الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 002

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف: أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
عدد الأجزاء: 4   
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ دَاخِلَانِ تَحْتَ الْخِطَابِ بِأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ لَيْسَ كَذَلِكَ.
فَإِنَّا إِنْ نَظَرْنَا إِلَى تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمَالِهِمَا فَهُوَ ثَابِتٌ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ الثَّابِتِ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ وَلَيِّهِمَا لَا بِفِعْلِهِمَا.
وَأَمَّا صِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِالصَّلَاةِ وَالْإِسْلَامِ.
أَمَّا صِحَّةُ الصَّلَاةِ فَمَعْنَاهَا انْعِقَادُهَا سَبَبًا لِثَوَابِهِ، وَسُقُوطُ الْخِطَابِ عَنْهُ بِهَا إِذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَبَلَغَ فِي آخِرِهِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّارِعِ حَتَّى يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مِنَ الشَّارِعِ، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الْوَلِيِّ لِفَهْمِهِ بِخِطَابِهِ دُونَ خِطَابِ الشَّرْعِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ صِحَّةِ إِسْلَامِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ تَخْصِيصِ الصَّبِيِّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ مَعَ تَسْلِيمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَغَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا قَادِحٍ (1) ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ.
وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ (قَدْ) يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ فَكَذَلِكَ دَلِيلُ الْحِسِّ، وَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مَعَ خُرُوجِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ ذَلِكَ حِسًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَلَمْ تَجْعَلْهَا رَمِيمًا بِدَلَالَةِ الْحِسِّ، فَكَانَ الْحِسُّ هُوَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ؛ فَكَانَ مُخَصِّصًا.
_________
(1) فَغَيْرُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فَذَلِكَ غَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا قَادِحٍ بِتَقْدِيرٍ إِلَخْ.
(2/317)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ خِلَافًا لِبَعْضِ الطَّوَائِفِ، وَدَلِيلُهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْمَنْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَرَدَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَرَدَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ نَصَّانِ مِنَ الْكِتَابِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِالْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ، فَإِنْ عُمِلَ بِالْعَامِّ لَزِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ مُطْلَقًا، وَلَوْ عُمِلَ بِالْخَاصِّ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَامِّ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْخَاصِّ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْخَاصَّ أَقْوَى فِي دَلَالَتِهِ وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ لِبُعْدِهِ عَنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ بِخِلَافِ الْعَامِّ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْعَمَلِ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ الْمَعْمُولُ بِهِ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْعَامِّ فِي الصُّورَةِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ، وَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ، أَنَّ النَّسْخَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَصْلِ الْحُكْمِ فِي الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ وَرَفْعَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ فِيهِ سِوَى دَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لِلصُّوَرِ الْمَفْرُوضَةِ بِلَفْظِ الْعَامِّ، فَكَانَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّسَخُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ فَكَانَ التَّخْصِيصُ أَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ رُفِعَ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ، وَالتَّخْصِيصُ مَنَعَ مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ وُقُوعَ التَّخْصِيصِ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبُ مِنَ النَّسْخِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى إِدْرَاجًا لَهُ تَحْتَ الْأَغْلَبِ، وَسَوَاءٌ جُهِلَ التَّارِيخُ أَوْ عُلِمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا.
(2/318)
 
 
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ لَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
قُلْنَا: إِضَافَةُ الْبَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ بِالْكِتَابِ إِذِ الْكُلُّ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِهِ، فَذِكْرُهُ الْآيَةَ الْمُخَصِّصَةَ يَكُونُ بَيَانًا مِنْهُ وَيَجِبُ حَمْلُ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِهِ، كَانَ الْوَارِدُ عَلَى لِسَانِهِ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا لِكُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، لِكَوْنِهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي الْبَعْضِ فَيَجِبُ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَإِنْ صَحَّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا فَلَا يَصِحُّ فِيمَا إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا فَيَكُونَ الْعَامُّ بَعْدَهُ نَاسِخًا لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَقَدِّمًا فَيَكُونَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لَهُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَوَجَبَ التَّعَاوُنُ (1) وَالتَّسَاقُطُ وَالرُّجُوعُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي.
وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْخَاصِّ مُخَصِّصًا مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْخَاصِّ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِمَدْلُولِ الْخَاصِّ، لَا أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: اقْتُلُوا زَيْدًا الْمُشْرِكَ وَعَمْرًا الْمُشْرِكَ وَخَالِدًا، وَهَلُمَّ جَرَّا.
فَإِذَا الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ: اقْتُلُوا زَيْدًا الْمُشْرِكَ إِذَا وَرَدَ الْعَامُّ بَعْدَهُ بِنَفْيِ الْقَتْلِ عَنِ الْجَمِيعِ فَهُوَ نَاصٌّ عَلَى زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: اقْتُلُوا زَيْدًا وَلَا تَقْتُلُوا زَيْدًا كَانَ نَاسِخًا لَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ يُمْكِنُ نَسْخُهُ، وَالْعَامَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا فَكَانَ نَاسِخًا.
_________
(1) التَّعَاوُنُ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ التَّعَادُلُ
(2/319)
 
 
الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَمُخَصِّصًا لِمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَكُونُ مُلْتَبِسًا.
الرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ، وَالْعَامُّ الْمُتَأَخِّرُ أَحْدَثُ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ التَّعَارُضِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى التَّرْجِيحِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُجَجِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الْعَامِّ فِي تَنَاوُلِهِ لِمَا تَحْتَهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ جَارٍ مَجْرَى الْأَلْفَاظِ الْخَاصَّةِ، إِذِ الْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّخْصِيصِ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِمْكَانِ نَسْخِهِ لِلْخَاصِّ الْوُقُوعُ، وَلَوْ لَزِمَ مِنَ الْإِمْكَانِ الْوُقُوعُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا لَهُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَنْسُوخًا وَمُخَصِّصًا لِنَاسِخِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا بِتَرَدُّدِ الْخَاصِّ بَيْنَ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَمُخَصِّصًا أَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ مُسَاوٍ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ تَطَرُّقَ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا.
وَلَوْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا لَمَنَعَ تَطَرُّقَ احْتِمَالِ كَوْنِ الْعَامِّ مُخَصَّصًا بِالْخَاصِّ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ نَاسِخًا.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْأَحْدَثُ هُوَ الْخَاصُّ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
(2/320)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَدَلِيلُهُ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ.
أَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» " وَرَدَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ "، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِمَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ السُّنَّةِ بِسُنَّةٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
 
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَخْصِيصُ عُمُومِ السُّنَّةِ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ السُّنَّةِ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَدَلِيلُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ.
أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ خُصَّ فِي الْبَعْضِ فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْبَاقِي.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِسُنَّتِهِ.
فَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ لَكَانَ الْمُبَيَّنُ بِالسُّنَّةِ مُبَيِّنًا لَهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُبَيِّنَ أَصْلٌ، وَالْبَيَانُ تَبَعٌ لَهُ وَمَقْصُودٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ لَكَانَتِ السُّنَّةُ أَصْلًا وَالْقُرْآنُ تَبَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَجَوَابُ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِمَا أُنْزِلَ امْتِنَاعُ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ بِمَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذِ السُّنَّةُ أَيْضًا مُنَزَّلَةٌ عَلَى مَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} غَيْرَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنْهُ مَا يُتْلَى فَيُسَمَّى كِتَابًا، وَمِنْهُ مَا لَا يُتْلَى فَيُسَمَّى سُنَّةً، وَبَيَانُ أَحَدِ الْمُنْزَلَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
(2/321)
 
 
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِشَيْءٍ ضَرُورَةَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَأَيُّ شَيْءٍ قُدِّرَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُبَيِّنًا لَهُ فَلَيْسَ الْقُرْآنُ تَبَعًا لَهُ، وَلَا ذَلِكَ الشَّيْءُ مَتْبُوعًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ قَدْ يُبَيَّنُ بِهِ مُرَادُ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَلَيْسَ مُنْحَطًّا عَنْ رُتْبَةِ الظَّنِّيِّ.
 
[الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً فَلَمْ أَعْرِفْ فِيهِ خِلَافًا، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا مَرَّ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ جَوَازُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ لَا مُتَّصِلٍ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَلَا، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْوَقْفِ.
وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ، وَدَلِيلُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ.
أَمَّا النَّقْلُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ خَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ: " «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا» " (1) .
وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الْآيَةَ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ (2) ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَلَا الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ» ". (3)
_________
(1) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ
(2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا.
(3) حَدِيثُ الْحِرْمَانِ مِنَ الْإِرْثِ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ، رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَبِذَلِكَ تَعْرِفُ إِدْخَالَ الْآمِدِيِّ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْآخَرِ وَتَصَرُّفَهُ فِي مَتْنِهِمَا.
(2/322)
 
 
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً» " (1) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ» (2) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ» . (3)
، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَأَخْرَجُوا مِنْهُ مَا دُونَ النِّصَابِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» " (4) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بِإِخْرَاجِ الْمَجُوسِ مِنْهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِمَا فَعَلُوهُ نَكِيرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَزِيَادَةٌ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّخْصِيصِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخْصِيصَهَا كَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَرَدُّوهُ» " وَالْخَبَرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ فَكَانَ مَرْدُودًا. (5) .
_________
(1) الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً
(2) حَدِيثُ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ لِلْجَدَّةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
(3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَصْلُحُ صَاعٌ بِصَاعَيْنِ وَلَا دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ إِلَخْ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ.
(4) رَوَى الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهَا أَيْضًا بِلَفْظِ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.
(5) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عَنِّي أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ، انْظُرِ الْإِبْهَاجَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِتَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَفِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ أَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ " قَالَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى الْكِتَابِ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا قُلْتُهُ "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " سَأَلْتُ الْيَهُودَ عَنْ مُوسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ وَزَادُوا وَنَقَصُوا حَتَّى كَفَرُوا، وَسَأَلْتُ النَّصَارَى عَنْ عِيسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ وَزَادُوا وَنَقَصُوا حَتَّى كَفَرُوا بِهِ، وَإِنَّهُ سَيَفْشُو عَنِّي أَحَادِيثُ فَمَا أَتَاكُمْ مِنِّي مِنْ حَدِيثِي فَاقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ فَاعْتَبِرُوهُ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا لَمْ يُوَافِقْ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَبُو حَاضِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَا تُمْسِكُوا عَنِّي شَيْئًا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، تَفَرَّدَ بِهِ صَالِحُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، " فِي هَامِشِ النُّسْخَةِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ هُوَ الْوَاسِطِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ "، وَغَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ خِلَافَ مُنَاقَضَةٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ كَمَا فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ سَائِرِ النُّصُوصِ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ ذَلِكَ، فَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَقَوْلُهُ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ بِعُمُومِهَا عَلَى قَبُولِ مَا صَحَّ نَقْلُهُ إِلَيْنَا مِنَ الْوَحْيِ كِتَابًا وَسُنَّةً دُونَ فَرْقٍ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ "، وَمِنْهُ مَا رَوَوْهُ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ قَالَ: " يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي يَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ".
(2/323)
 
 
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ صَحَّ فَالتَّخْصِيصُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ لَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا إِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ؟
(2/324)
 
 
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَذَّبَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِيمَا رَوَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، لِمَا كَانَ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَالَ: كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ» ؟ (1)
وَإِنْ سَلَّمْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ كَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ بِمُجَرَّدِهِ مُخَصِّصٌ، بَلْ رُبَّمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عِنْدَهُمْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ قَوْلِهِ بِقَرَائِنَ وَأَدِلَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِقَوْلِهِ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ إِخْبَارِهِ حُجَّةً.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، فَنَقُولُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي مَدْلُولِهِ نَظَرًا إِلَى مَتْنِهِ غَيْرَ أَنَّ سَنَدَهُ مَظْنُونٌ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ قَطْعِيُّ السَّنَدِ وَقَطْعِيٌّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاقِعًا فِي مُعَارَضَتِهِ كَمَا فِي النَّسْخِ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آحَادِهِ، لَكِنْ مَتَى إِذَا خُصَّ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ عَلَى مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ أَوْ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَوْ قَبْلَ التَّخْصِيصِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ لِكَوْنِهِ صَارَ مَجَازًا ظَنِّيًّا، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِبَقَائِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا لِتَرْجِيحِ الْعَامِّ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ، بِكَوْنِهِ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ وَسَنَدِهِ.
_________
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 79 ج2
(2/325)
 
 
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَتْنِهِ ظَنِّيَّةٌ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ قَطْعِيُّ السَّنَدِ وَالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ فَظَنِّيٌّ فِي سَنَدِهِ فَقَدْ تَقَابَلَا وَتَعَارَضَا وَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عَلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ.
وَالْجَوَابُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَضَافُوا التَّخْصِيصَ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ، فَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ أَنْ لَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْمُخَصِّصُ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْهُ فَكَانَ مُقَرِّرًا لَا مُخَالِفًا، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُفْضِيَ إِلَى تَخْصِيصِ (1) مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مُخَصِّصٌ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ.
قَوْلُهُمْ: إِنْ صَحَّ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَالتَّخْصِيصُ بِإِجْمَاعِهِمْ لَا بِالْخَبَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى تَخْصِيصِهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَهْمَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَكْذِيبِ عُمَرَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، بَلْ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِدْقِهَا وَلِهَذَا قَالَ: كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ؟ وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ مَرْدُودًا مُطْلَقًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّعْلِيلِ.
قَوْلُهُمْ: لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
قُلْنَا: وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ خَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مَقْبُولًا، بَلْ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَ مُغْلِبًا عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِ مَا سِوَاهُ فِي الْقَبُولِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ سَنَدَ الْخَبَرِ ظَنِّيٌّ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ عَلَى الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ قَطْعِيَّةٌ، لِاحْتِمَالِهِ لِلتَّخْصِيصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُدِّرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ خُصَّ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
_________
(1) لَا يُفْضِي إِلَى تَخْصِيصٍ فِيهِ سَقْطٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُفْضِي إِلَى مَنْعِ تَخْصِيصِ.
(2/326)
 
 
وَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لَا رَفْعٌ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ ذَلِكَ مِنِ امْتِنَاعِ النَّسْخِ بِهِ امْتِنَاعُ التَّخْصِيصِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّؤَالِ الْأَخِيرِ فِي جِهَةِ التَّعَارُضِ، فَجَوَابُهُ أَنَّ احْتِمَالَ الضَّعْفِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ كَذِبِهِ، وَفِي الْعَامِّ مِنْ جِهَةِ جَوَازِ تَخْصِيصِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ الْعَامِّ.
وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْعُمُومَاتِ مُخَصِّصَةً، وَلَيْسَ أَكْثَرُ أَخْبَارِ الْعُدُولِ كَاذِبَةً فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ عُمِلَ بِعُمُومِ الْعَامِّ لَزِمَ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَلَوْ عُمِلَ بِالْخَبَرِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا سِوَى صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعَامِّ إِبْطَالٌ لِلْخَاصِّ، وَالْعَمَلَ بِالْخَاصِّ بَيَانٌ لِلْعَامِّ لَا إِبْطَالٌ لَهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْبَيَانَ أَوْلَى مِنَ الْإِبْطَالِ.
 
[الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْمَنْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ خَصَّصَ آيَةَ الْقَذْفِ بِتَنْصِيفِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ كَالْأَمَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْعَامُّ غَيْرُ قَاطِعٍ فِي آحَادِ مُسَمَّيَاتِهِ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ.
فَإِذَا رَأَيْنَا أَهَلَ الْإِجْمَاعِ قَاضِينَ بِمَا يُخَالِفُ الْعُمُومَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَا قَضَوْا بِهِ إِلَّا وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى دَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لَهُ نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنْهُمْ.
وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى إِطْلَاقِنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُخَصِّصٌ لِلنَّصِّ أَنَّهُ مُعَرِّفٌ لِلدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ، لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ الْمُخَصِّصُ.
وَبِالنَّظَرِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا نَقُولُ: إِنَّا إِذَا رَأَيْنَا عَمَلَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى نَاسِخٍ لِلنَّصِّ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُعَرِّفًا لِلنَّاسِخِ، لَا أَنَّهُ نَاسِخٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ خِطَابِ الشَّارِعِ، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ خِطَابًا لِلشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْخِطَابِ النَّاسِخِ.
(2/327)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَاضْرِبْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ دَارِي فَلَا تَقُلْ لَهُ: أُفٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ زِيدٍ وَإِخْرَاجِهِ عَنِ الْعُمُومِ، نَظَرًا إِلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ كَفِّ الْأَذَى عَنْ زَيْدٍ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي.
وَكَذَا لَوْ وَرَدَ نَصٌّ عَامٌّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَنْعَامِ كُلِّهَا، ثُمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» "، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ بِإِخْرَاجِ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِمَفْهُومِهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَفْهُومَيْنِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي مَوْرِدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، لِتَرَجُّحِ دَلَالَةِ الْخَاصِّ عَلَى دَلَالَةِ الْعَامِّ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا وَأَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنَ الْعُمُومِ إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ مَنْطُوقٌ بِهِ، وَالْمَنْطُوقُ أَقْوَى فِي دَلَالَتِهِ مِنَ الْمَفْهُومِ لِافْتِقَارِ الْمَفْهُومِ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى الْمَنْطُوقِ، وَعَدَمِ افْتِقَارِ الْمَنْطُوقِ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى الْمَفْهُومِ.
قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَفْهُومِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ مُطْلَقًا، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَالِ أَصْلِ الْآخَرِ.
(2/328)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِفِعْلِ الرَّسُولِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِفِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ فِعْلِ الرَّسُولِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، هَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ لِلْعُمُومِ أَمْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ كَالْكَرْخِيِّ.
وَتَحْقِيقُ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: الْعَامُّ الْوَارِدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ وَالرَّسُولِ كَمَا لَوْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْوِصَالُ أَوِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ كَشْفِ الْفَخِذِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَ الرَّسُولِ كَمَا لَوْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْوِصَالِ أَوِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ كَشْفِ الْفَخِذِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِذَا رَأَيْنَاهُ قَدْ وَاصَلَ أَوِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ كَشَفَ فَخِذَهُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْعُمُومِ وَمُخَصِّصًا.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ فِي فِعْلِهِ وَالتَّأَسِّيَ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُ، أَوْ لَا نَقُولُ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ حُكْمِ الْعُمُومِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِ بِفِعْلِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، بَلْ نَسْخًا لِحُكْمِ الْعُمُومِ مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي، كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُ عَنِ الْعُمُومِ دُونَ أُمَّتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَ الرَّسُولِ، فَفِعْلُهُ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِنَفْسِهِ عَنِ الْعُمُومِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ أَيْضًا بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْأُمَّةِ لَهُ فِي فِعْلِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَسْخًا عَنْهُمْ لَا تَخْصِيصًا كَمَا سَبَقَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ أَصْلًا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْعُمُومِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ.
وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَلَا أَرَى لِلْخِلَافِ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ (1) بِفِعْلِ النَّبِيِّ وَجْهًا.
_________
(1) لِلْخِلَافِ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ لِلْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ
(2/329)
 
 
أَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُخَصَّصُ عَنِ الْعُمُومِ وَحْدَهُ فَلِعَدَمِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَأَمَّا فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ فَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّخْصِيصِ.
بَلْ إِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ، هَلْ فِعْلُهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْعُمُومِ فِيهَا؟ فَخَارِجٌ عَنِ الْخَوْضِ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ، وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ التَّأَسِّي، وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ عَامٍّ لِلْأُمَّةِ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْعُمُومِ الْآخَرِ فِي عُمُومِهِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا وَإِبْطَالُ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. (1)
فَإِنْ قِيلَ: بَلِ الْعَمَلُ بِالْفِعْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ قُلْنَا: الْفِعْلُ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ بَاقِي الْأُمَّةِ بِنَفْسِهِ، بَلْ لِأَدِلَّةٍ عَامَّةٍ مُوجِبَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ لُزُومَ الِاتِّبَاعِ.
_________
(1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ الْخِطَابَ التَّشْرِيعِيَّ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُمُّ أُمَّتَهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُخْتَارَ دُخُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمُومِ الْخِطَابِ بِمِثْلِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَدُخُولُهُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ لِأُمَّتِهِ، وَقَدْ دَلَّ إِرْسَالُهُ مُشَرِّعًا لِلْأُمَّةِ الْحَثَّ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالِاتِّسَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ شَرْعٌ لَنَا إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، إِمَّا بِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ بِدَلِيلٍ كَمَا فِي وِصَالِهِ فِي الصَّوْمِ مَعَ نَهْيِ أُمَّتِهِ عَنْهُ، وَإِمَّا بِصَرْفِ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ مَعَ تَرْكِهِ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ نَقُلْ بِالنَّسْخِ، وَصَرْفِ النَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى التَّنْزِيهِ كَمَا فِي شُرْبِهِ قَائِمًا، وَبَوْلِهِ قَائِمًا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى حَالَةٍ طَارِئَةٍ اقْتَضَتْ وُقُوعَ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ الْعَامِّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثَّلَ لِذَلِكَ بِالْأَخِيرَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَجَبَ نَسْخُ الْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ إِنْ عُرِفَ التَّارِيخُ وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا التَّخْيِيرُ أَوِ الْوَقْفُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فِعْلِهِ تَارِيخُ حُصُولِهِ مِنْهُ لَا تَارِيخُ أَدِلَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَإِنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ النُّصُوصِ وَالْأَفْعَالِ وَلَا نَسْخَ فِيهَا وَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا، فَلْيُرْجَعْ إِلَى تَارِيخِ جُزْئِيَّاتِ النُّصُوصِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَارِضَةِ.
(2/330)
 
 
فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْخَاصَّ مَعَ الْعُمُومَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّأَسِّي أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَامِّ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى بِالْعَمَلِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْفِعْلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ دَلَالَةً عَلَى وُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِالنَّبِيِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلِ الْمُوجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْعَامِّ الْآخَرِ فِي عُمُومِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ خَاصًّا أَوْ عَامًّا.
وَذَلِكَ الْمُوجِبُ لِلتَّأَسِّي غَيْرُ مُتَأَخِّرٍ عَنِ الْعَامِّ، بَلْ مُحْتَمَلٌ لِلتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا. (1)
كَيْفَ وَإِنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى التَّأَسِّي، وَلَا كَذَلِكَ لِلْعَامِّ الْآخَرِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؟ (2)
 
[الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ لِمَا يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُخَالِفًا لِلْعُمُومِ مُخَصِّصٌ لِذَلِكَ الْعَامِّ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
تَقْرِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُخَالِفًا لِلْعُمُومِ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَعَدَمُ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ عَنْهُ مُخَصِّصٌ لِذَلِكَ الْعَامِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ تَقْرِيرَهُ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَهُ وَإِلَّا كَانَ فِعْلُهُ مُنْكَرًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّكُوتُ عَنْهُ وَعَدَمُ
_________
(1) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ جُزْئِيَّاتِ النُّصُوصِ وَالْأَفْعَالِ إِنَّمَا هُوَ تَارِيخُ الْمُتَعَارِضِينَ، لَا تَارِيخُ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا وُجُوبُ قَبُولِ الشَّرِيعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَإِنَّهَا لَا تَتَعَارَضُ وَلَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ.
(2) كُلٌّ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُتَوَقِّفُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ قَبُولَ الشَّرِيعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، وَقَوْلِهِ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، وَكَكَوْنِهِ رَسُولًا مُشَرِّعًا لِلْأُمَّةِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
(2/331)
 
 
النَّكِيرِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ التَّقْرِيرُ دَلِيلَ الْجَوَازِ، وَإِنْ أَمْكَنَ نَسْخُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا أَوْ نَسْخُهُ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ، وَاحْتِمَالُ تَخْصِيصِهِ مِنَ الْعُمُومِ أَوْلَى وَأَقْرَبُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَقُّلُ مَعْنًى أَوْجَبَ جَوَازَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِلْعُمُومِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي تَخْصِيصِهِ عَنْ ذَلِكَ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمَعْنَى الْجَامِعُ فَلَا.
فَإِنْ قِيلَ: التَّقْرِيرُ لَا صِيغَةَ لَهُ، فَلَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَهُ صِيغَةٌ فَلَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ مُشَارِكًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ مُشَارِكًا لَهُ فِي حُكْمِهِ لَصَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ، دَفْعًا لِمَحْذُورِ التَّلْبِيسِ عَلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِقَادِهِمُ الْمُشَارَكَةَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي حُكْمِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ". (1)
قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ التَّقْرِيرُ لَا صِيغَةَ لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ الْعَامِّ، فَإِنَّهُ ظَنِّيٌّ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ فَكَانَ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِهِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ وُجُوبِ الْمُشَارَكَةِ فَبَعِيدٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَقَوْلُهُ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " لَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً مُوهِمَةً لِمُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، أَنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: (حُكْمِي) عَامًّا فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً عَامَّةً فَلَا تَدْلِيسَ وَلَا تَلْبِيسَ، وَبِتَقْدِيرِ مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ يَكُونُ نَسْخًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ.
_________
(1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 275 ج2
(2/332)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْعُمُومِ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، خِلَافًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةِ وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَدَلِيلُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومِ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ (1) ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعُمُومِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا خَالَفَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ الْعُمُومَ فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَا لِدَلِيلٍ، وَإِلَّا وَجَبَ تَفْسِيقُهُ وَالْحُكْمُ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ وَجَبَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، إِذْ هُوَ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِهِمَا كَمَا عُلِمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قُلْنَا: مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ لِلْعُمُومِ إِنَّمَا كَانَتْ لِدَلِيلٍ عَنَّ لَهُ فِي نَظَرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخْطِئًا فِيهِ أَوْ مُصِيبًا.
فَلِذَلِكَ لَمْ نَقْضِ بِتَفْسِيقِهِ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا بِاتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ وَمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَا عَنَّ لَهُ فِي نَظَرِهِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيقٍ وَلَا تَبْدِيعٍ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا صَارَ إِلَيْهِ حُجَّةً وَاجِبَةَ الِاتِّبَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مُطْلَقًا.
_________
(1) سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
(2/333)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ خَاصٍّ فَوَرَدَ خِطَابٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ الطَّعَامِ]
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ
إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ خَاصٍّ فَوَرَدَ خِطَابٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الطَّعَامَ فَقَدِ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عُمُومِهِ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ طَعَامٍ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعْتَادُ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّ الْعَادَةَ لَا تَكُونُ مُنَزِّلَةً لِلْعُمُومِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُعْتَادِ دُونَ غَيْرِهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي اللَّفْظِ الْوَارِدِ، وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِكُلِّ مَطْعُومٍ بِلَفْظِهِ وَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْعَوَائِدِ، وَهُوَ حَاكِمٌ عَلَى الْعَوَائِدِ فَلَا تَكُونُ الْعَوَائِدُ حَاكِمَةً عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا مَنَعْتُمْ مِنْ تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ وَتَنْزِيلِ لَفْظِ الطَّعَامِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَخْصِيصِ اللَّفْظِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي اللُّغَةِ بِالْعَادَةِ؟ وَذَلِكَ كَتَخْصِيصِ اسْمِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الدَّابَّةِ عَامًّا فِي كُلِّ مَا يَدِبُّ، وَكَتَخْصِيصِ اسْمِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الدَّابَّةِ وَالثَّمَنِ غَيْرُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ.
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْعَادَةَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ إِنَّمَا هِيَ مُطَّرِدَةٌ فِي اعْتِيَادِ أَكْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ الْمَخْصُوصِ لَا فِي تَخْصِيصِ اسْمِ الطَّعَامِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ الْخَاصِّ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَاضِيًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ لَفْظِ الطَّعَامِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ صَارَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ظَاهِرًا فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَضْعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الدَّابَّةِ غَيْرُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الطَّعَامِ الْمُعْتَادِ أَكْلُهُ قَدْ خَصَّصَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اسْمَ الطَّعَامِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ، لَكَانَ لَفْظُ الطَّعَامِ مُنَزَّلًا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ضَرُورَةَ تَنْزِيلِ مُخَاطَبَةِ الشَّارِعِ لِلْعَرَبِ، عَلَى مَا هُوَ الْمَفْهُومُ لَهُمْ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَفِيهِ دِقَّةٌ مَعَ وُضُوحِهِ.
(2/334)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ وَلَفْظٌ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَام لَا يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ، وَلَفْظٌ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ، لَا يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ بِجِنْسِ مَدْلُولِ الْخَاصِّ وَمُخْرِجًا عَنْهُ مَا سِوَاهُ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا إِهَابٌ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» " فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ إِهَابٍ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: " «دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» "، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ وَإِجْرَاءِ الْعَامِّ عَلَى عُمُومِهِ، وَمَعَ إِمْكَانِ إِجْرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَمُخَالَفَةِ الْآخَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَرْتُمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَتَخْصِيصُ (جِلْدِ الشَّاةِ بِالذِّكْرِ) يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا سِوَى الشَّاةِ مِنْ جُلُودِ بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ، فَكَانَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ الْوَارِدِ بِتَطْهِيرِهَا.
قُلْنَا: أَمَّا مَنْ نَفَى كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً وَأَبْطَلَ دَلَالَتَهُ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ فَلَا أَثَرَ لِإِلْزَامِهِ بِهِ هَاهُنَا.
وَمَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَصِّصِ لِلْعُمُومِ، إِنَّمَا قَالَ بِهِ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَمَفْهُومِ الصِّفَةِ الْمُشْتَقَّةِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَتَخْصِيصُ جِلْدِ الشَّاةِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الطَّهَارَةِ بِالدِّبَاغِ عَنْ بَاقِي جُلُودِ الْحَيَوَانَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ.
وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: الْحَادِثُ مَوْجُودٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا.
(2/335)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا عُقِّبَ بِمَا فِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ هَلْ يَكُونُ خُصُوصُ الْمُتَأَخِّرِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا عُقِّبَ بِمَا فِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ لَا إِلَى كُلِّهِ، هَلْ يَكُونُ خُصُوصُ الْمُتَأَخِّرِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ بِمَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ إِلَى امْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ.
وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ الْحَرَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ بَوَائِنَ كُنُّ أَوْ رَجْعِيَّاتٍ.
ثُمَّ قَالَ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّجْعِيَّاتِ دُونَ الْبَوَائِنِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ.
وَالْمُخْتَارُ بَقَاءُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَلَى عُمُومِهِ، وَامْتِنَاعُ تَخْصِيصِهِ بِمَا تَعَقَّبَهُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ الثَّانِي عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى جَمِيعِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ، إِذْ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ بِهِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِ الضَّمِيرِ بِبَعْضِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَخُولِفَ ظَاهِرُهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ الْأَخِيرَ، بَلْ يَجِبُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ. (1)
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ مَا اقْتَضَاهُ الضَّمِيرُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى كُلِّ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ إِذَا أَجْرَيْنَا اللَّفْظَ السَّابِقَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِإِجْرَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الضَّمِيرِ أَوْلَى مِنْ إِجْرَاءِ ظَاهِرِ الضَّمِيرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَتَخْصِيصُ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَإِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْوَقْفُ.
قُلْنَا: بَلْ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى عُمُومِهِ وَتَخْصِيصُ الْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَوَّلِ ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَةَ الثَّانِي غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ الْمُظْهَرِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمُضْمَرِ، فَكَانَ رَاجِحًا.
_________
(1) اخْتِيَارُهُ بَقَاءَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَلَى عُمُومِهِ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ يَنْقُضُ مَذْهَبَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَتِهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ
(2/336)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ حُجَّةً اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَذَهَبُ الْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى تَقْدِيمِ الْعَامِّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِجَلِيِّ الْقِيَاسِ دُونَ خَفِيِّهِ، وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ لِلْعَامِّ الْمُخَصَّصِ دُونَ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَرْخِيَّ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُخَصَّصًا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَطْلَقَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ إِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي خُصَّتْ عَنِ الْعُمُومِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى الْوَقْفِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ ثَابِتَةً بِالتَّأْثِيرِ أَيْ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ وَإِلَّا فَلَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً فَلِأَنَّهَا نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ النَّصِّ الْخَاصِّ، فَكَانَتْ مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ كَتَخْصِيصِهِ بِالنَّصِّ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ، فَإِنَّمَا قُلْنَا بِامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِهَا لِلْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ فِي مَحَلِّ التَّخْصِيصِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لَهُ أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا، فَإِنْ كَانَ رَاجِحًا امْتَنَعَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَرْجُوحِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّخْصِيصُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ رَاجِحًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنِ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.
(2/337)
 
 
وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ آحَادِ الصُّوَرِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، وَجِهَةُ ضَعْفِهِ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ احْتِمَالِ تَخْصِيصِهِ أَوْ كَذِبِ الرَّاوِي إِنْ كَانَ الْعَامُّ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَأَمَّا احْتِمَالَاتُ ضَعْفِ الْقِيَاسِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِمَحَلِ الْمُعَارَضَةِ بِخُصُوصِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الْكَذِبُ.
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ قَطْعِيًّا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنْبِطُ الْقِيَاسَ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ.
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ.
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ فَلَعَلَّهَا غَيْرُ مَا ظَنَّهُ الْقَائِسُ عِلَّةً وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ فَأَثْبَتَهَا بِمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِيهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ فِي الْفَرْعِ مَانِعُ السَّبَبِ أَوْ مَانِعُ الْحُكْمِ، أَوْ فَاتَ شَرْطُ السَّبَبِ فِيهِ أَوْ شَرْطُ الْحُكْمِ، فَكَانَ الْعُمُومُ لِذَلِكَ رَاجِحًا.
كَيْفَ وَإِنَّ الْعُمُومَ مِنْ جِنْسِ النُّصُوصِ، وَالنَّصُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ فِي جِنْسِهِ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مُتَوَقِّفٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالنَّصِّ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى النَّصِّ، فَكَانَ الْقِيَاسُ مُتَوَقِّفًا عَلَى النَّصِّ لِذَلِكَ رَاجِحًا.
وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقِيَاسُ مُؤَخَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَنِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَيْثُ «قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا: " بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَتَقَدَّمَ السُّنَّةُ عَلَى الْكِتَابِ، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي تَقْدِيمِ خَاصِّ السُّنَّةِ عَلَى عَامِّ الْكِتَابِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا عَدَاهُ.
(2/338)
 
 
وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ كُلُّهَا إِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّرْجِيحَ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَيَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ. (1)
فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ وُجُودِ الْوَاقِفِيَّةِ، إِذِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَقْفِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الدَّلِيلَيْنِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَالْمَحْذُورُ فِيهِ فَوْقَ الْمَحْذُورِ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا، فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ لَزِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ مُطْلَقًا.
وَلَوْ عَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعُمُومِ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَتَعْطِيلِ الْآخَرِ.
قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْوَقْفِ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَرْجِيحِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَبِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ لَا نُسَلِّمُ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَقْطَعُ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ مُخَالِفِهِ مَعَ مَصِيرِهِ إِلَى نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ فَلِأَنْ لَا يَكُونَ قَاطِعًا بِإِبْطَالِهِ عِنْدَ تَوَقُّفِهِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ أَوْلَى.
قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْعَمَلِ بِالْعُمُومِ، قُلْنَا فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا: الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي التَّرْجِيحِ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحُكْمُ بِالْوَقْفِ أَوِ التَّرْجِيحِ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ فِي نَظَرِهِ فِي آحَادِ الْوَقَائِعِ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالتَّرْجِيحَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفَاوُتِ أَوِ التَّسَاوِي مِنْ غَيْرِ تَخْطِئَةٍ، إِذِ الْأَدِلَّةُ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ظَنِّيَّةٌ، غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ الْقَطْعِيَّةِ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. (2)
_________
(1) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ ص 118 ج 2.
(2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 312 ج2.
(2/339)
 
 
وَيَجِبُ أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، أَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا سَبَقَ فَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، بَلْ هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ.
وَأَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَخْصِيصٌ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّخْصِيصِ عِنْدَهُ فَكُلُّ اسْتِثْنَاءٍ تَخْصِيصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَخْصِيصٍ اسْتِثْنَاءً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ أَيْضًا.
(2/340)
 
 
[الصِّنْفُ السَّادِسُ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ]
الصِّنْفُ السَّادِسُ فِي الْمُطْلَقِ (1) وَالْمُقَيَّدِ.
أَمَّا الْمُطْلَقُ فَعِبَارَةٌ عَنِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ.
فَقَوْلُنَا: (نَكِرَةٌ) احْتِرَازٌ عَنْ أَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ وَمَا مَدْلُولُهُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ أَوْ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ.
وَقَوْلُنَا: (فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ) احْتِرَازٌ عَنِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَإِنَّهَا تَعُمُّ جَمِيعَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا، وَتَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ التَّنْكِيرِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ " أَعْتِقْ رَقَبَةً " أَوْ مَصْدَرِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أَوِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: " سَأَعْتِقُ رَقَبَةً " وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِطْلَاقُ فِي مَعْرِضِ الْخَبَرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَاضِي، كَقَوْلِهِ: " رَأَيْتُ رَجُلًا " ضَرُورَةَ تَعْيِنِهِ مِنْ إِسْنَادِ الرُّؤْيَةِ إِلَيْهِ. (2) وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَدْلُولٍ شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ. (3) فَقَوْلُنَا: (لَفْظٌ) كَالْجِنْسِ لِلْمُطْلَقِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُنَا: (دَالٌّ) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ.
وَقَوْلُنَا: (عَلَى مَدْلُولٍ) لِيَعُمَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ.
_________
(1) هَلِ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ أَمْرٌ بِجُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا، ضَرُورَةَ أَنَّهَا كُلِّيٌّ وَلَا وُجُودَ لِلْكُلِّيِّ خَارِجَ الْأَذْهَانِ إِلَّا فِي الْجُزْئِيَّاتِ، أَوْ أَمْرٌ بِكُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا، لِإِشْعَارِ عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِالتَّعْمِيمِ، أَوْ إِذْنٌ وَتَخْيِيرٌ فِي فِعْلِ كُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ، وَيَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْهَا كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
(2) انْظُرْ نَقْدَ صَاحِبِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَشَارِحِهِ لِلتَّعْرِيفَيْنِ، وَرَدِّ الْعَطَّارِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَيْهِمَا وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْعَلَّامَةِ طَاشَ كُبْرَى مِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَوْضُوعَ.
(3) وَقِيلَ: الْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ أَيْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَيْدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَمْ لَمْ يُوجَدْ، فَعَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لَا يُسَمَّى اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى الْقَيْدِ مُطْلَقًا وَعَلَى الثَّالِثِ يُسَمَّى مُطْلَقًا.
(3/3)
 
 
وَقَوْلُنَا: (شَائِعٌ فِي جِنْسِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَا مَدْلُولُهُ مُعَيَّنٌ أَوْ مُسْتَغْرَقٌ.
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ.
الْأَوَّلُ: مَا كَانَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَدْلُولٍ مُعَيَّنٍ، كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَهَذَا الرَّجُلُ وَنَحْوِهِ.
الثَّانِي: مَا كَانَ مِنَ الْأَلْفَاظِ دَالًّا عَلَى وَصْفِ مَدْلُولِهِ الْمُطْلَقِ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: " دِينَارٌ مِصْرِيٌّ، وَدِرْهَمٌ مَكِّيٌّ ".
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي جِنْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينَارٌ مِصْرِيٌّ وَدِرْهَمٌ مَكِّيٌّ، غَيْرَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطْلَقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَهُوَ مُطْلَقٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُقَيَّدٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُخَصَّصَاتِ الْعُمُومِ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَالْمُزَيَّفِ، وَالْمُخْتَارِ ; فَهُوَ بِعَيْنِهِ جَارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا.
وَنُزِيدُ مَسْأَلَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَلَا يَخْلُو.
إِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا، أَوْ لَا يَخْتَلِفَ: فَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا. فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَا مَأْمُورَيْنِ أَوْ مَنْهِيَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مَأْمُورًا وَالْآخَرُ مَنْهِيًّا، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ؛ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا قَالَ مَثَلًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ " أَعْتِقُوا رَقَبَةً " ثُمَّ قَالَ " لَا تُعْتِقُوا رَقَبَةً كَافِرَةً " فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالرَّقَبَةِ الْمُسْلِمَةِ.
وَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَإِنَّهَا سَهْلَةٌ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ سَبَبُهُمَا، أَوْ لَا يَتَّحِدَ: فَإِنِ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى إِثْبَاتِهِمَا أَوْ نَفْيِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الظِّهَارِ: " أَعْتِقُوا رَقَبَةً "، ثُمَّ قَالَ: " أَعْتِقُوا رَقَبَةً مُسْلِمَةً " فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْمُقَيَّدِ فَقَدْ وَفَّى بِالْعَمَلِ بِدَلَالَةِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ عَمِلَ بِالْمُطْلَقِ لَمْ يَفِ بِالْعَمَلِ بِدَلَالَةِ الْمُقَيَّدِ، فَكَانَ الْجَمْعُ هُوَ الْوَاجِبُ وَالْأَوْلَى.
(3/4)
 
 
فَإِنْ قِيلَ بِطَرِيقِ الشُّبْهَةِ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ إِمْكَانَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ، بِمَا شَاءَ الْمُكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَالْعَمَلُ بِالْمُقَيَّدِ مِمَّا يُنَافِي مُقْتَضَى الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْمُطْلَقِ، وَإِجْرَاءُ الْمُقَيَّدِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ بِحَمْلِهِ عَلَى النَّدْبِ وَإِجْرَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
قُلْنَا: بَلِ التَّقْيِيدُ أَوْلَى مِنَ التَّأْوِيلِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي التَّأْوِيلِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُطْلَقَ إِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَالْعَمَلُ بِهِ فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُوفِيًا لِلْعَمَلِ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّاهُ قَبْلَ وُرُودِ التَّقْيِيدِ، كَانَ قَدْ عَمِلَ بِاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ وَصَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنَ الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ دَلَالَةً عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ لُغَةً، بِخِلَافِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُقَيَّدُ مِنْ صِفَةِ التَّقْيِيدِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَحْذُورَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً أَعْظَمُ مِنْ صَرْفِهِ عَمَّا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ لُغَةً.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى نَفْيِهِمَا أَوْ نَهْيٍ عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَ مَثَلًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: " لَا تَعْتِقُ مُكَاتَبًا كَافِرًا " فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْيِ؛ إِذْ لَا تَعَذُّرَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُهُمَا مُخْتَلِفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَنْزِيلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي تَأْوِيلِهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّقْيِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا وُجِدَ بَيْنَهُمَا عِلَّةٌ جَامِعَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلْإِلْحَاقِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا.
(3/5)
 
 
وَلْنَذْكُرْ حُجَّةَ كُلِّ فَرِيقٍ، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّقْيِيدِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَهِيَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَحَدٍّ فِي ذَاتِهِ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَإِذَا نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالذَّاكِرَاتِ} عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَارِجٍ.
وَهَذَا مِمَّا لَا اتِّجَاهَ لَهُ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى بِالنَّفْسِ، أَوِ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ.
وَالْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِأَحَدِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، أَوِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ وَإِلَّا كَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بِبَعْضِ الْمُخْتَلِفَاتِ أَمْرًا وَنَهْيًا بِبَاقِي الْمُخْتَلِفَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُتَنَاقِضٌ، بَلْ وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالصَّوْمِ الْمُقَيَّدِ فِي الْحَجِّ بِالتَّفْرِيقِ، حَيْثُ