضها أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد استغناء عن التأمل بل بعضها لا يحتاج فيه إلى تأمل كالبديهيات لكنه بعد الحصول تحقق يعني لا تفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم فتعين إما رفع مقتضاهما أو إثباته وهو جمع بين النقيضين أو رفع لهما
ولقائل أن يقول هذا دليل على منع التعارض بين القاطعين في نفس الأمر أو على منع التعارض بين القاطعين في الأذهان إن كان على الأول فهو منقوض ولكن لا كلام فيه وأنى يتصور جريان الترجيح في المتعادلين في نفس الأمر ولو جرى لم يكن المتعادلان متعادلين هذا خلف وإن كان على الثاني فممنوع لأنه قد يتعارض عند المجتهد شيئان يعتقد أنهما دليلان يقينيان ويعجز عن القدح في أحدهما وإن كان بطلان أحدهما في نفس الأمر وإن كان كذلك فنحن نقول يجوز تطرق الترجيح إليها بناء على هذا التعارض بالنظر في أحوال المقدمات وأحوال التركيب ويرجح بقلة المقامات والتراكيب وهذا طريق يقبله العقل ولا يدفعه ما ذكرتم
(3/210)
 
 
تعارض الدليلين
...
قال مسألة إذا تعارض دليلان
فالعمل بهما من وجه أولى بأن يتبعض الحكم فيثبت البعض أو يتعدد فيثبت بعضها أو يعم فيوزع كقوله عليه السلام ألا أخبركم بخبر الشهود فقيل نعم فقال أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد وقوله ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فيحمل الأول على حق الله تعالى والثاني على حقنا ش إنما يرجح أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن
(3/210)
 
 
العمل بكل واحد منهما فإن أمكن ولو من وجه دون وجه فلا يصار إلى الترجيح بل يصار إلى ذلك لأنه أولى من العمل باحدهما دون الآخر إذ فيه أعمال الدليلين والأعمال أولى من الإهمال ثم العمل بكل واحد منهما يكون على ثلاثة أنواع
أحدها أن يتبعض حكم كل واحد من الدليلين بأن يكون قابلا للتبعيض فيبعض بأن يثبت بعضه دون بعض وعبر الإمام عن هذا النوع بالاشتراك والتوزيع ومن أمثلته دار بين اثنين تداعياها وهي في يدهما فإنها تقسم بينهما نصفين لأن ثبوت المالك قابل للتبعيض فيتبعض ومنها إذ تعارضت البينتان في الملك على قول القسمة
الثاني أن يتعدد حكم كل واحد من الدليلين أي يقتضي كل واحد من الدليلين أحكاما متعددة فيحمل واحد منهما على بعض تلك الأحكام ومثاله ما روي أن إعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال1 فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال نعم قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله" قال نعم قال: "فأذن في الناس يا بلال فليصوموا غدا" فهذا الخبر يقتضي ثبوت رمضان بشهادة الواحد ويترتب عليه وجوب الصوم وحلول الدين المؤجل ووقوع الطلاق والعتاق المعلقين به وهو معارض للقياس فإنه يقتضي عدم ثبوته بقول الواحد كما في سائر الشهور ويترتب على عدم ثبوته عدم ترتب شيء مما ذكرناه فيحمل الأول على وجوب الصوم والقياس على عدم حلول الأجل والطلاق والعتاق وهذا قد صرح به القاضي الحسين والبغوي لكن قال الرافعي لو قال قائل هلا يثبت ذلك ضمنا كما سبق نظيره لا حرج إلى الفرق والذي سبق أنا إذا قلنا بالقول الصحيح وضمنا بقول الواحد لم ير الهلال بعد ثلاثين أفطرنا على أحد الوجهين وإن كنا لا نفطر بقول واحد ابتداء ولا يثبت به هلال شوال على المذهب الصحيح وذلك لأنه يجوز أن يثبت الشيء ضمنا بما لا يثبت به أصلا ومقصودا ألا ترى أن النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضمنا
__________
1 أخرجه البخاري والترمذي من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما "تحفة الأحوذي 3/372
(3/211)
 
 
للولادة إذا شهدن عليها وفرق ابن الرافعة1 بأن النسب والميراث وكذا الإفطار عقيب الثلاثين لازم للمشهود فلا يعقل ولادة منفكة عن النسب والميراث ولا صوم ثلاثين يوما بوصف كونها منفكة عن الفطر بعدها والدين والطلاق والعتاق ليس يلزم استهلاك الشهر ويعقل انفكاكه عنه قال وقد أشار إلى مثله ابن الصباغ
الثالث أن يكون كل واحد من الدليلين عاما أي مثبت الحكم في موارد متعددة فتوزع ويحمل كل واحد منهما على بعض أفراده ومثاله ما روي عن زيد ابن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخبر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها2" رواه مسلم وهذا لفظه وهو معنى اللفظ الذي أورده المصنف وروى المصنف من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشوا الكذب فيشهد الرجل قبل أن يستشهد3" وهذا اللفظ لا أعرفه ولكن في الصحيحين عن عمران ابن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم إن من بعدهم قوما ما يشهدون ولا يستشهدون4" الحديث فيحمل الأول على حقوق الله تعالى والثاني على حقوق العباد ومن أمثلته أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له5" مع ما روي
__________
1 هو أحمد بن علي الأنصاري فقيه شافعي من فضلاء مصر سئل الإمام ابن تيمية فقال "رأيت شيخا يتقاطر فقه الشافعية من لحيته" من مؤلفاته "الكفاية في شرح التنبيه" "بذل النصائح الشرعية في ما علي السلطان وولادة الأمور وسائر الرعية توفي سنة 710هـ
2 أخرجه مسلم:كتاب الأقضية 3/1344 من حديث زيد بن خالد الجهني
3 أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر
4 صحيح البخاري – كتاب الشهادات 3/224 عن ابن مسعود وعمران بن الحصين – ومسلم 4/1964عن أبي هريرة وعمران بن حصين رواه الترمذي – كتاب الفتن 4/465 عن ابن عمر وفي الشهادات 4/549
5 رواه الترمذي 3/108 وأبو داود 2/422 والنسائي 4/196 وابن ماجة 1/542 والدارقطني 2/173 والبيهقي في السنن الكبري 4/213
(3/212)
 
 
أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: "هل من غداء" فإن قالوا لا قال: "إني صائم" ويروى: "أني إذن اصوم1" فيقتصر على الأول وإن كان عاما في كل صوم على صوم الفرض ويحمل الثاني على صوم النفل ومنها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ2} مع قوله في آية أخرى
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ3} فظاهر الأولى وضع السيف فيهم حتى ينفقوا وظاهر الآية الثانية يقتضي جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير فصل وقال عليه السلام: "خذوا من كل حالم دينارا" وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام فيجمع بين الظاهرين ويأخذ الجزية من أهل الكتاب بآية الجزية ويضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا يشبه كتاب الظاهر الآية الواردة في القتل وأعلم أن بعض الفقهاء زعم أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحد من الدليلين ورأى هذا الجمع مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دليل قال إمام الحرمين وهذا مردود عند الأصوليين بل لا بد من دليل خارج على ذلك وأما أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني والثاني في تخصيص الأول فهذا ما لا سبيل إليه
__________
1 رواه البخاري فضائل أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ومسلم 3/1379 والنسائي 7/132 من حديث أبي هريرة وابن عمر- رضي الله عنهما
2 سورة التوبة آية 5
3 سورة التوبة آية 29
(3/213)
 
 
تعارض النصين
...
قال "مسألة إذا تعارض نصان وتساويا في القوة والعموم وعلم المتأخر فهو ناسخ وإن جهل فالتساقط أو الترجيح"
"ش" النصان المتعارضان على ضربين
الأول أن يكونا متساويين في القوة باشتراكهما في العلم أو الظن وفي العموم بأن يصدق كل منهما على ما يصدق عليه الآخر وله ثلاثة أحوال
أولها أن يتأخر ورود أحدهما عن الآخر ويكون معروفا بعينه فينسخ
(3/213)
 
 
المتأخر المتقدم سواء كانا معلومين أو مظنونين آيتين أم خبرين أم أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس وأما من يمنعه فيمتنع عنده النسخ في هذا القسم الآخير وهذا إذا كان حكم المتقدم قابلا للنسخ أما إذا لم يقبل النسخ ولم يذكره في الكتاب كصفات الله تعالى فإن كانا معلومين قال الإمام فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر واعترض عليها النقشواني بأن المدلول إن لم يقبل النسخ يمتنع العمل بالمتأخر فلا يعارض المتقدم بل يجب أعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر وإن كانا مظنونين طلب الترجيح ولو كان الدليلين خاصين فحكمهما حكم المتساويين في القوة والعموم من غير فرق ولم يذكر المصنف ذلك
وثانيها: أن يجهل المتأخر منهما فإن كانا معلومين فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما لأنه يجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر وإن كانا مظنونين بعين الترجيح وإلى هذا أشار المصنف بقوله وإن جهل فالتساقط أي فيما إذا كانا معلومين أو الترجيح أي فيما إذا كانا مظنونين
وثالثها: أن يعلم مقارنتهما ولم يذكره في الكتاب فإن كانا معلومين فقد قال الإمام أن أمكن التخيير بينهما تعين القول به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن العلوم لا تقبل الترجيح قال قال ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم نحو كون أحدهما حاضرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية هو غير جائز انتهى ولم يذكر حكم القسم الآخر وهو عدم إمكان التخيير بينهما وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا في القوة قال الإمام فالتخيير
قال "وإن كان أحدهما قطعيا أو أخص مطلقا عمل به وإن تخصص بوجه طلب الترجيح"
"ش" الضرب الثاني أن لا يتساويا في القوة والعموم جميعا فأما
(3/214)
 
 
يتساويا في العموم ولم يتساويا في القوة أو عكسه أو لم يحصل بينهما تساو لا في العموم ولا في القوة فهذه أحوال ثلاثة
أولها: التساوي في العموم والخصوص مع عدم التساوي في القوة بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر فيعمل بالقطعي سواء أعلم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم وسواء تقدم القطعي أم الظني وهذا الإطلاق يشمل ما إذا كان المقطوع عاما والمظنون خاصا والصحيح أن المظنون يخصص المقطوع كما سبق في التخصيص
وثانيهما: أن يتساويا في القوة مع التساوي في العموم والخصوص بأن يكونا قطعيين أو ظنيين أو يكونا عامين لكن أحدهما أعم من الآخر إما مطلقا أو من وجه أو يكون خاصين فإن كانا عامين أو كان أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالأخص سوء كانا قطعين من وجه السند أم ظنيين علم تقدم أحدهما عملي الآخر أم لم يعلم المهم إلا أن يعلم تقدم الأعم وورود الأخص بعد العمل به فإن الأخص حينئذ يكون تاركا له فيما تناوله الأخص لا تخصصا لامتناع تأخير البيان عن وقت العمل وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ1} مع قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ2} فيصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أم ظنيين لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا والآخر إباحة وأن يكون أحدهما شرعيا والآخر عقليا أو مثبتا والآخر نافيا ونحو ذلك وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد
وثالثهما: أن لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة فإن اختلفا في كل واحد من هذين بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا وهما عامان ولكن أحدهما أعم من الآخر مطلقا أو من وجه أو خاصان فإن كانا عامين أو أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالقطعي إلا إذا كان القطعي هو
__________
1 سورة النساء آية 23
2 سورة المؤمنون آية 6
(3/215)
 
 
الأعم فإنه يخص بالظني عند الأكثرين وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه صير إلى الترجيح فإنه قد يترجح الظني بما يتضمنه الحكم من كونه حظرا أو نفيا أو غير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال وأما إن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا
(3/216)
 
 
قال "مسألة قد يرجح بكثرة الأدلة لأن الظنيين أقوى قيل يقدم الخبر على الأقيسة قلنا إن اتحد أصلها فمتحدة وإلا فممنوع "
"ش" ذهب الشافعي ومالك إلى أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة والخلاف مع الحنفية واستدل المصنف بأن كل واحد من الدليلين يفيد ظنا مغاير الظن المستفاد من صاحبه والظنان أقوى من الظن الواحد فيعمل بالأقوى لكونه أقرب إلى القطع كما رجحنا الكتاب على السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس فإن قلت الفرق بين الترجيح بكثرة الأدلة والترجيح بالقوة والوصف الذي يعود إليه أن الزيادة حصلت مع المزيد عليه في محل واحد بخلاف الترجيح بقوة الأدلة قلت هذا ضعيف لأنه لا أثر لذلك
واحتج الخصم بأن كثرة الأدلة لو كانت سببا للرجحان لكانت الأقيسة المتعددة مقدمة على خبر الواحد إذا عارضها وليس الأمر كذلك وأجاب بأن أصل تلك الأقيسة إن كان متحدا وهذا كما قيل في معارضة ما روى من قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد1" السمك الميت حرام قياسا على الغنم الميتة وعلى الطائر الميت والبقر والإبل والخيل بجامع الموت في كل ذلك فتلك الأقيسة حينئذ تكون أيضا متحدة واحدا وتكون قياسا واحدا لا أقيسة متعددة لوحدة الجامع فإنها لا تتغاير إلا أن يعلل حكم الأصل في قياس منها بعلة أخرى وتعليل الحكم بعلتين مختلفتين ممنوع على ما سلف فيكون الحق من تلك الأقيسة واحدا وإذا قدمنا عليها الخبر لم يكن قد قدمناه إلا على دليل واحد وإن لم يكن أصلها متحدا بل متعددا فلا نسلم تقديم خبر الواحد عليها
__________
1 حديث صحيح أخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي في السنن من حديث ابن عمر "الجامع الصغير 1/13"
(3/216)
 
 
كذا أجاب المصنف تبعا للإمام والحق ان خبر الواحد مقدم على الأقيسة وإن تعددت أصولها ما لم تصل إلى القطع ولا يفرض اللبيب صورة تحصل فيها من الأقيسة ظن يفوق الظن الحاصل فيها من خبر الواحد ونقول هلا رجحت أرجح الظنين لأنه لا تجد ذلك إلا والقياس جلي مقدم دون ريب ولا خصوصية إذ ذاك لتعدد الأقيسة بل لقوة الظن
وقد ذكر الإمام أن من صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة ولكن وافق في هذا الفرع بين المخالفين في المسألة ولا شك أن الخلاف فيه أضعف وقد نقله إمام الحرمين عن بعض المعتزلة وقال الذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ثم نقل أن القاضي قال ما أرى تقديم الخبر بكثرة الرواة قطعيا والوجه فيه أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبرين واستوى رواتهما في العدالة والثقة وزاد أحدهما بعدد الرواة فالعمل به قال وهذا قطعي لأنا نعلم أن الصحابة لما تعارض لهم خبر معين بهذه الصفة لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذه قال وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرة رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية وهذا الذي ذكره القاضي حق ويشبه أن لا يكون محل الخلاف إلا في الصورة التي جعلها ظنية فإنه كما ذكر قد يقال فيها بالنزول عنها والتمسك بالقياس وقد يظن أن الصحابة كانوا يقدمون الخبر الكثير الرواة ويضربون عن القياس فالخلاف في هذه الصورة منتجه وأما في الأولى فلا مساغ له نعم إذا اجتمع مزية الثقة وقوة العدد بأن روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ أحدهم مبلغ راوي الخبر إلا في الثقة والعدالة فهذه صورة أخرى
وقد اعتبر بعض أهل الحديث مزيد العدد وبعضهم مزيد الثقة قال إمام الحرمين والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة فإن الذي يغلب على الظن أن الصديق رضوان الله عليه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين يؤثرون رواية الصديق انتهى وأبلغ قول في ذلك ما ذكره الغزالي من أن الاعتماد في ذلك ما غلب على ظن المجتهد فإن الكثرة وإن قوة الظن فرب عدل أقوى في النفس من عدلين ويختلف
(3/217)
 
 
ذلك باختلاف الأحوال والرواة وأما تقديم خبر الصديق رضوان الله عليه فلأن الظن الحاصل بخبره أقوى من الحاصل بخبر الجمع الكثير وقد لا يتأتى ذلك في غيره ومن صور مسألة الكتاب أيضا إذا انضم إلى أحد الخبرين قياس والذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه تقديم الحديث الذي وافقه القياس لأن الترجيح يجوز بما يوجب تغليب الظن تلويحا مع أن مجرد التلويح لا يستقل دليلا كان اعتضد أحد الخبرين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى وقال القاضي يتساقط الخبران ويرجع إلى القياس والمسلكان مفيضان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي رضي الله عنه يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بموافقة القياس والقاضي يعمل بالقياس ويسقط الخبرين مستدلا بأن الخبر مقدم على القياس ويستحيل تقديم خبر على خبر بما يسقط الخبر وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه إذا وافقه وقال إمام الحرمين القول عندي في ذلك لا يبلغ مبلغ الإفادة ولمن نصر الشافعي أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما يغلب على الظن قلت ويناظر هذا لخلاف الذي ذكره الأصحاب في البيتين إذا تعارضا ومع أحدهما يد فإن الحكم لذات اليد ولكن هل القضاء للداخل باليد أم بالبينة المرجحة باليد اختلفوا فيه وينبني على الخلاف أنه هل يشترط أن يخلف الداخل مع بينته ليقضي له فيه وجهان أو قولان أصحهما لا كما لا يخلف الخارج مع بينته
(3/218)
 
 
في ترجيح الأخبار
طرق ترجيح الأخبار
بحال الراوي
...
قال "الباب الثالث في ترجيح الأخبار وهو على وجوه
الأول: بحال الراوي
فيرجح بكثرة الرواة وقلة الوسائط وفقه الراوي علمه بالعربية وأفضليته وحسن اعتقاده وكونه صاحب الواقعة وجليس المحدثين ومختبرا ثم معدلا بالعمل على روايته وبكثرة المزكين وبحثهم وعلمهم وحفظه وزيادة ضبطه ولو لألفاظه عليه السلام ودوام عقله وشهرة نسبه وعدم التباس اسمه وتآخو إسلامه"
"ش" أعلم أن تعارض الأخبار إنما يقع بالنسبة إلى ظن المجتهد أو بما يحصل من خلل بسبب الرواة وأما التعارض في نفس الأمر بين حديثين صح صدورهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر معاذ الله أن يقع ولأجل ذلك قال الإمام أبو
(3/218)
 
 
بكر بن خزيمة رضي الله عنه لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأت به حتى أولف بينهما إذا عرفت هذا فنقول ترجيح الأخبار على سبعة أوجه
الأول بحسب حال الرواة وذلك باعتبارات أولها بكثرة الرواة وقد مر هذا آنفا مثاله لو قال الحنفي لا يجوز رفع اليدين في الركوع وعند الرفع منه لما روى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الافتتاح ثم لا يعود فيقول راوي ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وروى رفع اليدين كما روى ابن عمر وآيل بن حجر وأبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة وأبو سعد وسهل بن سعد ومحمد ابن مسلمة ورواه أيضا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وابن الزبير وأبو هريرة وجمع بلغ عددهم ثلاثا وأربعين صحابيا وأعلم أنا قد نذكر المثال الواحد للحكم وهو يصلح مثالا لأحكام كثيرة وأنا قد مثلنا لما اشتمل عليه من ضرب من الترجيح وأن عارضه أقوى منه أو ساعده فلا يضرنا ذلك وهنا ليس مستندنا مجرد لكثرة بل والعلل المذكورة فيما رواه القوم مما ليس من غرض الشرح التطويل بذكره
الثاني: بقلة الوسائط وعلو الإسناد لاحتمال الغلط والخطأ فيما قلت وسائطه أقل وما برحت الحفاظ الجهابذة تطلب علو الإسناد وتفتخر به وتركب القفار وتنادي عند الديار في تحصيله ومن أمثلته أن يقول الحنفي الإقامة مثنى كالأذان لما روى عامر الأحول عن مكحول أن أبا محيريز حدثه أن أبا محذورة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان وعلمه الإقامة الحديث وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى فيقول الشافعي بل هو فرادى لما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال مر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة
وهذا الحديث من حديث خالد كما رأيت وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثة وخالد وعامر متعاصران روى عنهما شعبة
(3/219)
 
 
الثالث: بفقه الراوي سواء كانت الرواية بالمعنى أم باللفظ ومنهم من قال إن روي باللفظ فلا يرجح بذلك والحق ما ذكرناه لأن للفقيه مرتبة التميز بين ما يجوز وما لا يجوز فإذا سمع ما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه والطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف الجاهل
وحكى علي بن خشرم قال قال لنا وكيع أي الإسنادين أحب إليكم الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقلنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله فقال يا سبحان الله الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ وسفيان فقيه ومنصور فقيه وإبراهيم فقيه وعلقمة فقيه وحديث يتداوله الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ
الرابع: بعلم الراوي بالعربية لأن العالم بها يمكنه التحفظ عن مواقع الزلل فكان الوثوق بروايته أكبر قال الإمام ويمكن أن يقال هو مرجوح لأن العالم بها يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ والجاهل بها يكون خائفا فيبالغ في الحفظ
الخامس: الأفضلية لأن الوثوق بقول الأعلم أتم فيقدم رواية الخلفاء الأربعة في رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه على رواية ابن مسعود
السادس: حسن اعتقاد الراوي رواية غير المبتدع أولى من رواية المبتدع ولقائل أن يقول إذا كانت بدعته بذهابه إلى أن الكذب كفر أو كبيرة لأن ظن صدقه أغلب ولكن الذي جزم به الأكثرون ما قلناه ومثاله إذا قيل صوم الدهر سنة كما اختاره الغزالي لما روى إبراهيم بن أبي يحيى بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله" فيجب من يقول بأنه مكروه كصاحب التهذيب وغيره بأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو: "لا صام من صام الدهر صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر1" وبأنه روي أنه عليه السلام:"نهى عن صيام الدهر2" والحديث الذي أورده الخصم
__________
1 حديث صحيح أخرجه البخاري 3/87
2 عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لاصام من صام الأبد" رواه البخاري ومسلم =
(3/220)
 
 
لا يعارض هذين الحديثين لأن إبراهيم بن يحيى وإن سلمنا أنه ثقة كما قاله الشافعي وابن الأصبهاني وابن عقده وابن عدي إلا أنه كان مبتدعا قال البخاري كان يرى القدر وكان جهميا
السابع: كون الراوي صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة وبهذا رجح الشافعي رضي الله عنه خبر أبي رافع على خبر ابن عباس في تزويج ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم نكحها وهو محرم لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة كذا قيل والحق ان هذا من باب الترجيح بكون أحد الروايتين مباشر لما رواه وهو قسم آخر فصله الآمدي وغيره عن هذا بل مثال هذا قول ميمونة تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان فتقدم على رواية ابن عباس وقد خالف في هذا الجرجاني من أصحاب أبي حنيفة
الثامن: بكون الراوي جليس المحدثين أو أكثر مجالسته من الراوي الآخر لأنه أقرب إلى معرفة ما يعتور الرواية ويداخلها من الخلل ويمكن أن يمثل هذا برواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدا وهكذا رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وروى الأسود بن زيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا فحديث عروة القاسم عن خالتهما أولى لمجالستهما لها وسماعهما منها الحديث شفاها داخل الستر
التاسع: بكون الراوي مختبرا فيرجح المعدل بالممارسة والاختبار على من عرفت عدالته بالتزكية أو برواية من لا يروي من غير العدل لأن الخبر أضعف من المعاينة
العاشر: بكون الراوي معدلا بالعمل على روايته أي يكون ثبوت عدالته بعمل من روى عنه فيرجح على الذي يكون رواية معدلا بغير ذلك وقد أتى صاحب الكتاب بقوله ثم معدلا ليفهم أن التعديل بالاختيار مقدم على هذا الضرب
__________
- = وفي رواية للجماعة إلا البخاري وابن ماجة:"قيل يا رسول الله كيف بمن صام الأبد؟ قال: "لا صام ولا أفطر" أو "لم يصم ولم يفطر" "نيل الأوطار 4/242-343"
(3/221)
 
 
فالمراتب ثلاثة التعديل بالاختيار ثم بالعمل ثم بغير ذلك ولقائل أن يقول إن أردتم بغير ذلك صريح القول في التزكية فلا نسلم أن التعديل بالعمل أرجح منها كيف وقد اختل في كونها تعديلا وجزم بهذا الآمدي وغيره وقالوا يرجح صريح المقال في التزكية على العمل بروايته والحكم بشهادته
الحادي عشر: كثرة المزكين للراوي وقد سبق ما يناظره ومن أمثلته حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر مع ما يعارضه من حديث طلق فحديث بسرة رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة ابن الزبير وليس فيهم إلا من هو متفق على عدالته وأما رواة الحديث طلق فقد قل مزكوهم بل اختلف في عدالتهم فالمصبر إلى حديث بسرة أولى
الثاني عشر: كثرة بحث المزكين عن أحوال الناس لزيادة الثقة بقولهم حينئذ
الثالث عشر: كثرة علمهم لأن كثرة العلم تؤدي إلى الصواب
الرابع عشر: حفظ الراوي وقد أطلقه في الكتاب وهو يحمل أمرين كلاهما حق معتبر أحدهما أن يكون قد لفظ الحديث واعتمد الآخر على المكتوب فالحافظ أولى لما لعله يعتور الخط من نقص وتغيير قال الإمام وفيه احتمال قلت وهو احتمال بعيد وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحتج برواية من يعول على كتابته قال أشهب سئل مالك أيؤخذ ممن لا يحفظ وهو ثقة صحيح الأحاديث فقال لا يؤخذ عنه أخاف أن يزاد في كتبه بالليل وعن هشيم من لم يحفظ الحديث فليس هو أولى من أصحاب الحديث يجيء أحدهم بكتاب كأنه سجل مكاتب وثانيهما أن يكون أحدهما أكثر حفظا فإن روايته راجحة على من كان نسيانه أكثر وسيأتي على الأثر مثال هذا في حديثي شعبة وإسماعيل بن عياش قال شبعة أحفظ منه بلا ريب ومن أمثلته أيضا احتجاجا على أن المسح يتأقت بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام وليالهن للمسافر بحديث عاصم عن ذر بن حبيش قال أتيت صفوان بن عسال فسألته عن المسح على الخفين فقال كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا أن لا ننزع اخفافنا ثلاثة أيام إلا من
(3/222)
 
 
جنابة لا من غائط وبول ونوم فإن للخصم في المسألة وهو مالك رحمه الله أن يقول قد تكلم في حفظ عاصم بن أبي النجود قال العقيلي لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال الدارقطني في حفظه شيء فليرجح عليه حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة1"
الخامس عشر: زيادة ضبط الراوي وشدة اعتنائه فليرجح من كان أشد اعتناء به وأكثر اهتماما ولو كان ذلك الضبط لألفاظ الرسول بأن يكون أكثر حرصا على مراعاة كلامه وحروفه لأنه حينئذ يكون أقرب إلى الرواية باللفظ وقد تقدم أنها راجحة على الرواية بالمعنى ومن أمثلته احتجاجا على أن الدم الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء بما رواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح2" فإن عارضه الخصم بما روى إسماعيل ابن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعا من قاء أو رعن فأحدث في صلاته فليذهب فليتوضأ ثم ليبن على صلاته قلنا ليس إسماعيل كشعبة في الضبط كيف لا وشعبة أمير المؤمنين في الحديث وابن عياش خلط على المدنيين
السادس عشر: بدوام عقل الراوي فيرجح رواية دائم العقل على من اختلط آونة من عمره ولم يعرف أنه روى الخبر حالة سلامة العقل أو حال اختلاطه
السابع عشر: شهرة الراوي بالعدالة والثقة فيرجح رواية المشهور على الخامل لأن الدين كما يمنع من الكذب كذلك الشهرة والمنصب ومن أمثلته في
__________
1عن صفوان بن عسال قال: أمرنا – يعني النبي صلي الله عليه وسلم:"أن نمسح علي الخفين إذا نحن أدخلناهما علي طهر – ثلاثا إذا سافرنا – ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولانوم ولانخلعهما إلا من جنابة" رواه الالإمام أحمد وابن خزيمة وقال الخطابي: هو صحيح الإسناد
نيل الأوطار 1/239
2 حديث ضعيف أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة – رضي الله عنه
الجامع الصصغير 2/204
(3/223)
 
 
مسألة القهقة من أحاديثنا رواية شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" فلا يعارضه الخصم برواية بقية عن محمد الخزاعي عن الحسن بن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ضحك: "أعد وضؤك1" فإن محمد الخزاعي ليس مشهورا بل هو من مجهولي مشايخ بقية والخصم وإن احتج به على قاعدته في العمل بخبر المجهول لكنه غير مشهور وابن شعبة من الأئمة المشهورين العظماء
الثامن عشر: بشهرة نسبه فإن من ليس بمشهور النسب قد يشاركه ضعيف في الاسم
التاسع عشر: بعد التباس اسمه فيرجح رواية من لا يلتبس اسمه باسم غيره على رواية من يلتبس اسمه باسم غيره من الضعفاء ومن أمثلته أنه لو وقع إسنادان متعارضان في أحدهما محمد بن جرير الطبري أبو جعفر الإمام المشهور وفي الآخر ثقة مثله في العلم والعدالة وصفات الترجيح لقلنا الإسناد الذي فيه محمد بن جرير مرجوع لالتباس اسمه بمحمد بن جرير بن رستم بن جعفر الطبري وكذلك وقع الغلط لبعض الأئمة فنقل على ابن حجر الإمام أنه قال بوجوب المسح على الرجلين بدل غسلهما وإنما القائل بذلك ابن جرير هذا وهو رافضي وكذلك الليث بن سعد الإمام المشهور مع الليث بن سعد النصيبي أحد الضعفاء
العشرون: بتأخر إسلامه فيرجح رواية من تأخر إسلامه على رواية من تقدم إسلامه لأن تأخر الإسلام دليل على روايته أخيرا هكذا نطق به المصنف وصرح به الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وهو حق مستقبل وجزم الآمدي بعكسه معتلا بعراقة المتقدم في الإسلام ومعرفته وليس بشيء وقال الإمام الأولى أن يفصل ويقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر فأما إذا مات المتقدم قبل إسلام المتأخر
__________
1 أخرجه الطبراني وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي – طرحه ابن معين كما أخرجه الدارقطني وفيه متروك
أنظر نصب الراية للزيلعي ج 1ص 48
(3/224)
 
 
وعلمنا أن أكثر رواه المتقدم على رواة المتأخر منها هنا نحكم بالرجحان لأن النادر يلحق بالغالب ولقائل أن يقول قولكم لا يمنع أن تكون روايته متأخرة فيما إذا لم يمت قبله مسلما ولكن هي مشكوكة ورواية متأخر الإسلام مظنونة التأخر فليرجح على المشكوكة فيها ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمثلة الفصل قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم إسلامه وأبو هريرة من رواة أحاديثنا وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ متطرقا إلى ما رواه قيس
(3/225)
 
 
قال الثاني: بوقت الرواية
فيرجح الراوي في البلوغ على الراوي في الصبا وفي البلوغ والمتحمل وقت البلوغ على المتحمل في الصبا وفيه أيضا
"ش" الخبر الذي لم يرو به شيئا من الأحاديث إلا بلوغه راجح على خير من لم يروها إلا في صباه لأن البالغ أقرب إلى الضبط ويرجح أيضا على خبر من روى البعض في صباه والبعض في بلوغه لاحتمال أن يكون من مروياته في الصغر قوله والمحتمل أن يرجح الخبر الذي لم يتحمل رواية الأحاديث إلا في زمن بلوغه على من لم يتحمل إلا في زمن صباه قوله أو فيه أيضا أي ويرجح هذا أيضا على من يتحمل البعض في صباه والبعض في بلوغه لاحتمال أن يكون هذا الخبر من الأحاديث المحتملة في الصغر ولهذا قدم ابن عمر روايته في الإفراد في الحج على رواية أنس وقال إنه كان صغيرا وكنت أدخل على النساء وهن مكتشفات وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها هكذا ينبغي تقرير ما في الكتاب فلا يعدل عنه وبه يتبين لك أن الكلام هنا في بحثين أحدهما بوقت الرواية في زمن الصبي والثاني بوقت التحمل
(3/225)
 
 
قال الثالث: بكيفية الرواية
فيرجح المتفق على رفعه والمحكي بسبب نزوله وبلفظه وما لم ينكره راوي الأصل ش الترجيح بكيفية الرواية أقسام أولها ترجيح الحديث المتفق على كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم على المختلف في كونه موقوفا ومن أمثلته أن عبادة ابن الصامت روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم
(3/225)
 
 
يقرأ بفاتحة1" الكتاب وهو مدون في الصحاح متفق على رفعه دال على المأموم يقرأ خلف الإمام فإن احتج الخصم بما روى يحيى بن سلام قال ثنا مالك ابن أنس ثنا وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج إلا أن تكون وراء الإمام2" قلنا لم يرفعه عن مالك غير يحيى بن سلام وهو في الموطأ موقوف وقد قيل وهم يحيى بن سلام عن مالك في رفعه ولم يتابع عليه ويحيى كثير الوهم وثانيها يرجح الخبر الذي حكاه الراوي بسبب نزوله لزيادة الاهتمام من حاكى سبب النزول بمعرفة ذلك الحكم وثالثا الخبر المؤدى بلفظ مرجح على المروى بمعناه أو المشكوك في كونه مرويا باللفظ أو المعنى وينبغي أن يرجح المشكوك منه على ما علم أنه مروي بالمعنى ولم أظفر بحديثين متعارضين أحدهما مروي باللفظ والآخر بالمعنى فأمثل به ورابعها إذا أنكر الأص