عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
مقدمة المؤلفبسم الله الرحمن الرحيموصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم قال الشيخ الإمام العالم العلامة القدوة المحقق الحافظ شيخ الإسلام بقية العلماء الأعلام قدوة الأئمة آآخر المجتهدين حجة الله على العالمين سيدنا ومولانا قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن علي بن تمام بن سوار بن سوار بن مسوار الأنصاري الخزرجي الشافعي نضر الله وجهه قاضي القضاة بالشام المحروس.قال رحمه الله تعالى الحمد لله الذي أسس بنيان دينه على أثبت قواعد وأعلى أعلام ملته فخضعت لها أعناق كل جاحد وأحكم أصول شريعته فأعيا تفريعها كل معاند ورفع قدر علمائها فعد كل واحد منهم بألف كما عد ألف من غيرهم بواحد أحمده على نعمه التي عمت كل صادر ووارد واعترف بالعجز عن شكره ولا يبلغ معشار عشره حمد كل حامد وأستغفره استغفار عبد في بحر الذنوب راكد لا يجد ملجأ من الله إلا إليه قد أحاطت به الشدائد وقعد له عدوه بالمراصد وسولت له نفسه بالمكايد وغلب عليه هواه الفاسد ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وأنك أنت الإله الواحد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدا أنا له في صميم القلب واجد وعليه في الدنيا والآخرة شاهد وأصفه بما وصف به نفسه من صفات الكمال والمحامد وأنزهه عن كل ما لا يليق بحاله وأقدس له عن وضر التشبيه والتعطيل ما تكنه القلوب من العقائد وأستودعه ذلك ليوم لا يجزى فيه ولد ولا والد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قدره على جميع الخلائق صاعد وشرفه بين البرية ناهد المصطفى من خير القبائل الأماجد والمجتبى من خير البطون الأقارب والأباعد المبرأ في نسبه(1/3)وذاته عن كل شين يتعلق به حاسد المقدم على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين في جميع المشاهد والمبعوث إلى كل إنسي وجني والمنقذ لهم من ربقة الشيطان المارد الهادي إلى سبيل الرشاد ولولاه لم يكن أحد منا براشد.صلى الله عليه وسلم ما سجد لله ساجد ودام في الجنان خالد ورضي الله على أصحابه الذين كل منهم في الله جاهد مجاهد وحامي حوزة الدين من كل مارق في الدين مجالد الذين قاموا بجلالة نبيه في جميع المعاهد وشيدوا أركان دينه وحفظوا شرائعه في جميع المصادر والموارد وقاموا بأعباء الملة الحنيفية وذبوا عنها كل زائد وحموا حماها عن الشبهات ووقفوا عند حدودها تحصيلا للمصالح ودرأ للمفاسد رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع علماء المسلمين الذين خلفوا الصحابة والتابعين في تمهيد القواعد واستخراج الفوائد وضبط الأصول الشوارد وتبيين الأدلة والمقاصد والتوسع في علوم القرآن التي يتيه في بحارها كل عالم ناقد ومعرفة السنة ولا يخطئ بعضها إلا من هو أسهد الليل مكايد.وقد تجرد لذلك في المائة الثانية جماعة من العلماء ما منهم إلا من جاهد وجاهد وكد ودأب ونصب واجتهد والله لسعيه شاهد وكان من أعظمهم منة على من بعده من طلاب الفوائد الإمام الشافعي رضي الله عنه فإن له أجمل العوائد لجمعه بين الحديث والفقه وكان غيره يقتصر منهما على واحد ولبناية كلامه على أصول هو أول من صنفها لما سأله ابن مهدي فصنف له الرسالة وكم فيها من الفوائد فهو أول من صنف في أصول الفقه لا يمتري في ذلك إلا معاند1.__________1 من المسلم به أن أصول الفقه باعتباره قواعد ونظريات وكيفية استنباط الأحكام من الأدلة بوجه عام، نشأ في عصر الصحابة –رضي الله عنهم- حيث كان مصاحباً للفقه، فإن من الصحابة من كان يتصدر للفتيا والقضاء بين الناس، كعمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب وغيرهم، وكانوا على دراية تامة بقواعد اللغة العربية، التي نزل بها القرآن الكريم، وبأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، وسائر المباحث التي تكفل ببيانها علم "أصول الفقه" فيما بعد. وهكذا كان لكل إمام من الأئمة المجتهدين قواعده وأصوله التي يسير عليها في اجتهاده، إلا أنه كان هناك خلاف حاد بين اتجاه أهل الحديث بالحجاز، وأهل الرأي=(1/4).................................................................................__________=بالعراق، حتى أخذ كل فريق في الطعن على طريقة الفريق الآخر، فأهل الرأي يعيبون على أهل الحديث الإكثار من الرواية التي تدل على عدم الفهم والتدبر، كما أن أهل الحديث يعيبون على أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن ويحكمون العقل في الدين.وظهر المتعصبون لكلا الفريقين، فاتسع الخلاف واحتدم النزاع، حتى قيض الله لهذا الأمة من أخذ بيدها إلى الطريق السوي، ويبين القواعد القوانين التي يحتكم إليها الجميع، وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه –بعد أن كتب له الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة 198هـ. وهو أحد أئمة الحديث في الحجاز، أرسل إلى الإمام الشافعي أن يضع له كتاباً يبين فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب "الرسالة".= قال علي بن المديني: قلت لمحمد بن إدريس: أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك وهو متشوق إلى جوابك، قال: فأجابه الشافعي. وأرسل الكتاب إلى الإمام ابن مهدي مع الحارث بن سريج النقال الخوارزمي، ثم البغدادي وبسبب ذلك سمي النقال.وعلى ذلك يتبين عدم صحة ما ينقله بعض العلماء من أن هناك من سبق الإمام الشافعي في التأليف في علم الأصول، كالإمام محمد الباقر بن علي زين العابدين، المتوفى سنة 114هـ. وكالإمامين أبي يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم. فإن هذا من قبيل القواعد والمناهج التي كان يسير عليها الأئمة، والتي سبق أن أشرنا إليها، وأنها كانت موجودة حتى في عصر الصحابة رضي الله عنهم.فالتحقيق أن أول من ألف في ذلك كتاباً مستقلا متكاملاً هو الإمام الشافعي رضي الله عنه، كما قال الإمام السبكي وكما هو المتفق عليه بين الأئمة.راجع: الخطيب البغدادي 2/64-65، معجم الأدباء 6/788، ورسالة الإمام الشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر من 907،625،573،418،96، مناقب الإمام الشافعي للرازي ص21. الفهرست لابن النديم ص286، الشيعة وفنون الإسلام ص565، عقيدة أهل السنة في الإمام الصادق ص292، الشافعي للشيخ أبي زهرة ص179، أصول الفقه –نشأته وتطوره- للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص23-35.(1/5)فائدة علم الأصولوإن علم أصول الفقه وهو من أعظم العلوم ثلاثة أصناف عقلية محضة كالحساب والهندسة والنجوم والطب ولغوية كعلم اللغة والنحو والتصريف والعروض والقوافي والبيان وهي علوم القرآن والسنة وتوابعهما.ولا ريب في أن الشريعة أشرف الأصناف الثلاثة في الوسائل والمقاصد وأشرف العلوم الشرعية بعد الاعتقاد الصحيح وأنفعها معرفة الأحكام التي(1/5)تجب للمعبود على العابد ومعرفة ذلك بالتقليد ونقل الفروع المجردة تستفرغ جمام الذهن ولا ينشرح الصدر له لعدم أخذه بالدليل وأين سامع الخبر من المشاهد وأين أجر من يأتي بالعبادة لفتوى إمامه أنها واجبة أو سنة من الذي يأتي بها وقد ثلج صدره عن الله ورسوله بأن ذلك دينه تالله إن أجر هذا لزائد وهذا لا يحصل إلا بالاجتهاد ولا يكمل فيه إلا الواحد بعد الواحد وكل العلماء في حضيض عنه إلا من نغلغل بأصل الفقه وكرع من مناهله الصافية بكل الموارد وسبح في بحره ودرى من الإله وبات يعل به وطرفه ساهد وإني لم أزل منذ نشأت محبا في هذا العلم مولعا بالبحث فيه مع كل زائد.وقد أكثر الناس من التصنيف فيه فكم من تصنيف فيه مبسوط ومختصر وناقص وزائد ومن أحسن مختصراته كتاب المنهاج في الوصول إلى العلم الأصول الذي صنفه القاضي الفاضل ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي رحمه الله فلقد أحسن فيه المعاقد وقد قرئ على مرات كثيرة من جماعات حتى سمحت أقرأه من كثرة الموارد وانتشرت طلبته فلم أقتنع من واحد وفي هذا الوقت شرع في الاشتغال به ولدي أبو حامد1 أعطاه الله من خير الدنيا والآخرة ما هو قاصد وزاده مما ليس في حسابه كل خير إنه الكريم الماجد فأحببت أن أضع له شرحا لينتفع هو وغيره به إن شاء الله.وعسى دعوة من أخ في الله تنفعني وأنا في القبر راقد وسميته الإبهاج في شرح المنهاج وأخذت هذا الاسممن قول ذي الرمة:تزداد للعين إبهاجا إذا سفرت ... ومخرج العبن فيها يلتفتوذلك من قصيدته التي قرأتها على أبي محمد الحسن عبد الكريم سبط زيادة في سنة سبع وسبعمائة عن عيسى بن عبد العزيز بن عيسى قال أخبرنا السلفي قال أخبرنا جعفر السراج قال أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال__________1 هو: بهاء أبو حامد: أحمد بن علي السبكي، كان صاحب يد طولى في علوما للسان العربي، والمعاني. والبيان، وأسند إليه إفتاء دار العدل، وقضاء العسكر، وقضاء الشام، وخطابه جامع ابن طولونز توفي سنة 773هـ.(1/6)قرأت على أبي الحسن علي بن عيسى الرماني قال سمعت ديوان ذي الرمة على أبي بكر دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة واسمه غيلان ابن عقبة العدوي.فإن قلت: قد عظمت أصول الفقه وهل هو إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة نبذة من النحو وهي الكلام في معاني الحروف التي يحتاج إليها الفقيه والكلام في الاستفتاء وما أشبه ذلك ونبذة من علم الكلام وهي الكلام في الحسن والقبيح والكلام في الحكم الشرعي وأقسامه وبعض الكلام في النسخ وأفعاله ونحو ذلك ونبذة من اللغة وهي الكلام في معنى الأمر والنهي وصيغ العموم والمجمل والمبين والمطلق والمقيد وما أشبه ذلك ونبذة من علم الحديث وهي الكلا في الأخبار والعارف بهذه العلوم لا يحتاج إلى أصول الفقه في الإحاطة بها فلم يبق من أصول الفقه إلا الكلام في الإجماع وهو من أصول الدين أيضا وبعض الكلام في القياس والتعارض مما يستقل به الفقيه فصارت فائدة الأصول بالذات قليلة جدا بحيث لو جرد الذي ينفرد به ما كان إلا شيئا يسيرا.قلت: ليس كذلك فإن الإصوليين دققوا في فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون فإن كلام العرب متسع جدا والنظر فيه متشعب فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصول واستقراء زائد على استقراء اللغوي مثاله ودلالة صيغة "أفعل" على الوجوب "ولا تفعل" على التحريم وكون "كل وإخوتها للعموم" يوما أشبه ذلك مما ذكر السائل أنه من اللغة لو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاء في ذلك ولا تعرضا لما ذكره الأصوليون وكذلك كتب النحو لو طلبت معنى الاستثناء وأن الإخراج هل هو قبل الحكم أبو بعد الحكم ونحو ذلك من الدقائق التي تعرض لها الأصوليون وأخذوها باستقراء خاص من كلام العرب وأدلة خاصة لا تقتضيها صناعة النحو فهذا ونحوه مما تكفل به أصول الفقه ولا ينكر أن له استمداد من تلك العلوم ولكن تلك الأشياء التي استمدها(1/7)منها لم تذكر فيه بالذات بل بالعرض والمذكور فيه بالذات ما أشرنا إليه مما لا يوجد إلا فيه ولا يصل إلى فهمها إلى من يلتف به.فإن قلت: قد كانت العلماء في الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من أكابر المجتهدين ولم يكن هذا العلم حتى جاء الشافعي وصنف فيه فكيف تجعله شرطا في الاجتهاد؟قلت: الصحابة ومن بعدهم كانوا عارفين به بطباعهم كما كانوا عارفين النحو بطباعهم قبل مجئ الخليل وسيبويه فكانت ألسنتهم قويمة وأذهانهم مستقيمة وفهمهم لظاهر كلام العرب ودقيقه عتيد لأنهم أهله الذي يؤخذ عنهم وأما بعدهم فقد فسرت الألسن وتغيرت الفهوم فيحتاج إليه كما يحتاج إلى النحو.(1/8)شروط المجتهدواعلم أن كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء:أحدها: التأليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن كالعربية وأصول الفقه وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ بحيث تصير هذه العلوم ملكة الشخص فإذ ذاك يثق بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي هي وتحريره تصحيح الأدلة من فاسدها والذي نشير إليه من العربية وأصول الفقه كانت الصحابة أعلم به منا من غير تعلم وغاية المتعلم منا أن يصل إلى بعض فهمهم وقد يخطئ وقد يصيب.الثاني: الإحاطة بمعظم قواعد الشريعة حتى يعرف أن الدليل الذي ينظر فيه مخالف لها أو موافق.الثالث: أن يكون له منة الممارسة والتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك وما يناسب أن يكون حكما له في ذلك المحل وإن لم يصرح به كما أن من عاشر ملكا ومارس أحواله وخبر أموره إذا سئل عن رأيه في القضية الفلانية يغلب على ظنه ما يقوله فيها وإن لم يصرح له به،(1/8)لكن بمعرفته بأخلاقه وما يناسبها من تلك القضية فإذا وصل الشخص إلى هذه الرتبة وحصل على الأشياء الثلاثة فقد حاز رتبة الكاملين في الاجتهاد ولا يشترط العلم بأحوال الرواة من حيث هو فإن الصحابة كانوا مجتهدين ولم يحتاجوا إلى ذلك وإنما الذين بعدهم يحتاجون إلى ذلك في إيقاع الاجتهاد لا في حصول الصفة لهم وذاك العلم بمواقع الإجماع والاختلاف وكان محل الكلام على هذا في أواخر الكتاب ولكنا تعجلناه هنا1.ومن المعلوم أن الصحابة كانوا أكمل الناس في هذه الأشياء الثلاثة أما الأول فبطباعهم وأما الثاني والثالث فلمشاهدتهم الوحي ومعرفتهم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم.ولما كان الفقه مستندا إلى الكتاب والسنة ويحتاج الفقيه في أخذه منهما إلى قواعد جمعت تلك القواعد في علم وسميته "أصول الفقه" وهي تسمية صحيحة مطابقة لتوقف الفقه عليها وتلك القواعد منها ما لا يعرف إلا من الشرع ومنها ما يعرف من اللغة بزيادة على ما تصدى له النحاة واللغويون فالذي لا يعرف إلا من الشرع إثبات كون الخبر الواحد حجة وكون الإجماع حجة والقياس حجة وكثير من المسائل التي تذكر فيه والذي يعرف من اللغة ما يذكر فيه من دلالات الألفاظ اللغوية وما فيه من علم الكلام ونحوه فاقتضاه انجرار الكلام إليه وتوقف فهم بعض مسائل هذا العلم عليه.وهأنا أبتدئ في شرح هذا الكتاب مستعينا بالله تعالى وذلك في يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وإلى الله أتضرع وأنا أسأل أن ينفع به بمنه وكرمه إنه قريب مجيب.__________1 ما ذكره الشارح هنا هو نبذة سريعة ومجملة عن شروط المجتهد، ولكن البيضاوي عقد للاجتهاد باباً خاصاً في الكتاب السابع من كتاب "المنهاج" ذكر فيه اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم –وموقف العلماء منه، وكذا الصحابة رضي الله عنهم- في حضرته – صلى الله عليه وسلم- أو في غيبته، وشروط الاجتهاد، وحكمه، والأمور التي يجري فيها الاجتهاد وغير ذلك. فليراجع تفصيل ما أجمله الشارح في أواخر الكتاب. وبالله التوفيق.اهـ. محققه.(1/9)شرح ديباجة الكتاب"تقدس من تمجد بالعظمة والجلال" تقدس: أي تطهر ومن أسمائه تعالى التي نطق بها القرآن القدوس وفيه لغتان: ضم القاف وهي أشهر وكان "س"1 يقول بفتحها وأصل الكلمة من القدس بضم الدال وبسكونها وهو الطهارة سمي جبريل روح القدس لطهارته في تبليغ الوحي إلى الرسل عليهم السلام والأرض المقدسة المطهرة وبيت المقدس بيت الطهارة من الذنوب لتطهيره من الكفار بالمسلمين وقال تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} 2 أي نقدسك إن جعلت اللام زائدة أو نقدس أنفسنا لك إن لم ترض زيادتها ومعنى تقديس الله تنزيهه من كل ما لا يليق بكماله سبحانه وتعالى فنزهه عن كل وصف يدركه حس أو يصوره خيال وهم أو يختلج به ضميره وننزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون من الشركاء والأنداد والصحابة والأولاد وعن كل محال نسبه إليه أهل الضلال مما يشير إلى نقص أو يومئ إلى عيب.ولولا ما وقع فيه أهل الكفر والضلال من ذلك لكان الأدب بنا تنزيه عن أن ننطق بنفي ذلك عنه لأن نفي الوجود يكاد يوهم بإمكان الوجود وتطرق العيب والنقص إليه محال لا يخطر بالبال تصوره فضلا عن كونه ينفيه__________1 هكذا في جميع النسخ؛ ويقصد بذلك "سيبويه" وهو: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، الملقب "سيبويه" إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو- ولد في إحدى قرى "شيراز" وقدم البصرة فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" في النحو. لم يصنع قبله ولا بعده مثله. توفي بالأهواز سنة 180هـ راجع: القاموس المحيط- فصل القاف باب السين، وفيات الأعيان 1/385، تاريخ بغداد 12/195، الأعلام للزركلي 5/252.2 آية 30 من سورة البقرة وتمامها: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .(1/10)ويقدره. وقولنا تنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله عبارة محررة من قول من يقول: بأوصاف الكمال فإن أكثر ما يتصور الناس من أوصاف الكمال ما هو كمال لأنفسهم كعلمهم وسمعهم وبصرهم والله تعالى منزه عنها فإن صفاته تعالى لا تشبه صفات البشر وعلمه وسمعه وبصره مباين لسمعهم وبصرهم وعلمهم فتنزيه كثير من الجهال يحتاج إلى تنزيه ومجامع التقديس أن تقدسه عن الشركاء والأضداد والنظير والولد وإحاطة الأبصار والحاجة إلى غيره وغير ذلك مما يستحيل عليه وأكثر الناس يعتقدون أن معنى القدوس الطاهر ولا شك أنه يدل على ذلك ولكنه ليس كل معناه فإن بناء طاهر لازم وقدوس مأخوذ من فعل متعد فمعناه مطهر بكسر الهاء أي أنه تعالى مقدس لنفسه بإخباره عنها التوحيد والإجلال والإكرام واستحالة النقائض عليه وعجز الأوهام عنه وخالق الأدلة على ذلك ومقدس لخلقه عن اعتقادهم فيه ما لا يليق بذاته والأول صفة ذات والثاني والثالث صفتا فعل وعن ابن عباس وقتادة القدس الذي منه البركات.إذا عرفت ذلك فقوله تقدس لا يجوز أن يكون مطاوعا لقدس فإن المطاوع شرطه التأثر مثل كسرته فتكسر وذلك مفقود هنا والتقديس هنا مثل التصديق في أن المراد منه الإخبار عن الصدق فلا يأتي منه مضارع لكن يصح استعمال تقدس لموافقة المجرد وقال الراجز: "الحمد لله العلي القادس" ومن جملة معاني تفعل أن يوافق المجرد وإن لم ينطق بالمجرد ههنا في الفعل وقد قال القرافي في قوله تبارك وتعالى أن معناه تقدس وللمصنف في القرآن أسوة في استعماله تقدس وكذلك السهيلي وهو من المتقنين في العلم وقع في كلامه تقدس سبحانه عن مضاهاة الأجسام وقدوس مثل سبوح كان "س"1 يفتح أولهما والمشهور الضم فيها والتسبيح التنزيه ولم يرد السبوح في القرآن ولا في حديث أبي هريرة ولكن جاء التسبيح واختلف العلماء هل كونه سبوحا قدوسا يرجع إلى معنى خاص يسمى قدسا وسبحة أو وضعه بذلك يرجع إلى نفي محض وتنزيه عن النقائض ومعنى ذلك أنه هل هو صفة ثبوتية أو سلبية.__________1 هكذا بالأصل والمقصود به "سيبويه" كما تقدم. وانظر القاموس فصل السين باب الحاء.(1/11)وقوله: "تمجد" الكلام فيه كالكلام في تقدس وهو مأخوذ من اسم المجيد وقد نطق به القرآن والسنة وأجمعت الأمة عليه والمجد معناه الشرف والعظمة والكثرة والارتفاع سمي تعالى بذلك لكثرة جلاله وشرفه وعلوه بما يخرج عن طوق البشر واختلف العلماء هل هو صفة خاصة كالعلم والقدرة أو هو عبارة عن استجماع صفات المعالي ووجوه نفي النقائص فلا كمال إلا له ولا نقص إلا وهو منزه عنه.وقوله: "بالعظمة والجلال" متعلق بتمجيد واسم العظيم نطق به القرآن والسنة وهو تعالى عظيم في ذاته وصفاته وقهره وسلطانه فكل عظيم بالنسبة إلى عظمته عدم محض واسم الجميل لم يرد في القرآن ولا في حديث أبي هريرة لكن في الحديث: "إن الله جميل يحب الجمال" 1 وورد أيضا في بعض طرق أبي هريرة.ولما كان تعالى كاملا في ذاته وصفاته وأفعاله وصف بالجمال وهو تعالى مقدس عن الصورة وعن الصفات البشرية.ومشاهدة صفة الجمال يثير المحبة ومشاهدة صفة الجلال يثير الهيبة والعظمة تثير الهيبة أيضا فلهذا قرن المصنف العظمة بالجلال لتفيده معنى زائدا على الجلال فالباء يحتمل أن تكون بمعنى في أي تمجد في عظمته وجلاله فارتفع بهما على كل عظيم وجليل ويحتمل أن تكون للسببية على معنى أنه ارتفع بعظمته وجلاله على كل شيء فلا شيء إلا وهو مجد تعالى وهو تعالى مجيد بذاته عظيم بذاته فليس المعنى أن بعض الصفات أثر في بعض وإنما لما كانت هذه الصفات تشير إلى مجموع معان وملاحظة كل منها يوجب العلم بالكمال بها حسن ذلك كله."وتنزه من تفرد بالقدم والكمال" التنزيه بمعنى التسبيح وقد ورد مصرحا__________1 ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال ذرة من كبر". فقال رجل: إنا لرجل يجب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال: "إن الله تعالى جميل يحب الجمال" رواه مسلم.(1/12)به في الحديث أنه كان يصلي من الليل فلا يمر بآية فيها تنزيه لله إلا نزهه وأصل النزهة البعد وتنزيه الله تبعيده عن ما لا يليق به ولا يجوز عليه فمعنى تنزه بعد والتفرد الانفراد يقال تفرد به واستفرد به بمعنى واحد والقدم وجود لا أول له وكل شيء سوى الله وصفاته فهو حادث لوجوده أول وصفاته لا يقال فيها إنه غيره والكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله وكل ما سواه مفتقر إليه والافتقار ينافي الكمال فله حدوثه عن العدم وغير ذلك مما للمخلوق من صفات النقص."عن مشابهة الأشباه والأمثال ومصادمة الحدوث والزوال" هذا متعلق بقوله: "تنزه" وأما تقدس فإما أن يجعل كلاما تاما وإما أن يجعل من باب التنازع ويضمر في تقدس كما ذكره هنا والمشابهة المشاكلة والشبه الشبه والشبيه بمعنى واحد وهو ما يشبه الشيء وبينهما شبه بالتحريك وكل منها يجمع على أشباه والمثل والمثل كالشبه والشبه وهو ما يساوي الشيء ويقوم كل منهما مقام الآخر في حقيقته وما هيته كالأجسام متساوية في الجسمية وإن اختلفت بالألوان والأشكال وغيرها من الأعراض واختلافها بذلك لا يخرجها عن التماثل في الحقيقة هذا حقيقة المثلين وبه تزول شبهات يوردها المجسمة وكثير ممن وقع في التشبيه ظانا أنه سالم منه والمصادمة المماسة والمراد بها ههنا الإلصاق واللحاق والحدوث وجود مسبوق بعدم فهو ضد الأزلية والزوال طريان العدم وهو ضد الأبدية والأولية والأبدية واجبان لله تعالى لأنه يقال واجب لذاته يستحيل عليه العدم لا أولا ولا آخرا."مقدر الأرزاق والآجال ومدبر الكائنات في أزل الآزال" هذا مما لا يجحده مسلم ولا كافر تفرد الرب سبحانه وتعالى به وما فيه من عظيم العلم والقدرة والمنة والأزل المقدم والأزل القديم وأصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا باختصار قالوا يزلي ثم أبدلت الياء ألفا لأنها أخف فقالوا أزلي كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن أذني وقوله الآزال على سبيل المبالغة في اللفظ."عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" الغيب والشهادة قيل السر(1/13)والعلانية وقيل الدنيا والآخرة وقيل ما غاب عن العباد وما شهدوا وقيل الغيب المعدوم والشهادة الموجود والمدرك كأنه مشاهد والكبير الكامل في ذاته وصفاته المتقدم في المنزلة والسبق في المرتبة من كبر بضم الباء والمتعال المستعلي على كل شيء بقدرته كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها."نحمده على فضله المترادف المتوال على ما عمنا من الأنعام والأفضال" الحمد: الثناء بجميل الصفات والأفعال ولا يكون إلا بالقول سواء كان ذلك الجميل في المحمود خاصة به أو كان واصلا منه إلى غيره والثاني شكر والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد فبينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه وبين الحمد والمدح فرق آخر أدعاه السهيلي وهو أن الحمد يشترط فيه أن يكون صادرا عن علم وأن تكون الصفات محمودة صفات كمال ولهذين الشرطين لا يوجد الحمد لغير الله والله هو المستحق الحمد على الإطلاق والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما والإتيان بالنون في هذا الفعل ينبغي أن يقصد به أن جميع الخلائق حامدون وليست للتعظيم والمترادف المتتابع والمتوالي كذلك فينبغي أن يكون مقصوده بالمترادف الذي يأتي بعده في أثر بعض ليسلم من التأكيد ويفيد كثرة الفضل في الزمان الواحد واستمرار ذلك في كل زمان وفضل الله هكذا هو وفي عمنا ضمير مرفوع عائد على الموصول أي عمنا هو ومن الأنعمام والأفضال بيان لذلك في محل رفع وقد قدمنا أن بين الحمد والشكر عموما من وجه وأنهما يتفقان فيما كان منه فيسمى حمدا وشكرا وقد استعمل المصنف هذا الحمد على ما هو منة واستعمل الشكر بالقول فتوافقا في هذا المحل وإن تغايرا في وصفهما والفضل من قوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} 1 ومن قوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} 2 وكان فضل الله عليك عظيما والأفضال الإحسان والتفضل وقد استعمل الفضل على خلاف النقص فيكون الثناء عليه حمدا مباينا للشكر لكنه ليس المراد هنا لقوله المترادف المتوال فإنهما يقتضيان الوصول إلى الغير.__________1 سورة النساء 32.2 سورة النساء 113.(1/14)"ونصلي على محمد الهادي إلى نور الإيمان في ظلمات الكفر والضلال" معنى نصلي هنا نطلب الصلاة من الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل كيف نصلي عليك قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل م محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد" 1 ومعنى نطلب إنشاء الطلب وكذلك نحمد معناه إنشاء الحمد وليس معناه الخبر فعطف إنشاء على إنشاء ووصفه صلى الله عليه وسلم بالهداية لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وبين الهداية والضلال والنور والظلمات والإيمان والكفر ما لا يخفى من الطباق."وعلى آله وصحبه خير صحب وآل" آله صلى الله عليه وسلم: بنو هاشم وبنو المطلب هذا اختيار الشافعي وأصحابه وقيل عترته وأهل بيته وقيل جميع أمته وهو قول مالك والصحيح إضافة الآل إلى مضمر كما استعمله المصنف وقال جماعة من أهل العربية لا يصح إضافته إلا إلى مظهر والصحب جمع صاحب وهو كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما وقيل من طالت مجالسته والصحيح الأول بخلاف التابعي لا يكفي فيه رؤية الصحابي والفرق شرف الصحبة وعظم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن رؤية الصالحين لها أثر عظيم فكيف روية سيد الصالحين فإذا رآه مسلم ولو لحظة انطبع قلبه على الاستقامة لأنه بإسلامه متهيء للقبول فإذا قابل ذلك النور العظيم أشرق عليه وظهر أثره في قلبه وعلى جوارحه.وقوله: خير صحب وآل صحيح لأنه ليس في أصحاب الأنبياء مثل أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ولأجل السجع قدم الصحب على الآل في الثاني وجاء على أحد طريقي العرب وهو رد الأول على الثاني والثاني على الأول ولولا هذا لقال خير آل وصحب فرد الأول للأول والثاني للثاني وهما طريقان للعرب جائزان.__________1 رواه مسلم وأحمد من حديث أبي سعيد البدري.2 سورة الشورى 52.(1/15)"وبعد فأولى ما تهم به الهمم العوالي وتصرف فيه الأيام والليالي تعلم المعالم الدينية والكشف عن حقائق الملة الحنيفية والغوص في تيار بحار مشكلاته والفحص عن أستار أسرار معضلاته"، بعد ضم الدال على الصحيح مقطوع عن الإضافة أي بعد ما سبق من التقديس والتنزيه والحمد والصلاة والعامل فيه فعل مقدر تقديره أقول وهو معطوف بالواو على نحمد ونصلي وبعده فعل آخر مقدر تقديره تنبه هو معمول القول لأجله دخلت الفاء على أولى وفي الفاء فائدة أخرى وهي رفع توهم اضافة بعد إلى أولى.وقوله: تهم بضم الهاء يقال هم بالأمر يهم هما أي أراده فأما بكسر الهاء فهو من الهميم وهو الدبيب والهمم جمع همة وهي الواحدة تقول همة مثل جلسة بالفتح للمرة وبالكسر للهيأة والجمع لها وإسناد الفعل للهمم وهو في الحقيقة لفاعلها من باب قولهم: "شعر شاعر" والمعالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطرق والحدود مثل أعلام الحرم ومعالمه المضروبة عليه ويقال المعلم الأثر وهو راجع إلى معنى العلامة ولا خلاف في المعنى والمعالم الدينية الأدلة الشرعية وكل ما يهدي إليها وتعلمها تعرفها والملة الحنيفية هذه الملة قال صلى الله عليه وسلم: "بعث بالحنيفية السهلة السمحة" 1 وسميت حنيفية لأنها على ملة إبراهيم والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام وسمي إبراهيم عليه السلام حنيفا لميله عن دين الصابئة وهم عباد الكواكب وسمى أتباعه حنفاء لذلك ولميلهم عن اليهودية والنصرانية قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} 2.والملة الدين والدليل على أن هذه الملة ملة إبراهيم قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} 3 وادعى بعض العلماء أنها موافقة لها في الأصول والفروع والمشهور أنها موافقة لها في الأصول فقط وعلى هذا لا اختصاص لملة إبراهيم بذلك لأن دين الأنبياء كلهم واحد في الأصول وإنما اختلفت__________1 أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة وعائشة- رضي الله عنهم.2 سورة آل عمران 67.3 سورة النحل 123.(1/16)الشرائع في الفروع ويكون تسميته هذه الملة حنيفية لمخالفتها ما كان عليه أهل الشرك واليهود والنصارى كمخالفة إبراهيم من كان في زمانه من الكفار وهم الصابئة وإتباعه دين الأنبياء قبله وبعده وهو الإسلام وحقائقها على هذا أصول الدين ولا تشمل أصول الفقه الذي تصدى له والمعالم الدينية شاملة له وإن جعلنا اسم الملة شاملا للأصول والفروع وكلا الأمرين أعني المعالم الدينية وحقائق الملة شاملا للأصول والفروع فيندرج فيه أصول الفقه الذي تصدى له وهو أحسن ليكون مناسبته للتصنيف الذي تصدى له أكثر ويشهد له قوله: "بعثت بالحنيفية السمحة" فإنه يشير إلى الأصول والفروع جميعا ولا يلزم من ذلك موافقتها لشريعة إبراهيم في جميع الأشياء بل لموافقتها الأصول سميت بذلك وحقائقها على هذا جميع أحكامها ومعانيها وأسرارها والضمير في مشكلاته ومعضلاته عائد على الكشف لأن الأشكال والأعضال فيه لا فيها فإنها بينة جلية بيضاء نقية إذا ارتفع الحجاب عن الناظر رآها ولا خفاء بحسن استعاراته وترشيحها في الغوص في تيار البحار والفحص عن أستار الأسرار وكم من بحر لا يدرك له قرار وسر تتغيب في أستاره الأفكار."وإن كتابنا هذا منهاج الوصول إلى علم الأصول الجامع بين المعقول والمشروع والمتوسط بين الأصول والفروع" المنهاج: الطريق جعل علما على هذا الكتاب والوصول إلى الشيء إنما يكون عند انتهاء طريقه فقوله منهاج الوصول معناه الطريق التي يتوصل فيها إلى الوصول إلى علم الأصول كما تقول طريق مكة أي المتوصل فيها إلى مكة فليس الوصول فيه ولكنه غايته.وقوله منهاج خبر إن ويجوز إطلاق ذلك على هذا الكتاب بمعناه الأصلي غير علم لأن الاشتغال به يوصل إلى ذلك وقوله الجامع مخفوض صفة لعلم الأصول ولا خفاء في جمعه بين المعقول والمشروع فإنه نتج من نكاح نور الشرع لصافي بنات الفكر فجاء عريق الاصالة شديد البسالة وتوسطه بين الأصول أي أصول الدين والفروع وهذا يستمد من الأول ويمد الثاني."وهو إن صغر حجمه وكبر علمه وكثرت فوائده وجلت عوائده" قوله:(1/17)وهو يعني هذا الكتاب وصغر بضم الغين وكذلك كبر الباء لأنه بمعنى عظم وأصل كبر بضم الباء لكبر الجثة ثم استعمل في كبر المعنى وأما كبر السن فلا يقال فيه إلا كبر بكسر الباء وراعى المطابقة بين صغر وكبر لتضادهما واجتمعا لرجوع الصغر إلى الجثة والكبر إلى المعنى والعوائد جمع عائدة وهي العطف والمنفعة يقال هذا أعود عليك من كذا أي أنفع وفلان ذو عائدة أي تعطف ونفع وإن هذا الكتاب لكما وصف."جمعته رجاء أن يكون سببا لرشاد المستفيدين ونجاتي يوم الدين والله تعالى حقيق بتحقيق رجاءه وقوله حقيق بتحقيق أي خليق له وخليق وجدير وحري وحر كل ذلك بمعنى واحد وقصد المصنف التجانس بين حقيق وتحقيق وإطلاق ذلك على الله ينبئ على أن الأسماء توقيفية أولا".(1/18)تعريف أصول الفقه"أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد".هذه العبارة بعينها عبارة تارج الدين الأرموي في الحاصل ولنقدم مقدمة وهي أنه ينبغي أن يذكر في ابتداء كل علم حقيقة ذلك العلم ليتصورها الذي يريد الاشتغال به قبل الخوض فيه فمن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل فلا جرم احتاج إلى تعريف أصول الفقه في أوله وههنا خمسة أشياء:أحدها: لفظ أصول الفقه قبل أن يسمى به هذا العلم مركب من مضاف ومضاف إليه.والثاني: هذا اللفظ بعد أن سمي به فإنه صار اسما للعلم وكل من المضاف والمضاف إليه بهذا الاعتبار صار كالزاي والدال من زيد لا معنى له وكل مركب سمي به معنى فقد يتطابق معناه حال التركيب وحال التسمية كعبد الله مسمى به رجل فهو صادق عليه بالاعتبارين وقد لا يتطابقان كأنف الناقة مسمى به رجل ولفظ أصول الفقه مما تطابق فيه معناه حال التركيب ومعناه حال التسمية من بعض الوجوه كما سنبينه.الثالث: معنى أصول الفقه قبل التسمية.الرابع: معنى أصول الفقه بعد التسمية مع قطع النظر عن أجزاء اللفظ المطلق عليه.الخامس: معناه بعد التسمية مع الالتفات إلى أجزاء اللفظ المطلق عليه لأن اللفظ يدل عليه باعتبارين كما قدمناه فإذا أخذ المعنى بأحد الاعتبارين(1/19)كان مغايرا له بالاعتبار الآخر فيصدق على المعنى المذكور أنه إضافي لقبي باعتبارين لكن صدق اللفظ عليه بالإضافة إنما هو بطريق المجاز لأنه أخص من معناه الحقيقي والحد إنما هو للمعنى دون اللفظ فالمقصود بيان المعاني الثلاثة ويعبر عن المعنى الأول بالإضافي لأن المعنى مركب من مضاف ومضاف إليه في الذهن كما أن لفظه كذلك في النطق ويعبر عن المعنى الثاني باللقبي باعتبار أنه ملقب بهذا الاسم فإن اللفظ المركب جعل اسما عليه زلقبا له وعلما كسائر أعلام الأجناس أو أسماء الأجناس فإن علم الجنس هو الذي يقصد به تمييز الجنس من غيره من غير نظر إلى أفراده واسم الجنس الذي يقصد به مسمى الجنس باعتبار وقوعه على أفراده حتى إذا دخلت عليه الألف واللام الجنسية الدالة على الحقيقة ساوى علم الجنس هذا هو الذي نختاره في الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس ويستنتج منه أن علم الجنس لا يثنى ولا يجمع لأنه إنما يثنى ويجمع الأفراد وجعله اسم جنس أولى من جعله علم جنس لأنه لو كان علما لما دخلت عليه الألف واللام وكذلك سائر أسماء العلوم من فقه ونحو وغير ذلك ويعبر عن المعنى الثالث بالإضافي بالاعتبارين كما سبق.إذا عرفت هذه المقدمة فهمت ثلاثة مباحث:أحدهما: في تعريف معنى أصول الفقه التركيبي قبل التسمية ولا بد في ذلك من تعريف المضاف والمضاف إليه والإضافة لأن العلم بالمركب يتوقف على العلم بالمفرد ونبدأ ذلك بتعريف المضاف وليس كما توهم بعض الناس من أنه يعتني بالبداءة بالمضاف إليه محتجا بأن المضاف يتعرف بتعريف المضاف إليه لأنا نقول التعريف تعريف مقابل التنكير وهو الذي يكتسبه المضاف من المضاف إليه وتعريف مقابل الجهل وهو المقصود هنا وهذا لا يكتسبه المضاف من المضاف إليه فنقول الأصول جمع وتعرفه بتعريف مفرده والأصل ما يتفرع عنه غيره وهذه العبارة أحسن من قول أبي الحسين ما يبنى عليه غيره لأنه لا يقال إن الولد يبنى على الوالد ويقال إنه فرعه وأحسن من قول صاحب الحاصل ما منه الشيء لاشتراك من بين(1/20)الابتداء والتبعيض وأحسن من قول الإمام1: "المحتاج إليه" لأنه إن أريد بالاحتياج ما يعرف في علم الكلام من احتياج الأثر إلى المؤثر والموجود إلى الموجد لزم إطلاق الأصل على الله تعالى وإن أريد ما يتوقف عليه الشيء لزم إطلاقه على الجزء والشرط وانتفاء المانع وإن أريد ما يفهمه أهل العرف من الاحتياج لزم إطلاقه على الأكل واللبس ونحوهما وكل هذه اللوازم مستنكرة وكل هذه التعريفات للأصل بحسب اللغة وإن كان أهل اللغة لم يذكروها في كتبهم وهو مما ينبهنا على أن الأصوليين يتعرضون لأشياء لم يتعرض لها أهل اللغة.وأما في العرف فالأصل مستعمل في ذلك ولم يترك أهل العرف الاستعمال في ذلك لكن العلماء يطلقونه مع ذلك على شيئين أخص منه:أحدهما: الدليل والثاني المحقق الذي يشك في ارتفاعه لتفرع المدلول على الدليل والاستصحاب على اليقين السابق.والفقه تعريفه سيأتي في كلام المصنف والإضافة تفيد الاختصاص فإن كان المضاف اسما جامدا أفادت مطلق الاختصاص كحجر زيد وإضافة الأعلام إذا وقعت من هذا القبيل كقول الشاعر:علا زيدنا يوم النقا ... رأس زيدكموإن كان المضاف اسما مشتقا أفادت الإضافة اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى المشتق منه كغلام زيد تفيد اختصاص الغلام بزيد في معنى الغلامية وكانت للملك وتفيد هنا اختصاص الأصول بالفقه في معنى لفظة الأصول وهو كون الفقه متفرعا عنه وظهر بهذا أن أصول الفقه بالمعنى التركيبي ما يتفرع عنه الفقه والفقه كما يتفرع عن دليله يتفرع عن العلم بدليله فيسمى كل منهما أصلا للفقه ولا فرق في الأدلة في هذا المقام بين الإجمالية__________1 هو: فخر الدين، محمد بن عمر الحسيني الرازي، المتوفى سنة: 606هـ صاحب كتاب "المحصول، في أصول الفقه، وهو الذي يعتبر كتاب "منهاج الوصول" للبيضاوي ملخصاً له. فكلمة "الإمام" إذا أطلقت في أصول الفقه، فالمراد: فخر الدين الرازي. اهـ. محققة.(1/21)والتفصيلية فإن كلا منهما يتفرع الفقه عنه وعن العلم به فصار أصول الفقه بالمعنى التركيبي يشمل أربعة أشياء الأدلة الإجمالية وعلمها والأدلة التفصيلية وعلمها وهذا ليس هو المصطلح ولا يصح تعريف هذا العلم بمدلول أصول الفقه الإضافي لأنه أعم منه إلا إذا أخذ بعد التسمية كما سيأتي."البحث الثاني": في تعريف معنى أصول الفقه اللقبي وهو المصطلح عليه ولا شك أن كلا من الأدلة التفصيلية والعلم بها غير داخل فيه لأن ذلك من وظيفة الفقيه والخلافي فلم يوضع أصول الفقه في الاصطلاح لكل ما يحتاج إليه الفقه بل لبعض ما يحتاج كدأب أهل العرف في تخصيص الأسماء العرفية ببعض مدلولاتها في اللغة والأدلة التفصيلية مثل: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} ودلالته على وجوب الصلاة ونحو ذلك ولما استفيد إخراج الأدلة التفصيلية وعلمها من الوضع تبقى الإجمالية وعلمها والمراد بالإجمالبة كليات الأدلة فإن قوله: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ونهيه صلى الله عليه وسلم: "عن قتل النساء والصبيان" وإطلاق الرقبة في موضع وتقييدها بالإيمان في موضع وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة وإجمال الصلاة في الآية المذكورة وبيان جبريل لها ونسخ التوجه إلى بيت المقدس والإجماع على أن بنت الابن لها السدس مع الثلث عند عدم العاصب وخبر ابن مسعود في ذلك وقياس الأرز على البر ومرسل سعيد بن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان وقول عثمان في بيع الفراء والمصلحة المرسلة في التترس والأخذ بالأخف في دية اليهودي والاستحسان في التحليف على المصحف ونحو ذلك كلها أدلة معينة وجزئيات مشخصة والعلم بها ليس من أصول الفقه في شيء وإنما هي وظيفة الفقه ولهذه الأدلة وأمثالها كليات وهي مطلق الأمر والنهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والفعل والإجمال والتبيين والنسخ والإجماع وخبر الواحد والقياس والمرسل وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والأخذ بالأخف والاستحسان عند من يقول به وهذه الكليات داخلة في الجزئيات فإن الكلي الطبيعي موجود في الخارج وفي الذهن في ضمن مشخصاته ففي الأدلة اعتباران:أحدهما: من حيث كونها معينة وهذه وظيفة الفقيه وهي الموصلة القريبة(1/22)إلى الفقه والفقيه قد يعرفها بأدلتها إذا كان أصوليا وقد يعرفها بالتقليد ويتسلمها من الأصول ثم هو يرتب الأحكام فمعرفتها حاصلة عنده.والاعتبار الثاني: من حيث كونها كلية أعني يعرف ذلك الكلي المندرج فيها وإن لم يعرف شيئا من أعيانها وهذه وظيفة الأصولي فمعلوم الأصولي الكلي ولا معرفة له بالجزئي من حيث كونه أصوليا ومعلوم الفقيه الجزئي ولا معرفة له بالكلي من حيث كونه فقيها ولا معرفة له بالكلي إلا لكونه مندرجا في الجزئي المعلوم وأما من حيث كونه كليا فلا فالأدلة الإجمالية هي الكلية سميت بذلك لأنها تعلم من حيث الجملة لا من حيث التفصيل وهي توصله بالذات إلى حكم الإجمالي مثل كون كل ما يؤمر به واجبا وكل منهي عنه حراما ونحو ذلك وهذا لا يسمى فقها في الاصطلاح ولا توصل إلى الفقه بالتفصيلي وهو معرفة سنية الوتر أو وجوبه والنهي عن بطلان بيع الغائب أو صحته مثلا إلا بواسطة فقبدية الإجمال مأخوذة في الأدلة والمعرفة معا أيضا وليست مأخوذة في الفقه ولذلك لا يلزم من النظر في الأصول حصول الفقه والحكم الكلي متوقف على الأصول توقفا ذاتيا والحكم التفصيلي وهو الفقه موقوف عليه أيضا وعلى غيره كلية قد يكون بالتقيد للأصولي كما أشرنا إليه وبهذا يظهر أن الاجتهاد في الفقه على الإطلاق شرطه الأصول ومعرفتها بالاجتهاد وأما بدون ذلك فيكون مقلدا وإن اجتهد في تفريع المسائل.ثم هذه الأدلة الكلية لها حقائق في أنفسها من حيث دلالتها وتعلق العلم بها فهل وضع أصول الفقه لتلك الحقائق في أنفسها أو للعلم بها كلام المصنف يقتضي الثاني وكلام الإمام وغيره يقتضي الأول ولكل منهما وجه فإن الفقه كما يتوقف على الأدلة يتوقف على العلم بها وقد يرجح ما فعله المصنف بأن العلم بالأدلة لا يوصل إلى المدلول إلا بواسطة العلم بها لأن الفقه علم لكن أهل العرف يسمون المعلوم أصولا وكذلك يسمون المعلوم فقها ونقول هذا كتاب أصول وكتاب فقه والأولى جعل الأصول للأدلة والفقه للعلم لأنه أقرب إلى الاستعمال اللغوي ثم الأدلة لها اعتباران أحدهما حقيقتها في نفسها والثاني من حيث دلالتها على الفقه والمأخوذ في حد أصول الفقه والمأخوذ في حد أصول الفقه إنما هو هذا الثاني وهو مستفاد من الإضافة(1/23)في قولنا أدلة الفقه لما قدمناه أن الإضافة تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في معنى لفظة المضاف فالشرط في الأصولي معرفة أدلة الفقه من حيث دلالتها على الفقه خاصة وقد يكون لها عوارض أخرى لا يجب معرفته بها ثم معرفة الأدلة من حيث كونها أدلة لا بد معه من كيفية الاستدلال ومعظمها يذكر في باب التعارض والترجيح فجعلت جزءا آخر من أصول الفقه لتوقف الفقه عليها وليس كل أحد يتمكن من الاستدلال ولا يحصل له الفقه بمجرد علم تلك الأدلة وكيفية الاستدلال لأنها أدلة ظنية ليس بينها وبين مدلولاتها ربط عقلي فلا بد من اجتهاد يحصل به ظن الحكم فالفقه موقوف على الاجتهاد والاجتهاد له شروط يحتاج إلى بيانها فجعلت جزءا ثالثا من أصول الفقه لتوقف الفقه عليها.وهذا مجموع ما يذكر في أصول الفقه الأدلة وكيفية الاستدلال وكيفية حال المستدل والإمام ومن وافقه يجعلون أصول الفقه عبارة عن الثلاثة والمصنف وطائفة يجعلونه عبارة عن معرفة الثلاثة فالمعارف الثلاثة عندهم هي أصول الفقه وقد تقدم البحث في ذلك.فقول المصنف: "وكيفية الاستفادة" معطوف على دلائل الفقه أي ومعرفة كيفية الاستفادة وكذا قوله: وحال المستفيد أي ومعرفة حال المستفيد والمراد بالمستفيد المجتهد لأنه الذي يستفيد الأحكام من أدلتها ويقع في بعض النسخ حال المستدل وفي بعضها حال المستفيد فجمع بعض النساخ بينهما واقتضى هذا الغلط أن يحمل المستدل على المجتهد والمستفيد على المقلد لأنه يستفيد من المجتهد لكن يجوز أن يكون جزءا من أصول الفقه بخلاف الاجتهاد فإن الفقه موقوف عليه نعم إذا عرف المجتهد عرف أن من سواه مقلد وهذا جاء بالعرض لا بالقصد أعني معرفة المقلد نعم بعض الناس قد سمى علم المقلد فقها فمن هذا الوجه يحسن إدراجه في أصول الفقه لتوقف فقهه عليه وفيه فائدة لا تذكر إلا فيه وهي حكمه إذا اختلفت عليه المجتهدون ونحو ذلك.وقول المصنف: "دلائل" لو قال أدلة كان أحسن لأن فعيلا لا يجمع على(1/24)فعائل إلا شاذا1. وقوله إجمالا مصدر في موضع الحال أو تمييز من معرفة أو دلائل وكل منهما يصح أن يراد به على ما بينا ويزداد وعلى جعله من معرفة وجه آخر وهو أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره عرفانا إجمالا وإعرابه تمييز أقوى لأنه يبين جهة الإضافة كقولك هذا أخوك رضاعة أو نسبا وهذا القيد أعني قوله إجمالا لإخراج العلم بالأدلة على التفصيل فليس من أصول الفقه ولا هو الفقه كما وقع في عبارة بعض شارحي هذا الكتاب لأن الفقه غيره بل هو يذكر في الفقه ومن وظيفة الفقيه وأصول الفقه الأدلة الإجمالية وعلمها وهل أصول الفقه بحسب الاصطلاح يصدق على القليل من ذلك والكثير أو لا يصدق إلا على المجموع اختيار الإمام الثاني فلم يجعل أصول الفقه يطلق على بعضه وهذا إنما يظهر بأخذ مضافا ومضافا إليه أما إذا أخذ إسما على هذا العلم فينبغي أن يصدق على القليل والكثير كسائر العلوم ولهذا إذا رأيت مسألة واحدة منه تقول هذا أصول فقه والاعتذار عن الجمع في لفظة الأصول بأمرين:أحدهما: أن بعد التسمية لا يجب المحافظة على معنى الجمع.والثاني: أنه جمع مضاف إلى معرفة فيعم والعموم صادق على كل فرد وكلام المصنف محتمل لما قاله الإمام ولما قلناه بالطريق المذكور.وعدول المصنف عن علم إلى معرفة نقدم عليه مقدمة وهي أن المعرفة تتعلق بالذوات وهي التصور والعلم يتعلق بالنسب وهو التصديق فإن أراد أن علم الأصول تصور محض فليس كذلك لأن العلم بكون الأمر للوجوب والنهي للتحريم من أصول الفقه وهو تصديق فالإتيان بلفظ العلم في هذا المقام__________1 قال ابن مالك في شرح الكافية الشافية: لم يأت فعائل جمعاً لاسم جنس على وزن فعيل فيما أعلم، لكنه بمقتضى القياس جائز في العلم المؤنث كعسائد، جمع عسيد اسم امرأة. نهاية السول 1/14-15.والذي يترجح عندي أن "دلائل" ليس جمعاً لدليل، وإنما هو جمع "دلالة" وهي الإمارة وهي أعم منا دليل، فلو عبر بالأدلة لخرج كثير من أصول الفقه العمومات، وأخبار للآحاد، والقياس، والاستصحاب، وغير ذلك، فإنها أمارات على الدليل، ولذلك قال الإمام الرازي في المحصول. طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات. اهـ. محققة.(1/25)أحسن لأنه أعم من المعرفة ولهذا ينقسم العلم إلى التصور والتصديق ويقول النحاة في العلم إذا لم يكن عرفانا ثم سواء قلنا علم أو معرفة أو أدلة أو طرق كما قال الإمام يرد على جميع ذلك سؤال قوي وهو أن الطريق ما يفضي النظر الصحيح فيه إلى علم المدلول أو ظنه والدليل ما يفضي النظر الصحيح فيه إلى المدلول وعلم الدليل أو الطريق كذلك والمدلول هنا هو الفقه لقوله أدلة الفقه أو طرق الفقه وقد قدمنا أن الفقه بحسب الاصطلاح لا يصدق إلا على معرفة الأحكام التفصيلية فيلزم من هذا أن يكون أصول الفقه معرفة أدلة الأحكام التفصيلية وأن من عرفها عرف ضرورة بما قررناه من أن النظر في الدليل يوجب العلم بالمدلول فيلزم أن يكون الأصول فقها وأن يكون كل أصولي فقيها وهذا ظاهر البطلان ولا ينجى عن هذا قيد الإجمال في المعرفة أو في الدلالة لأن الإجمالي إن كان دليلا للتفصيلي لزم من تحصيله حصوله وإن لم يكن دليلا للتفصيلي فسدت إضافته إلى الفقه لأن الفقه تفصيلي ودليل الفقه مجموع أمرين:أحدهما: الإجمالية، والثاني: التفصيلية، والأول مندرج في الثاني فكل من علم الثاني علم الأول تقليدا أو اجتهادا ولا يحصل الفقه إلا بعلمهما والأصول في الأول فقط وقد سلم من هذا السؤال ابن الحاجب حيث قال إن حده لقبا العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ومع ذلك يرد عليه أن من القواعد النحوية وغيرها ما هو كذلك ولم تدخل في أصول الفقه فالحد غير مانع وغير جامع أيضا لأنه أخرج الأدلة عن الأصول جملة.فإن قلت: هل من اعتذار عن المصنف والإمام وغيرهما في السؤال الذي قدمته قلت نعم وهو أن الأدلة التفصيلية التي يحصل عنها الفقه لها جهتان: إحداهما أعيانها والثانية كلياتها وكل دليل هكذا فليست الأدلة منقسمة إلى ما هو إجمالي غير تفصيلي وتفصيلي غير إجمالي بل كلها شيء واحد له جهتان فالأصولي يعلمه من إحدى الجهتين والفقيه يعلمه من الأخرى ويصدق على ذي الجهتين أنه معلوم من وجه فالمراد بالأدلة التفصيلية التي هي موصلة إلى الفقه والأصولي يعرفها من جهة الإجمالي فلها اعتباران والنظر في(1/26)الدليل إنما يفيد العلم بالمدلول إذا نظر فيه على سبيل التفصيل والأصولي لم ينظر فيه كذلك فلم يحصل له الفقه لانتفاء شرط نظره لا لانتفاء كون المنظور فيه دليلا في نفسه وهذا جواب حسن مصحح لمعرفة الأدلة وإن كان جعله للأدلة صحيحا أيضا باعتبار أن للأدلة نسبتين كما قدمنا فهي باعتبار إحدى النسبتين غيرها باعتبار الأخرى هذا كله في تعريف المعنى اللقبي إذا قطعنا النظر عن أجزاء اللفظ وكذلك إذا لاحظناها مع التخصيص الذي أشرنا إليه فيما سبق فإن التعريف يحصل بما ذكره أيضا وليس من شرط الحد أن يكون بأجزاء محمولة كما ظنه بعضهم بل بأجزاء داخلة في الحقيقة وأجزاء المحدود هنا وهي المعارف الثلاث كذلك والمعرفة جنس الأصول وما أضيف إليه من الأدلة والكيفيتين فصول تقديره معرفة متعلقة بالأدلة والكيفيتين فالمتعلقة فصل وإنما جعلناه فصلا لأن التعلق داخل في ذات العلم فإن جعلته خارجا كان خاصة وكان التعريف رسما تاما.البحث الثالثفي الفرق بين المعاني الثلاثة وتعريفاتها وما بينها من النسب.أما المعنى الأول وهو معنى أصول الفقه قبل التسمية فهو أعم مطلقا من الثاني والثالث اللذين هما بعد التسمية وتعريفه أعم من تعريفهما ولا يحصل به تعريف هذا العلم كما سبق وإطلاقه عليه إطلاق الأعم على الأخص ولم يذكر المصنف ولا غيره ممن أراد تحديد علم أصول الفقه ذلك إلا على سبيل التقدمة كما فعله الإمام فإنه ذكر المفردات ثم ذكر تعريف أصول الفقه بعد مسمى به ولذلك أخذ فيه قيد الإجمال ولو راعى مدلوله قبل التسمية لم يأخذ فيه قيد الإجمال وأما معناه اللقبي ومعناه الإضافي بعد التسمية إذا لوحظت أجزاء لفظه فهما سواء وتعريفهما سواء فسرنا الأصول بالأدلة أم بالمحتاج إليه فيصح على كل من التقديرين هذا أن نجعل أصول الفقه اسما للأدلة وهي محتاج إليها فيتحد المعنى اللقبي والإضافي أما الإضافي فظاهر وأما اللقبي فلتسمية الأدلة بذلك ويصح أن نجعله اسما للمعرفة فيتحدان أيضا أما اللقبي فظاهر وأما الإضافي فظاهر إن جعلنا الأصل المحتاج إليه وإن جعلناه الدليل فنكون قد سمينا به العلم بالدليل من باب تسمية العلم باسم المعلوم.(1/27)فإن قلت: إذا جعلنا الأصول للأدلة والتسمية للمعرفة تغاير المعنى اللقبي والإضافي قطعا فيجب أن يكون لكل منهما حد قلت ليس المراد بالإضافي معناه قبل التسمية وإلا لورد المعنى الأول وقد قدمنا أنه خارج قطعا فإنما المراد تعريف المعنى اللقبي باعتبار ملاحظة أجزاء اللفظ فلا بد أن يوجد فيها تعبير إما بمجاز أو بتخصيص حتى يوافق اللقب وحينئذ يتحد التعريفان ويستحيل أن يكون لعلم أصول الفقه المصطلح عليه حدان أحدهما باعتبار الإضافة قبل التسمية والثاني باعتبار اللقب.(1/28)تعريف الفقه"والفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".في معنى الفقه بحسب اللغة ثلاثة أقوال:أحدها: مطلق الفهم.والثاني: فهم الأشياء الدقيقة.والثالث: فهم غرض المتكلم من كلامه وقولنا غرض المتكلم من كلامه إشارة إلى أنه زائد على مجرد دلالة اللفظ الوضعية فإنه يشترك في معرفتها الفقيه وغيره ممن عرف الوضع وبهذا الاعتبار يسلب عمن اقتصر على ذلك من الظاهرية اسم الفقيه وأما في الاصطلاح فقد ذكره المصنف والكلام عليه من وجوه:أحدها: قوله: العلم جنس يشمل التصور والتصديق القطعي وإنما قلنا ذلك لأن العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض ويلزمها التعلق بمعلوم فإن كان المعلوم ذاتا أو معنى مفردا أو نسبة غير خبرية فهو التصور وإن كان نسبة خبرية فهو التصديق القطعي مثاله العالم حادث وههنا أربعة ذات العالم ومعنى الحدوث في نفسه والارتباط بينهما من غير حكم بثبوته أو بانتفائه والعلم بهذه الثلاثة تصور والرابع هو ثبوت ذلك الارتباط أو انتفاؤه وهو النسبة الخبرية وهو التصديق وهكذا في كل قضية موضوعها ومحمولها مفردا والارتباط بينهما نسبة تقييدية وهو من قبيل المفرد ووقوع تلك النسبة(1/28)أو عدم وقوعها أمر رابع فتعلق العلم بتلك الثلاث تصور وتعلقه بالرابع تصديق والفرق بين الثالث والرابع دقيق فإنك تقول علمت حدوث العالم بمعنى تصورته وعلمت حدوث العالم بمعنى صدقت به فالنسبة واحدة ولكن التصور علمها في نفسها والتصديق علم حصولها فحقيقة المعلوم في التصديق كحقيقة المخبر به في الخبر بل هي حقيقة واحدة إن تعلق بها الكلام سمي خبرا وإن تعلق بها العلم سمي تصديقا والتصور أخص من العلم مطلقا والتصديق أخص منه من وجه لأن التصديق قد يكون بالخبر وليس بعلم لخروجه من حد العلم وتفسير التصديق بما قلناه وهو العلم بالنفي والإثبات يصحح انقسام العلم الذي هو الإدراك إلى التصور والتصديق بخلاف ما إذا فسرناه بالحكم أو بالحكم مع التصور فلا يصح انقسام العلم إليه إلا إذا قيل إن العلم بالنفي أو الإثبات حكم والمعروف أن الحكم إيقاع النسبة.وكشف اللبس في ذلك أن الحكم هو نسبة أمر إلى أمر بالإثيات أو النفي وهو قسم من أقسام الكلام قد يكون بالنفس وقد يكون باللسان فإذا قلنا حكم الذهن فإنما نريد الإخبار النفساني ثم إن هذا الإخبار محتمل للتصديق والتكذيب والتصديق والتكذيب إما بالإخبار بأن يقال لقائله صدقت أو كذبت وإما بالعلم والاعتقاد فإن من علم صدق المخبر يقال له مصدق له ومن علم كذبه يقال أنه مكذب له فسمى العلم المتعلق بذلك الخبر أو بمضمون الخبر تصديقا لما قلناه لأنه مصدق له فالعلم يتعلق بالحكم أو بمضمونه لا ينقسم إليه وقولنا بمضمونه لأن العلم قد يتعلق بالنسبة الخارجية وقد يتعلق بالخبر عنها فالثاني تصديق للخبر والأول تصديق لمضمونه والحكم منه ما هو تصديق وهو الأخبار بصدق الصادق ومنه ما ليس بتصديق وهو تقييد الأحكام وأنما شاع في العرف إطلاق التصديقات على القضايا مطلقا لأنها قابلة لأن تصدق فكأنهم قالوا الصادقة ومن هنا يتبين أن أحق القضايا باسم التصديق ما كان مقطوعا به لأنه الذي يصدقه العلم أما المظنونة والمشكوك فيها والموهومة فلا يوثق بأيها إذا عرضت على العلم بصدقها أو بكذبها فإن أطلق عليها اسم التصديق فإنما هو بطريق احتمالها له وإنما تسمى حكما وجميع الأشياء معروضة على العلم وهو الميزان لها فالمفردات بتصورها والأحكام الصحيحة بصدقها والباطلة بصدق نقيضها.(1/29)ولما كان دائما في القضايا مصدقا لها ولنقيضها سمي تعلقه بها تصديقا وترك لفظ التكذيب للاستغناء عنه بنقيضه ولهجر لفظه وإنما سمى العلم بالصدق تصديقا لأن به يصدق فهو الأصل في الأصل في التصديق وإطلاق التصديق على الحكم بالصدق للزومه له وإطلاقه على الحكم بذلك بطريق الظن فيه بعيد وإطلاقه على الحكم مطلقا سواء كان تصديقا بخبر أم لا بعيد عن اسم التصديق.وقد أطلنا في هذا لأنا لم نجد من حققه هكذا.وفي العلم اصطلاح آخر خاص لا يندرج فيه التصور يقال فيه الاعتقاد الجازم المطابق لموجب وهذا هو أحد قسمي العلم العام وهو العلم التصديقي فإنا قدمنا أنه لا بد وأن يكون قطعيا فقولنا جازم مخرج الظن والشك والوهم وقولنا مطابق مخرج الجهل وقولنا لموجب مخرج التقليد.ومنهم من يقول الثابت: بدل قولنا لموجب لأن اعتقاد المقلد غير ثابت لأنه يمكنه اعتقاد نقيضه واليقين لا يمكن اعتقاد نقيضه وهذا النوع من العلم لا يكون معلومه إلا حكما بإسناد أمر إلى أمر محتملا للتصديق والتكذيب أو مضمون ذلك الحكم وهو وقوع تلك النسبة في نفس الأمر كما بيناه.إذا عرفت الاصطلاحين في العلم فلك أن تجعله في كلام المصنف بالمعنى الأعم ويخرج التصور بما بعده وهو الذي سلكه الإمام وعليه سؤال سنورده ولك أن تجعله بالمعنى الأخص فلا يكون التصور داخلا فيه ولا يكون قوله بالأحكام مخرجا لشيء بل توطئة للشرعية وعلى كلا التقديرين لا يندرج الظن فيه ولذلك أورد عليه السؤال الذي سيأتي.وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول علم النحو أي صناعته فيندرج فيه الظن واليقين وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوب يسمى علما ويسمى صناعة وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظن لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح أو أرادوه ولحظوا معه معنى العلم في الأصل ويطلق النحاة العلم أيضا على المعرفة وقد أصابوا(1/30)ولكن ليس فيها اعتقاد ولا ظن بل تصور محض ولا يجوز أن تكون هي المراد ههنا لأن الفقه تصديق لا تصور."الوجه الثاني من الكلام على التعريف" الباء في قوله بالأحكام ولنقدم مقدمة وهي أن علم فعل متعد بنفسه وأما الباء في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} 1 فاحتمل زيادتها واحتمل بأن يكون علم مضمنا معنى أحاط ومما يتنبه له إن علم المتعدية إلى مفعولين لم يدخلوا الباء على واحد من مفعوليها إذا ذكرا صريحين ودخلت على أن وصلتها السادة مسدهما لدلالتها على النسبة التي هي المعلومة وهذا يقوي التضمين ويقوي قول أكثر النحويين أنها سادة مسد المفعولين ويضعف قول من يقدر معها مفعولا ثانيا لأن المفعول الأول لا يدخل عليه الباء وليس هو المعلوم أعني المخبر بعلمه إنما المخبر بعلمه نسبة الثاني إليه وإذا علمت قيام زيد بمعنى أنه قام أو يقوم جاز دخول الباء في المفعول كما يدخل على إن لأن المعلوم فيهما ثبوت النسبة وإذا كانت علم بمعنى عرف جاز دخول الباء على مفعولها وتكون زائدة كقولك عرفته وعرفت به فإن أردت غيره صح أن يكون علم على حقيقتها.إذا علمت هذا فدخولها في قوله: العلم بالأحكام لا بد منه أما على طريقة التضمين في الفعل فظاهر وأما على طريقة الزيادة في الفعل فلأن المصدر المعرف بالألف واللام ضعيف العمل جدا وإذا ضعف تقوى بالحرف كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 2 {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} 3 وعلى كل تقدير هي متعلقة بالعلم وأما تقدير محذوف يتعلق به كقولنا العلم المتعلق بالأحكام فلا حاجة إليه إلا إذا فسرنا العلم بالصناعة فيظهر تقديره."الوجه الثالث قوله بالأحكام" يخرج به العلم بالذوات والصفات الحقيقية والإضافية غير الحكم "والأفعال" وإنما قلنا غير الحكم لأن الحكم الشرعي كلام يتعلق به فهو صفة عرضت لها الإضافة.__________1 سورة العلق 14.2 سورة يوسف عليه السلام 43.3 سورة المائدة 46.(1/31)"وهنا تنبيهات" منها: أن الحكم يطلق على النسبة الخبرية وهي معلوم التصديق وبه يخرج التصور كله وعلى إنشاء الأمر والنهي والتخيير ومنه الحكم الشرعي والعلم قد يتعلق به على جهة التصور ألا ترى إلى قول المصنف ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها ونفيها وعلى هذا لا تكون الأحكام مخرجة للتصورات وإنما تخرج بقوله بعد ذلك المكتسب من أدلتها فإن التصور يكتسب من التعريفات لا من الأدلة وعلى كل من تكلم على الحد جعل قوله الأحكام مخرجا للتصورات هذا سؤال قوي وجوابه أن الحكم لفظ مشترك والمراد به ههنا المعنى الأول.فإن قيل: الألفاظ المشتركة لا تستعمل في الحدود من غير بيان وأيضا قال الفقه العلم بالأحكام الشرعية ثم عرف الحكم الشرعي بالخطاب فاستحال أن يكون غيره وإلا لما انتظم قلت ينتظم من جهة أنه إذا عرفت أن الحكم الشرعي الخطاب الموصوف ترتب عليه حكما بثبوت ذلك الخطاب أو نفيه وهذا هو المراد بقولنا: "الفقه العلم بالأحكام الشرعية" وسمي شرعيا لكونه لم يعرف إلا من الشرع والمتعلق به تصديق لا تصور والمذكور في حد الحكم هو حكم الله القائم بذاته وهو طلب أو تخيير وسمي شرعيا لأنه ناشئ من الشارع والعلم المتعلق به تصور وإنما ذكر لنعرف به الحكم المذكور في حد الفقه لتعلقه به والقاضي أبو بكر1 يجعل حكم الله إخباره يجعله الحكم لفعل كذلك فيستغني عن هذا التكلف وأما سؤال الإشتراك فهنا قرينة تبين المراد وهي أن الفعل متعد إلى مفعولين ولا يجوز دخول الباء على مفعوله إلا إذا تضمن نسبة بنفي أو إثبات كما تقدمت الإشارة إليه في الوجه الثاني فلما دخلت الباء هنا مع لفظ العلم الذي ظاهره التعدي إلى مفعولين على لفظ الحكم الذي هو ظاهر في النسبة كان ذلك قرينة على أن المراد بالأحكام ثبوتها لا تصورها ومن هنا يتبين لك أن المطلوب من الفقه علمه هو كون الشيء واجبا أو حراما أو مباحا وهو المذكور في حد الفقه ويقرب دعوى القطع فيه،__________1 هو أب بكر: محمد بن الطيب بن جعفر بن القاسم، المعروف الباقلاني، شيخ أهل السنة، من مؤلفاته في الأصول: "التقريب والإرشاد" وقد اختصره في التقريب والإرشاد الأوسط والصغير. توفي سنة 403هـ وفيات الأعيان 3/400، الأعلام المزركلي 3/909.(1/32)لأن المراد العمل والمذكور في حد الحكم هو إيجاب الله أو تحريمه أو إباحته وهو صفة قائمة بذاته تعالى ويطلب تحقيقها من الأصولي لا من الفقيه والمطلوب تصورها ودعوى القطع في العلم بتعلقها بما علمه الفقيه غيره ولو قال قائل المراد بالأحكام هنا هو المذكور عند حد الحكم ونقدر بإثبات الأحكام ويستدل على هذا التقدير بما قلناه كان صحيحا والله أعلم."ومن التنبيهات" أن الإمام ممن ادعى أن قوله بالأحكام يخرج العلم بالذوات والصفات ثم أورد السؤال كون الفقه مظنونا فيقال إن إراد بالعلم الاعتقاد الجازم فيرد سؤال الظن ولا يحسن وأن يقال خرج بالأحكام العلم والتصديق فيصح ما ادعاه من الإخراج ولا يرد سؤال الظن لأن الظن قسم من أقسام التصديق الذي هو قسم من العلم وجواب هذا بالتزام الثاني ومنع كون الظن من أقسام العلم بيناه في الوجه الأول."ومن التنبيهات" أيضا أن بعض شرح من هذا الكتاب قال إن الأحكام تخرج العلم بالذوات والصفات كعلمنا بأن الأسود ذات والسواد صفة وهذه عبارة غير محررة فإن العلم بأن الأسود ذات والسواد صفة تصديق والعلم التصوري بنفس الذات ونفس الصفة متمثلة في الذهن."ومن التنبيهات" أن الألف واللام في الأحكام للجنس هذا هو الذي نختاره والألف واللام الجنسية إذا دخلت على جمع قيل تدل على مسمى الجمع ويصلح للإستغراق ولا يقتصر به على الواحد والاثنين محافظة على الجمع والمختار أنه متى وقصد الجنس يجوز أن يراد به بعضه إلى الواحد ولا يتعين الجمع كما لو دخلت على المفرد نعم قد تقوم قرينة تدل على مراعاة الجمع مع الجنس فيقارب بذلك المفرد على ما قلناه ويصدق على العلم بحكم مسألة واحدة من الفقه أنها فقه ولا يلزم أن يسمى العالم به فقيها لأن فعيلا صفة مبالغة مأخوذة من فقه بضم القاف إذا صار له الفقه سجية وقال بعضهم إنها للعموم والمراد التمكن أي يكون له قوة قريبة من الفعل يصدق عليه بها للعلم بجميع الأحكام إذا نظر كما هي وظيفة المجتهد وهذا احسن في اسم فقيه اسم الفاعل المقصود(1/33)به المبالغة لا في اسم الفقه المصدر وقال بعضهم إنها للعهد والمراد جملة غالبة بحكم أهل العرف عندها يصدق الاسم وهذا ليس بشيء."ومن التنبيهات" أن قولنا العلم بالأحكام يصدق على ثلاثة أشياء:أحدها: تصور الأحكام وقد تحيلنا في إخراجه.والثاني: إثباتها بمعنى اعتقاده أن الله أوجب وحرم وأباح من غير علم بأنه أوجب كذا أو حرم كذا أو أباح كذا وهذا أيضا ليس من الفقه في شيء بل هو من أصول الفقه.الثالث: وهو المقصود إثباتها معينة لموضوعات معينة وقد عبر بعضهم عن هذا بقوله الأحكام الجزئية وأشار إلى أن هذا لا بد من زيادته في الحد."الوجه الرابع قوله الشرعية" يخرج الأحكام العقلية مثل كون فعل العبد عرضا أو حسنا وغير ذلك والمراد بالشرعية ما يتوقف معرفتها على الشرع والشرع هو الحكم والشارع هو الله تعالى ورسوله مبلغ عنه فلذلك يطلق الشارع على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرناه يندفع قول من قال إن الأحكام العقلية شرعية باعتبار أن الله خلقها وأنها تحت قضائه وقدره وقد وقفت على شرح لهذا الكتاب فيه أن قوله الشرعية احتراز عن الأحكام العقلية وتنبيه على أن المراد الأحكام بحسب الشرع لا بحسب العقل كما هو مذهب المعتزلة.وأعلم أن المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للأحكام وإنما يقولون إن العقل يدرك أن الله شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها فهي طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي فليس قوله الشرعية تنبيها على خلاف قول المعتزلة وإن كان قول المعتزلة باطلا ولعله استند في هذا إلى قول الإمام فإنه قال قولنا الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية كالتماثل والاختلاف والعلم بقبح الظلم وحسن الصدق عند من يقول بكونهما عقليين وكلام الإمام هذا صحيح وسعناه أن الحسن والقبح لا يدركان بالعقل عندنا فلا يحترز عنهما وأما عند المعتزلة فيدركان بالعقل وهما حكمان عقليان يحترز عنهما وليس العلم بهما فقها والحكم الشرعي تابع لهما على رأي المعتزلة لا عينهما فما كان حسنا جوزه الشرع وما كان قبيحا منعه(1/34)فصار عند المعتزلة حكمان أحدهما عقلي والآخر شرعي تابع له والفقه هو العلم بالثاني فلذلك احترز عن الأول عندهم وكلام هذا الشارح يقتضي أنهم يطلقون على العلم بالأحكام العقلية فقها وليس كذلك فإذا تؤمل كلام الإمام كان ردا على ما قاله هذا الشارح وهذا المعتمد وغيره من كتب المعتزلة وفيها اعتبار الأحكام الشرعية في تعريف الفقه وقال هذا الشارح أيضا إن وجه نسبة الأحكام إلى الشرع أن تعلقاتها التنجيزية أو العلم بتعلقاتها التنجيزية مستفاد من الشرع لا أن نفس الأحكام أو تعلقاتها العلمية مستفاد من الشرع فإن الشرع حادث والأحكام وتعلقاتها العلمية قديمة والقديم لا يستفاد من الحادث انتهى ما قاله وكأنه لما رأى الأصحاب يقولون لا حكم قبل الشرع وأمثال هذه العبارة قاصدين لا حكم قبل البعثة توهم أن الشرع هو البعثة فقال إنه حادث وليس كما قاله ولا كما توهمه وإنما الشرع ما قدمناه.وأما قول الأصحاب فمرادهم به لا حكم قبل العلم بالشرع أو عبروا بالشرع عن البعثة على سبيل المجاز لأن بها يعرف ويظهر وهذا هو الأظهر من مرادهم وصاحب هذا الكلام لم يذكر كلام الأصحاب هذا ولكني أنا ذكرته جاحدا له ودفعته فإني استنكرت قول الشرع حادث أما سمع قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} 1 فإن كان الشرع حادثا فالحكم حادث وهو لا يقول به وإن قال به رد عليه ثم مضمون كلام هذا القائل أن يكون الأحكام في الأزل ثابتة وهي غير شرعية وهذا شيء لم يقل به أحد أما أن ذلك مضمون كلامه فلأنه صرح بأن الأحكام قديمة وفسر نسبتها إلى الشرع بشيء حادث وأما أن ذلك لم يقل به أحد فلأن الناس منهم من قال الحكم الشرعي قديم ومنهم من قال الحكم حادث أما قدم الحكم وحدوث كونه شرعيا فلا قائل به فإن قال نسميه شرعيا لأنه بصدد أن يستفاد من الشرع الحادث قلنا نسميه شرعيا لأنه حكم من الشارع الحقيقي القديم."الوجه الخامس قوله العملية" قيل يم يذكره ابن الباقلاني وذكره غيره وقال الإمام أنه احتراز عن العلم بكون الإجماع حجة والقياس حجة فإن كل ذلك أحكام__________1 سورة الشورى 13.(1/35)شرعية مع أن العلم بها ليس علما بكيفية عمل وأشار الغزالي1 إلى ما أذكره وهو تبيين أن المراد بالأحكام الشرعية هنا ما استفيد من الشرع وهو أعم من تفسير الحكم الشرعي الذي سيأتي فإنه لو أريد ذلك لاستغنى عن قوله هنا العملية وأخص من مطلق الحكم ويصير لفظ الحكم الشرعي مشتركا بين ما ذكره هنا وهناك وكان شيخنا أبو الحسن الباجي2 يختار أن قيد العملية احتراز عن أصول الدين لأن منه ما يثبت بالعقل وحده كوجود الباري تعالى ومنه ما يثبت بكل واحد من العقل والسمع كالوحدانية ومنه وجوب اعتقاد ذلك ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع لقصور العقل عن معرفته فأما الأول والثاني فخرجا بقولنا الشرعية وتفسيرنا إياها بما هو متوقف على الشرع وأما الرابع فقد يقال إنه داخل في الشرعية والأولى أن يجعل هو والأولان خارجة عنها بأن يراد بالحكم الإنشائي لا الخبري ولا شيء من الثلاثة بإنشاء وأما وجوب اعتقاد ذلك فهو حكم شرعي إنشائي فإن كان ذلك لا يسمى فقها فلا بد من إخراجه وما في الحد ما يخرجه إلا القيد المذكور ويرد على إخراجها وإخراج أصول الفقه بذلك إن أريد بالعمل عمل الجوارح والقلب فلا تخرج لدخولها في أعمال القلوب وإن أريد عمل الجوارح فقط خرجت النية وكثير من المسائل التي تكلم الفقهاء فيها كالردة وغيرها مما يتعلق بالقلب ولذلك ترى الآمدي وابن الحاجب لفظ العملية وقالا الفرعية لأن النية من مسائل الفروع وإن كانت عمل القلب ولعل الفقهاء إنما ذكروا ذلك لما يترتب عليه من الصحة والبطلان والمؤاخذة المتعلقات بالأعمال كما يذكر في بعض العلوم ما يتعلق به من علم آخر ثم إن كون الإجماع حجه مثل كون الزنا سببا لوجوب الحد وقد__________1 هو: محمد بن محمد، أبو حامد الغزالي، صاحب إحياء علوم الدين والتصانيف العديدة في الأصول وغيره، مثل: المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل وغيره ذلك.ولد سنة 450هـ وتوفي سنة 505هـ.البداية والنهاية 12/173، شذرات الذهب 1/10-13.2 هو: علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب، علاء الدين الباجي، المولود في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، كان عالماً بسائر العلوم النقلية والعقلية، الفقه والأصول، والمناظرة وغير ذلك. وكان أعلم أهل الأرض بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري في علم الكلام. توفي بالقاهرة سادس ذي القعدة سنة أربع عشرة وسبعمائة.طبقات الشافعية 10/339، حسن المحاضرة 1/544،الدرر الكامنة 3/176.(1/36)منع الإمام بعد ذلك أنه حكم شرعي فعلى طريقة لا حاجة له إلى إخراجه فطريق الجواب عنه أن مراده هناك أنه ليس بحكم زائد على أبحاث الحد وكذا كون الإجماع حجة معناه إيجاب العمل به وبمقتضاه فيجب الاحتراز عنه."الوجه السادس قوله المكتسب من أدلتها" صفة للعلم وفي بعض النسخ المكتسبة صفة للأحكام والأول أحسن بل يتعين وإلا لاحتاج الحد إلى زيادة قوله: إذا حصل بالاستدلال وعلى كلا التقديرين فهو احتراز عن علم الله تعالى وما يلقيه في قلب الملائكة والأنبياء من الأحكام من غير اكتساب واحتراز أيضا عن العلم بوجوب الصلاة والزكاة والصوم ونحوه مما هو معلوم من الدين بالضرورة لأن لفظ الفقه يشعر بالعلم بما فيه دقة ولا دقة في ذلك ولأن العوام يعلمون ذلك ولا تسمى فقهاء وقال التبريزي1 في هذا القسم المعلوم بالضرورة إنه فقه وإن لم يسم المتصف به فقيها فذلك لأن العلماء في اسم الفقيه عرفا كما أن لهم في اسم الفقيه عرفا وكون تلك العلوم ضرورية لا يخرجها عن كونها فقها فإن معظم علوم الصحابة شرائع الأحكام كان كذلك وهذا الذي قاله التبريزي هو المختار وإن ذلك يسمى فقها ولذلك يذكر في كتب الفقه وإنما لا يطلق على العالم به وحده اسم فقيه لما فيه من المبالغة وفقيه اسم فاعل من فقه بضم القاف إذا صار الفقه له سجية وهو وصف له في نفسه لا يتعدى إلى غيره والفقه هو مطلق الفهم وهو صفة يتعدى إلى المفهوم والضمير في أدلتها للأحكام ولو قال من أدلته لصح أيضا على ما في النسخ المشهورة من جعل المكتسب صفة للعلم."الوجه السابع قوله التفصيلية" جعله الجمهور احترازا عن اعتقاد المقلد فإنه اعتبار وحكم شرعي عملي مكتسب من دليل إجمالي وهو أن هذا أفتاني به المفتي وكل ما أفتاني به المفتي فهو حكم الله في حقي وهو دليل عام لا__________1 هو: علي بن عبد الله بن أبي الحسن بن أبي بكر الأردبيلي، تاج الدين التبريزي، كان من العلماء المجيدين لفنون العلوم، من المنقول والمعقول، كالفقه، والأصول، والفرائض، والنحو والحساب، وعني في آخر حياته بدراسة علوم الحديث.توفي بالقاهرة في شهر رمضان سنة ست وأربعين وسبعمائة.طبقات الشافعية لابن السبكي 10/137-138، الدرر الكامنة 3/143، شذرات الذهب 6/148 الأعلام للزركلي 5/121.(1/37)يختص بمسألة بعينها ومقدمته الأولى حسية والثانية إجماعية ولذلك قال الإمام هنا إن هذا القيد يخرج ما للمقلد من العلوم فجعل الحاصل عند المقلد علما وأدرجه في جنس حد الفقه وأخرجه بهذا الفصل لكنه بعد ذلك جعله قسيم العلم فإنه لغير موجب والعلم لموجب وإذا لم يكن إعتقاد المقلد علما لم يدخل في الجنس وهو قوله العلم فلا يحتاج إلى إخراجه بالفصل إلا أن يريد بالعلم الإعتقاد الجازم المطابق أعم من أن يكون لموجب أولا وهنا تم الحد وعلى النسخة التي فيها المكتسبة بالهاء لا يتم الحد هنا لأن المسائل التي يعلمها المقلد هي مستدل عليها في نفس الأمر بأدلة تفصيلية مكتسبة لغيره فلا يخرج إلا بأن تقول إذا حصلت أو حصل علمها بالاستدلال."قيل الفقه من باب الظنون" هذا سؤال على قوله العلم فاقتضى أنه لا شيء من الفقه بظني ونحن نبين لك أنه ظني لأنه موقوف على الظني والموقوف على الظني ظني أما كون الموقوف على الظني ظنيا فلأن الظني يحتمل العدم وعلى تقدير عدمه يعدم الموقوف عليه فلزم كونه ظنيا غير مقطوع به وأما كون الفقه موقوفا على الظني فلأنه موقوف على أدلته وأدلته نص أو إجماع أو قياس فالقياس كله ظني والإجماع اختلف فيه وعلى تسليم أنه قطعي فوصوله إلينا بالظن على أنه في غاية الندور والنص قسمان: أحاد لا يفيد إلا الظن ومتواتر وهو مقطوع المتن ظنون الدلالة وإن اقترن به قرائن حتى أفاد العلم التحق بالمعلوم من الدين ضرورة وأنتم قلتم أنه لا يكون فقها ومقتضى ذلك أن يكون كل الفقه مظنونا ولا شيء منه بمعلوم على عكس ما اقتضاه الحد وفي بعض النسخ قيل من باب الظنون أي الفقه وحذفه لدلالة الكلام عليه."قلنا المجتهد إذا ظن الحكم وجب عليه الفتوى والعمل به للديل القاطع على وجوب اتباع الظن فالحكم مقطوع والظن في طريقه" مضمون هذا الجواب أن الفقه كله قطعي لا ظني وهذه المقالة تنسب إلى أكثر الأصوليين وحاصل كلامهم ومداره ما قاله المصنف وتقريره بالمثال أن نقول في الوتر مثلا الوتر يصلي على الراحلة فهو سنة فالوتر سنة والمقدمة الأولى ثابتة بخبر الواحد والثانية بالاستقراء وهما لا تفيدان إلا الظن فالنتيجة ظنية لتوقفها على الظن(1/38)وهذا الظن الذي أراده المصنف بقوله والظن في طريقه وأكثر الناس إذا وصلوا إلى هذه النتيجة وقفوا عندها واعتقدوا أنها الفقه وهو الظاهر من اصطلاح الفقهاء وعليه بنى السائل سؤاله والأصوليون لم يقفوا عند ذلك لأن الظن لا يجوز اعتماده حتى يدل عليه دليل فنظروا وراء ذلك وقالوا لما حصلت هذه النتيجة وهي اعتقاد كون الوتر سنة ظنا ركبنا قياسا آخر من مقدمتين هكذا الوتر مظنون سنيته وكل ما هو مظنون سنيته فهو سنة في حق من ظنه.والمقدمة الأولى قطعية لأنها وجدانية فإن الظان يجد من نفسه الظن كما يجد الجوع والشبع والمقدمة الثانية قطعية لقيام الإجماع على أن حكم الله في كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده وفي حق من قلده حتى لو اعتقد خلاف الإجماع لدليل كان حكم الله في حقه إلى أن يطلع على مخالفته وهذا الإجماع نقله الشافعي في الرسالة والغزالي في المستصفى وإذا تقررت المقدمتان كانت النتيجة الوتر سنة في حق من ظنه وهي قطعية لأنها تابعة لمقدمتين قطعيتين ولا يضرها وقوع الظن في مقدمتي القياس الأول ونتيجته وهي طريق القياس الثاني لأن الظن إنما يضر إذا كان في مقدمات الدليل وهنا مقدمتا القياس قطعيتان والمظنون خارج عنهما ووجود الظن الذي هو حاصل مقدمة القياس الثاني ليس مظنونا وهذا التقرير على حسنه إنما يفيدنا القطع بوجوب العمل فلذلك اختار جماعة أن الفقه هو العلم أو الظن والإنصاف أنهما مقامان اعتقاد كون الحكم عند الله كذا لا يمكن دعوى القطع فيه واعتقاد وجوب العمل بما ظنه من ذلك دعوى القطع فيه ممكنة والفقهاء نظروا للأول والأصوليون نظروا للثاني ولا مشاححة في الاصطلاح ولم يتوارد اختلافهما على شيء واحد على أني أقول قولهم حكم الله في حق كل مجتهد ما أداه إليه اجتهاده سبيله أنه يجب عليه اتباعه ودعواهم الإجماع بهذا التفسير صحيح وبغير هذا التفسير ممنوع فإذا قلنا المصيب واحد والمخطيء معفو عنه لا يستمر هذا الإطلاق وإن كان بعضهم قال إنه يتعين التكليف ولكن يجب حمله على أنه يأثم بترك ما ظنه واجبا وبفعل ما ظنه حراما لجراءته على ربه بحسب اعتقاده وأما أن ذلك يصير في حقه كالواجب والحرام في نفس الأمر فلا يمكن وإذا ظن زوجه أجنبيه فوطئها يأثم ولكن أيميز إثمه أو يساوي إثم الزاني.(1/39)وقول المصنف للدليل القاطع على وجوب اتباع الظن يقربه إلى الإجماع الذي جعلناه دليل المقدمة الثانية من القياس الثاني ومنع بعض الناس قطعيا قطعية هذا الدليل ليس يجمل لأنه لا بد لنا من دليل قاطع على اتباع الظن دفعا للتسلسل أو اثبات الظن بنفسه فلا بد من قاطع أما إجماع وحده وإما مع قرائن تحتف به تفيد القطع وهذا المعنى والتقرير يحصل في كل مسألة من مسائل الفقه سواء كان دليلها نصا أم قياسا أم غيرهما مما يفيد الظن وقوله مقطوع أي مقطوع به ولكنه حذف الجار وتوسع بتعدية الفعل إلى الضمير."ودليله المتفق عليه بين الأئمة الكتاب والسنة والإجماع والقياس" قوله المتفق عليه إشارة إلى أن ثم أدلة مختلفا فيها وسنذكرها وقوله بين الأئمة أي المعتبرين وإلا فقد أنكر بعض الناس القياس وبعضهم الإجماع ولعله لا يسمى من أنكر ذلك إماما وهو حق لأن الإمام من يقتدى به وهؤلاء لا يقتدى بهم فلذلك طلق الأئمة ووقع في بعض النسخ الأمة والأول أصح لبعد التجوز في الثاني."ولا بد للأصولي من تصور الأحكام الشرعية ليتمكن من إثباتها ونفيها" لا بد أمعناه لا فراق ولذلك قال ابن عبد السلام إنه إذا حلف لا بد أن يفعل كذا ولم يفعله على الفور حنث والمختار أنها لا تفيد الفور المعروف والأصولي نسبة إلى الجمع لأنه مسمى به كالأنصاري والأنماري ولو لم يسم به لم تجز النسبة إلا إلى المفرد فيقال أصلي والحكم على الشيء بالإثبات أو النفي مسبوق يتصوره والأصولي يريد أن يثبت الوجوب مثلا للأمر والتحريم المنهى أو ينفيهما وكذلك بقية الأحكام فلذلك لا بد أن يتصورها أولا وقصد وبهذا وجه الحاجة إلى تقدم هذه المقدمة."لا جرم رتبناه على مقدمة وسبعة كتب".الذي يسبق إلى الذهن من لا جرم في هذا الموضع أن معناها لأجل ذلك أي لأجل ما سبق رتبناه على كتب وقد جاءت لا جرم في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجئ بعدها فعل والذي ذكره المفسرون واللغويون في معناها أقوال:(1/40)أحدها: أن لا نافية وجرم فعل معناه حق وأن ما في حيزه فاعلة وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش فقوله تعالى لا جرم أنهم معناه رد على الكفرة وتحقق بخسرانهم.والثاني: أن لا زائدة وجرم معناه كسب أي كسب لهم عملهم الندامة فإن ما في حيزها على هذا القول في موضع نصب وعلى الأول في موضع رفع.الثالث: أن لا جرم كلمتان ركبتا وصار معناهما حقا وكثيرا ما يقتصر المفسرون على ذلك.الرابع: أن لا جرم معناه لا بد وإن الواقعة بعدها في موضع نصب بإسقاط حرف الجر قال الفراء لا جرم كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا تقول لا جرم لآتينك قال الواحدي وضع موضع القسم في قولهم لا جرم لافعلن كما قالوا حقا لأفعلن وأنت إذا تأملت هذه الأقوال لم ينطبق شيء منها على معنى التعليل الذي قصده المصنف والذي يظهر أن التعليل مستفاد من ترتيب الحكم على الوصف وتصحيح كلام المصنف بأن يقدر فلا جرم أنا رتبناه فإضمار الفاء لإفادة التعليل وتقدير أن واسمها لتوافق موقعها من القرآن أو ينزل الفعل منزلة المصدر ويستغنى عن إضمار أن والتقدير فحقا رتبناه والمقدمة بكسر الدال وفتحها وهو أشهر فالكسر لأنها تقدم الناظر فيها إلى ما بعدها والفتح لأن الناظر يقدمها بين يديه إلى مقصوده هذا في مقدمة الكتاب ومقدمة الدليل أما مقدمة الجيش فلم يجعل الجوهري فيها إلا كسر الدال لأنها تقدم الجيش.ووجه تقديم المقدمة في أول الكتاب كونه لا بد لكل أصولي من تصور الأحكام والكتب السبعة منها الأربعة التي قدمها الكتاب والسنة والإجماع والقياس كل منها كتاب.والخامس: الأدلة المختلف فيها وهذه الخمسة هي الأدلة التي تضمنها المعرفة الأولى من أصول الفقه.والسادس: في التعادل والتراجيح المقصود بالمعرفة الثانية.(1/41)والسابع: في الاجتهاد المقصود بالمعرفة الثالثة.وهذا جملة أصول الفقه."أما المقدمة ففي الأحكام ومتعلقاتها وفيها بابان".لما كانت متعلقات الأحكام يحتاج إليها ذكرها معها وإن لم يبين فيما سبق إلا وجه الحاجة إلى تصور الأحكام.(1/42)المقدمةالاب الأول قي الحكمالفصل الأول: في تعريف الحكم...الباب الأول في الحكم وفيه فصولالفصل الأول في تعريفه"الحكم خطاب الله القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير".