الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 001

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام
المؤلف: أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)
عدد الأجزاء: 4   
[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْأَفْلَاكِ وَمُدَبِّرِهَا، وَمُزَيِّنِهَا، بِالشُّهُبِ الثَّاقِبَةِ وَمُنِيرِهَا، وَجَاعِلِ حَرَكَاتِ السَّيَّارَاتِ دَالَّةً عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِهَا (1) ، وَمُظْهِرِ حِكَمَهُ فِي إِبْدَاعِهِ لِأَنْوَاعِ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ وَتَصْوِيرِهَا، الْمُتَفَضِّلِ بِسَوَابِغِ الْإِنْعَامِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. الْعَادِلِ فِيمَا قَضَاهُ وَأَمْضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِهَا. الَّذِي شَرَّفَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ الْهَادِي إِلَى أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَتَحْرِيرِهَا. وَأَهَّلَ خَاصَّةَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِثْمَارِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَدَارِكِهَا وَتَقْرِيرِهَا (2) ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الدِّينِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي جَمْعِهَا وَتَحْبِيرِهَا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً مُنْجِيَةً مِنْ صَغِيرِ الْمُوبِقَاتِ وَكَبِيرِهَا. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَزَالَ - بِوَاضِحِ بُرْهَانِهِ - وَأَزَاحَ - بِصَادِقِ بَيَانِهِ - مَا ظَهَرَ مِنْ شُبَهِ الْمُلْحِدَةِ وَتَزْوِيرِهَا. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ الْمُؤَازِرِينَ لَهُ فِي إِظْهَارِ دَعَوْتِهِ بِحَدِّهَا وَتَشْمِيرِهَا، وَالسَّلَامُ.
وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةُ وَسَائِلَ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنَاطَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَأَجَلَّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعْلَاهَا شَرَفًا وَذِكْرًا ; لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، كَانَتْ أَوْلَى بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَأَجْدَرَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
وَحَيْثُ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِثْمَارِهَا دُونَ النَّظَرِ فِي مَسَالِكِهَا وَلَا مَطْمَعَ فِي اقْتِنَاصِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى مَدَارِكِهَا، كَانَ مِنَ الْلَازِمَاتِ وَالْقَضَايَا الْوَاجِبَاتِ الْبَحْثُ فِي أَغْوَارِهَا، وَالْكَشْفُ عَنْ أَسْرَارِهَا، وَالْإِحَاطَةُ بِمَعَانِيهَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَبَانِيهَا حَتَّى تُذَلَّلَ (3) طُرُقُ الِاسْتِثْمَارِ، وَيَنْقَادَ جُمُوحُ غَامِضِ الْأَفْكَارِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَدْآبِي (4) ، وَطَالَ اغْتِرَابِي فِي جَمْعِ فَوَائِدِهَا، وَتَحْقِيقِ فَرَائِدِهَا مِنْ
_________
(1) مَعْطُوفٌ عَلَى اخْتِلَافٍ
(2) مَعْطُوفٌ عَلَى اسْتِثْمَارِهَا
(3) أَيِ التَّفْصِيلِيَّةِ
(4) مُضَارِعٌ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ
(1/3)
 
 
مُبَاحَثَاتِ الْفُضَلَاءِ، وَمُطَارَحَاتِ النُّبَلَاءِ حَتَّى لَانَ مِنْ مَعْرَكِهَا مَا اسْتُصْعِبَ عَلَى الْمُتَدَرِّبِينَ، وَظَهَرَ مِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَى حُذَّاقِ الْمُتَبَحِّرِينَ، وَأَحَطْتُ مِنْهَا بِلُبَابِ الْأَلْبَابِ، وَاحْتَوَيْتُ مِنْ مَعَانِيهَا عَلَى الْعَجَبِ الْعُجَابِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِيهَا كِتَابًا حَاوِيًا لِجَمِيعِ مَقَاصِدِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. مُشْتَمِلًا عَلَى حَلِّ مَا انْعَقَدَ مِنْ غَوَامِضِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ، مُتَجَنِّبًا لِلْإِسْهَابِ وَغَثِّ الْإِطْنَابِ، مُمِيطًا لِلْقِشْرِ عَنِ اللُّبَابِ خِدْمَةً (1) لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ الْمُكَرَّمِ ; سُلْطَانِ الْأَجْوَادِ وَالْأَمْجَادِ، أَجَلِّ الْعَالَمِ، وَأَفْضَلِ مَنْ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَعْنَاقُ الْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ، مَلِكِ أَرْبَابِ الْفَضَائِلِ، نَاقِدِ خَلَاصِ الْأَفَاضِلِ، بَاعِثِ أَمْوَاتِ الْخَوَاطِرِ، نَاشِرِ رُفَاتِ الْعُلُومِ الدَّوَاثِرِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي حَازَ بِهَا قَصَبَ سَبْقِ الْأَوَّلِينَ، وَالْمَنَاقِبِ الَّتِي يَقِفُ دُونَ إِحْصَائِهَا عَدُّ الْحَاصِرِينَ. فَبِيَدِهِ زِمَامُهَا، وَإِلَيْهِ حَلُّهَا وَإِبْرَامُهَا، وَبِهِ كَشْفُ أَغْوَارِهَا، وَالْمَيْزُ بَيْنَ ظُلْمِهَا وَأَنْوَارِهَا (2) أَدَامَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ إِدَامَةً لَا تَغْرُبُ طَوَالِعُهَا، وَلَا تَنْضُبُ مَشَارِعُهَا، وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ، لَكِنَّهُ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْقَدْرِ، وَغَايَةُ مَنَالِ أَفْكَارِ الْبَشَرِ (3) وَأَرْجُو أَنْ يُصَادِفَ مِنْهُ الْقَبُولَ، وَأَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ.
(وَسَمَّيْتُهُ كِتَابَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ)
وَقَدْ جَعَلَتْهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ:
الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَبَادِيهِ.
_________
(1) لَوْ أَلَّفَ كِتَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَخِدْمَةً لِدِينِهِ، وَرَجَا مِنْهُ قَبُولَهُ وَالْمَثُوبَةَ مِنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، فَإِنَّهُ قَدَّمَهُ لِلسُّلْطَانِ إِعْظَامًا لَهُ، وَلَيْسَ كَمَنْ يَكْتُبُ لِتَلَامِيذِهِ تَعْلِيمًا لَهُمْ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ " وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ ".
(2) فِي ثَنَائِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إِطْرَاءٌ لَا تُقِرُّهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ الْأُمَّةُ فِي عُصُورِ ضَعْفِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَارْتِمَاءِ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْضَانِ الْحُكَّامِ.
(3) فِي ذَلِكَ إِطْرَاءٌ لِنَفْسِهِ وَزَهْوٌ وَإِعْجَابٌ بِتَأْلِيفِهِ وَادِّعَاءٌ لِمَا يُكَذِّبُهُ الْوَاقِعُ
(1/4)
 
 
الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَحْكَامِهِ.
الثَّالِثَةُ: فِي أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَحْوَالِ الْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ.
الرَّابِعَةُ: فِي تَرْجِيحَاتِ طُرُقِ الْمَطْلُوبَاتِ.
اللَّهُمَّ فَيَسِّرْ خِتَامَهُ، وَسَهِّلْ إِتْمَامَهُ، وَبَصِّرْنَا بِسُلُوكِ مَسَالِكِ الْحَقِّ الْيَقِينِ، وَجَنِّبْنَا بِرَحْمَتِكِ عَنْ طُرُقِ الزَّائِغِينَ، وَسَلِّمْنَا مِنْ غَوَائِلِ الْبِدَعِ. وَاقْطَعْ عَنَّا عَلَائِقَ الطَّمَعِ. وَآمِّنَّا يَوْمَ الْخَوْفِ وَالْجَزَعِ. إِنَّكَ مَلَاذُ الْقَاصِدِينَ، وَكَهْفُ (1) الرَّاغِبِينَ.
 
[الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ ومَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ]
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى
فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَعْرِيفِ مَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ وَتَصْوِيرُ مَبَادِيهِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهِ قَبْلَ الْخَوْضِ فِيهِ.
فَنَقُولُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ حَاوَلَ تَحْصِيلَ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا بِالْحَدِّ أَوِ الرَّسْمِ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يَطْلُبُهُ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ - وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لَهُ - تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ تَحْصِيلِهِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ سَعْيُهُ عَبَثًا، وَمَا عَنْهُ الْبَحْثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُهُ لِتَصَوُّرِ طَلَبِهَا، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ عِنْدَ رَوْمِ تَحْقِيقِهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَتَصَوَّرَ مَبَادِيَهُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهَا فِيهِ لِإِمْكَانِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا.
أَمَّا مَفْهُومُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " أُصُولُ الْفِقْهِ " قَوْلٌ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُضَافٍ هُوَ الْأُصُولُ، وَمُضَافٍ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ، وَلَنْ نَعْرِفَ الْمُضَافَ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُ مَعْنَى الْفِقْهِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعْنَى الْأُصُولِ ثَانِيًا.
_________
(1) لَوْ قَالَ: غَوْثُ اللَّاجِئِينَ لَكَانَ أَرْعَى لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، وَأَبْعَدَ عَنْ وَحْشَةِ الْعِبَارَةِ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
(1/5)
 
 
أَمَّا الْفِقْهُ: فَفِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَهْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أَيْ لَا نَفْهَمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أَيْ لَا تَفْهَمُونَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: فَقِهْتُ كَلَامَكَ، أَيْ فَهِمْتُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْفَهْمَ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ ; إِذِ الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَطَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُتَّصِفُ بِهِ عَالِمًا كَالْعَامِّيِّ الْفَطِنِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عَنْ قَرِيبٍ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ عَالِمٍ فَهِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَهِمٍ عَالِمًا.
وَفِي عُرْفِ الْمُتَشَرِّعِينَ: الْفِقْهُ مَخْصُوصٌ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
فَالْعِلْمُ احْتِرَازٌ عَنِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تُجُوِّزَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْفِقْهِ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّيِّ، فَلَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ وَالْأُصُولِيِّ، بَلِ الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِهَا أَوِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ بِهَا بِنَاءً عَلَى الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي نَفْسِهَا.
وَقَوْلُنَا: " بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ " احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ فِقْهًا.
وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ بِالْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمَ بِجُمْلَةِ الْأَحْكَامِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِقْهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُنَا: (الشَّرْعِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، كَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ.
وَقَوْلُنَا: (الْفُرُوعِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ حُجَجًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ حُكْمًا شَرْعِيًّا نَظَرِيًّا لِكَوْنِهِ غَيْرَ فُرُوعِيٍّ.
وَقَوْلُنَا: (بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ) احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَعِلْمِ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ فِقْهًا فِي
(1/6)
 
 
الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ ; إِذْ لَيْسَ طَرِيقُ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمْ بِذَلِكَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. (1) وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ: فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مَا يَسْتَنِدُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ.
فَأُصُولُ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ وَجِهَاتُ دَلَالَاتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَيْفِيَّةُ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ (2) لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْخَاصَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ.
 
وَأَمَّا مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ كُلِّ عِلْمٍ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لِذَاتِهِ.
وَلَمَّا كَانَتْ مَبَاحِثُ الْأُصُولِيِّينَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ وَأَقْسَامِهَا وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ (3) كَانَتْ هِيَ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْأُصُولِ.
وَأَمَّا غَايَةُ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَالْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
وَأَمَّا مَسَائِلُهُ، فَهِيَ أَحْوَالُ الْأَدِلَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ مِمَّا عَرَفْنَاهُ.
 
وَأَمَّا مَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ، فَعِلْمُ الْكَلَامِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
أَمَّا عِلْمُ الْكَلَامِ، فَلِتَوَقُّفِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ مُفِيدَةً لَهَا شَرْعًا عَلَى
_________
(1) أُولِعَ الْكَثِيرُ بِالتَّعَارِيفِ الْمُتَكَلَّفَةِ الَّتِي تُورِثُ الْعِبَارَةَ غُمُوضًا وَالْقَارِئَ لَهَا حَيْرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا بِمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى شَرْحِ التَّعْرِيفِ وَإِخْرَاجِ الْمُحْتَرَزَاتِ وَيُكْثِرُونَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ، وَلَا يَكَادُ يَخْلُصُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ مِنَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ، وَالْوَاقِعُ أَصْدَقُ شَاهِدٍ.
(2) رَاجِعٌ لِأَجْزَاءِ التَّعْرِيفِ الثَّلَاثَةِ
(3) رَاجِعٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا لَا إِلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا
(1/7)
 
 
مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْعَرَبِيَّةِ، فَلِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ دَلَالَاتِ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً مِنْ جِهَةِ: الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ، وَالْحَذْفِ، وَالْإِضْمَارِ، وَالْمَنْطُوقِ، وَالْمَفْهُومِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالتَّنْبِيهِ، وَالْإِيمَاءِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّاظِرَ فِي هَذَا الْعِلْمِ إِنَّمَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَحْكَامِ (1) لِيَتَصَوَّرَ الْقَصْدَ إِلَى إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ إِيضَاحِ الْمَسَائِلِ بِضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ وَكَثْرَةِ الشَّوَاهِدِ، وَيَتَأَهَّلُ بِالْبَحْثِ فِيهَا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَلَا نَقُولُ: إِنَّ اسْتِمْدَادَهُ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا ثَبْتَ لَهَا بِغَيْرِ أَدِلَّتِهَا، فَلَوْ تَوَقَّفَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ دَوْرًا مُمْتَنَعًا.
 
وَأَمَّا مَبَادِئُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَبَادِئَ كُلِّ عِلْمٍ هِيَ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ الْمُسَلَّمَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهِيَ غَيْرُ مُبَرْهَنَةٍ فِيهِ ; لِتَوَقُّفِ مَسَائِلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسَلَّمَةً فِي نَفْسِهَا كَمَبَادِئِ الْعِلْمِ الْأَعْلَى (2) أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ فِي نَفْسِهَا، بَلْ مَقْبُولَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَرَةِ أَوِ الْوَضْعِ، عَلَى أَنَّ تُبَرْهَنَ فِي عِلْمٍ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَمَا هَذِهِ الْمَبَادِئُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ؟ فَنَقُولُ:
قَدْ عُرِفَ أَنَّ اسْتِمْدَادَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ: الْكَلَامِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَبَادِئُهُ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلْنَرْسِمْ فِي كُلِّ مَبْدَأٍ قِسْمًا:
_________
(1) أَيْ مُتَصَوِّرًا لِمَعَانِيهَا بِذِكْرِ تَعْرِيفِهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: وَلَا نَقُولُ. . . إِلَخْ.
(2) عِلْمِ التَّوْحِيدِ
(1/8)
 
 
[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْمَبَادِئِ الْكَلَامِيَّةِ]
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ
فِي الْمَبَادِئِ الْكَلَامِيَّةِ
فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أُصُولُ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةَ الْفِقْهِ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مِمَّا يُحْوِجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، وَانْقِسَامِهِ إِلَى مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوِ الظَّنَّ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ دُونَ النَّظَرِ، دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَعْرِيفِ مَعْنَى الدَّلِيلِ، وَالنَّظَرُ وَالْعِلْمُ وَالظَّنُّ مِنْ جِهَةِ التَّحْدِيدِ وَالتَّصْوِيرِ لَا غَيْرُ.
أَمَّا الدَّلِيلُ، فَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الدَّالِّ، وَهُوَ النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ.
وَقِيلَ: هُوَ الذَّاكِرُ لِلدَّلِيلِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا فِيهِ دَلَالَةٌ وَإِرْشَادٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى دَلِيلًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوَصِّلًا إِلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ.
وَالْأُصُولِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا أَوْصَلَ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَا أَوْصَلَ إِلَى الظَّنِّ، فَيَخُصُّونَ اسْمَ الدَّلِيلِ بِمَا أَوْصَلَ إِلَى الْعِلْمِ، وَاسْمَ الْأَمَارَةِ بِمَا أَوْصَلَ إِلَى الظَّنِّ. (1) وَعَلَى هَذَا فَحَدُّهُ عَلَى أُصُولِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ.
فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ: احْتِرَازٌ عَمَّا لَمْ يُتَوَصَّلْ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ لِعَدَمِ النَّظَرِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا لَمَّا كَانَ التَّوَصُّلُ بِهِ مُمْكِنًا.
وَالْقَيْدُ الثَّانِي: احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي الدَّلِيلِ بِنَظَرٍ فَاسِدٍ.
وَالثَّالِثُ: احْتِرَازٌ عَنِ الْحَدِّ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْعِلْمِ التَّصَوُّرِيِّ، وَهُوَ عَامٌّ لِلْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ.
وَأَمَّا حَدُّهُ عَلَى الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ، فَهُوَ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ: إِلَى عَقْلِيٌّ مَحْضٌ، وَسَمْعِيٌّ مَحْضٌ، وَمُرَكَّبٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.
_________
(1) وَلَكِنَّهُمْ عَمَلِيًّا يُطْلِقُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا هُوَ ظَنِّيٌّ بَلْ عَلَى الشُّبْهَةِ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ لِمَنْ تَتَبَّعَ أَدِلَّتَهُمْ.
(1/9)
 
 
فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ حَادِثٌ فَيَلْزَمُ عَنْهُ الْعَالَمُ حَادِثٌ. (1) وَالثَّانِي: كَالنُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ.
وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ - لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ) - فَيَلْزَمُ عَنْهُ النَّبِيذُ حَرَامٌ. (2) وَأَمَّا النَّظَرُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَبِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، وَالرَّأْفَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْمُقَابَلَةِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الْأَخِيرُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِّهِ: " هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مَنْ قَامَ بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا.
وَقَدِ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " يَطْلُبُ بِهِ " عَنِ الْحَيَاةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّهَا لَا يَطْلُبُ بِهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَنْ قَامَتْ بِهِ يَطْلُبُهُ، وَقَصَدَ بِقَوْلِهِ: (عِلْمًا أَوْ ظَنًّا) التَّعْمِيمَ لِلْعِلْمِ وَالظَّنِّ ; لِيَكُونَ الْحَدُّ جَامِعًا، وَهُوَ حَسَنٌ، غَيْرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا قَدْ يَتَّجِهُ عَلَى عِبَارَةِ الْقَاضِي، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: النَّظَرُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالْعَقْلِ فِي الْأُمُورِ السَّابِقَةِ بِالْعِلْمِ وَالظَّنِّ. . الْمُنَاسِبَةُ لِلْمَطْلُوبِ بِتَأْلِيفٍ خَاصٍّ قَصْدًا لِتَحْصِيلِ مَا لَيْسَ حَاصِلًا فِي الْعَقْلِ، وَهُوَ عَامٌّ لِلنَّظَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ.
وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا وَقَفَ النَّاظِرُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ
_________
(1) انْظُرْ إِلَى مَا كَتَبَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " وَأَوَّلِ كِتَابِهِ " مُوَافَقَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ " فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِمَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ وَإِبَانَةُ الْحَقِّ
(2) فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ. وَمَعْرِفَةَ تَحْرِيمِهِ بِالشَّرْعِ.
(1/10)
 
 
فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَشَرْطُ وُجُودِهِ مُطْلَقًا: الْعَقْلُ، وَانْتِفَاءُ أَضْدَادِهِ مِنَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَالْمَوْتِ، وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي تَحْدِيدِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْدِيدِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَيَانُ طَرِيقِ تَعْرِيفِهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقِسْمَةِ وَالْمِثَالِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً لِتَمْيِيزِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَلَيْسَتْ مُعَرِّفَةً لَهُ، وَإِنَّ كَانَتْ مُمَيِّزَةً لَهُ عَمَّا سِوَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّحْدِيدِ بِالرَّسْمِ سِوَى هَذَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلْمِ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ نَظَرِيٍّ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْعِلْمِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَلَوْ عُلِمَ الْعِلْمُ بِالْغَيْرِ كَانَ دَوْرًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ وُجُودَ نَفْسِهِ ضَرُورَةً، وَالْعِلْمُ أَحَدُ تَصَوُّرَاتِ هَذَا التَّصْدِيقِ فَكَانَ ضَرُورِيًّا، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ جِهَةَ تَوَقُّفِ غَيْرِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعِلْمِ إِدْرَاكًا لَهُ، وَتَوَقُّفُ الْعِلْمِ عَلَى الْغَيْرِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِدْرَاكًا لِلْعِلْمِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ صِفَةً مُمَيِّزَةً لَهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَمَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ التَّوَقُّفِ فَلَا دَوْرَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَصَوُّرَاتِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الضَّرُورِيَّةَ هِيَ الَّتِي يُصَدِّقُ الْعَقْلُ بِهَا بَعْدَ تَصَوُّرِ مُفْرَدَاتِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُفْرَدَاتِ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ التَّصَوُّرَاتُ ضَرُورِيَّةً أَوْ نَظَرِيَّةً.
وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِي تَعْرِيفِهِ التَّحْدِيدَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ حُدُودَ كَثِيرَةً أَبْطَلْنَاهَا فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: (الْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا لِنَفْسِ الْمُتَّصِفِ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حُصُولًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ نَقِيضِهِ) .
فَقَوْلُنَا: (صِفَةٍ) كَالْجِنْسِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَقَوْلُنَا: (يَحْصُلُ بِهَا التَّمَيُّزُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْحَيَاةِ، وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ. وَقَوْلُنَا: (بَيْنَ حَقَائِقِ
(1/11)
 
 
الْكُلِّيَّاتِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْإِدْرَاكَاتِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْسُوسَاتِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ سَلَكْنَا مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فِي أَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، لَمْ نَحْتَجْ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالْكُلِّيَّاتِ.
وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قَدِيمٍ (1) لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَإِلَى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْحَادِثُ يَنْقَسِمُ إِلَى: ضَرُورِيٍّ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَادِثُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، فَقَوْلُنَا: (الْعِلْمُ الْحَادِثُ) احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. (2) ، وَقَوْلُنَا: (لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ) احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ، وَالنَّظَرِيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ.
وَأَمَّا الظَّنُّ فَعِبَارَةٌ عَنْ تَرَجُّحِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي النَّفْسِ عَلَى الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ الْقَطْعِ.
_________
(1) وَصْفُ عِلْمِ اللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِهِ بِالْقِدَمِ لَمْ يَرِدْ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ وَهُوَ يُوهِمُ نَقْصًا.
(2) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَتَجَدَّدُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّيْءِ تَعَلُّقُ عِلْمِ اللَّهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ لَا نَفْسُ عِلْمِ اللَّهِ. وَقَدْ يُسَمِّيهُ بَعْضُهُمْ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا حَادِثًا. وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا عَلَى أَنَّهَا سَتَقَعُ لَا وَاقِعَةٌ، وَيَعْلَمُهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا وَاقِعَةً.
(1/12)
 
 
[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ]
[الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِهِ]
الْقِسْمُ الثَّانِي
فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ
كُنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجْهَ اسْتِمْدَادِ الْأُصُولِ مِنَ اللُّغَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمَبَادِئِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهَا، وَلْنُقَدِّمْ عَلَى ذَلِكَ مُقَدِّمَةً فَنَقُولُ:
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ مَوْجُودٍ فِي عَالَمِ السُّفْلِيَّاتِ ; لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَطْلُوبَاتِ وَأَسْنَى الْمَرْغُوبَاتِ، بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْمَعْقُولَاتِ، وَالْمَيْزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: ( «كُنْتُ كَنْزًا لَمْ أُعْرَفْ، فَخَلَقْتُ خَلْقًا لِأُعْرَفَ بِهِ» . (1) وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ دُونَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ النَّظَرِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ، الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إِلَى مَطْلُوبَاتِهِ وَتَحْقِيقِ حَاجَاتِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ مَعَارِفِهِ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ دُونَ مُعِينٍ وَمُسَاعِدٍ لَهُ مِنْ نَوْعِهِ، دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى نَصْبِ دَلَائِلٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي ضَمِيرِ الْآخَرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُعِينَةِ لَهُ فِي تَحْقِيقِ غَرَضِهِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَلَا فِيهِ ضَرَرَ الِازْدِحَامِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا نَصْبٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا نَوْعُ الْإِنْسَانِ دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ.
وَمِنِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبَاتِ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ حَدَثَتِ الدَّلَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ اللُّغَوِيَّةُ.
_________
(1) قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ.
(1/13)
 
 
وَهِيَ إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى، أَوْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ.
وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُهْمَلٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَالثَّانِي يَسْتَدْعِي النَّظَرَ فِي أَنْوَاعِهِ، وَابْتِدَاءِ وَضْعِهِ وَطَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ، فَهَذَانِ أَصْلَانِ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِمَا.
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي أَنْوَاعِهِ وَهِيَ نَوْعَانِ
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا.
الْأَوَّلُ: فِي الْمُفْرَدِ، وَفِيهِ سِتَّةُ فُصُولٍ.
 
[أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ مُفْرَدًا]
[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي حَقِيقَتِهِ
أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَهُوَ مَا دَلَّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعْنًى، وَلَا جُزْءَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ (إِنْ) مِنْ قَوْلِنَا إِنْسَانٌ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الشُّرْطِيَّةِ فَلَيْسَتْ إِذْ ذَاكَ جُزْءًا مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ، وَحَيْثُ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَكُنْ شَرْطِيَّةً ; لِأَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ لِذَوَاتِهَا، بَلْ هِيَ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَيْثُ جَعَلَ (إِنْ) شَرْطِيَّةً لَمْ يَقْصِدْ جَعْلَهَا غَيْرَ شَرْطِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَعَبْدُ اللَّهِ إِنْ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ النِّسْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ كَانَ مُرَكَّبًا لِدَلَالَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ مَعْنَاهُ.
(1/14)
 
 
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ دَلَالَتِهِ]
الْفَصْلُ الثَّانِي
فِي أَقْسَامِ دَلَالَتِهِ
وَهُوَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً أَوْ غَيْرَ لَفْظِيَّةٍ، وَاللَّفْظِيَّةُ إِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ اللَّفْظُ، أَوْ إِلَى بَعْضِهِ، فَالْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَعْنَاهُ. وَالثَّانِي: دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّاطِقِ. (1) ، وَالْمُطَابَقَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّضَمُّنِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ بَسِيطًا لَا جُزْءَ لَهُ.
وَأَمَّا غَيْرُ اللَّفْظِيَّةِ، فَهِيَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ لَهُ مَعْنًى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَهُ لَازِمٌ مِنْ خَارِجٍ، فَعِنْدَ فَهْمِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنَ اللَّفْظِ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ إِلَى لَازِمِهِ، وَلَوْ قُدِّرِ عَدَمُ هَذَا الِانْتِقَالِ الذِّهْنِيِّ لَمَا كَانَ ذَلِكَ اللَّازِمُ مَفْهُومًا، وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَإِنْ شَارَكَتْ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ فِي افْتِقَارِهِمَا إِلَى نَظَرٍ عَقْلِيٍّ يَعْرِفُ اللَّازِمَ فِي الِالْتِزَامِ، وَالْجُزْءَ فِي دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي التَّضَمُّنِ لِتَعْرِيفِ كَوْنِ الْجُزْءِ دَاخِلًا فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَفِي الِالْتِزَامِ لِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ لَفْظِيَّةً بِخِلَافِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ مُسَاوِيَةٌ لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ ضَرُورَةَ (2) امْتِنَاعِ خُلُوِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ عَنْ لَازِمٍ، وَأَعَمُّ مِنْ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ لِمَا لَا جُزْءَ لَهُ.
_________
(1) فَالْحَيَوَانِيَّةُ وَالنُّطْقُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءٌ عَقْلِيٌّ لِلْإِنْسَانِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولِهِ الْحِسِّيِّ مِنْ يَدٍ وَعَيْنٍ وَمِثْلِهَا.
(2) الْمُنَاسِبُ لِهَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَقُولَ: وَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَأَيْضًا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ أَعَمُّ مِنَ الْمُطَابَقَةِ لِوُجُودِهَا مَعَ التَّضَمُّنِ. وَبِالْجُمْلَةِ وَقَعَ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ مَنْشَؤُهُ اخْتِلَافُ الِاعْتِبَارَاتِ، فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى بَحْثِ الدَّلَالَاتِ فِي كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَالْمَنْطِقِ.
(1/15)
 
 
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَقْسَامِ الْمُفْرَدِ]
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
فِي أَقْسَامِ الْمُفْرَدِ
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَصِحَّ جَعْلُهُ أَحَدَ جُزْأَيِ الْقَضِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي هِيَ ذَاتُ جُزْأَيْنِ فَقَطْ، أَوْ لَا يَصِحُّ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ تَرَكُّبُ الْقَضِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الِاسْمُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ الْفِعْلُ.
وَأَمَّا قَسِيمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْحَرْفُ.
وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ الْأَسْمَاءُ النَّوَاقِصُ كَالَّذِي وَالَّتِي، وَالْمُضْمَرَاتُ كَهُوَ وَهِيَ، حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا أَحَدَ جُزْأَيِ الْقَضِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا، وَلَا تُرَكَّبُ الْقَضِيَّةُ الْخَبَرِيَّةُ مِنْهَا ; لِأَنَّهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِيهَا عِنْدَ تَجَرُّدِهَا فَالنَّوَاقِصُ عِنْدَ تَعَيُّنُهَا بِالصِّلَةِ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمُضْمَرَاتُ عِنْدَ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُظْهَرَاتِ بِخِلَافِ الْحُرُوفِ.
 
[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الِاسْمِ]
[الْقِسْمَةُ الْأُولَى أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ لَا يَصِحُّ]
الْفَصْلُ الرَّابِعُ
فِي الِاسْمِ
وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الزَّمَانُ الْخَارِجُ عَنْ مَعْنَاهُ لِبِنْيَتِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمُسَمَّاهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمَفْهُومُهُ مُنْقَسِمٌ عَلَى وُجُوهٍ:
الْقِسْمَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ كُلِّيٌّ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الشَّرِكَةُ بِالْفِعْلِ مَا بَيْنَ أَشْخَاصٍ مُتَنَاهِيَةٍ كَاسْمِ الْكَوْكَبِ، أَوْ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ، أَوْ لَمْ تَقَعْ إِمَّا لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ كَاسْمِ الْعَالَمِ (1) وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ كَاسْمِ عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ أَوْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ.
_________
(1) بِفَتْحِ اللَّامِ
(1/16)
 
 
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً أَوْ لَا يَكُونُ صِفَةً، وَالصِّفَةُ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَمَا لَيْسَ بِصِفَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِمَّا مَعْنًى كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِي مَدْلُولِهِ بِشِدَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ وَلَا تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ، فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِلَّا فَمُشَكِّكٌ كَلَفْظِ الْوُجُودِ وَالْأَبْيَضِ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاتِيًّا لِلْمُشْتَرِكَاتِ فِيهِ أَوْ عَرَضِيًّا.
فَإِنْ كَانَ ذَاتِيًّا، فَالْمُشْتَرِكَاتُ فِيهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةً بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فِي جَوَابٍ (مَا هِيَ) فَهُوَ الْجِنْسُ أَوْ لَا يُقَالُ كَذَلِكَ، فَهُوَ ذَاتِيٌّ مُشْتَرَكٌ إِمَّا جِنْسُ جِنْسٍ، أَوْ فَصْلُ فَصْلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْعَرَضِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فِي جَوَابِ (مَا) أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ النَّوْعُ وَالثَّانِي هُوَ فَصْلُ النَّوْعِ.
وَإِنْ كَانَ عَرَضِيًّا فَإِنْ كَانَتِ الْمُشْتَرِكَاتُ مُخْتَلِفَةً بِالذَّوَاتِ فَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ، وَإِلَّا فَهُوَ الْخَاصَّةُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَأْلِيفٌ أَوْ فِيهِ.
وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَجَلًا، أَوْ هُوَ مُرْتَجِلٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَجَلًا فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَنْقُولًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَوْ هُوَ مَنْقُولٌ، وَالْمَنْقُولُ إِمَّا عَنِ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ صَوْتٍ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا عَنِ اسْمِ عَيْنٍ كَأَسَدٍ وَعُقَابٍ، أَوِ اسْمِ مَعْنًى كَفَضْلٍ، أَوِ اسْمِ صِفَةٍ كَحَاتِمٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا عَنْ مَاضٍ كَشَمِرٍ، أَوْ مُضَارِعٍ كَتَغْلِبَ، أَوْ فِعْلِ أَمْرٍ كَاصْمُتْ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ كَبَبَّةَ. (1)
_________
(1) بَبَّةُ عَلَى وَزْنِ بَتَّةُ حِكَايَةُ صَوْتِ صَبِيٍّ، يُرْوَى عَنِ امْرَأَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ وَهِيَ تُرَقِّصُ وَلَدَهَا: لَأُنْكِحَنَّ بَبَّةَ، جَارِيَةً خِدَبَّةً، مُكَرَّمَةً مُحَبَّةً، تُحِبُّ أَهْلَ الْكَعْبَةِ. انْظُرِ الْقَامُوسَ حَرْفَ الْبَاءِ.
(1/17)
 
 
وَإِنْ كَانَ مُرْتَجَلًا وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مُنَاسَبَةٌ كَحَمْدَانَ.
وَإِنْ كَانَ مُؤَلَّفًا فَإِمَّا مِنَ اسْمَيْنِ مُضَافَيْنِ كَعَبْدِ اللَّهِ، أَوْ غَيْرِ مُضَافَيْنِ وَأَحَدُهُمَا عَامِلٌ فِي الْآخَرِ أَوْ غَيْرُ عَامِلٍ. وَالْأَوَّلُ كَتَسْمِيَةِ بَعْضِ النَّاسِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَالثَّانِي كَبَعْلَبَكَّ وَحَضْرَمَوْتَ، وَإِمَّا مِنْ فِعْلَيْنِ كَقَامَ قَعَدَ، وَإِمَّا مِنْ حَرْفَيْنِ كَتَسْمِيَتِهِ إِنَّمَا، وَإِمَّا مِنَ اسْمٍ وَفِعْلٍ نَحْوَ تَأَبَّطَ شَرًّا، وَإِمَّا مَنْ حَرْفٍ وَاسْمٍ كَتَسْمِيَتِهِ بِزَيْدٍ، وَإِمَّا مَنْ فِعْلٍ وَحَرَفٍ كَتَسْمِيَتِهِ قَامَ عَلِيٌّ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّى مُخْتَلِفًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ، أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ فِي بَعْضِهَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَبَايِنَةً كَالْجَوْنِ (1) لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، أَوْ غَيْرَ مُتَبَايِنَةٍ، كَمَا إِذَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْأَسْوَدِ عَلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِطَرِيقِ الْعَلَمِيَّةِ، وَأَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ السَّوَادِ الْقَائِمِ بِهِ، فَإِنَّ مَدْلُولَهُ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَمًا إِنَّمَا هُوَ ذَاتُ الشَّخْصِ، وَمَدْلُولُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا الذَّاتُ مَعَ الصِّفَةِ وَهِيَ السَّوَادُ، فَالذَّاتُ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْعِلْمِ جُزْءٌ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ، وَمَدْلُولُ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ وَصْفٌ لِمَدْلُولِ الْعِلْمِ.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَجَازِيُّ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مُتَّحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَرَادِفَةُ كَالْبُهْتُرِ وَالْبُحْتُرِ لِلْقَصِيرِ (2) ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّدًا فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَبَايِنَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ.
مَسَائِلُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ ثَلَاثٌ:
_________
(1) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَجَمْعُهُ جُونٍ بِضَمِّ الْجِيمِ
(2) بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَسُكُونِ الثَّانِي فِي الْمِثَالَيْنِ.
(1/18)
 
 
[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ (1) ، هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ، فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ.
أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَفْظًا وَاحِدًا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، أَوْ أَنْ يَتَّفِقَ وَضْعُ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ لِلِاسْمِ عَلَى مَعْنَى حَقِيقَةٍ، وَوَضْعُ الْأُخْرَى لَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وَضَعَتْهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشْتَهِرُ الْوَضْعَانِ وَيَخْفَى سَبَبُهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ عَقَلًا، كَيْفَ وَإِنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ تَابِعٌ لِغَرَضِ الْوَاضِعِ، وَالْوَاضِعُ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مُفَصَّلًا فَقَدْ يَقْصِدُ تَعْرِيفَهُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمُهُ مُفَصَّلًا، أَوْ لِمَحْذُورٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْصِيلِ دُونَ الْإِجْمَالِ، فَلَا يَبْعُدُ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ مِنْهُمْ وَضْعُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَرَكَةُ وَاقِعَةً فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْأَسْمَاءَ مُتَنَاهِيَةٌ ضَرُورَةَ تَرَكُّبِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ ; لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ عَنِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مَعَ دَعْوَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَغَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَضَاعِيفِ التَّرْكِيبَاتِ مُتَنَاهِيَةً وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مُتَنَاهِيَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَالْمُخْتَلِفَةَ - وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا - غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
_________
(1) يَنْصَرِفُ الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَتَعَدَّدَ وَضْعُهُ وَمَعْنَاهُ، وَإِثْبَاتُ جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ هُنَا تَمْهِيدًا لِلْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامٍ فِي الْمَحْمَلِ: إِنْ قُلْنَا بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَفِي الْعَامِّ إِنْ قُلْنَا بِحَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ
(1/19)
 
 
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَضْعُ.
وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لَمْ تَضَعِ الْعَرَبُ بِإِزَائِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَيْهَا لَا بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّفْصِيلِ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: " أَطْلَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ اسْمَ الْقُرْءِ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَهُمَا ضِدَّانِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فِي اللُّغَةِ ". (1) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ، بَلْ غَايَةُ الْمَنْقُولِ اتِّحَادُ الِاسْمِ وَتَعَدُّدُ الْمُسَمَّى، وَلَعَلَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، لَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا، أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَهَذَا (2) هُوَ الْأَوْلَى.
إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ.
وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ التَّجَوُّزَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَ إِجْمَاعُ الْكُلِّ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَوْجُودِ عَلَى الْقَدِيمِ (3) وَالْحَادِثِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا لَصَحَّ نَفْيُهُ إِذْ هُوَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْجُودِ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، أَوْ عَلَى صِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ بِذَاتِهَا لِمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ (4) ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شَارَكَهَا فِي مَعْنَاهَا فِي الْوُجُوبِ (5) ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي مَفْهُومِ
_________
(1) دَلِيلٌ ثَانٍ لِوُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ.
(2) اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِكُلٍّ مِنَ الْاِعْتَبَارَيْنِ.
(3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ص (12) .
(4) الْمُخَالَفَةُ وَعَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَقَطْ لَا فِي الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ ; إِذْ لِكُلٍّ مِنَ الْخَوَاصِّ مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ.
(5) لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا اشْتِرَاكَ فِي الْخَارِجِ.
(1/20)
 
 
الذَّاتِ (1) وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنَ اسْمِ الْوُجُودِ فِي الْحَوَادِثِ وَإِمَّا خِلَافَهُ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فِي الْمُمْكِنِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ مُمْكِنًا ضَرُورَةَ إِمْكَانِ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ إِنَّمَا هُوَ التَّفَاهُمُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ مَعَ الِاشْتِرَاكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَهْمَ الْمَدْلُولِ مِنْهُ ضَرُورَةً تُسَاوِي النِّسْبَةِ (2) غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالْقَرَائِنِ فَقَدْ تَظْهَرُ وَقَدْ تَخْفَى، وَبِتَقْدِيرِ خَفَائِهَا يَخْتَلُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَضْعِ وَهُوَ الْفَهْمُ.
قُلْنَا: وَإِنِ اخْتَلَّ فَهْمُ التَّفْصِيلِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَلَا يَخْتَلُّ مَعَهُ الْفَهْمُ فِي جِهَةِ الْجُمْلَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ فَهْمُ التَّفْصِيلِ لُغَةً مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ بِدَلِيلِ وَضْعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ تَفَاصِيلَ مَا تَحْتَهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إِنَّمَا هِيَ
_________
(1) الِاشْتِرَاكُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ فَلَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الدَّلِيلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ لِاسْمِ الْوُجُودِ (وَهُوَ مُطْلَقُ الْوُجُودِ) تَسْتَلْزِمُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُشَابَهَةَ الَّتِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ. إِذِ الْكُلِّيُّ لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ، وَلَا اشْتِرَاكَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ حَتَّى تَلْزَمَ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ، فَلِلَّهِ وُجُودٌ يَخُصُّهُ فَلَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَلَا وُجُودَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا تَطْرَأُ عَلَيْهِ آفَاتٌ، وَلَا يَعْتَرِيهِ فَنَاءٌ إِلَخْ. وَلِلْمَخْلُوقِ وُجُودٌ يَخُصُّهُ فَلَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ غَيْرِهِ وَحَاجَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ وَيَنْتَهِي إِلَى فَنَاءٍ إِلَخْ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِاللَّوْنِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كُلِّيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ أَفْرَادُهُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ كَسَوَادِ الْفَحْمِ، وَبَيَاضِ الْقُطْنِ إِلَخْ. وَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ اشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنَاهُ الْكُلِّيِّ تَشَابُهُهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا مُدَاخَلَةُ كُلٍّ الْآخَرَ فِي خَوَاصِّهِ بَلْ مَا زَالَتْ مُتَضَادَّةً مُتَمَيِّزًا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِخَوَاصِّهِ. وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فِي الْأَلْوَانِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ ذَلِكَ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ.
وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَزِيدَ فَارْجِعْ إِلَى التَّدْمُرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
(2) تَعْلِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا
(1/21)
 
 
فَهْمُ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ إِنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً لِجَمِيعِ مَدْلُولَاتِهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. (1) وَإِذَا عُرِفَ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ لُغَةً، فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ، وَهُمَا ضِدَّانِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ.
وَمَا يَقُولُهُ الْمَانِعُ لِذَلِكَ " مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ، فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ الْبَيَانُ فَهُوَ تَطْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ فَاتَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ فَهُوَ عَبَثٌ، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ صِيَانَةُ كَلَامِ اللَّهِ عَنْهُ " فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ الْعَقْلِيِّ، وَسَيَأْتِي إِبْطَالُهُ. (2) كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُمُومِ، وَالْعَامُّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ عُمُومِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْخِطَابِ بِهِ فَائِدَةٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِهِ بِتَقْدِيرِ بَيَانِهِ بِظُهُورِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْبَعْضِ، وَإِبْطَالُ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ سِوَى الْوَاحِدِ مِنْهَا.
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظُنَّ فِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ وَهِيَ مُتَوَاطِئَةٌ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
قَدْ ظُنَّ فِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ (3) وَهِيَ مُتَوَاطِئَةٌ (4) ، وَفِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِنَا " مَبْدَأٌ " لِلنُّقْطَةِ، وَالْآنَ فَإِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمَوْضُوعُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الزَّمَانُ وَالْخَطُّ ظُنَّ الِاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ الْمَبْدَأِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَبْدَأِ عَلَيْهِمَا إِنَّمَا كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَّلٌ لِشَيْءٍ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوَّلٌ لِلزَّمَانِ أَوِ الْخَطِّ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَوَاطِئٌ وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ.
_________
(1) فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ.
(2) فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَبَادِئِ الْفِقْهِيَّةِ.
(3) أَيْ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا.
(4) أَيْ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا.
(1/22)
 
 
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَقَوْلِنَا " خَمْرِيٌّ " لِلَّوْنِ الشَّبِيهِ بِلَوْنِ الْخَمْرِ، وَلِلْعِنَبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى الْخَمْرِ، وَلِلدَّوَاءِ إِذَا كَانَ يُسْكِرُ كَالْخَمْرِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ جُزْءٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْخَمْرُ ظُنَّ أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اسْمَ الْخَمْرِيِّ وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ النِّسَبِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَيْهِ وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فَلَا تَوَاطُؤَ. نَعَمْ لَوْ أَطْلَقَ اسْمَ الْخَمْرِيِّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ مِنْ عُمُومِ النِّسْبَةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّاتِهَا كَانَ مُتَوَاطِئًا.
 
[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
ذَهَبَ شُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّيَاتِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ اسْمٍ بِمُسَمًّى غَيْرِ مُسَمَّى الْآخَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى تَعْطِيلُ فَائِدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لِحُصُولِهَا بِاللَّفْظِ الْآخَرِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِاتِّحَادِ الْمُسَمَّى فَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَمَّى الْمُتَعَدِّدِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ، وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْأَسْمَاءِ بِإِزَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ أَهْلِ الْوَضْعِ مِنْ وَضْعِهِمْ.
فَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَؤُونَةَ فِي حِفْظِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ أَخَفُّ مِنْ حِفْظِ الِاسْمَيْنِ، وَالْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُ أَعْظَمِ (1) الْمُشْتَقَّيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْفَائِدَتَيْنِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الِاسْمُ دَعَتْ حَاجَةُ الْكُلِّ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مَعَ خِفَّةِ الْمَؤُونَةِ فِي حِفْظِهِ فَعَمَّتْ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْمَاءُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ مَجْمُوعَ الْأَسْمَاءِ، أَوِ الْبَعْضَ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ شَاقٌّ جِدًّا وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِفَائِدَةِ التَّخَاطُبِ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَعْرِفَةِ اسْمٍ لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ.
_________
(1) الصَّوَابُ أَخَفَّ.
(1/23)
 
 
وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ لَفْظَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَاحِدٍ ثُمَّ يَتَّفِقُ الْكُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تَضَعَ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَتَضَعُ الْأُخْرَى لَهُ اسْمًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِوَضْعِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشِيعُ الْوَضْعَانِ بَعْدُ بِذَلِكَ، كَيْفَ وَذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ بِالنَّظَرِ إِلَى لُغَتَيْنِ ضَرُورَةً فَكَانَ جَائِزًا بِالنَّظَرِ إِلَى قَبِيلَتَيْنِ.
قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ " لَا فَائِدَةَ فِي أَحَدِ الِاسْمَيْنِ " لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي اللُّغَةِ وَتَكْثِيرُ الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَطْلُوبِ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ حُصُولِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ تَعَذُّرُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّحَدَ الطَّرِيقُ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ أُخَرَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ بِمُسَاعَدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحَرْفِ الرَّوِيِّ وَوَزْنِ الْبَيْتِ وَالْجِنَاسِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالْخِفَّةِ فِي النُّطْقِ بِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ لِأَرْبَابِ الْأَدَبِ وَأَهْلِ الْفَصَاحَةِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِ التَّرَادُفِ، بِدَلِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ.
وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ مِنْهُ وَهُوَ زِيَادَةُ مَؤُونَةِ الْحِفْظِ، إِنْ لَوْ وُظِّفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِفْظُ جَمِيعِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي حِفْظِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ (1) مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَعَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ، أَنَّهُ مُلْغًى بِالتَّرَادُفِ فِي لُغَتَيْنِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالتَّرَادُفِ الْإِخْلَالُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَوَّلًا وَهُوَ مَحْذُورٌ.
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ، مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ " الصُّهْلُبُ وَالشَّوْذَبُ مِنْ أَسْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَالْبُهْتُرُ وَالْبُحْتُرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَصِيرِ " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ حَتَّى يَتْبَعَ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَعَسَّفُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَدْلُولَاتِ، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَفِيَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَظَهَرَ الْبَعْضُ، فَيُجْعَلُ الْأَشْهُرُ بَيَانًا لِلْأَخْفَى وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ.
_________
(1) إِدْخَالُ (الْ) عَلَى كُلٍّ وَبَعْضٍ لَمْ يُعْرَفْ عَرَبِيَّةً.
(1/24)
 
 
وَقَدْ ظُنَّ بِأَسْمَاءَ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ وَهِيَ مُتَبَايِنَةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ وَالْهِنْدِيِّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ وَصِفَةِ صِفَتِهِ كَالنَّاطِقِ وَالْفَصِيحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَيُفَارِقُ الْمُرَادِفُ الْمُؤَكِّدَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَادِفَ لَا يَزِيدُ مُرَادِفُهُ إِيضَاحًا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يُرَادِفُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُؤَكِّدِ. وَالتَّابِعُ فِي اللَّفْظِ فَمُخَالِفٌ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ الْمَتْبُوعِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى أَصْلًا كَقَوْلِهِمْ: حَسَنٌ بَسَنٌ، وَشَيْطَانٌ لَيْطَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَأَلَتْ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ " بَسَنٌ " فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ.
 
[الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا]
الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ
الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْبَيَانُ مَعَ الِاخْتِصَارِ أَوْ لَا مَعَ الِاخْتِصَارِ
فَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ
وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ لَا يُقْصَدَ مَعَهُ التَّنْبِيهُ أَوْ يُقْصَدَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُضْمَرُ، وَالثَّانِي مَا بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا الِاسْمُ الظَّاهِرُ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ آخِرُهُ أَلِفًا وَلَا يَاءَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ أَوْ يَكُونُ.
فَالْأَوَّلُ هُوَ الِاسْمُ الصَّحِيحُ، فَإِنْ دَخَلَهُ حَرَكَةُ الْجَرِّ مَعَ التَّنْوِينِ فَهُوَ الْمُنْصَرِفُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ كَأَحْمَدَ وَإِبْرَاهِيمَ.
وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَلُّ، فَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ يَاءً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ فَهُوَ الْمَنْقُوصُ كَالْقَاضِي وَالدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ أَلِفٌ فَهُوَ الْمَقْصُورُ كَالدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ هَمْزَةٌ قَبْلَهَا أَلِفٌ فَهُوَ الْمَمْدُودُ كَالرِّدَاءِ وَالْكِسَاءِ.
وَأَمَّا الْمُضْمَرُ، فَهُوَ إِمَّا مُنْفَصِلٌ وَإِمَّا مُتَّصِلٌ، وَالْمُنْفَصِلُ نَحْوَ: أَنَا وَنَحْنُ وَهُوَ وَهِيَ وَنَحْوُهُ، وَالْمُتَّصِلُ نَحْوَ: فَعَلْتُ وَفَعَلْنَا، وَمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ.
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا لَيْسَ مَعَهُ تَنْبِيهٌ وَلَا خِطَابٌ، أَوْ يَكُونُ.
(1/25)
 
 
فَالْأَوَّلُ نَحْوَ ذَا وَذَانِ وَذَيْنِ وَأُولَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُفْرَدٍ فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ التَّنْبِيهُ لَا غَيْرُ فَنَحْوُ هَذَا وَهَذَانِ، وَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ الْخِطَابُ فَنَحْوُ ذَاكَ وَذَانِكَ، وَإِنِ اجْتَمَعَا مَعَهُ فَنَحْوُ هَذَاكَ وَهَاتِيكَ.
ثُمَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أُصُولٍ نَفْيًا لِلْإِجْحَافِ عَنْهُ مَعَ قُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ.
إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَدٌ وَدَمٌ وَأَبٌ وَأَخٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ الثَّالِثُ.
وَمَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ مُتَّصِلًا كَانَ مَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ كَالتَّاءِ مَنْ فَعَلْتَ.
وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، يُبْتَدَأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُوقَفُ عَلَى الْآخَرِ نَحْوُ: هُوَ وَهِيَ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ حَرْفَيْنِ أَيْضًا نَحْوُ: ذَا وَذِي وَنَحْوُهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَوْ لَا بِعَيْنِهِ.
فَالْأَوَّلُ هُوَ " الْمَعْرِفَةُ " كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَالْمُضْمَرَاتِ، وَالْمُبْهَمَاتِ كَأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، وَالْمَوْصُولَاتِ، وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ.
وَالثَّانِي هُوَ " النَّكِرَةُ " كَإِنْسَانٍ وَفَرَسٍ.
وَمَا أُلْحِقَ بِآخِرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ مَكْسُورُ مَا قَبْلَهَا، فَهُوَ الْمَنْسُوبُ كَالْهَاشِمِيِّ وَالْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ.
 
[الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ]
الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ
الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ. (1) أَمَّا " الْحَقِيقَةُ " فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُوَ الثَّابِتُ اللَّازِمُ وَهُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ يُقَالُ حَقَّ الشَّيْءُ حَقَّهُ، وَيُقَالُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَيْ ذَاتُهُ الثَّابِتَةُ اللَّازِمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ وَجَبَتْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ) أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ.
_________
(1) انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ عَلَى تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَالرِّسَالَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَكَلَامَ ابْنِ الْقِيَمِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الصَّوَاعِقِ، الْجُزْءُ الثَّانِي.
(1/26)
 
 
وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ قَدْ يُطْلِقُهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ، وَاللُّغَوِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى وَضْعِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، فَلْنَعْرِفْهَا ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَاقِي الْأَقْسَامِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا حُدُودٌ وَاهِيَةٌ يُسْتَغْنَى عَنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ بِذِكْرِهَا.
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ، كَالْأَسَدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَيَوَانِ الشُّجَاعِ الْعَرِيضِ الْأَعَالِي، وَالْإِنْسَانِ فِي الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ فَهِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ وَهِيَ قِسْمَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى عَامٍّ ثُمَّ يُخَصَّصُ بِعُرْفِ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، كَاخْتِصَاصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ عُرْفًا وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا دَبَّ، وَذَلِكَ إِمَّا لِسُرْعَةِ دَبِيبِهِ أَوْ كَثْرَةِ مُشَاهَدَتِهِ أَوْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى ثُمَّ يَشْتَهِرُ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ بِالْمَجَازِ الْخَارِجِ عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ غَيْرُهُ، كَاسْمِ الْغَائِطِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْمَوْضِعِ الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَهَرَ فِي عُرْفِهِمْ بِالْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُهْرَةُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْغَائِطِ مِنَ الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ لِكَثْرَةِ مُبَاشَرَتِهِ وَغَلَبَةِ التَّخَاطُبِ بِهِ مَعَ الِاسْتِنْكَافِ مَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْخَاصِّ بِهِ لِنُفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ، فَكَنُّوا عَنْهُ بِلَازِمِهِ أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ اسْتِعْمَالُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا كَانَ مَوْضُوعًا لَهُ أَوَّلًا فِي الشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ وَمُسَمَّاهُ لَا يَعْرِفُهُمَا أَهْلُ اللُّغَةِ أَوْ هُمَا مَعْرُوفَانِ لَهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ عَرَفُوا الْمَعْنَى وَلَمْ يَعْرِفُوا الِاسْمَ، أَوْ عَرَفُوا الِاسْمَ وَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَاسْمِ الصَّلَاةِ
(1/27)
 
 
وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، لَكِنَّ رُبَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ بِالْأَسْمَاءِ الدِّينِيَّةِ.
وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحُدَّ الْحَقِيقَةَ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ جَمِيعَ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ قُلْتَ: " الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ " فَإِنَّهُ جَامِعٌ مَانِعٌ.
وَأَمَّا الْمَجَازُ فَمَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَوَازِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: جَازَ فُلَانٌ مِنْ جِهَةِ كَذَا إِلَى كَذَا.
وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ بِانْتِقَالِ اللَّفْظِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي تَحْدِيدِهِ يَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَكُونُ لِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَعَنِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا، كَمَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُنْقَسِمَةً إِلَى: وَضْعِيَّةٍ، وَعُرْفِيَّةٍ، وَشَرْعِيَّةٍ.
وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: مَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَ الْمَجَازِ وَضْعِيًّا قَالَ فِي حَدِّ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ الْوَضْعِيَّةِ: " هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ "، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ وَضْعِيًّا أَبْقَى الْحَدَّ بِحَالِهِ وَأَبْدَلَ الْمُتَوَاضَعَ عَلَيْهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى حَدُّ التَّجَوُّزِ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.
وَإِنْ أَرَدْتَ التَّحْدِيدَ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ قُلْتَ: " هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ أَوِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ الْمُخَاطَبَةُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ " وَنَعْنِي بِالتَّعَلُّقِ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ التَّجَوُّزِ مُشَابِهًا لِمَحَلِّ الْحَقِيقَةِ فِي شَكْلِهِ وَصُورَتِهِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُصَوِّرِ عَلَى الْحَائِطِ، أَوْ فِي صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي صِفَةِ الشَّجَاعَةِ لَا فِي صِفَةِ الْبَخْرِ لِخَفَائِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ حَقِيقَةً كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُعْتَقِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ كَتَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا، أَوْ أَنَّهُ مُجَاوِرٌ لَهُ فِي الْغَالِبِ كَقَوْلِهِمْ: جَرَى النَّهْرُ وَالْمِيزَابُ وَنَحْوُهُ.
(1/28)
 
 
وَجَمِيعُ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ (1) ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْحَدَّ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجَازِ اللَّفْظِيِّ لَا مُطْلَقًا، وَبِقَوْلِنَا: " الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ أَوِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا " تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْحَقِيقَةِ.
وَبِقَوْلِنَا: " لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ " لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ ابْتِدَاءَ وَضْعٍ آخَرَ، وَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا لَا مَجَازًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْحَدِّ غَيْرُ جَامِعٍ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ التَّجَوُّزُ بِتَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ فِي اللُّغَةِ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا ; لِدُخُولِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْمَدْلُولِ الْأَصْلِيِّ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا خُرُوجُ التَّجَوُّزِ بِزِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي إِفَادَةِ شَيْءٍ أَصْلًا، وَيَخْرُجُ أَيْضًا مِنْهُ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ حَالَةَ قَصْدِ تَعْظِيمِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَعْظِيمُهُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ أَسَدًا لَا بِمُجَرَّدِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ مَا إِذَا جُعِلَ عَلَمًا لَهُ وَمَدْلُولُهُ إِذْ ذَاكَ، لَا بِكَوْنِ غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَتَدَخُلُ (2) فِيهِ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ كَلَفْظِ الْغَائِطِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ أَوَّلًا،، وَالْحَقِيقَةُ (3) مِنْ حَيْثُ هِيَ حَقِيقَةٌ لَا تَكُونُ مَجَازًا.
قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُطْلَقِ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هَمَّا كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لَفْظُ الدَّابَّةِ حَقِيقَةً فِي مُطْلَقِ دَابَّةٍ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّابَّةِ الْمُقَيَّدَةِ عَلَى الْخُصُوصِ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا.
وَأَمَّا الْكَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَلَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلِاسْمِيَّةِ كَوَضْعِهَا فِي اللُّغَةِ وَلَا لِلتَّشْبِيهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعْنَاهَا لَيْسَ لِمِثْلِهِ مِثْلٌ " وَهُوَ مِثْلٌ لِمَثِيلِهِ " فَكَانَ تَنَاقُضًا فَكَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لَا فِيمَا لَهُ فِي اللُّغَةِ أَوَّلًا، فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْحَدِّ.
_________
(1) هِيَ الْعَلَاقَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مِنْ تَشْبِيهٍ وَغَيْرِهِ.
(2) التَّرْدِيدُ بَأَوْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ أَوَّلًا.
(3) اعْتِرَاضٌ آخَرُ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ غَيْرُ مَانِعٍ.
(1/29)
 
 
وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ تَعْظِيمًا لَهُ، فَلَيْسَ لِتَقْدِيرِ مُسَمَّى الْأَسَدِ الْحَقِيقِيِّ فِيهِ بَلْ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِفَتِهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ. وَالْحَقِيقَةُ (1) الْعُرْفِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى تَوَاضُعِ أَهْلِ الْعُرْفِ عَلَيْهَا فَلَا (2) تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَلَا تَنَاقُضَ، وَإِذَا عُرِفَ (3) مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَمَهْمَا وَرَدَ لَفْظٌ فِي مَعْنًى وَتَرَدَّدَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ (4) فَقَدْ يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْلٌ فَقَدْ يُعْرَفُ كَوْنُهُ مَجَازًا بِصِحَّةِ نَفْيِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً بِعَدَمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ سُمِّيَ مِنَ النَّاسِ حِمَارًا لِبَلَادَتِهِ إِنَّهُ لَيْسَ بِحِمَارٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَا كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَجَازًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ، فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْمَجَازُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي الْمَجَازِ الْمَنْقُولِ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَالْأَمْرُ فِيهِمَا بِالضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهِ مَعَ عَدَمِ تَبَادُرِ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ.
قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ إِذَا تَبَادَرَ مَدْلُولُهُ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُهُ مَجَازًا فَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْغَالِبِ، وَإِدْرَاجُ النَّادِرِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَوْلَى. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ فَقَدِ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا وَاحِدًا مِنْ مَدْلُولَاتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ فَهُوَ
_________
(1) صَوَابُهُ: فَالْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ.
(2) بَدَءَ الْجَوَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِالْمَنْعِ.
(3) الصَّوَابُ حَذْفُ الْفَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرُ (حَقِيقَةً) ".
(4) أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى عَلَامَاتِ الْمَجَازِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ - انْظُرْ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " جُزْءُ 7 مِنَ الْفَتَاوَى.
(1/30)
 
 
حَقِيقَةٌ فِي الْوَاحِدِ عَلَى الْبَدَلِ لَا فِي الْوَاحِدِ عَيْنًا، وَالَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ فَهُوَ مُتَبَادَرٌ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ عَلَى الْبَدَلِ، وَالَّذِي لَمْ يَتَبَادَرْ إِلَى الْفَهْمِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ غَيْرُ حَقِيقَةٍ فِيهِ (1) ، وَفِيهِ دِقَّةٌ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ مُطَّرِدًا فِي مَدْلُولِهِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ الْمَنْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالشَّارِعُ مِنَ الِاطِّرَادِ، وَذَلِكَ كَتَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الطَّوِيلِ نَخْلَةً إِذْ هُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ طَوِيلٍ.
فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الِاطِّرَادِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَوُّزِ، فَإِنَّ اسْمَ السَّخِيِّ حَقِيقَةٌ فِي الْكَرِيمِ، وَالْفَاضِلُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَالِمِ، وَهَذَانِ الْمَدْلُولَانِ مَوْجُودَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقَالُ لَهُ سَخِيٌّ وَلَا فَاضِلٌ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْقَارُورَةِ حَقِيقَةٌ فِي الزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِكَوْنِهَا مَقَرًّا لِلْمَائِعَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ، وَلَا يُسَمَّى قَارُورَةً وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الِاطِّرَادَ