المحصول للرازي

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: المحصول
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)
 
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حمده وصلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
الفصل الأول في تفسير أصول الفقه (اعلم أن) المركب لا يمكن أن يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لا من كل وجه بل من الوجه الذي لأجله يصح أن يقع التركيب فيه فيجب علينا تعريف الأصل والفقه ثم تعريف أصول الفقه أما الأصل فهو المحتاج إليه وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة
فإن قلت الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما قلت المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط
(1/78)
 
 
الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه فالحكم معلوم قطعا والظن واقع في طريقه وقولنا العلم بالأحكام احتراز عن العلم بالذوات والصفات الحقيقية وقولنا الشرعية احتراز عن العلم بالأحكام العقلية كالتماثل والاختلاف والعلم بقبح الظلم وحسن الصدق عند من يقول بكونهما عقليين وقولنا العملية احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة فان كل ذلك أحكام شرعية مع أن العلم بها ليس من الفقه لأن العلم بها ليس علما بكيفية عمل وقولنا المستدل على أعيانها احتراز عما للمقلد من العلوم الكثيرة المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية لأنه إذا علم أن المفتي أفتى بهذا الحكم وعلم أن ما أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه فهذان العلمان يستلزمان العلم بأن حكم الله تعالى في حقه ذلك مع أن تلك العلوم لا تسمى فقها لما لم يكن مستدلا على أعيانها
(1/79)
 
 
وقولنا بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فان ذلك لا يسمى فقها لأن العلم الضروري حاصل بكونهما من دين محمد صلى الله عليه وسلم وأما أصول الفقه فاعلم أن إضافة اسم المعنى
تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الذي عينت له لفظة المضاف يقال هذا مكتوب زيد والمفهوم ما ذكرناه وعند هذا نقول أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها (ف) فقولنا مجموع احتراز عن الباب الواحد من أصول الفقه فإنه وان كان من أصول الفقه لكنه ليس أصول الفقه لأن بعض الشئ لا يكون نفس ذلك الشئ وقولنا طرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات
(1/80)
 
 
وقولنا على طريق الإجمال أردنا به بيان كون تلك الأدلة أدلة ألا ترى أنا إنما نتكلم في أصول الفقه في بيان أن الإجماع دليل فأما أنه وجد الإجماع في هذه المسألة فذلك لا يذكر في أصول الفقه وقولنا وكيفية الاستدلال بها أردنا به الشرائط التي معها يصح الاستدلال بتلك الطرق وقولنا وكيفية حال المستدل بها أردنا به أن الطالب لحكم الله تعالى إن كان عاميا وجب أن يستفتي وان كان عالما وجب أن يجتهد فلا جرم وجب في أصول الفقه أن يبحث عن حال الفتوى والاجتهاد وأن كل مجتهد هل هو مصيب أم لا
(1/81)
 
 
الفصل الثاني فيما يحتاج إليه أصول الفقه من المقدمات
لما كان أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه والطريق هو الذي يكون النظر الصحيح فيه مفضيا إما إلى العلم بالمدلول أو إلى الظن به والمدلول هنا هو الحكم الشرعي وجب علينا تعريف مفهومات هذه الألفاظ أعني العلم والظن والنظر والحكم الشرعي ثم ما كان منها بين الثبوت كان غنيا عن البرهان وما لم يكن كذلك وجب أن يحال بيانه على العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه لأن مبادئ العلوم الجزئية لو برهن عليها فيها لزم الدور وهو محال
(1/82)
 
 
الفصل الثالث في تحديد العلم والظن هذا المقصود إنما يتحقق ببحثين الأول أن حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازما أو لا يكون فإن كان جازما فإما أن يكون مطابقا للمحكوم عليه أو لا يكون فإن كان مطابقا فإما أن يكون لموجب أو لا يكون فإن كان لموجب فالموجب إما أن يكون حسيا أو عقليا أو مركبا منهما فإن كان حسيا فهو العلم الحاصل من الحواس الخمسة
(1/83)
 
 
ويقرب منه العلم بالأمور الوجدانية كاللذة والألم وإن كان عقليا فأما أن يكون الموجب مجرد تصور طرفي القضية أو لا بد من شئ آخر من القضايا فالأول هو البديهيات والثاني النظريات
وأما إن كان الموجب مركبا من الحس والعقل فإما أن يكون من السمع والعقل وهو المتواترات أو من سائر الحواس والعقل وهو التجريبيات والحدسيات وأما الذي لا يكون لموجب فهو اعتقاد المقلد وأما الجازم غير المطابق فهو الجهل وأما الذي لا يكون جازما فالتردد بين الطرفين إن كان على السوية فهو الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم الثاني أنه ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسبا وإلا لزم الدور أو
(1/84)
 
 
التسلسل إما في موضوعا ت متناهية أو غير متناهية وهو يمنع حصول التصور أصلا بل لا بد من تصور غير مكتسب وأحق الأمور بذلك ما يجده العاقل من نفسه ويدرك التفرقة بينه وبين غيره بالضرورة ومنها القسم المسمى بالعلم لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه ولذته ويدرك بالضرورة كونه عالما بهذه الأمور ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضروري وإلا لامتنع أن يكون علمه بكونه عالما بهذه الأمور ضروريا لما أن التصديق موقوف على التصور وكذا القول في الظن ثم العبارة المحررة أن الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهري التجويز وها هنا دقيقة وهي أن التغليب إما أن يكون في المعتقد أو في الاعتقاد أما الذي يكون في المعتقد فهو أن يكون الشئ ممكن الوجود والعدم إلا أن
(1/85)
 
 
أحد الطرفين به أولى كالغيم الرطب فإن نزول المطر منه وعدم نزوله ممكنان لكن النزول أولى وأما الذي يكون في الاعتقاد فهو أن يحصل اعتقاد الوقوع واعتقاد اللا وقوع كل واحد مع تجويز النقيض لكن اعتقاد الوقوع يكون أظهر عنده من اعتقاد اللاوقوع فظهر أن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لرجحان اعتقاد اللاوقوع فهذا الثاني هو الظن فان كان مطابقا للمظنون كان ظنا صادقا وإلا كان ظنا كاذبا وأما الأول وهو اعتقاد رجحان الوقوع فإن كان مطابقا للمعتقد كان علما أو تقليدا على التفصيل المتقدم وإلا كان جهلا والله أعلم
(1/86)
 
 
الفصل الرابع في النظر والدليل والأمارة أما النظر فهو ترتيب تصديقات في الذهن ليتوصل بها إلى تصديقات أخر والمراد من التصديق اسناد الذهن أمرا إلى أمر بالنفي أو بالاثبات اسنادا جازما أو ظاهرا ثم تلك التصديقات التي هي الوسائل إن كانت مطابقة لمتعلقاتها لو فهو النظر الصحيح وإلا فهو النظر الفاسد ثم تلك التصديقات المطابقة إما أن تكون بأسرها علوما فيكون اللازم عنها أيضا علما وإما أن تكون بأسرها ظنونا
فيكون اللازم عنها أيضا ظنا وإما أن يكون بعضها ظنونا وبعضها علوما فيكون اللازم عنها أيضا ظنا لأن حصول النتيجة موقوف على حصول جميع المقدمات فإذا كان بعضها ظنا كانت النتيجة موقوفة على الظن والموقوف على الظن ظن فالنتيجة ظنية لا محالة
(1/87)
 
 
وأما الدليل فهو الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم وأما الأمارة فهي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن
(1/88)
 
 
الفصل الخامس في الحكم الشرعي قال أصحابنا إنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالإقتضاء أو التخيير أما الإقتضاء فإنه يتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك فيتناول الواجب والمحظور والمندوب والمكروه وأما التخيير فهو الإباحة فإن قيل هذا التعريف فاسد من أربعة أوجه أحدهما أن حكم الله تعالى على هذا التقدير خطابه وخطاب
(1/89)
 
 
الله تعالى كلامه وكلامه عندكم قديم فيلزم أن يكون حكم الله تعالى بالحل والحرمة قديما وهذا باطل من ثلاثة أوجه الأول أن حل الوطء في المنكوحة وحرمته في الأجنبية صفة فعل العبد ولهذا يقال هذا الوطء حلال أو حرام وفعل العبد محدث وصفة المحدث لا تكون قديمة الثاني انه يقال هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك وهذا مشعر بحدوث هذه الأحكام الثالث أنا نقول المقتضى لحل الوطء هو النكاح أو ملك اليمين وما كان معللا بأمر حادث يستحيل أن يكون قديما فثبت أن الحكم يمتنع أن يكون قديما والخطاب قديم فالحكم لا يكون عين الخطاب وثانيهما أن بعض الأحكام خارج عن هذا الحد وهو كون الشئ سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا وثالثهما أن الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلف وذلك كجعل إتلاف
(1/90)
 
 
الصبي سببا لوجوب الضمان وجعل الدلوك سببا لوجوب الصلاة ورابعها أنك أدخلت كلمة أو في الحد وهو غير جائز لأنها للترديد والحد للإيضاح وبينهما مباينة والجواب قوله الحل والحرمة من صفات الأفعال قلنا لا نسلم فإن عندنا لا معنى لكون الفعل حلالا إلا مجرد كونه مقولا فيه رفعت الحرج عن فاعله ولا معنى لكونه حراما إلا كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك فحكم الله تعالى هو قوله والفعل متعلق
القول وليس لمتعلق القول من القول صفة وإلا لحصل للمعدوم صفة ثبوتية بكونه مذكورا ومخبرا عنه ومسمى بالاسم المخصوص قوله إنا نقول هذه المرأة حلت لزيد بعدما لم تكن كذلك قلنا حكم الله تعالى هو قوله في الأزل أذنت للرجل الفلاني حين وجوده في كذا فحكمه قديم ومتعلق حكمه محدث
(1/91)
 
 
قوله الحكم يعلل بالأسباب قلنا المراد من السبب عندنا المعرف لا الموجب قوله هذا التحديد يخرج عنه كون الشئ سببا وشرطا ومانعا وصحيحا وفاسدا قلنا المراد من كون الدلوك سببا أنا متى شاهدنا الدلوك علمنا أن الله تعالى أمرنا بالصلاة فلا معنى لهذه السببية إلا الإيجاب وإذا قلنا هذا العقد صحيح لم نعن به إلا أن الشرع إذن له في الانتفاع به ولا معنى لذلك إلا الإباحة قوله هذا التحديد يخرج عنه إتلاف الصبي ودلوك الشمس قلنا معنى قولنا إتلاف الصبي سبب لوجوب الضمان أن الولي مكلف بإخراج الضمان من ماله والرجل مكلف ب أداء الصلاة عند الدلوك قوله كلمة أو للترديد قلنا مرادنا أن كل ما وقع على أحد هذه الوجوه كان حكما وإلا فلا
(1/92)
 
 
الفصل السادس في تقسيم الأحكام الشرعية
التقسيم الأول وهو من وجوه خطاب الله تعالى إذا تعلق بشئ فإما أن يكون طلبا جازما أو لا يكون كذلك فإن كان جازما فإما أن يكون طلب الفعل وهو الإيجاب أو طلب الترك وهو التحريم وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة وإما أن يترجح جانب الوجود وهو الندب أو جانب العدم وهو الكراهة فأقسام الأحكام الشرعية هي هذه الخمسة وقد ظهر بهذا التقسيم ماهية كل واحد منها
(1/93)
 
 
فلنذكر الآن حدودها وأقسامها
(1/94)
 
 
أما الواجب فالذي اختاره القاضي أبو بكر أنه ما يذم تاركه شرعا على بعض الوجوه وقولنا يذم تاركه خير من قولنا يعاقب تاركه لأن الله تعالى قد
(1/95)
 
 
يعفو عن العقاب ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ومن قولنا يتوعد بالعقاب على تركه لأن الخلف في خبر الله تعالى محال فكان ينبغي أن لا يوجد العفو ومن قولنا ما يخاف العقاب على تركه لأن الذي يشك في وجوبه وحرمته قد يخاف من العقاب على تركه مع أنه غير واجب وقولنا شرعا إشارة إلى ما نذهب إليه من أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع
وقولنا على بعض الوجوه ذكرناه ليدخل في الحد الواجب المخير لأنه يلام على تركه إذا تركه وترك معه بدله أيضا والواجب الموسع لأنه يلام على تركه إذا تركه في كل الوقت والواجب على الكفاية لأنه يلام على تركه إذا تركه الكل فإن قيل هذا الحد يدخل فيه السنة فإن الفقهاء قالوا لو أن أهل محلة اتفقوا على ترك سنة الفجر بالإصرار فإنهم يحاربون بالسلاح قلت سيأتي جوابه إن شاء الله تعالى.
(1/96)
 
 
وأما الاسم فاعلم أنه لا فرق عندنا بين الواجب والفرض والحنفية خصصوا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع والواجب بما عرف وجوبه بدليل مظنون قال أبو زيد رحمه الله الفرض عبارة عن التقدير قال الله تعالى فنصف ما فرضتم أي قدرتم وأما الوجوب فهو عبارة عن السقوط قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها أي سقطت إذا ثبت هذا فنحن خصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع لأنه هو الذي يعلم من حاله أن الله تعالى قدره علينا وهذا الفرق ضعيف لأن الفرض هو المقدر لا انه الذي ثبت كونه مقدرا علما أو ظنا كما أن الواجب هو الساقط لا انه الذي ثبت كونه ساقطا علما أو
(1/97)
 
 
ظنا وإذا كان كذلك كان تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد القسمين تحكما محضا
(1/98)
 
 
وأما المحظور فهو الذي يذم فاعله شرعا وأسماؤه كثيرة أحدها أنه معصية واطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل ما نهى الله تعالى عنه وقالت المعتزلة إنه الفعل الذي كرهه الله تعالى والكلام فيه مبني على مسألة خلق الأعمال وارادة الكائنات وثانيهما أنه محرم وهو قريب من المحظور وثالثهما أنه ذنب وهو المنهي عنه الذي تتوقع عليه العقوبة والمؤاخذة ولذلك لا توصف أفعال البهائم والأطفال بذلك وربما يوصف فعل المراهق به لما يلحقه من التأديب على فعله
(1/101)
 
 
ورابعها أنه مزجور عنه ومتوعد عليه ويفيد في العرف أن الله تعالى هو المتوعد عليه والزاجر عنه وخامسها أنه قبيح وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى وأما المباح فهو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا ضرر في فعله وتركه ولا نفع في الآخرة وأما الأسماء فالمباح يقال له إنه حلال طلق وقد يوصف الفعل بأن الإقدام عليه مباح وإن كان تركه محظورا كوصفنا دم المرتد بأنه مباح ومعناه أنه لا ضرر على من أراقه وإن كان الإمام ملوما بترك إراقته وأما المندوب فهو الذي يكون فعله راجحا على تركه في نظر
الشرع ويكون تركه جائزا وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل لاستدلالهم بذلك على استهانته بالطاعة وزهده فيها فإن النفوس تستنقص من هذا دأبه وعادته
(1/102)
 
 
وقولنا في نظر الشرع احتراز عن الأكل قبل ورود الشرع فإن فعله خير من تركه لما فيه من اللذة لكن ذلك الرجحان لما لم يكن مستفادا من الشرع فلا جرم انه لا يسمى مندوبا وأما الأسماء فأحدها أنها مرغب فيه لما أنه قد بعث المكلف على فعله بالثواب وثانيها أنه مستحب ومعناه في العرف أن الله تعالى قد أحبه وثالثها أنه نفل ومعناه أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان أن يفعله من غير حتم ورابعها أنه تطوع ومعناه أن المكلف انقاد لله تعالى فيه مع أنه قربة من غير حتم وخامسها أنه سنة ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة ولفظ السنة مختص في العرف بالمندوب بدليل أنه يقال هذا الفعل واجب أو سنة ومنهم من قال لفظ السنة لا يختص بالمندوب بل يتناول كل ما علم وجوبه أو ندبيته بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بإدامته فعله لأن السنة مأخوذة من
(1/103)
 
 
الإدامة ولذلك يقال الختان من السنة ولا يراد به أنه غير واجب
وسادسها أنه إحسان وذلك إذا كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى نفعه وأما المكروه فيقال بالاشتراك على أمور ثلاثة أحدها ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر فاعله بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن على فعله عقاب وثانيها المحظور وكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله أكره كذا وهو يريد به التحريم وثالثها ترك الأولى كترك صلاة الضحى ويسمى ذلك مكروها لا لنهي ورد عن الترك بل لكثرة الفضل في فعلها والله أعلم
(1/104)
 
 
التقسيم الثاني الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا وتحقيق القول فيه أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة التكليف وإما أن يصدر عنه الفعل وهو على حالة التكليف والأول كفعل النائم والساهي والمجنون والطفل فهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح وإن كان قد يتعلق بها وجوب ضمان وأرش في مالهم ويجب اخراجه على وليهم والثاني ضربان لأن القادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن كان له فعله فهو الحسن وإن لم يكن فهو القبيح ثم قال أبو الحسين البصري رحمه الله القبيح هو الذي ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا ليس له أن يفعله
(1/105)
 
 
معقول لا يحتاج إلى تفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم وأما الحسن فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن يفعله وأيضا ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم وأقول هذه الحدود غير وافية بالكشف عن المقصود أما الأول فنقول ما الذي أردت بقولك ليس له أن يفعله فإنه يقال للعاجز عن الفعل ليس له أن يفعله ويقال للقادر على الفعل إذا كان ممنوعا عنه حسا ليس له أن يفعله ويقال للقادر إذا كان شديد النفرة عن الفعل ليس له أن يفعله وقد يقال للقادر إذا زجره الشرع عن الفعل إنه ليس له أن يفعله والتفسيران الأولان غير مرادين لا محالة والثالث غير مراد أيضا لأن الفعل قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعية عنه وبالعكس والرابع أيضا غير مراد لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي فإن قلت المراد منه القدر المشترك بين هذه الصور الأربع من مسمى المنع
(1/106)
 
 
قلت لا نسلم أن هذه الصور الأربع تشترك في مفهوم واحد وذلك لأن المفهوم الأول معناه أنه لا قدرة له على الفعل وهذا إشارة إلى العدم والمفهوم الرابع معناه أنه يعاقب عليه وهذا إشارة إلى الوجود ونحن لا نجد بينهما قدرا مشتركا وأما قوله ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله
قلنا لما فسرت القبيح بأنه الذي يستحق الذم بفعله وجب تفسير الاستحقاق والذم فأما الاستحقاق فقد يقال الأثر يستحق المؤثر على معنى أنه يفتقر إليه لذاته ويقال المالك يستحق الانتفاع بملكه على معنى أنه يحسن منه ذلك الانتفاع والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق حيث قال الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور وإن أراد بالاستحقاق معنى ثالثا فلا بد من بيانه وأما الذم فقد قالوا إنه قول أو فعل أو ترك قول أو
(1/107)
 
 
ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال الغير فنقول إن عنيت بالإتضاع يكون ما ينفر عنه طبع الإنسان ولا يلائمه فهذا معقول لكن يلزم عليه أن لا يتحقق الحسن والقبح في حق الله تعالى لما أن النفرة الطبيعية عليه ممتنعة وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه وأعلم أن هذه الاشكالات غير واردة على قولنا لأنا نعني بالقبيح المنهي عنه شرعا وبالحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا وتندرج فيه أفعال الله تعالى وأفعال المكلفين من الواجبات والمندوبات والمباحات وأفعال الساهي والنائم والبهائم وهو أولى من قول من قال الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم
عليه أن لا تكون أفعال الله تعالى حسنة ولو قلت الحسن هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنع عنه شرعا خرج عنه فعل النائم والساهي والبهيمة ويدخل فيه فعل الله تعالى لأن وجوب ذلك العلم
(1/108)
 
 
لا ينافي صحته وبالله التوفيق
التقسيم الثالث قالوا خطاب الله تعالى كما قد يرد بالاقتضاء أو التخيير فقد يرد أيضا بجعل الشئ سببا وشرطا ومانعا فلله تعالى
(1/109)
 
 
في الزاني حكمان أحدهما وجوب الحد عليه والثاني جعل الزنا سببا لوجوب الحد لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وبذاته بل بجعل الشارع إياه سببا ولقائل أن يقول إن كان المراد من جعل الزنا سببا لوجوب الحد هو أنه قال متى رأيت انسانا يزني فاعلم أني أوجبت عليه الحد فهو حق ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا بحصول الحكم وإن كان المراد أن الشرع جعل الزنى مؤثرا في هذا الحكم فهذا باطل لثلاثة أوجه الأول أن حكم الله تعالى كلامه وكلامه قديم والقديم لا يعلل بالمحدث
(1/110)
 
 
الثاني أن الشرع لما جعل الزنا مؤثرا في وجوب هذا الحد فبعد هذا الجعل إما أن تبقى حقيقة الزنا كما كانت قبل هذا الجعل أو لا تبقى فإن
بقيت كما كانت وحقيقته قبل هذا الجعل ما كانت مؤثرة فبعد هذا الجعل وجب أن لا تصير مؤثرة وإن لم تبق تلك الحقيقة كان هذا إعداما لتلك الحقيقة والشئ بعد عدمه يستحيل أن يكون موجبا الثالث الشرع إذا جعل الزنا علة فإن لم يصدر عنه عند ذلك الجعل أمر ألبتة استحال أن يقال إنه جعله علة للحد لأن ذلك كذب والكذب على الشرع محال وإن صدر عنه أمر فذلك الأمر إما أن يكون هو الحكم أو ما يوجب الحكم أولا الحكم ولا ما يوجبه فإن كان الأول كان المؤثر في ذلك الحكم هو الشرع مع لا ذلك السبب وإن كان الثاني كان المؤثر في ذلك الحكم وصفا حقيقيا وهذا هو قول المعتزلة في الحسن والقبح وسنبطله إن شاء الله تعالى وإن كان الثالث فهو محال لأن الشارع لما أثر في شئ غير الحكم وغير مستلزم للحكم لم يكن لذلك الشئ تعلق بالحكم أصلا
(1/111)
 
 
التقسيم الرابع الحكم قد يكون حكما بالصحة وقد يكون حكما بالبطلان والصحة قد تطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى أما في العبادات فالمتكلمون يريدون بصحتها كونها موافقة للشريعة سواء وجب القضاء أو لم يجب والفقهاء يريدون بها ما أسقط القضاء فصلاة من ظن أنه متطهر
صحيحة في عرف المتكلمين لأنها موافقة للأمر المتوجه عليه والقضاء وجب بأمر متجدد وفاسدة عنه الفقهاء لأنها لا تسقط القضاء وأما في العقود فالمراد من كون البيع صحيحا ترتب أثره عليه وأما الفاسد فهو مرادف للباطل عند أصحابنا والحنفية جعلوه قسما متوسطا بين الصحيح والباطل وزعموا أنه الذي يكون منعقدا بأصله ولا يكون مشروعا بسبب وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث إنه بيع وممنوع من حيث إنه يشتمل على الزيادة
(1/112)
 
 
والكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات ولو ثبت هذا القسم لم نناقشهم سعيد في تخصيص اسم الفاسد به ويقرب من هذا الباب البحث عن قولنا في العبادات إنها مجزية أم لا وأعلم أن الفعل إنما يوصف بكونه مجزيا إذا كان بحيث يمكن وقوعه بحيث يترتب عليه حكمه ويمكن وقوعه بحيث لا يترتب عليه حكمه كالصلاة والصوم والحج أما الذي لا يقع إلا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى ورد الوديعة فلا يقال فيه إنه مجزئ أو غير مجزئ إذا عرفت هذه فنقول معنى كون الفعل مجزيا أن الإتيان به كاف في سقوط التعبد به وإنما يكون كذلك لو أتى المكلف به مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه من حيث وقع التعبد به
ومنهم من فسر الإجزاء ب سقوط القضاء وهو باطل لأنه لو أتى بالفعل عند اختلال بعض شرائطه ثم مات لم يكن الفعل مجزيا مع سقوط القضاء
(1/113)
 
 
ولأن القضاء إنما يجب بأمر متجدد على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ولأنا نعلل وجوب القضاء بأن الفعل الأول لم يكن مجزيا فوجب قضاؤه والعلة مغايرة للمعلول
(1/114)
 
 
التقسيم الخامس العبادة توصف بالقضاء والأداء والإعادة فالواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإذا أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع سمي قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في وقته المضروب له سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل على ضرب من الخلل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود ثم ها هنا بحثان الأول لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه لو لم يشتغل به لمات فها هنا لو أخر عصى فلو أخر وعاش ثم اشتغل به قال القاضي أبو بكر هذا قضاء لأنه تعين وقته بسبب غلبة الظن وما أوقعه فيه وقال الغزالي رحمه الله هذا أداء لأنه لما انكشف خلاف ما
ظن زال حكمه فصار كما لو علم أنه يعيش
(1/116)
 
 
الثاني الفعل لا يسمى قضاء إلا إذا وجد سبب وجوب الأداء مع أنه لم يوجد الأداء ثم القضاء على قسمين أحدهما ما وجب الأداء فتركه وأتى بمثله خارج الوقت فكان قضاء وهو كمن ترك الصلاة عمدا في وقتها ثم أداها خارج الوقت وثانيهما ما لا يجب الأداء وهو أيضا قسمان أحدهما أن يكون المكلف بحيث لا يصح منه الأداء والثاني أن يصح منه ذلك أما الذي لا يصح منه الأداء فإما أن يمتنع ذلك عقلا كالنائم والمغمى عليه فإنه يمتنع عقلا صدور فعل الصلاة منه وإما أن يمتنع ذلك منه شرعا كالحائض فإنه لا يصح منها فعل الصوم لكن لما وجد في حقها سبب الوجوب وإن لم يوجد الوجوب سمي الإتيان بذلك الفعل خارج الوقت قضاء وأما الذي يصح ذلك الفعل منه إن لم يجب عليه الفعل فالمقتضى لسقوط الوجوب قد يكون من جهته كالمسافر فإن السفر منه وقد أسقط وجوب الصوم وقد يكون من الله تعالى كالمريض فإن المرض من الله وقد أسقط وجوب الصوم
(1/117)
 
 
ففي جميع هذه المواضع اسم القضاء إنما جاء لأنه وجد سبب
الوجوب منفكا عن الوجوب لا لأنه وجد وجوب الفعل كما يقوله بعض من لا يعرف من الفقهاء لأن المنع من الترك جزء ماهية الوجوب فيستحيل تحقق الوجوب مع جواز الترك
(1/118)
 
 
التقسيم السادس الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة وذلك لأن ما جاز فعله إما أن يجوز مع قيام المقتضى للمنع أو لا يكون كذلك فالأول الرخصة والثاني العزيمة فما أباحه الله تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط رمضان عن المسافر رخصة ثم الذي يجوز فعله مع قيام المقتضى للمنع قد يكون واجبا كأكل الميتة والافطار عند خوف الهلاك من الجوع وقد لا يكون واجبا كالافطار والقصر في السفر وقول كلمة الكفر عند الإكراه ولما تكلمنا في الحكم الشرعي وأقسامه فلنبين أنه ثابت بالعقل أو بالشرع
(1/120)
 
 
الفصل السابع في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع الحسن والقبح قد يعنى بهما كون الشئ ملائما للطبع أو منافرا وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين
وقد يراد بهما كون الشئ صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا التفسير وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا فعندنا أن
(1/123)
 
 
ذلك لا يثبت إلا بالشرع وعند المعتزلة ليس ذلك إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص لأجله يستحق فاعله الذم قالوا وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد لا يستقل أما الذي يستقل فقد يعلمه العقل ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار وقد يعلمه نظرا كالعلم بحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع والذي لا يستقل العقل بمعرفته فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورده به علمنا أنه لولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن وقبح وإلا لامتنع ورود الشرع به لنا أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح العقلي باطل بيان الأول أن فاعل القبيح إما أن يكون متمكنا من الترك أولا يكون فإن لم
(1/124)
 
 
يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك فإما أن يتوقف
رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف فإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره أما القسم الأول وهو أن يكون من العبد فهو محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وأما القسم الثاني وهو أن يكون من غير العبد فنقول عند حصوله ذلك المرجح إما أن يجب وقوع الأثر أو لا يجب فإن وجب فقد ثبت الاضطرار لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شئ من الأحوال من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك وإن لم يجب فعند حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجح جانب الوجود على جانب العدم أما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما وكنا قد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف وأيضا فالكلام في هذه الضميمة كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال وأما إن لم يتوقف على انضمام قيد الية بكر فمع ذلك المرجح تارة يوجد الأثر وتارة لا يوجد ولم يكن رجحان جانب الوجود على جانب العدم موقوفا على
(1/125)
 
 
قصد من جهته ولا على ترجيح ألبتة وإلا لعاد إلى القسم الأول وقد أبطلناه فحينئذ يكون دخول الفعل في الوجود اتفاقيا لا اختياريا فقد ثبت الاتفاق وأما القسم الثالث وهو أن يكون حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من
غيره فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون حصوله اتفاقيا لا اختياريا وأما لو قلنا إن المتمكن من الفعل متمكن من الترك لكن لا يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح فعلى هذا التقدير يكون رجحان الفاعلية على التاركية اتفاقيا أيضا لأن تلك القادرية لما كانت نسبتها إلى الأمرين على السوية ثم حصلت الفاعلية في أحد الوقتين دون التاركية من غير مرجح ألبتة كان رجحان الفاعلية منه على التاركية اتفاقيا فإن قلت لم لا يجوز أن يقال القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح قلت هل لقولك يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا أو ليس له مفهوم زائد عليه فإن كان ذلك مفهوما زائدا على كونه قادرا كان ذلك قولا بأن رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام قيد آخر إلى القادرية فيصير هذا هو القسم الأول الذي تكلمنا فيه
(1/126)
 
 
وإن لم يكن ذلك مفهوما زائدا لم يبق لقولكم القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح إلا أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه أو قصد ايقاعه ولا معنى للاتفاق إلا ذلك فثبت بهذا البرهان القاطع أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وإذا ثبت ذلك امتنع القول القبع العقلي بالإتفاق أما على قولنا فظاهر
وأما عند الخصم فلأنه لا يجوز ورود التكليف بذلك فضلا عن أن يقال إن حسنه معلوم بضرورة العقل فثبت بما ذكرنا أن القول ب القبح العقلي باطل أما الخصم فقد ادعى العلم الضروري بقبح الظلم والكذب والجهل وبحسن الانصاف والصدق والعلم
(1/127)
 
 
ثم قالوا هذا العلم غير مستفاد من الشرع لأن البراهمة مع انكارهم الشرائع عالمون بهذه الأشياء ثم زعموا بعد ذلك أن المقتضي لقبح الظلم مثلا هو كونه ظلما لأنا عند العلم بكونه ظلما نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر وعند الغفلة عن كونه ظلما لا نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء فثبت أن المقتضي لقبحه ليس إلا هذا الوجه ومنهم من حاول الاستدلال بأمور أحدها أن الفعل الذي حكم فيه بالوجوب مثلا لم يختص بما لأجله استحق ثبوت ذلك الحكم وإلا كان تخصيصه بالوجوب دون سائر الأحكام ودون سائر الأفعال ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وثانيها أنه لو لم يكن الحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله تعالى كل شئ ولو حسن منه كل شئ لحسن منه إظهار المعجزة على
(1/128)
 
 
يد الكاذب ولو حسن منه ذلك لما أمكننا أن نميز بين النبي والمتنبئ قد وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع وثالثها لو حسن من الله تعالى كل شئ لما قبح منه الكذب وعلى
هذا فلا يبقى اعتماد على وعده ووعيده فإن قلت الكلام الأزلي يستحيل أن يكون كذبا قلت هب أن الأمر كذلك لكن لم لا يجوز أن تكون هذه الكلمات التي نسمعها مخالفة لما عليه الشئ في نفسه وحينئذ يعود الإشكال ورابعها أن العاقل إذا قيل له إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت أعطيناك أيضا دينارا واستوى عنده الصدق والكذب في جميع الأمور إلا في كونه صدقا وكذبا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق ولولا أن الصدق لكونه صدقا حسن وإلا لما كان كذلك وخامسها أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند ورود الشرع بهما لأنهما إذا لم يكونا معلومين قبل ذلك فعند ورود الشرع بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال فوجب أن يكونا معلومين قبل ورود الشرع
(1/129)
 
 
والجواب عن دعوى الضرورة أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه فهذا القدر مسلم فإن ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من افادة تصوره ثم اقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه فإن قلت الظلم ملائم لطبع الظالم ومع ذلك فإنه يجد في صريح العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي فإنه لا ينفر طبعه عنه مع أن قبحه معلوم بالضرورة ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل
عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع قلت الجواب عن الأول أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما قدر على دفع الظلم عن نفسه فالنفرة وفي عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه وهو ملائم لطبع كل أحد
(1/130)
 
 
والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب وذلك مما يميل إليه الطبع وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم والقدر الذي فيه من الاستقباح إنما كان لاتفاق أهل العلم على أن الإنسان لا يجب أن يشتغل إلا بما يفيده فائدة إما عاجلة وإما آجلة وأما القصيدة المشتملة على الشتم فإنما تستقبح لإفضائها إلى مقابلة أرباب الفضائل بالشتم والاستخفاف وهو على مضادة مصلحة العالم فظهر أن المرجع في هذه الأشياء إلى ملائمة الطبع ومنافرته ونحن قد ساعدنا على أن الحسن والقبح بهذا المعنى معلوم بالعقل والنزاع في غيره سلمنا تحقق الحسن والقبح لكن لا نسلم أن المقتضي لقبح
(1/131)
 
 
الظلم هو كونه ظلما ولم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبحه أمرا آخر
قوله العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه ظلما وجودا وعدما قلنا لم قلت إن الدوران العقلي دليل العلية عليه وما الدليل عليه ثم إنه منقوض بالمضافين كل فإن العلم بكل واحد من المضافين دائر مع العلم بالآخر وجودا وعدما مع أنه يمتنع كون أحدهما علة للآخر وتمام تقرير هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في كتاب القياس سلمنا أن الدليل الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون قبح الظلم لكونه ظلما لكن معنا ما يدل على فساده وهو أن المفهوم من الظلم اضرار غير مستحق وكونه غير مستحق قيد عدمي والقيد العدمي لا يصلح أن
(1/132)
 
 
يكون علة للحكم الثابت ولا أن يكون جزءا للعلة إذ لو جاز استناد الأمر الثبوتي إلى الأمر العدمي لجاز استناد خلق العالم إلى مؤثر عدمي وحينئذ ينسد علينا باب معرفة كون الله تعالى موجدا لأن العدم نفي محض فيستحيل أن يكون مؤثرا فإن قلت لم لا يجوز أن يكون العدم شرطا لتأثير العلة في المعلول قلت لأنه إذا فقد هذا العدم لم تكن العلة مؤثرة في المعلول وعند وجوده تصير مؤثرة فيه فكون العلة بحيث تستلزم المعلول وتستعقبه أمر حدث مع حدوث هذا العدم وليس له سبب آخر سواه فوجب تعليله به فيعود الأمر إلى تعليل الأمر الثبوتي بالأمر العدمي وهو محال وأما الجواب عما احتجوا به أولا
(1/133)
 
 
فهو أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إن افتقر إلى المرجح
توقف رجحان فاعلية العبد على تاركيته على مرجح غير صادر من جهته وإلا وقع التسلسل ويكون رجحان الفاعلية على التاركية عند حصول ذلك المرجح واجبا وإلا لزم الرجحان لا لمرجح وإذا كان كذلك لزم الجبر ويلزم من لزوم الجبر القطع ببطلان القبح العقلي وإن لم يفتقر الرجحان إلى المرجح أصلا فقد اندفعت هذه الشبهة بالكلية والجواب عما احتجوا به ثانيا أن الاستدلال بالمعجزة على الصدق مبني على مقامين أحدهما أن الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق والثاني أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق والقول بالحسن والقبح إنما ينفع في المقام الثاني لا في المقام الأول فلم قلتم إن الله تعالى ما خلق هذا الفعل إلا لغرض التصديق وتحقيقه أن لو توقف الرجحان على المرجح لزم الجبر وإذا لزم الجبر
(1/134)
 
 
لزم بطلان القبح العقلي ولو لم يتوقف على المرجح لجاز أن يقال أن الله تعالى خلق ذلك المعجز لا لغرض أصلا ثم إن كان ذلك لغرض فلم قلتم إنه لا غرض سوى التصديق فإن قلت القول بالقبح العقلي يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعي كاذبا لكان ذلك ايهاما لتصديق الكاذب وإنه قبيح
والله تعالى لا يفعل القبيح قلت لم قلت إن الفعل الذي يوهم القبيح ولم يكن موجبا له قبيح وذلك لأن المكلف لما علم أن خلق المعجز عند الدعوى يحتمل أن يكون للتصديق ويحتمل أن يكون لغيره فلو حمله على التصديق قطعا لكان التقصير من المكلف حيث قطع لا في موضع القطع وهذا كإنزال المتشابهات في القرآن فإنه يوهم القبيح ولكنه لما احتمل سائر الوجوه لم يقبح شئ منها من الله تعالى فثبت أن الإلزام الذي أوردوه علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة
(1/135)
 
 
الأخرى وكل ما يجعلونه جوابا عنه في تقرير احدى المقدمتين فهو جوابنا في تقرير المقدمة الأخرى والجواب عما ذكروه ثالثا أنه وارد عليهم أيضا لأن الكذب قد يكون حسنا وذلك في صورتين إحداهما أن الكافر إذا قصد قتل النبي فاختفى النبي في دار انسان فجاء الكافر وسأل صاحب الدار عن ذلك النبي وعلم صاحب الدار أنه لو أخبره عن مكان النبي أو سكت أو اشتغل بالتعريض لقتله قطعا فها هنا الصدق قبيح والكذب حسن ثانيهما أن من توعد غيره ظلما وقال إني سأقتلك غدا فلا شك أنه متى لم يفعل ذلك صار هذا الخير كذبا فلو كان الكذب قبيحا لكان ترك هذه الأشياء مستلزما للقبيح ومستلزم القبيح قبيح فيجب أن يكون ترك هذه الأشياء قبيحا فيكون فعلها حسنا لا محالة وذلك باطل بالاتفاق
(1/136)
 
 
فإن قلت الجواب عن الصورة الأولى من وجهين الأول أنا لا نسلم أنه يحسن الكذب هناك ويقبح الصدق فإن الواجب أن يأتي فيه بالمعاريض وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب سلمنا أنه يحسن ذلك ولكن كونه كذبا يقتضي القبح والحكم قد يتخلف عن المقتضى لمانع إلا أن الأصل حصول الحكم عند حصول العلة وهذا هو الجواب أيضا عن الصورة الثانية قلت الجواب عن الأول أن الخبر إنما يصير من باب المعاريض باضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود وإذا جوزتم حسن ذلك لأجل مصلحة تقتضي ذلك لم يمكنكم اجراء خطاب الله تعالى على ظاهره، إلا إذا عرفتم أنه لم يوجد هناك مصلحة (أخرى) تقتضي صرفها عن ظواهرها، وذلك لا سبيل إليه إلا بأن يقال لا يعرف هذا المعارض لكن عدم العلم بالشئ لا يدل على عدم الشئ
(1/137)
 
 
وعن الثاني أن تخلف الأثر العقلي عن المؤثر العقلي محال وإلا كان عدم المانع جزءا من العلة وهو محال ثم إن سلمناه لكن الإلزام عائد عليكم لأنكم لما جوزتم في الجملة تخلف الحكم عن المؤثر لمانع جاز في كل خبر كاذب أن لا يكون قبيحا لأجل أنه وجد مانع يمنع من قبحه وحينئذ لا
يحصل القطع بكونه قبيحا بل غاية ما في الباب أن يحصل الظن بقبحه فقط والجواب عما ذكروه رابعا أنه إنما ترجح الصدق على الكذب في تلك الصورة لما أن أهل العلم قد اتفقوا على قبح الكذب وحسين الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جزم ترجح الصدق عنده على الكذب فإن قلت أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم أعرض على نفسي عند هذا الفرض هذه القضية فأجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب
(1/138)
 
 
قلت هب أنك فرضت نفسك خالية عن هذه العوارض لكن فرض الخلو عن العوارض لا يوجب حصول الخلو عن العوارض بل لو أني خلقت خاليا عن العوارض ففي ذلك الوقت لا أدري هل كنت أحكم بهذا الحكم أم لا والجواب عما ذكروه خامسا أن عندنا الموقوف على الشرع ليس هو تصور الحسن والقبح فإني قبل الشرع أتصور ماهية ترتب العقاب والذم على الفعل وعدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع وإنما الموقوف على الشرع هو التصديق به فأين أحدهما من الآخر والله أعلم وقد جرت عادة أصحابنا أن يتكلموا بعد هذه المسألة في مسألتين أخريين أحدهما أن شكر المنعم لا يجب عقلا
والثانية أنه لا حكم قبل ورود الشرع واعلم أنا متى بينا فساد القول بالحسن والقبح العقليين فقد صح مذهبنا في هاتين المسألتين لا محالة
(1/139)
 
 
لكن الأصحاب سلموا القول بالحسن والقبح العقليين ثم بينوا أنه بعد تسليم هذين الأصلين لا يصح قول المعتزلة في هاتين المسألتين
(1/140)
 
 
الفصل الثامن في أن شكر المنعم غير واجب عقلا وقالت المعتزلة بوجوبه عقلا لنا النص والمعقول
(1/147)
 
 
أما النص فقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأما المعقول فهو أنه لو وجب لوجب إما لفائدة أو لا لفائدة والقسمان باطلان فالقول بالوجوب باطل إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون لفائدة لأن تلك الفائدة إما أن تكون عائدة إلى المشكور أو إلى غيره والأول باطل لأن الله تعالى منزه عن جلب المنافع ودفع المضار والثاني باطل لأن الفائدة العائدة إلى الغير إما جلب المنفعة أو دفع
المضرة
(1/148)
 
 
لا جائز أن يكون ذلك لجلب المنفعة لثلاثة أوجه الأول أن جلب النفع غير واجب في العقل فما يفضي إليه أولى أن لا يجب الثاني أنه يمكن خلو الشكر عن جلب النفع لأن الشكر لما كان واجبا فإذن الواجب لا يقتضي شيئا آخر الثالث أن الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون عمل الشكر فيكون توسيط هذا الشكر غير واجب عقلا ولا جائز أن يكون لدفع المضرة لأنه إما أن يكو لدفع مضرة عاجلة وهو باطل لأن الاشتغال بالشكر مضرة عاجلة فكيف يكون دفعا للمضرة العاجلة وإما أن يكون لدفع مضرة آجلة وهو باطل أيضا لأن القطع بحصول المضرة عند عدم الشكر إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوءه الكفران فأما من كان منزها عنهما فاستوى الشكر والكفران بالنسبة إليه فلا يمكن القطع بحصول العقاب على ترك الشكر بل احتمال العقاب على الشكر قائم من وجوه
(1/149)
 
 
أحدها أن الشاكر ملك المشكور فإقدامه على تصرف الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة وهذا لا يجوز وثانيها أن العبد إذا حاول مجازاة المولى على إنعامه عليه استحق التأديب والاشتغال بالشكر اشتغال المجازاة فوجب أن لا يجوز
وثالثها أن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة يذكر تلك النعمة وشكرها استحق التأديب وكل نعم الدنيا بالقياس إلى خزانة الله تعالى أقل من تلك الكسرة بالقياس إلى خزانة ذلك الملك فلعل الشاكر يستحق العقاب بسبب شكره ورابعها لعله لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب وإنما قلنا إنه لا يمكن أن يجب لا لفائدة لوجهين الأول أن ذلك عبث وأنه قبيح والثاني أن المعقول من الوجوب ترتب الذم والعقاب على الترك فإذا فقد ذلك امتنع تحقق الوجوب فإن قيل لم لا يجوز أن يقال وجب الشكر لمجرد كونه شكرا وذلك لأن وجوب كل شئ لو كان لأجل شئ آخر لزم التسلسل فثبت أنه لا بد وأن ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته
(1/150)
 
 
وعندنا الشكر واجب لنفس كونه شكرا كنا أن دفع الضرر عن النفس واجب لنفس كونه دفعا للضرر ولذلك فإن العقلاء يعلمون وجوبه عندما يعلمون كونه شكرا للنعمة وإن لم يعلموا جهة أخرى من جهات الوجوب نزلنا عن هذا المقام فلم لا يجوز أن يقال وجب الشكر عليه لدفع ضرر الخوف وذلك لأنه لا يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه فلو لم يقدم على الشكر كان مستوجبا للذم والعقاب أقصى ما في الباب أن يقال كما يجوز هذا يجوز أيضا أن يكون قد منعه من
الشكر لتلك الوجوه الأربعة المذكورة في الاستدلال لكن الظن الأول أغلب لأن المشتغل بالخدمة والمواظب على الشكر احسن حالا من المعرض عن الخدمة والمتغافل عن الشكر وأما تمثيل نعم الله بكسرة الخبز فليس بجيد لأن خلقه العبد واحياءه واقداره وما منحه من كمال العقل وتمكينه من أنواع النعم أعظم من جميع خزائن ملوك الدنيا ثم ما أكرمهم به بعد تمام هذه النعمة من بعثة الرسل اليهم وانزال كتبه عليهم وقد صرح داود وسليمان عليهما السلام بالشكر في قوله تعالى وقالا
(1/151)
 
 
الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وليس يجب إذا كان تعالى قادرا على أضعاف ما منحه عبيده من النعم أن يستحقر ما منحه إياهم كما أن الملك إذا أعطى قناطير ذهب فإنه لا يستحقر ذلك لأجل أن خزائنه بقيت مشتملة على أضعاف مضاعفة على ما أعطى سلمنا أن وجوبه ليس لفائدة زائدة فلم لا يجوز ذلك قوله أنه عبث والعبث قبيح قلنا إنكم تنكرون القبح العقلي فكيف تمسكتم به في هذا الموضع سلمنا أن ما ذكرتموه يوجب أن لا يجب الشكر عقلا لكنه يوجب أيضا أن لا يجب شرعا فإنه يقال إنه تعالى لو أوجبه لأوجبه إما لفائدة أو لا لفائدة إلى آخر التقسيم ولما كان ذلك باطلا بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه سلمنا صحة دليلكم ولكنه معارض بوجوه الأول أن وجوب شكر المنعم مقرر في بدائه العقول وما كان كذلك لم
يكن الاستدلال على نقيضه قادحا فيه الثاني هو أن من وصل إلى طريقين وكان أحدهما آمنا والآخر
(1/152)
 
 
مخوفا فإن العقل يقضي بسلوك الطريق الآمن دون المخوف وها هنا الاشتغال بالشكر طريق آمن والاعراض عنه مخوف فكان الاشتغال بالشكر أولى الثالث أنه لو لم يجب الشكر في العقل لم يجب طلب معرفة الله تعالى أيضا لأنه لا فرق في العقل بين البابين ولو لم يجب طلب معرفة الله تعالى في العقول لزم افحام الرسل والأنبياء لأنهم إذا أظهروا المعجزة قال المدعوون لهم لا يجب علينا النظر في معجزتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزتكم فإذا لم ننظر في معجزتكم ف لا نعرف وجوب ذلك علينا وذلك يقتضي إفحام الرسل والجواب قولهم لم لا يجوز أن يجب لنفس كونه شكرا
(1/153)
 
 
قلنا قولنا لو وجب الشكر لوجب إما لفائدة أولا لفائدة تقسيم دائر بين النفي والاثبات فلا يحتمل الثالث ألبتة وأيضاف قولكم إنه وجب لكونه شكرا معناه أن كونه شكرا يقتضي ترتب الذم والعقاب على تركه وهذا داخل فيما ذكرناه فلا يكون هذا قسما زائدا على ما ذكرناه قوله إنه إنما يجب عليه دفعا لضرر الخوف
قلنا قد بينا أن الخوف حاصل في فعل الشكر كما أنه حاصل في تركه فإذا احتمل الخوف على الأمرين كان البقاء على الترك بحكم استصحاب الحال أولى فإن لم تثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب الفعل قوله الاشتغال بالخدمة أولى
(1/154)
 
 
قلنا هذا مسلم في حق من يفرح بالخدمة ويتأذى بالإعراض أما في حق من لا يجوز الفرح والغم عليه فمحال وأيضا فمثل هذا الترجيح لا يفيد إلا الظن قوله لا يجوز تشبيه نعم الله تعالى بكسرة الخبز قلنا التشبيه واقع في النسبة لا في المقدار ونحن لا نشك أن جميع نعم الدنيا بالإضافة إلى خزائن الله تعالى أقل من الكسرة بالإضافة إلى ملوك الدنيا قوله الحكم بكون العبث قبيحا لا يصح إلا مع القول بالقبح العقلي وأنت لا تقول به قلنا قد ذكرنا أصحابنا إنما تكلموا في هذه المسألة بعد تسليم القبح العقلي ليثبتوا أن كلام المعتزلة ساقط في هذا الفرع مع تسليم ذلك الأصل وإذا كان المقصود ذلك لم يكن ما قالوه قادحا في كلامنا قوله هذا يقتضي أن لا يحسن ايجاب الشكر من الله تعالى قلنا غرضنا من الدليل الذي ذكرناه بيان أنه لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بايجاب الشكر لا عقلا ولا شرعا وقد ثبت لنا ذلك
(1/155)
 
 
بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعا قلنا لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل بالأغراض فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال أما قوله وجوب الشكر معلوم بالضرورة قلنا في حق من يسره الشكر ويسوءه الكفران أما في حق من لا يكون كذلك فلا نسلم فإن قلت بل وجوبه على الاطلاق معلوم بالضرورة وأنت مكابر في ذلك الإنكار قلت أحلف بالله تعالى وبالايمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضا وأما قوله ترجيح الطريق الآمن على المخوف من لوازم العقل قلنا نعم لكنا بينا أن كلا الطرفين مخوف فوجب التوقف قوله إنه يفضي إلى إفحام الأنبياء قلنا العلم بوجوب الفكر والنظر ليس ضروريا بل نظريا فللمدعو أن يقول إنما يجب علي النظر في معجزتك لو نظرت فعرفت وجوب النظر لكني لا أنظر في أنه هل يجب النظر علي وإذا لم أنظر فيه لا أعرف وجوب النظر في
(1/156)
 
 
معجزتك فيلزم الإفحام فإن قلت بل أعرف بضرورة العقل وجوب النظر على قلت هذا مكابرة لأن العلم بوجوب النظر علي يتوقف على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهية يفيد العلم وذلك ليس بضروري بل نظري خفي فإن كثيرا من الفلاسفة قالوا إن فكرة العقل تفيد اليقين في الهندسيات والحسابيات فأما في الأمور الإلهية فلا تفيد إلا الظن ثم بتقدير أن يثبت كونه مفيدا للعلم فإنما يجب الإتيان به لو عرف أن غيره لا يقوم مقامه في إفادة العلم وذلك ما لا سبيل إليه إلا بالنظر الدقيق وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على ذينك المقامين النظريين فالموقوف على النظري أولي أن يكون نظريا وإذا كان كذلك كان العلم بوجوب النظر نظريا لا ضروريا وحينئذ يتحقق الإلزام فكل ما يجعله الخصم جوابا عن ذلك فهو جوابنا عما ذكروه وبالله التوفيق
(1/157)
 
 
الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل الشرع انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على الإباحة وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء الشافعية أنها على الحظر
(1/158)
 
 
وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها على الوقف وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر لنا أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شئ من
(1/159)
 
 
الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع أما القائلون بالاباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع بحسنه أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن أمارات المفسدة فلأن الكلام فيما إذا كان كذلك وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن
فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها
(1/160)
 
 
قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح قلت هذا مدفوع من وجهين الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون منه من امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويز كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما لا يطاق
(1/161)
 
 
الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض يخصها وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره فإما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق
فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد ثلاثة أوجه إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا
(1/162)
 
 
دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من دون الإدراك فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال ذلك أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات الحكم وعدمه تناقض
(1/163)
 
 
والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على
الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات الموذية المهلكة وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه
(1/164)
 
 
وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة والحظر وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس إباحة بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو الذي أعلم فاعله أو دل على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا والله أعلم
(1/165)
 
 
الفصل العاشر في ضبط أبواب أصول الفقه قد عرفت أن أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه وكيفية الاستدلال بها وكيفية حال المستدل بها
أما الطرق فإما أن تكون عقلية أو سمعية أما العقلية فلا مجال لها عندنا في الأحكام لما بينا أنها لا تثبت إلا بالشرع وأما عند المعتزلة فلها مجال لأن حكم العقل في المنافع الإباحة وفي المضار الحظر وأما السمعية فإما أن تكون منصوصة أو مستنبطة أما المنصوص فهو إما قول أو فعل يصدر عمن لا يجوز الخطأ عليه والذي لا يجوز الخطأ عليه هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومجموع الأمة والصادر عن الرسول وعن الأمة إما قول أو فعل والفعل لا يدل إلا مع القول فتكون الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية والدلالة القولية إما أن يكون النظر في ذاتها وهي الأوامر والنواهي وإما في
(1/167)
 
 
عوارضها إما بحسب متعلقاتها وهي العموم والخصوص أو بحسب كيفية دلالتها وهي المجمل والمبين والنظر في الذات مقدم علي النظر في العوارض فلا جرم باب الأمر والنهي مقدم على باب العموم والخصوص ثم النظر في العموم والخصوص نظر في متعلق الأمر والنهي والنظر في المجمل والمبين نظر في كيفية تعلق الأمر والنهي بتلك المتعلقات ومتعلق الشئ متقدم على النسبة العارضة بين الشئ وبين متعلقه فلا جرم قدمنا باب العموم والخصوص على باب المجمل والمبين وبعد الفراغ منه لا بد من باب الأفعال ثم هذه الدلائل قد ترد تارة لإثبات الحكم وأخرى لرفعه فلا بد من باب النسخ
وإنما قدمناه على باب الإجماع والقياس لأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به وكذا القياس ثم ذكرنا بعده باب الإجماع ثم هذه الأقوال والأفعال قد يحتاج إلى التمسك بها من لم يشاهد الرسول صلى الله عليه وأله وسلم ولا أهل الإجماع فلا تصل إليه هذه الأدلة إلا بالنقل فلا بد من البحث عن النقل الذي يفيد العلم والنقل الذي يفيد الظن وهو باب الأخبار فهذه جملة أبواب أصول الفقه بحسب الدلائل المنصوصة ولما كان التمسك بالمنصوصات إنما يمكن بواسطة اللغات فلا بد من تقديم باب اللغات على الكل
(1/168)
 
 
وأما الدليل المستنبط فهو القياس فهذه أبواب طرق الفقه وأما باب كيفية الاستدلال بها فهو باب التراجيح وأما باب كيفية حال المستدل بها فالذي ينزل حكم الله تعالى به إن كان عالما فلا بد له من الاجتهاد وهو باب شرائط الاجتهاد وأحكام المجتهدين وإن كان عاميا فلا بد له من الاستفتاء وهو باب المفتي والمستفتي ثم نختم الأبواب بذكر أمور اختلف المجتهدون في كونها طرقا إلى الأحكام الشرعية فهذه أبواب أصول الفقه أولها اللغات وثانيها الأمر والنهي وثالثها العموم والخصوص ورابعها المجمل والمبين وخامسها الأفعال وسادسها الناسخ والمنسوخ
وسابعها الإجماع وثامنها الأخبار وتاسعها القياس وعاشرها التراجيح وحادي عشرها الاجتهاد وثاني عشرها الاستفتاء وثالث عشرها الأمور التي اختلف المجتهدون في أنها هل هي طرق للأحكام الشرعية أم لا
(1/169)
 
 
حكم تعلم أصول الفقه ولنختم هذا الفصل بذكر بحثين الأول أن تحصيل هذا العلم فرض والدليل عليه أن معرفة حكم الله تعالى في الوقائع النازلة بالمكلفين واجبة ولا طريق إلى تحصيلها إلا بهذا العلم وما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب وإنما قلنا أن معرفة حكم الله تعالى واجبة للإجماع على أن المكلف غير مخير بين النفي والاثبات في الوقائع النازلة بل لله تعالى في كل واقعة أو في أكثر الوقائع أحكام معينة على المكلف وإنما قلنا إنه لا طريق إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بهذا العلم لأن المكلف إما أن يكون عاميا أو لا يكون فإن كان عاميا ففرضه السؤال لقوله فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون لكن لا بد من انتهاء السائلين إلى عالم وإلا لزم الدور أو التسلسل وعلى جميع التقادير فحكم الله تعالى لا يصير معلوما
(1/170)
 
 
وان كان عالما فالعالم لا يمكنه أن يعرف حكم الله تعالى إلا
بطريق لانعقاد الإجماع على أن الحكم بمجرد التشهي غير جائز ولا معنى لأصول الفقه إلا تلك الطرق فثبت أنه لا سبيل إلى معرفة حكم الله تعالى إلا بأصول الفقه وأما بيان أن ما لا يتأدى الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف كان واجبا فسيأتي تقريره في باب الأمر إن شاء الله تعالى البحث الثاني أنه من فروض الكفايات لأنا سنقيم الدلالة إن شاء الله تعالى في باب المفتي والمستفتي على أنه لا يجب على الناس بأسرهم طلب الأحكام بالدلائل المفصلة بل يجوز الاستفتاء وذلك يدل على أن تحصيل هذا العلم ليس من فروض الأعيان بل من فروض الكفايات والله تعالى أعلم بالصواب
(1/171)
 
 
الكلام في اللغات وفيه تسعة أبواب
(1/173)
 
 
الباب الأول في الأحكام الكلية للغات اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ولما كانت دلالته وضعية فالبحث إما أن يقع عن الواضع أو عن الموضوع أو عن الموضوع له أو عن الطريق الذي به يعرف الوضع
(1/175)
 
 
النظر الأول في البحث عن ماهية الكلام
اعلم أن لفظة الكلام عند المحققين منا تقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني فقال أبو الحسين الكلام هو المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها وربما زيد فيه فقيل إذا صدر عن قادر واحد أما قولنا المنتظم فاعلم أنه حقيقة في الأجسام لأن النظام هو
(1/177)
 
 
التأليف وذلك لا يتحقق إلا في الأجسام ولكن الأصوات المتوالية على السمع شبهت بها فأطلق لفظ المولف والمنتظم عليه مجازا وقولنا من الحروف احترزنا به عن الحرف الواحد فإن أهل اللغة قالوا أقل الكلام حرفان إما ظاهرا وإما في الأصل كقولنا ق ش ع فإنه كان في الأصل قي وشي وعي ولهذا يرجع في التثنية إليه فيقال قيا عيا إلا أنه أسقط الياء للتخفيف وقولنا المسموعة احتراز عن حروف الكتابة وقولنا المتميزة احتراز عن أصوات كثير من الطيور وقولنا المتواضع عليها احتراز عن المهملات وقولنا إذا صدر عن قادر واحد احتراز عما إذا صدر كل واحد من حروف الكلمة عن قادر آخر نحو أن يتكلم أحدهم بالنون من نصر والثاني بالصاد والثالث بالراء فإن ذلك لا يسمى كلاما واعلم أن هذا الحد يقتضي أمرين
(1/178)
 
 
أحدهما كون الكلمة المفردة كلاما وهو قول الأصوليين والنحاة أجمعوا على فساد ذلك وقالوا إن لفظ الكلام مخصوص بالجملة المفيدة ونقلوا أيضا فيه نصا عن سيبويه وقول أهل اللغة في المباحث اللغوية راجح على قول غيرهم الثاني أن قوله أقل الكلام حرفان إما ظاهرا أو في الأصل يشكل بلام التمليك وباء الالصاق وفاء التعقيب فإنها أنواع الحرف الذي هو قسيم الاسم وكل حرف كلمة وكل كلمة كلام مع أنها غير مركبة فإن قلت الحركة في الحقيقة حرف فإذا ضمت الحركة إلى الحرف كان المجموع مركبا قلت هذا على بعده لو قبلناه بقي الإشكال بالياء من غلامي ونون التنوين ولام التعريف فإنها حروف مفردة خالية عن الحركات وهي مفيدة فالأولى أن نساعد أهل النحو ونقول كل منطوق به دل بالاصطلاح على معنى فهو كلمة
(1/179)
 
 
فهذا يتناول الحرف الخالي عن الحركة والحرف المتحرك والمركب من الحروف وأما الكلام فهو الجملة المفيدة وهي إما الجملة الاسمية كقولنا زيد قائم أو الفعلية كقولنا قام زيد وإما مركب من جملتين وهي الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود قال ابن جني الكلام يخرج عن كونه كلاما تارة بالنقصان وتارة
بالزيادة أما بالنقصان فإذا قلت قام زيد ثم أسقطت اسم زيد واقتصرت على مجرد قولك قام لم يبق كلاما وأما بالزيادة فإنك إذا أدخلت على تلك الجملة صيغة الشرط حتى صارت هكذا إن قام زيد فإنه لأجل هذه الزيادة خرج عن كونه كلاما لأنه لا يكون مفيدا ما لم يضم اليه غيره
(1/180)
 
 
النظر الثاني في البحث عن الواضع كون اللفظ مفيدا للمعنى إما أن يكون لذاته أو بالوضع سواء كان الوضع من الله تعالى أو من الناس أو بعضه من الله تعالى وبعضه من الناس فهذه احتمالات أربعة الأول مذهب عباد بن سليمان الصيمري والثاني وهو القول بالتوقيف مذهب الأشعري وابن فورك
(1/181)
 
 
والثالث وهو القول بالاصطلاح مذهب أبي هاشم وأتباعه والرابع هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي وفيه قولان منهم من قال ابتداء اللغات يقع بالاصطلاح والباقي لا يمتنع أن يحصل بالتوقيف ومنهم من عكس الأمر وقال القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاحي توقيفي والباقي اصطلاحي وهو قول الأستاذ أبي اسحاق وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام وتوقفوا عن الجزم
(1/182)
 
 
والذي يدل على فساد قول عباد بن سليمان أن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم ولاهتدى: كل انسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو محال وإن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب والجواب إن كان الواضع هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده وان كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير أن يكون بينهما مناسبة وأما الذي يدل على إمكان الأقسام الثلاثة فهو أن الله تعالى قادر على أن يخلق فيهم علما ضروريا بالألفاظ والمعاني وبأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا التقدير تكون اللغات توقيفية
(1/183)
 
 
وأيضا فيصح من الواحد منهم أن يضع لفظا لمعنى ثم إنه يعرف الغير ذلك الوضع بالايماء والاشارة ويساعده الآخر عليه ولهذا قيل لو جمع جمع من الأطفال في دار بحيث لا يسمعون شيئا من اللغات فاذا بلغوا
الكبر لا بد وأن يحدثوا فيما بينهم لغة يخاطب بها بعضهم بعضا وبهذا الطريق يتعلم الطفل اللغة من أبويه ويعرف الأخرس غيره ما في ضميره فثبت إمكان كونها اصطلاحية واذا ثبت جواز القسمين ثبت جواز القسم الثالث وهو أن يكون البعض توقيفيا والبعض اصطلاحيا ولما كنا لا نجزم بأحد هذه الثلاثة فذلك يكفي فيه الطعن في طرق القاطعين احتج القائلون بالتوقيف بالمنقول والمعقول أما المنقول فمن ثلاثة أوجه
(1/184)
 
 
أحدهما قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية واذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف من ثلاثة أوجه الأول أنه لا قائل بالفرق والثاني أن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف والثالث أن الاسم إنما سمي اسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي اسماء أيضا وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهذا عرف أهل اللغة والنحو وثانيها أن الله تعالى ذم أقواما على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف بقوله تعالى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله
(1/185)
 
 
بها من سلطان فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الاسماء توقيفا لما صح هذا الذم وثالثها قوله تعالى ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ولا يجوز أن يكون المراد منه اختلاف تأليفات الألسنة وتركيباتها لأن ذلك في غير الألسن أبلغ وأجمل فلا يكون تخصيص الألسن بالذكر مرادا فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات وأما المعقول فمن وجهين أحدهما أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة وكيفما كان فإن ذلك الطريق لا يفيد لذاته فهو إما بالاصطلاح فيكون الكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل أو بالتوقيف وهو المطلوب
(1/186)
 
 
وثانيها أنها لو كانت بالمواضعة لارتفع الأمان عن الشرع لأنها لعلها على خلاف ما اعتقدناها أحمد لأن اللغات قد تبدلت فان قلت لو وقع ذلك لاشتهر قلت هذا مبني على أن الواقعة العظيمة يجب اشتهارها وذلك ينتقض بسائر معجزات الرسول وبأمر الاقامة أنها فرادى أو مثناة أما القائلون بالاصطلاح فقد تمسكوا بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسول فلو كانت اللغة توقيفية والتوقيف لا يحصل إلا بالبعثة لزم الدور وهو محال
(1/187)
 
 
وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأنه تعالى وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك والأول لا يخلو إما ان يقال إنه تعالى يخلق ذلك العلم في العاقل أو في غير عاقل وباطل أن يخلقه تعالى في عاقل لأن العلم بأنه تعالى وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به تعالى فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به تعالى ضروريا لأن العلم بصفة الشئ متى كان ضروريا كان العلم بذاته أولي أن يكون ضروريا ولو كان العلم به تعالى ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل فإنه يجب أن يكون مكلفا وباطل أن يخلقه في العاقل لأنه من البعيد أن يصير الانسان غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات النادرة اللطيفة وأما الثاني وهو أن لا يخلق الله تعالى العلم الضروري بوضع تلك الألفاظ لتلك المعاني فحينئذ لا يعلم سامعها كونها موضوعة لتلك المعاني إلى بطريق آخر والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى الاصطلاح
(1/188)
 
 
هذا ملخص ما عول عليه ابن متويه في التذكرة واحتج الأستاذ أبو اسحاق على قوله بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم
التسلسل فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ألا ترى أن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يستعملونها قبل ذلك فهذا مجموع أدلة الجازمين والجواب عن التمسك بقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من العلوم ما لأجلها قدر على هذا الوضع
(1/189)
 
 
وليس لأحد أن يقول التعليم ايجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم ولو كان التعليم ايجاد العلم لما صح ذلك سلمنا أن التعليم ايجاد العلم ولكن العلم الذي يكتسبه العبد مخلوق لله تعالى فالعلم الذي يحصل بعد الاصطلاح بكون من خلق الله تعالى فقوله تعالى وعلم ولا ينافي كونه بالاصطلاح سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الأسماء العلامات والصفات مثل أن يقال إنه تعالى علم آدم عليه السلام أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وذلك لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى التقديرين فكل ما يعرف عن ماهية شئ ويكشف عن حقيقته كان اسما له وأما تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهذا عرف حادث
سلمنا أن المراد من الأسماء الألفاظ فلم لا يجوز ان يقال إنها كانت موضوعة بالاصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام فعلمه الله ما تواضع عليه غيره
(1/190)
 
 
وعن الثاني أنهم إنما استحقوا الذم لاطلاقهم لفظ الإله على الصنم مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها وعن الثالث أن اللسان اسم للجارحة المخصوصة وهي غير مرادة بالاجماع فلا بد من المجاز فليسوا بصرفه إلى اللغات أولى منا بصرفه إلى القدرة على اللغات أو إلى مخارج اللغات وعن الرابع أنه باطل بتعلم الولد اللغة من والديه فإن ذلك ليس مسبوقا بالتوقيف سلمنا أنه بعد لا بد قبل الاصطلاح من لغة أخرى ليصطلحوا بها على تلك اللغة الثانية فلم لا يجوز أن تكون هذه اللغات التي نتكلم بها الآن توقيفية لاحتمال أن يقال كان قبل هذه اللغات لغة أخرى وأنها كانت توقيفية ثم إن الناس بتلك اللغة اصطلحوا على وضع هذه اللغات فإن قلت إذا كان لا بد من الاعتراف بلغة توقيفية فلنعترف يقول بكون هذه اللغات توقيفية ولنسقط الذي من البين تلك الواسطة المجهولة
(1/191)
 
 
قلت كلامنا في الجزم وما ذكرته ليس من الجزم في شئ وعن الخامس
أنه لو وقع التغيير في هذه اللغة لاشتهر ونقضه بمعجزات الرسول وأن الإقامة فرادى أو مثناة فسيجئ الجواب عنه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى أما الذي احتج به القائلون بالاصطلاح فالجواب عما تمسكوا به أولا أن الحجة إنما تتم لو لم يحصل التوقيف إلا ببعثة الرسل وذلك ممنوع وعن الثاني أنه تعالى خلق فيهم علما ضروريا بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بازاء تلك المعاني وإن كان لا يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى سلمنا أنه تعالى يخلق فيهم العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى فلم قلت إنه باطل قوله لأنه ينافي التكليف قلنا إنه ينافي التكليف بمعرفة الله تعالى ولا ينافي التكليف بسائر الأشياء سلمنا أنه لا يخلقه في العاقل فلم لا يخلقه في غير العاقل ولم لا يجوز في المجنون أن يعلم بالعلم الضروري بعض الأحكام الدقيقة فهذا هو الجواب عن وجوه القاطعين ومتى ظهر ضعفها وجب التوقف والله أعلم
(1/192)
 
 
النظر الثالث في البحث عن الموضوع اعلم أن الانسان الواحد لما خلق بحيث لا يمكنه أن يستقل وحده باصلاح جميع ما يحتاج إليه فلا بد من جمع عظيم ليعين بعضهم بعضا حتى يتم لكل واحد منهم ما يحتاج إليه ف احتاج كل واحد
منهم إلى أن يعرف صاحبه ما في نفسه من الحاجات وذلك التعريف لا بد فيه من طريق وكان يمكنهم أن يضعوا غير الكلام معرفا لما في الضمير كالحركات المخصوصة بالأعضاء المخصوصة معرفات لأصناف الماهيات إلا أنهم وجدوا جعل الأصوات المتقطعة طريقا إلى ذلك أولى من غيرها لوجوه أحدها أن ادخال الصوت في الوجود أسهل من غيره لأن الصوت إنما يتولد في كيفية مخصوصة في اخراج النفس وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الأمر الضروري إلى وجه ينتفع به انتفاعا كليا أولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الانسان الإتيان به
(1/193)
 
 
وثانيها أن الصوت كما يدخل في الوجود ينقضي فيكون موجودا حال الحاجة ومعدوما حال الاستغناء عنه وأما سائر الأمور فإنها قد تبقى وربما يقف عليها من لايراد وقوفه عليها أما الاشارة فإنها قاصرة عن افادة الغرض فإن الشئ ربما كان بحيث لا يمكن الاشارة إليه حسا كذات الله تعالى وصفاته وأما المعدومات فتعذر الاشارة إليها ظاهر وأما الأشياء ذوات الجهات فكذلك أيضا لأن الاشارة إذا
(1/194)
 
 
توجهت إلى محل فيه لون وطعم وحركة لم يكن انصرافها إلى بعضها أولى من البعض وثالثها أن المعاني التي يحتاج إلى التعبير عنها كثيرة جدا فلو وضعنا لكل واحد منها خاصة لكثرت العلامات بحيث يعسر ضبطها
أو وقوع الاشتراك في أكثر المدلولات وذلك مما يخل بالتفهيم فلهذه الأسباب وغيرها اتفقوا على اتخاذ الأصوات المتقطعة معرفات للمعاني لا غير
(1/195)
 
 
النظر الرابع في البحث عن الموضوع له وفيه أبحاث أربعة الأول الأقرب أنه لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه بل ولا يجوز لأن المعاني التي يمكن أن يعقل كل واحد منها غير متناهية فلو وجب أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه لكان ذلك إما على الانفراد أو على الاشتراك والأول باطل لأنه يفضي إلى وجود ألفاظ غير متناهية والثاني باطل أيضا لأن تلك الألفاظ المشتركة إما أن يوجد فيها ما وضع لمعان غير متناهية أو لا يكون كذلك والأول باطل لأن الوضع لا يكون إلا بعد التعقل وتعقل أمور غير متناهية على التفصيل محال في حقنا وإذا كان كذلك امتنع منا وقوع التخاطب بمثل ذلك اللفظ
(1/197)
 
 
والثاني يقتضي أن تكون مدلولات الألفاظ متناهية لأن الألفاظ إذا كانت متناهية ومدلول كل واحد منها متناه فضم المتناهي إلى المتناهي مرات متناهية لا يفيد إلا التناهي فكان الكل متناهيا فمجموع ما لا نهاية له غير مدلول عليه بالألفاظ
إذا ثبت هذا الأصل فنقول المعاني على قسمين منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنه ومنها ما لا يكون كذلك فالأول لا يجوز خلو اللغة عن وضع اللفظ بازائه لأن الحاجة لما كانت شديدة كانت الدواعي إلى التعبير عنها متوفرة والصوارف عنها زائلة ومع توفر الدواعي إلى التعبير عنها وارتفاع الصوارف يجب الفعل وأما الأمور التي لا تشتد الحاجة إلى التعبير عنها فإنه يجوز خلو اللغة عن الألفاظ الدالة عليها البحث الثاني في أنها ليس الغرض من وضع اللغات أن تفاد بالألفاظ المفردة معانيها والدليل عليه أن إفادة الألفاظ المفردة لمسمياتها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسميات المتوقف على العلم بتلك المسميات فلو
(1/198)
 
 
استفيد العلم بتلك المسميات من تلك الألفاظ المفردة لزم الدور بل الغرض من وضع الألفاظ المفردة لمسمياتها تمكين الانسان من تفهم ما يتركب من تلك المسميات بواسطة تركيب تلك الألفاظ المفردة فان قلت ما ذكرته في المفردات قائم بعينه في المركبات لأن المركب لا يفيد مدلوله إلا عند العلم بكون ذلك اللفظ المركب موضوعا لذلك المدلول وذلك يستدعي سبق العلم بذلك المدلول فلو استفيد العلم بذلك المدلول من ذلك اللفظ المركب لزم الدور قلت لا نسلم أن الألفاظ المركبة لا تفيد مدلولها إلا عند العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لذلك المدلول
بيانه أنا متى علمنا كون كل واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا
(1/199)
 
 
لتلك المعاني المفردة وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ دالة على النسب المخصوصة لتلك المعاني فاذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في الذهن ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم بالمعاني المركبة لا محالة فظهر أن استفادة العلم بالمعاني المركبة لا تتوقف على العلم بكون تلك الألفاظ المركبة موضوعة لها والله أعلم البحث الثالث في أن الألفاظ ما وضعت للدلالة على الموجودات الخارجية بل وضعت للدلالة على المعاني الذهنية والدليل عليه أما في الألفاظ المفردة فلأنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه صخرة سميناه بهذا الاسم فإذا دنونا منه وعرفنا أنه حيوان لكنا ظنناه طيرا
(1/200)
 
 
سميناه به فإذا ازداد القرب وعرفنا أنه انسان سميناه به فاختلاف الأسامي عند اختلاف الصور الذهنية يدل على أن اللفظ لا دلالة له إلا عليها وأما في المركبات فلأنك إذا قلت قام زيد فهذا الكلام لا يفيد قيام زيد وإنما يفيد أنك حكمت بقيام زيد وأخبرت عنه ثم إن عرفنا أن ذلك الحكم مبرء لأن عن الخطأ فحينئذ نستدل به على الوجود الخارجي فأما أن يكون اللفظ دالا على ما في الخارج فلا والله أعلم
البحث الرابع في أن اللفظ المشهور المتداول بين الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعرفه إلا الخواص مثاله ما يقوله مثبتو الأحوال من المتكلمين أن الحركة معنى يوجب للذات كونه متحركا
(1/201)
 
 
فنقول المعلوم عند الجمهور ليس إلا نفس كونه متحركا فأما أن متحركيته وقد حالة معللة بمعنى وأنها غير واقعة بالقادر فذلك لو صح القول به لما عرفه إلا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة ولفظة الحركة لفظة متداولة فيما بين الجمهور من أهل اللغة وإذا كان كذلك امتنع أن يكون موضوعا لذلك المعنى بل لا مسمى للحركة في وضع اللغة إلا نفس كون الجسم منتقلا لا غير والله أعلم
(1/202)
 
 
النظر الخامس فيما به يعرف كون اللفظ موضوعا لمعناه لما كان المرجع في معرفة شرعنا إلى القرآن والأخبار وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم كان العلم بشرعنا موقوفا على العلم بهذه الأمور وما لا يتم الواجب المطلق به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ثم الطريق إلى معرفة لغة العرب ونحوهم وتصريفهم إما العقل وإما النقل أو ما يتركب منهما أما العقل فلا مجال له في هذه الأشياء لما بينا أنها امور وضعية والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها
وأما النقل فهو إما تواتر أو آحاد والأول يفيد العلم والثاني يفيد الظن
(1/203)
 
 
واما ما يتركب من العقل والنقل فهو كما عرفنا بالنقل أنهم جوزوا الاستثناء عن صيغ الجمع وعرفنا بالنقل أيضا أنهم وضعوا الاستثناء لإخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ فحينئذ نعلم بالعقل بواسطة هاتين المقدمتين النقليتين أن صيغة الجمع تفيد الاستغراق واعلم أن على كل واحد من هذه الطرق الثلاثة اشكالات أما التواتر فإن الاشكال عليه من وجوه أحدها أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنها ليست عربية بل سريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو
(1/204)
 
 
الموضوعة والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا وكذا القائلون بكونه موضوعا اختلفوا أيضا اختلافا كبيرا ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللفظة علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين وكذلك اختلفوا في الايمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيرا من المحققين في علم الاشتقاق زعموا أن اشتقاق الصلاة من الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب وكذلك اختلفوا في صيغ الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة
اشتهارها وشدة الحاجة اليها اختلافا شديدا وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جدا كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر ة
(1/205)
 
 
الكتاب: المحصول
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)
 
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حق حمده وصلى الله على محمد وآله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
الفصل الأول في تفسير أصول الفقه (اعلم أن) المركب لا يمكن أن يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لا من كل وجه بل من الوجه الذي لأجله يصح أن يقع التركيب فيه فيجب علينا تعريف الأصل والفقه ثم تعريف أصول الفقه أما الأصل فهو المحتاج إليه وأما الفقه فهو في أصل اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة
فإن قلت الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علما قلت المجتهد إ