الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 003

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف: أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
عدد الأجزاء: 4   
السَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا مُطَّرِدَةً بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ مُطَّرِدَةٌ أَوْلَى لِسَلَامَتِهَا عَنِ الْمُفْسِدِ وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ. وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُنْكَسِرَةٍ بِخِلَافِ عِلَّةِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ غَيْرُ مُنْكَسِرَةٍ أَوْلَى لِبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ.
الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا مُنْعَكِسَةً بِخِلَافِ عِلَّةِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ مُنْعَكِسَةٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ.
التَّاسِعُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ غَيْرُ مُتَأَخِّرَةٍ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُنْعَكِسَةٍ وَعِلَّةُ الْآخَرِ مُنْعَكِسَةً غَيْرَ مُطَّرِدَةٍ، فَالْمُطَّرِدَةُ أَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنِ اشْتِرَاطِ الِاطِّرَادِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ اشْتِرَاطَ الِاطِّرَادِ خَالَفَ فِي اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ ضَابِطَ الْحِكْمَةِ فِي عِلَّةِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ جَامِعًا لِلْحِكْمَةِ مَانِعًا لَهَا، بِخِلَافِ ضَابِطِ حِكْمَةِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ الْآخَرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، فَالْجَامِعُ الْمَانِعُ أَوْلَى لِزِيَادَةِ ضَبْطِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ رَاجِعَةٍ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهُ بِرَفْعِهِ أَوْ رَفْعِ بَعْضِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِسَلَامَةِ عِلَّتِهِ عَمَّا يُوهِيهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُنَاسِبَةً وَعِلَّةُ الْآخَرِ شَبَهِيَّةً، فَمَا عِلَّتُهُ مُنَاسِبَةٌ أَوْلَى لِزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِهَا وَزِيَادَةِ مَصْلَحَتِهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنَ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْلَى لِزِيَادَةِ مَصْلَحَتِهِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ تَخْلُ شَرِيعَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهِ، وَبُولِغَ فِي حِفْظِهِ بِشَرْعٍ أَبْلَغَ الْعُقُوبَاتِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنَ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مِنْ بَابِ التَّحْسِينَاتِ وَالتَّزْيِينَاتِ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ أَوْلَى لِتَعَلُّقِ الْحَاجَةِ بِهِ دُونَ مُقَابِلِهِ.
(4/274)
 
 
السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ، وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مِنْ أُصُولِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهَا وَمُقَابِلُهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا أُعْطِيَ حُكْمَ أَصْلِهِ حَتَّى شُرِعَ فِي شُرْبِ قَلِيلِ الْخَمْرِ مَا شُرِعَ فِي كَثِيرِهِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ حِفْظَ أَصْلِ الدِّينِ وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ (1) ، فَمَا مَقْصُودُهُ حِفْظُ أَصْلِ الدِّينِ يَكُونُ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى مَقْصُودِهِ وَثَمَرَتِهِ مِنْ نَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ حِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ مَقْصُودِ النَّفْسِ أَوْلَى وَأَرْجَحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودَ غَيْرِهِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ مُرَجَّحٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ، وَحُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِ حَقِّهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقٍّ لَا يَتَضَرَّرُ مُسْتَحِقُّهُ بِفَوَاتِهِ، وَلِهَذَا رَجَّحْنَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ ازْدَحَمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَضَاقَ عَنِ اسْتِيفَائِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَرَ وَقَتَلَ عَمْدًا عُدْوَانًا نَقْتُلُهُ قِصَاصًا لَا بِكُفْرِهِ.
وَأَيْضًا قَدْ رَجَّحْنَا مَصْلَحَةَ النَّفْسِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ، حَيْثُ خَفَّفْنَا عَنِ الْمُسَافِرِ بِإِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَدَاءِ الصَّوْمِ، وَعَنِ الْمَرِيضِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَتَرْكِ أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَقَدَّمْنَا مَصْلَحَةَ النَّفْسِ عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فِي صُورَةِ إِنْجَاءِ الْغَرِيقِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا رَجَّحْنَا مَصْلَحَةَ الْمَالِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ حَيْثُ جَوَّزْنَا تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَرَجَّحْنَا مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ الذِّمِّيِّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ حَتَّى عَصَمْنَا دَمَهُ وَمَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ.
قُلْنَا: أَمَّا النَّفْسُ فَكَمَا هِيَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَهِيَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَالتَّصَرُّفُ
_________
(1) وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مَا سِوَاهُ - أَيْ: حِفْظُ مَا سِوَى أَصْلِ الدِّينِ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ. . إِلَخْ.
(4/275)
 
 
بِمَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِهَا، فَالتَّقْدِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِمُتَعَلِّقِ الْحَقَّيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ عَلَى مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ.
كَيْفَ وَأَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ مُتَحَقِّقٌ بِأَصْلِ شَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالْقَتْلُ إِنَّمَا هُوَ لِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقِصَاصِ إِنَّمَا هُوَ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ بِشَرْعِ الْقَتْلِ دُونَ الْقَتْلِ بِالْفِعْلِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ أَحَدِهِمَا.
كَيْفَ وَأَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّ الْآدَمِيِّ هَاهُنَا لَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ حَقِّ اللَّهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُقُوبَةِ الْبَدَنِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لِبَقَاءِ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَتَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ حَقِّ الْآدَمِيِّ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مُطْلَقًا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
وَأَمَّا التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَلَيْسَ تَقْدِيمًا لِمَقْصُودِ النَّفْسِ عَلَى مَقْصُودِ أَصْلِ الدِّينِ بَلْ عَلَى فُرُوعِهِ، وَفُرُوعُ أَصْلٍ غَيْرُ أَصْلِ الشَّيْءِ، ثُمَّ وَإِنْ كَانَ فَمَشَقَّةُ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ تَقُومُ مَقَامَ مَشَقَّةِ الْأَرْبَعِ فِي الْحَضَرِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَرِيضِ قَاعِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاتِهِ قَائِمًا وَهُوَ صَحِيحٌ، فَالْمَقْصُودُ لَا يَخْتَلِفُ.
وَأَمَّا أَدَاءُ الصَّوْمِ فَلِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ مُطْلَقًا، بَلْ يَفُوتُ إِلَى خُلْفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِحِفْظِ الْمَالِ أَيْضًا، وَبَقَاءِ الذِّمِّيِّ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ مَعْصُومَ الدَّمِ وَالْمَالِ لَيْسَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِأَجْلِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ؛ لِيَسْهُلَ انْقِيَادُهُ وَيَتَيَسَّرَ اسْتِرْشَادُهُ، وَذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الدِّينِ لَا مِنْ مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ.
وَكَمَا أَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّاتِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَقْصُودِ النَّفْسِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ.
أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حِفْظِ النَّسَبِ؛ فَلِأَنَّ حِفْظَ النَّسَبِ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا لِأَجْلِ حِفْظِ الْوَلَدِ حَتَّى لَا يَبْقَى ضَائِعًا لَا مُرَبِّيَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ (بَلْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَالِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَإِنَّهُ فَلَمْ يَكُنْ بَقَاؤُهُ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ) وَذَاتِهِ، بَلْ لِأَجْلِ بَقَاءِ النَّفْسِ مُرَفَّهَةً مُنَعَّمَةً حَتَّى تَأْتِيَ بِوَظَائِفِ التَّكَالِيفِ وَأَعْبَاءِ الْعِبَادَاتِ.
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حِفْظِ الْعَقْلِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّفْسَ أَصْلٌ وَالْعَقْلَ تَبَعٌ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ النَّفْسِ عَلَى تَقْدِيرِ أَفْضَلِيَّتِهِ يَفُوتُهَا مُطْلَقًا، وَمَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْعَقْلِ كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ لَا يُفْضِي إِلَى فَوَاتِهِ مُطْلَقًا.
(4/276)
 
 
فَالْمُحَافَظَةُ بِالْمَنْعِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْفَوَاتِ مُطْلَقًا أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِي حِفْظِ النَّسَبِ أَوْلَى مِنَ الْمَقْصُودِ فِي حِفْظِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لِكَوْنِهِ عَائِدًا إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ الْعَقْلِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ الْمَالِ؛ لِكَوْنِهِ مَرْكَبَ الْأَمَانَةِ وَمَلَاكَ التَّكْلِيفِ وَمَطْلُوبًا لِلْعِبَادَةِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا كَذَلِكَ الْمَالُ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الرُّتَبُ مُخْتَلِفَةً فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا عَلَى نَحْوِ اخْتِلَافِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَبِمِثْلِ تَفَاوُتِ هَذِهِ الرُّتَبِ يَكُونُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ مُكَمِّلَاتِهَا.
الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ نَفْسَ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْآخَرِ دَلِيلَ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَمُلَازِمَهَا، فَالَّذِي فِيهِ الْجَامِعُ نَفْسُ الْعِلَّةِ أَوْلَى لِظُهُورِهَا وَرُكُونِ النَّفْسِ إِلَيْهَا.
التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُلَائِمَةً وَعِلَّةُ الْآخَرِ غَرِيبَةً، فَمَا عِلَّتُهُ مُلَائِمَةٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ.
الْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلَيْنِ مَنْقُوضَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُمْكِنُ عَلَيْهِ إِحَالَةُ النَّقْضِ مِنْ وُجُودٍ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَهِيَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مَدْلُولُهَا فِي صُورَةٍ بِطْرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَالْأُخْرَى يَتَخَلَّفُ عَنْهَا حُكْمُهَا لَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالَّتِي يَتَخَلَّفُ عَنْهَا حُكْمُهَا بِجِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ تَكُونُ أَوْلَى لِقُرْبِهَا إِلَى الصِّحَّةِ وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ قَدْ خَلَّفَهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهَا لِكَوْنِ مُنَاسَبَتِهَا فِيهَا أَشَدَّ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ الْأُخْرَى فَهِيَ أَوْلَى لِتَبَيُّنِ عَدَمِ إِلْغَائِهَا بِخِلَافِ الْأُخْرَى.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَا مُزَاحِمَ لَهَا فِي أَصْلِهَا بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَالَّتِي لَا مُزَاحِمَ لَهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّعْدِيَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا رُجْحَانُهَا عَلَى مُزَاحِمِهَا أَكْثَرُ مُقَدَّمَةً أَيْضًا.
(4/277)
 
 
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُقْتَضِيَةً لِلْإِثْبَاتِ وَالْأُخْرَى مُقْتَضِيَةً لِلنَّفْيِ، فَالنَّافِيَةُ تَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرِ رُجْحَانِهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ مُسَاوَاتِهَا، وَمُقْتَضَى الْمُثْبَتَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ رُجْحَانِهَا، وَمَا يَتِمُّ مَطْلُوبُهُ عَلَى تَقْدِيرٍ مِنْ تَقْدِيرَيْنِ يَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِمَّا لَا يَتِمُّ مَطْلُوبُهُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُثْبَتَةَ مُقْتَضَاهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ النَّافِيَةِ، وَمَا فَائِدَتُهَا شَرْعِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ تَكُونُ أَوْلَى.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ اخْتِصَاصِ أَصْلِ النَّافِيَةِ بِمَعْنَى لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ لِلنَّافِيَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّخْيِيرَ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَيَتَسَاوَى الْقَدَمَانِ.
قُلْنَا: أَمَّا كَوْنُ حُكْمِ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ شَرْعِيٌّ (1) فَلَا يَرْجَحُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا كَانَ مَطْلُوبًا لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ، وَالشَّارِعُ كَمَا يَوَدُّ تَحْصِيلَ الْحِكْمَةِ بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ يَوَدُّ تَحْصِيلَهَا بِوَاسِطَةِ نَفْيِهِ.
كَيْفَ وَأَنَّ الْعِلَّةَ النَّافِيَةَ مُتَأَيِّدَةٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُثْبَتَةَ عَلَى خِلَافِهِ فَكَانَتْ أَوْلَى.
وَمَا قِيلَ مِنْ وُجُوبِ اعْتِقَادِ اخْتِصَاصِ النَّافِيَةِ بِمَعْنًى فِي الْأَصْلِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ فِي الْمُثْبَتَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ اخْتِصَاصِ أَصْلِهَا بِمَعْنًى لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ النَّافِي، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَالتَّخْيِيرُ وَإِنْ كَانَ مَقُولًا بِهِ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَيْسَ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ الشَّاذَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَابَلَهُ.
كَيْفَ وَأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، فَالْحُكْمُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ مَقْصُودِهِ.
_________
(1) شَرْعِيٌّ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي الْمَخْطُوطَةِ شَرْعِيَّةٌ، وَالصَّوَابُ: شَرْعِيًّا، بِالتَّذْكِيرِ وَالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْكَوْنِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَاسْمُهُ الْحُكْمُ.
(4/278)
 
 
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ حِكْمَةُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ قَدِ اخْتَلَّتِ احْتِمَالًا لِمَانِعٍ أَخَلَّ بِهَا دُونَ الْأُخْرَى، فَالَّتِي لَا يَخْتَلُّ حُكْمُهَا احْتِمَالًا أَوْلَى لِقُرْبِهَا إِلَى الظَّنِّ وَبُعْدِهَا عَنِ الْخَلَلِ وَالْخِلَافِ.
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا مِنَ الْأُخْرَى فَتَكُونُ أَوْلَى لِزِيَادَةِ مُنَاسَبَتِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ.
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُشِيرَةً إِلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ وَمُنَاسِبَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَمَا لَا تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِنَقِيضِ الْمَطْلُوبِ تَكُونُ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ فِي إِفْضَائِهَا إِلَى حُكْمِهَا وَأَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاضْطِرَابِ.
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُتَضَمِّنَةً لِمَقْصُودٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْأُخْرَى مُتَضَمِّنَةً لِمَقْصُودٍ يَرْجِعُ إِلَى آحَادِهِمْ، فَالْأُولَى أَوْلَى لِعُمُومِ فَائِدَتِهَا.
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَكْثَرَ شُمُولًا لِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ مِنَ الْأُخْرَى، فَتَكُونُ أَوْلَى لِعُمُومِ فَائِدَتِهَا.
 
[التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْفَرْعِ]
وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْفَرْعِ فَأَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فَرْعُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، وَفَرْعُ الْآخَرِ مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ، أَوْ جِنْسِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَعَيْنِ الْحُكْمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى الْأَخَصِّ وَالْأَعَمِّ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى فَمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي عَيْنِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْحُكْمِ أَوِ الْعِلَّةِ، تَكُونُ أَوْلَى مِمَّا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ بَيْنَ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ فِي جِنْسِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فَرْعُ أَحَدِهِمَا مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ وَالْآخَرِ بِعَكْسِهِ، فَمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ إِنَّمَا هِيَ فَرْعُ تَعْدِيَةِ الْعِلَّةِ، فَهِيَ الْأَصْلُ فِي التَّعْدِيَةِ وَعَلَيْهَا الْمَدَارُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَصْلِهِ وَفِي الْآخَرِ مُتَقَدِّمًا، فَمَا الْفَرْعُ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ أَوْلَى لِسَلَامَتِهِ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ وَعَلِمْنَا بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ بِمَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْأَصْلِ.
(4/279)
 
 
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي أَحَدِ الْفَرْعَيْنِ قَطْعِيًّا وَفِي الْآخَرِ ظَنِّيًّا، فَمَا وُجُودُ الْعِلَّةِ فِيهِ قَطْعِيٌّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ الْقَادِحِ فِيهِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ فِي أَحَدِهِمَا قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، بِخِلَافِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى حُكْمِ الْفَرْعِ وَإِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ فَعَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي الْمَنْقُولَاتِ.
وَقَدْ يَتَرَكَّبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ وَمُقَابَلَاتِ بَعْضِهَا لِبَعْضِ تَرْجِيحَاتٌ أُخَرُ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ لَا يَخْفَى إِيجَادُهَا فِي مَوَاضِعِهَا عَلَى مَنْ أَخَذَتِ الْفَطَانَةُ بِيَدِهِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي كِتَابِنَا الْمَوْسُومِ بِمُنْتَهَى السَّالِكِ فِي رُتَبِ الْمَسَالِكِ، فَعَلَيْكَ بِمُرَاجَعَتِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى التَّرْجِيحُ الْمُتَعَلِّقُ بِالِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَوَاتِهَا وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ: فَالْمَنْقُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَإِمَّا عَامًّا.
فَإِنْ كَانَ خَاصًّا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا بِمَنْظُومِهِ، أَوْ لَا بِمَنْظُومِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِكَوْنِهِ أَصْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّأْيِ وَقِلَّةِ تَطَرُّقِ الْخَلَلِ إِلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمِنْهُ مَا هُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا هُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ، وَالتَّرْجِيحُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقَعُ فِي نَفْسٍ مِنْ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ وَضَعْفِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا حَاصِرَ لَهُ بِحَيْثُ تَمْكُنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى النَّاظِرِينَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ عَامًّا، فَقَدْ قِيلَ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ، وَقِيلَ بِالتَّوَقُّفِ، وَقِيلَ بِتَقْدِيمٍ عَلَى جَلِيِّ (1) الْقِيَاسِ دُونَ خَفِيِّهِ.
وَقِيلَ: يَتَقَدَّمُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ دُونَ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ.
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ، وَسَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْعَامِّ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِبْطَالُ الْعَامِّ مُطْلَقًا، بَلْ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُهُ وَتَأْوِيلُهُ.
_________
(1) عَلَى جَلِيِّ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ بِإِثْبَاتِ عَلَى وَهِيَ غَيْرُ مُثْبَتَةٍ فِي الْمَخْطُوطَةِ، وَقَدِ اعْتَمَدْنَا حَذْفَهَا.
(4/280)
 
 
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْوِيلُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَإِبْطَالِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَتَنَاوَلُ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ وَالْمَنْقُولَ يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ، وَالْخَاصَّ أَقْوَى مِنَ الْعَامِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ وَالْقِيَاسَ فَرْعٌ وَالْأَصْلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَرْعِ.
وَأَيْضًا فَإِنْ تَطَرَّقَ الْخَلَلُ إِلَى الْعُمُومِ أَقَلَّ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْقِيَاسِ، عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَكَانَ أَوْلَى.
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَا قِيلَ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ هُوَ أَصْلُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِغَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْعًا لِذَلِكَ الْعَامِّ بِعَيْنِهِ فَهُوَ فَرْعٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ.
قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا لِمَا جَازَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ فَرْعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الثَّانِي فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرٍ فِي الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبُ مِنِ احْتِمَالِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَبَحِّرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى.
وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَهُوَ مَخْصُوصٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ.
(4/281)
 
 
[الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْحُدُودِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ التَّصَوُّرِيَّةِ]
الْبَابُ الثَّانِي
فِي التَّرْجِيحَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْحُدُودِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ التَّصَوُّرِيَّةِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ، كَانْقِسَامِ الْحُجَجِ، غَيْرَ أَنَّ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ غَرَضُنَا هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ السَّمْعِيَّةُ.
وَمِنَ السَّمْعِيَّةِ مَا كَانَ ظَنِّيًّا، وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْحَدَّيْنِ السَّمْعِيَّيْنِ فَقَدْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلًا عَلَى أَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ نَاصَّةٍ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَجَوُّزٍ وَلَا اسْتِعَادَةٍ وَلَا اشْتِرَاكٍ وَلَا غَرَابَةٍ وَلَا اضْطِرَابٍ وَلَا مُلَازَمَةٍ، بَلْ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ (1) بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْخَلَلِ وَالِاضْطِرَابِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ فِي أَحَدِهِمَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُعَرَّفِ فِي الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَفْضَى إِلَى التَّعْرِيفِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَرَّفًا بِالْأُمُورِ الذَّاتِيَّةِ وَالْآخَرُ بِالْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ (2) ، فَالْمُعَرَّفُ بِالْأُمُورِ الذَّاتِيَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُشَارِكٌ لِلْمُعَرَّفِ بِالْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ فِي التَّمْيِيزِ وَمُرَجَّحٌ عَلَيْهِ بِتَصْوِيرِ مَعْنَى الْمَحْدُودِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدَّيْنِ أَعَمَّ مِنَ الْآخَرِ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَعَمُّ أَوْلَى لِتَنَاوُلِهِ مَحْدُودَ الْآخَرِ وَزِيَادَةً، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْأَخَصَّ أَوْلَى؛ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَدْلُولَ الْآخَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَا مَدْلُولُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْلَى.
_________
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 163 ج 4.
(2) تَقْسِيمُ الْكُلِّيِّ إِلَى ذَاتِيٍّ وَعَرَضِيٍّ مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَقَدِ اعْتَرَفَ مَنْ كَتَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَنْطِقِ وَفِي الْمَقُولَاتِ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ عَسِيرٌ، انْظُرِ الرَّدَّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ.
(4/282)
 
 
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ أُتِيَ فِيهِ بِجَمِيعِ ذَاتِيَّاتِهِ وَالْآخَرُ بِبَعْضِهَا مَعَ التَّمْيِيزِ، فَالْأَوَّلُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعْرِيفًا.
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا النَّقْلَ السَّمْعِيَّ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَالْمُوَافِقُ يَكُونُ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخَلَلِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.
السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ اكْتِسَابِ أَحَدِهِمَا أَرْجَحَ مِنْ طَرِيقِ اكْتِسَابِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.
الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ وَالْآخَرُ أَبْعَدُ، فَالْمُوَافِقُ أَوْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُوَافَقَةً لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيرُ دُونَ التَّغْيِيرِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ وَأَسْرَعَ إِلَى الِانْقِيَادِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّقْرِيرُ هُوَ الْغَالِبَ، وَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّغْيِيرِ فَكَانَ أَوْلَى.
التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا قَدْ ذَهَبَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ بِمَا يَقُولُ، بِخِلَافِ الْآخَرِ فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَأَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ.
الْعَاشِرُ: أَنْ يَلْزَمَ مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ حُكْمِ الْحَظْرِ وَالْآخَرِ تَقْرِيرُ الْوُجُوبِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ النَّدْبِ، فَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْرِيرُ الْحَظْرِ أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحُجَجِ.
الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ حُكْمِ النَّفْيِ وَالْآخَرِ الْإِثْبَاتِ، فَالْمُقَرَّرُ لِلنَّفْيِ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ.
الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ حُكْمٍ مَعْقُولٍ وَمِنَ الْآخَرِ حُكْمٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْرِيرُ حُكْمٍ مَعْقُولٍ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا دَرْءُ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ وَمِنَ الْآخَرِ إِثْبَاتُهُ، فَالدَّارِئُ لِلْحَدِّ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ أَيْضًا.
(4/283)
 
 
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يُلَازِمُهُ الْحُرِّيَّةُ أَوِ الطَّلَاقُ، وَالْآخَرُ يُلَازِمُهُ الرِّقُّ أَوْ إِبْقَاءُ النِّكَاحِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ.
وَقَدْ يَتَشَعَّبُ مِنْ تَقَابُلِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ تَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ لَا تَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلِهَا.
وَهَذَا آخِرُ مَا أَرَدْنَاهُ وَنِهَايَةُ مَا رَتَّبْنَاهُ.
اللَّهُمَّ! فَكَمَا أَلْهَمْتَ بِإِنْشَائِهِ وَأَعَنْتَ عَلَى إِنْهَائِهِ، فَاجْعَلْهُ نَافِعًا فِي الدُّنْيَا وَذَخِيرَةً صَالِحَةً فِي الْأُخْرَى، وَاخْتِمْ بِالسَّعَادَةِ آجَالَنَا، وَحَقِّقْ بِالزِّيَادَةِ آمَالَنَا، وَاقْرِنْ بِالْعَافِيَةِ غُدُوَّنَا وَآصَالَنَا، وَاجْعَلْ إِلَى حِصْنِكَ مَصِيرَنَا وَمَآلَنَا، وَتَقَبَّلْ بِفَضْلِكَ أَعْمَالَنَا إِنَّكَ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَمُفِيضُ الْخَيْرَاتِ، وَالْحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
(4/284)