المنخول

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

الكتاب: المنخول من تعليقات الأصول
المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)
حققه وخرج نصه وعلق عليه: الدكتور محمد حسن هيتو
عدد الأجزاء: 1
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين
قد تقرر عند ذوي الألباب أن الفقه أشرف العلوم وأعلاها قدرا وأعظمها خطرا إذ به تعرف الأحكام ويتميز الحلال عن الحرام وهو على علو قدره وتفاقم أمره في حكم الفرع المتشعب عن علم الأصول ولا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول ولتعلم أن علوم الشرع ثلاثة الكلام والأصول والفقه
ولكل واحد منها مادة منها استمداده وإليها استناده ومقصود به يتعلق قصد الطالب وارتياده فلابد من التنبيه على مادته ليقتبس الخائض فيه منها مبلغ حاجته فيتوسل إلى بغيته ولا غنى عن التنبيه على مقصوده لئلا يكون الطالب على عماية من مطلبه فأما علم الكلام فمادته الميز بين البراهين والاغاليط والميز بين العلوم والاعتقادات والميز بين مجاري العقول ومواقفها وأما مقصوده فهو الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع مؤثر
(1/59)
 
 
متصف بما يجب من الصفات منزه عما يستحيل تخيله صفة للذات قادر على بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات وأما الأصول فمادته الكلام والفقه واللغة ووجه استمداده من الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوبة على الأحكام مبناها على تقبل الشرائع وتصديق الرسل ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل ووجه استمداده من الفقه أنه المدلول وطلب الدليل مع الذهول عن المدلول مما تأباه مسالك العقول ووجه استمداده من اللغة كون الأصولي مدفوعا إلى الكلام في فحوى الخطاب وتأويل أخبار الرسول عليه السلام ونصوص الكتاب ومقصوده معرفة الأدلة القطعية المنصوبة على الأحكام التكليفية وأخبار الآحاد ومسالك العبر والمقاييس والمستثارة قال بطرق الاجتهاد ليس من
(1/60)
 
 
الأصول فإنها مظنونات بجانب أخذها مأخذ القطعيات ولكن افتقر
الأصولي إلى ذكرها لتبين الصحيح من الفاسد والمستند من الحائد ولأن الترجيحات من مغمضات علم الأصول ولا سبيل إليها إلا ببيان المراتب والدرجات وأما الفقه فمادته الأصول ومقصوده معرفة الأحكام الشرعية وتقرير الأحكام عند ظهور العلامات المظنونة معلومة بأدلة قطعية لا ظن فيها
فصل
ما من علم من هذه العلوم إلا وله مواقع إجماع ومثارات نزاع فمطلع الإجماع في الكلام المدركات بالبداية والضروريات والمعقولات التي يتحد
(1/61)
 
 
فيها صوب النظر ولا يتعدد كإجماع العقلاء على أن القديم لا يعدم ومثار الخلاف فيه تعارض الأدلة والشبهات وأما علم الأصول فمنشأ الوفاق فيه يضاهي منشأ الوفاق في الكلام ومنبع الخلاف فيه أمران أحدهما تعارض الأدلة والشبهات والثاني امتزاج القطع فيها بالظنيات وأما الفقه فموضع الإجماع فيه ما يستند إلى نص كتاب الله أو حديث متواتر أو إجماع واجب الإتباع وما عداها فهو من مظان الظنون وعند الإرتباك فيها يختلف المجتهدون وتضطرب آراؤهم فيتحزبون
(1/62)
 
 
باب القول في الأحكام الشرعية
ليست أحكام الأفعال صفات ذاتية وإنما معناها ارتباط خطاب الشارع بها نهيا وأمرا وحثا وزجرا فالمحرم هو المقول فيه لا تفعلوه والواجب هو المقول فيه لا تتركوه وهو كالنبوة ليست صفة ذاتية للنبي ولكنها عبارة عن اختصاص شخص بتبليغ خطاب الشارع فقولنا الخمر محرمة تجوز فإنها جماد لا يتعلق بها الخطاب وإنما المحرم تناولها مسألة لا يستدرك حسن الأفعال وقبحا بمسالك العقول بل يتوقف دركها على الشرع المنقول
(1/63)
 
 
فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه والقبيح ما قبحه بالزجر عنه والذم عليه وقد خالف في ذلك المعتزلة والكرامية والروافض فقالوا الحسن حسن لذاته والقبيح كذلك ثم قسموا ذلك إلى ما يستدرك بمحض العقل والى ما لا يستدرك إلا بانضمام الشرع إليه كحسن الزكوات والصلوات وأنواع العبادات لأن مصالحهما الخفية لا يطلع عليها إلا بتنبيه وما يستدرك بمحض العقل على زعمهم ينقسم إلى
(1/64)
 
 
المعلوم بضرورة العقل عندهم كحسن الشكر وانقاذ الغرقى والهلكى وكقبح الايلام ابتداء أو الكذب الذي لا غرض فيه
والى المعلوم بالنظر كالكذب الذي يرتبط به غرض ولنا في هذه المسألة مسلكان أحدهما ابطال مذهبهم والثاني اثبات مذهب أهل الحق ولنا في ابطال مذهبهم طريقتان إحداهما جدلية والأخرى معنوية أما الطريقة الجدلية فهي أنا نقول ادعيتم أن حسن بعض الأفعال وقبحها مستدرك ببداية العقول واوائلها ونحن ننازعكم في ذلك ومواضع الضرورات لا يتصور فيها الخلاف بين العقلاء فإن نسبونا إلى عناد عكسنا عليهم دعواهم ثم العناد إنما يتصور في شرذمة يسيرة ونحن الجم الغفير والجمع الكبير لا يتصور منا التواطؤ على
(1/65)
 
 
كر العصور وتوالي الدهور من غير فرض رجوع من واحد إلى الانصاف وقولكم أنكم وافقتمونا على اصل العلم وخالفتمونا من في مسندة اهو العقل أم الشرع وذلك لا يمنع دعوي الضرورة كمخالفتكم في الكعبي في علم التواتر في كونه نظريا قلنا ايلام الله سبحانه البهائم معلوم عندكم قبحه بالضرورة لو لم يقدر تعويض ونحن ننازعكم في نفس هذا العلم مع اعتقاد نفي التعويض وبطلان مذهب التناسخية
(1/66)
 
 
ثم نحن لا نسلم لكم لحسن الراجع إلى الذات وانما المعني بالحسن عندنا ما يحسنه الشارع بالحث عليه ولو قدر عدم ورود الشرع لضاهي بن الكفر الإيمان عندنا فكيف يستقيم ادعاؤكم الموافقة في أصل العلم واما الطريقة المعنوية فهي أنا نقول ما قولكم في واقف على فوهة طريق اجتاز به نبي واشياعه واتبعه غاشم يبغي قتله واستخبره هذه عن حاله ايصدق سنة أم يكذب فإن صدق فهو سعي في روح نبي وان كذب فهو مستقبح لذاته عندكم وصفات الذات لا تتبدل ونحن نعلم إن الكذب احسن من الصدق ههنا المسلك الثاني في اثبات المذهب نقول القتل الواقع اعتداء يجانس القتل المستوفى قصاصا في الصورة والصفات بدليل إن الفافل عمرو عن المستند فيهما لا يميز بينهما والمختلفان في صفة الذات يستحيل اشتباههما وتجانسهما وكذا الوطء في النكاح والزنا فآل مأخذهما إلى
(1/67)
 
 
الاغراض جلبا ودفعا ونحن لا ننكر تفاوت الافعال عند العقلاء لتفاوت الاغراض وانما الخلاف في الافعال بالنسبة إلى الله تعالى وهو منزه عن الاغراض لا يتضرر بالكفر ولا ينتفع بالايمان فلا معنى للتمييز في حقه وكذا فعله تعالى لا يطلب له غرض فيه حتى إذا خالف غرضه قبح ولا تحكم للعباد عليه وهو يفعل ما يشاء فلا يجب عليه تطبيق افعاله على غرض العباد وهو متصرف في ملكه لا اعتراض عليه اصلا ولهم أربع شبه احدها انهم قالوا استحسان مكارم الاخلاق من الشكر والإحسان وانقاذ
الغرقى والهلكى واستقباح الكذب والايلام اطبق عليه العقلاء مع تفاوت قرائحهم فدل على انه مدرك بالضرورة قلنا نعم ذلك مسلم فيما بين الناس ومنشؤ اغراضهم والكفر كالايمان بالنسبة إلى الله عز وجل وليس كالكفر والشكر بالنسبة إلينا فإنا
(1/68)
 
 
نفرح ونرتاح بالشكر ونغتم قبل بالكفران وسر العبودية التلفت إلى الحظوظ حتى لو ورد الأمر المجرد من الشارع من غير عقاب لما قضى العقل بامتثاله إذ لا غرض لنا ولا للرب سبحانه فيه فإذا اورد العقاب قضى العقل باجتنابه وسر الربوبية! التنزة يحيى عن الحظوظ ومن لم ينزه فقد ذهل عن حقيقة الالهية الثانية إن قالوا ما بال الملك العظيم الولي على الاقاليم يحسن إلى فقير وان اشرف على الموت من غير توقع غرض فيه ليس ذلك إلا لتحسين العقل قلنا المستحث عليه أما استمرار العادة وهي طبيعة خاصة يعسر خلافها أو رقة الجنسية والرب تعالى منزه عن الرقة والشفقة الثالثة انهم قالوا إن البراهمة ونفاة الشرائع ادركوا الحسن والقبح ولا مستند لهم إلا محض العقل قلنا ذلك اعتقاد فاسد كاعتقادكم الرحمن وليس ذلك بعلم كإحالتهم وكان بعثة الرسل
(1/69)
 
 
الرابعة
قولهم إن العاقل يؤثر الصدق على الكذب عند استوائهما في الافضاء إلى الغرض وسببه تحسين العقل قلنا لا بل سببه الشرع أو حذر اللوم من الناس أو تقليد مذهبهم الفاسد فإن فرضوا عدم هذه المعاني فيستوي عنده الصدق والكذب ثم غايتهم اعتبار الغائب بالشاهد ويقبح من السيد شاهدا إن يترك عبيده واماءه يموج بعضهم في بعض يزنون ويقتحمون الفواحش وهو قادر على منعهم وقد فعله الرب سبحانه والخلائق في قبضته وقهره فإن قيل تركهم لينزجروا بأنفسهم مؤثرين فيستحقون الثواب قلنا وقد علم انهم لا يفعلون فليمنعهم اجبارا وكم من مجبر ممنوع بزمانة أو عجز عن ارتكاب الفواحش
(1/70)
 
 
مسألة لا يستدرك وجوب شكر المنعم بالعقل خلافا للمعتزلة لان العقل
(1/71)
 
 
لا يوجب الشئ هزلا هملا فلا بد من تخيل غرض وذلك يستحيل رجوعه إلى المشكور فإنه تعالى منزه عن الأغراض والشاكر أيضا لا يلتذ به في الحال بل يتعب نفسه فإن قيل يعرض له انه إن شكر ربه بعد أن عرفه اثيب فيثاب وان كفر فربما يعاقب فعقله يستحثه على سلوك طريق الأمن كالمسافر إذا تصدى له طريقان على هذا الوجه قلنا توقع العقاب مختصا بجانب الكفر خيال فاسد مستنده تخيل غرض في الشكر والمعرفة وهما متساويان عند الرب فلا تمييز
(1/72)
 
 
ثم نقول وقد يخطر للعبد انه إن نظر وشكر ربما يعاقب فإنه عبد مرفه أمده الله تعالى بأسباب التنعم فلعله خلقه للترفه فإتعابه نفسه تصرف منه في مملكته من غير اذنه ولهم شبهتان إحداهما ادعاؤهم اطباق العقلاء على استحسان الشكر واستقباح الكفران وذلك مسلم فيما يرجع إلى الناس لانهم يهتزون بالشكر ويغتمون بالكفر والرب تعالى يستوي في حقه الامران ويعضد هذا الكلام شيئان أحدهما إن المتقرب إلى السلطان بتحريك انملته في زاوية حجرته يسفه في عقله وعبادات العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة والثاني إن من تصدق عليه السطان بكسرة من رغيف في غير مخمصة فلو أخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد يشكره كان
(1/73)
 
 
ذلك خزيا وافتضاحا وجملة انعام الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى السلطان الثانية قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع المنقول دون مسالك العقول يؤدي إلى افحام الرسول فإنه إذا اظهر المعجزة ودعا الناس إلى النظر قالوا لا يجب علينا النظر في معجزاتك إلا بشرع مستقر فثبت شرعك حتى ننظر في معجزتك والجواب من وجهين
أحدهما إن هذا يلزمكم أيضا لأن العقل بجوهريته روى لا يدل على الوجوب إذ لو دل ذلك لما انفك كل عاقل عن العلم بكل معقول وقد يرى العاقل المعجزة ويذهل عنها فلا يتدبر حتى يتبين وجوب النظر وقولهم إن الإنسان لا يخلو عن خاطرين اجتراء على الحس
(1/74)
 
 
وبالحري إن يتذكر ذلك عند ظهور المعجزة لا قبل ولا يختص وجوبه عندكم بورود الشرع ثم قد يستهين بالرسول فلا يقيم له وزنا ويستمر على غفلته كما نرى فيمن يحضرون مجالس الوعظ فينغمسون ولم في الغفلات والواعظ يعظهم على رؤوس المنابر مع الزعقات والجواب الثاني وهو التحقيق إن الوجوب يثبت بثبوت الشرع فإذا ظهرت المعجزة فقد استقر الشرع فلا يتوقف ذلك على قبول قابل والتكليف لا يستدعي إلا الإمكان وقد أمكن فإن وفق له فاز وإلا هلك وعن هذا قيل لا يتقرب إلى الله تعالى بأول نظر فإنه لا يعلمه إذ لو علمه لعلمه بنظر آخر وخرج الأول عن أن يكون أو لا
(1/75)
 
 
مسألة لا حكم قبل ورود الشرع ونقل عن بعضهم إن الافعال محظورة قبل ورود الشرع وعن بعضهم إنها مباحة ولا يظن بالحاظرين بين تخيل الحظر في مستحسنات العقول وفيما لا بد للنفس منه من أكل وشرب
(1/76)
 
 
ولا بالمبيحين أهل اباحة ما استقبح بالعقل كالايلام حديث والكذب فلعلهم قالوا ذلك فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح فنقول الحكم بالحظر تحكم لا يدرك بنظر العقل ولا بضرورته إذ لا يرتبط بالانزجار غرض ولا يمكن تقديره في الأقدام واما الاباحة فإن عنوا بها تساوي الاحجام والاقدام مع نفي الأحكام فهو المتمنى وان زعموا أن الاباحة حكم فحكم الله خطابه فمن المبلغ ولا رسول
(1/77)
 
 
القول في الأحكام التكليفية التكليف مأخوذ من الكلفة على وجه التفعيل ومعناه الحمل على ما في فعله مشقة ويندرج تحته الايجاب والحظر ولا وفق ما يتشوف إليه الطبع أو ينبو عنه إما الندب فهو عند القاضي من التكليف لان تخصيص الفعل بوعد الثواب يحث العاقل على الفعل وهذا من الكلفة والاختيار انه ليس من التكليف لانه ورد مع رفع الجناح والاباحة ليست من التكليف إلا عند الأستاذ أبى اسحق
(1/78)
 
 
قال ووجه الكلفة وجوب اعتقاد كونه مباحا شرعا وهذا ضعيف فإن ذلك مأخوذ من تصديق الرسل ونفس الفعل لا كلفة فيه وتفصيل القول في التكاليف يحصره أربع مسائل مسألة
ذهب شيخنا أبو الحسن رحمه الله إلى جواز تكليف ما لا يطاق مستدلا
(1/79)
 
 
بقوله تعالى ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ولا وجه للابتهال لو لم يتصور ذلك بالبال واستدل بأن أبا جهل كلف تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أتى على لسان الرسول انه لا يصدق في اصل تكليفه فحاصله تكليفه أن يصدقه في انه لا يصدقه وهذا المذهب لائق بمذهب شيخنا أبى الحسن لازم له من وجهين إحدهما إن القدرة الحادثة عنده لا تأثير لها في المقدور وهو واقع باختراع الله تعالى وقد كلفنا فعل الغير والآخر أن القاعد عنده غير قادر على القيام وهو مأمور بالقيام وقدرة القيام تقارن القيام ولا ينجي من هذا قول بعض اصحابنا إن القعود
(1/80)
 
 
مقدور فهو مأمور بتركه فان الأمر متوجه بالقيام وهو غير مقدور والقاعد إذا أمر بالطيران فقد أمر بما لا يطيق قطعا وان قدر على ترك القعود والمختار عندنا استحالة تكليف ما لا يطاق نعم ترد صيغة الأمر للتعجيز كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين والانباء عن القدرة كقوله تعالى كن فيكون ولم ترد للخطاب والطلب وهذا كقوله تعالى حتى يلج الجمل في
سم الخياط معناه الابعاد لا ما يفهم من صيغة التعليق فإنه يستحيل ان يطلب من المكلف ما لا يطيق والدليل على استحالته إن الأمر طلب يتعلق بمطلوب كالعلم يتعلق بمعلوم والجمع بين القيام والقعود غير معقول فلا يكون مطلوبا ويستحيل طلبه إذ لا يعقل في نفسه
(1/81)
 
 
واختيارنا ان للقدرة الحادثة تعلقا بالمقدرو عند والاستطاعة وإن
(1/83)
 
 
قارنت الفعل فلم يكلف في الشرع إلا ما يتمكن منه قطعا وذلك بين في مصادر الشرع وموارده ووعده ووعيده إذ لا معنى لتخصيص فعل فاعل عن آخر بعقاب أو ثواب مع تساوي الكل في العجز عنه وهذا شئ مستحيل وحكم الإستطاعة يذكر في الكلام وأما أبو جهل فقد كلف أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان قادرا عليه ثم الرب سبحانه أنه سيمتنع لأنه عنادا مع القدرة فأخبر الرسول به كما علمه فإن قيل الكفار الذين لم يؤمنوا كلفوا الإيمان وقد علم أنهم لا يؤمنون وخلاف المعلوم لا يتصور وقوعه فكان تكليف ما لا يطاق
(1/84)
 
 
قلنا ينعكس على الملزم هذا في خلاف المعلوم في حق الله تعالى فانه مقدور بالإتفاق وإن لم يقع والتحقيق إن ما كان مقدورا في ذاته جائز الوقوع لا تتغير حقيقته بالعلم فقد اقدر الله سبحانه الكفار على الإيمان ثم علم أنهم يمتنعون مع القدرة
فكان كما علم فلم ينقلب المقدور معجزوزا أخبرنا عنه بسبب علمه مسالة 2 لا يكلف السكران لأن شرط الخطاب فهمه وهو مضمن به والكسران يا لا يفهم فإن قيل له افهم كان تكليف ما لا يطاق وذهب الفقهاء إلى أنه مخاطب تمسكا بقوله تعالى لا تقربوا
(1/85)
 
 
الصلاة وأنتم سكارى وظاهر الآي لا يصادم المعقولات
(1/86)
 
 
ثم هو خطاب مع المنتشي الذي لم يزل عقله بدليل أنه نزل في شارب خمر أم قوما فقرأ الفاتحة فتخبطت عليه سورة قل يا أيها الكافرون وكان معه من العقل ما يفهم به وقوله سبحانه وتعالى حتى تعلموا ما تقولون معناه لتكونوا على تثبت تام وربما يتمسكون بوجوب القضاء في الصلوات ونفوذ الطلاق وجملة الأحكام قلنا جريان الأحكام عليه تغليظ لان السكر متشوف النفوس وقد تعدى بالتسبب إليه فلا يتوجه إليه الخطاب في حالة السكر اصلا والاحكام جارية والصلاة تقضي بأمر جديد ولو أمر به المجنون
(1/87)
 
 
بعد الإفاقة أو الحائض بعد الطهر بفعل الصوم لم يبعد وسببه تعديه بالتسبب إليه مع كونه مجنونا حتى لو ردى نفسه من شاهق فانخلعت
قدماه لا يجب القضاء لأن النفس لا تتشوف إليه والخلاف آيل إلى عبارة إن سلموا لنا استحالة تكليف ما لا يطاق لأنا نسلم الأحكام وجريانها وذلك لا يدل على التكليف والسكران لا يفهم ولا يقال له افهم وهو شرط كل خطاب وكذا الناسي الذاهل حكمه حكم السكران في التكليف مسألة (3) الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة والدليل على جواز تكليفهم الفروع أن العقل لا يحيله إذ التوصل إليه
(1/88)
 
 
بتقديم الإيمان ممكن كما خوطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الطهارة وكما سلموا لنا في المعطل أنه مخاطب بتصديق الرسول عليه السلام بشطر تقديم المعرفة بالرسل وهذا دليل الجواز فأما وقوعه فهو مقطوع به عندنا وتردد القاضي في انه مقطوع أو مظنون ونحن نعلم قطعا إن الرسول عليه السلام كان مبعوثا إلى طبقات الخلائق وقد كلفوا قبول شريعته نفسا بعد نفس تأصيلا وتفصيلا وان كان الوصول إليه يترتب على الإيمان كالصلاة في حق المحدث والمعطل وسر المسألة إن الكافر لا يخاطب بنفس الصلاة مع الكفر ولكنه مأمور بها على وجه التوصل وكذا نقول في حق المحدث وحكي عن أبى هاشم إن المحدث لا يخاطب بالصلاة ونسب إلى خرق الإجماع
(1/89)
 
 
فإن عني به ما ذكرناه فهو حق وإن عني به انه لا يعاقب على ترك الصلاة فهو باطل مسالة المضطر إلى الشئ المكره عليه يجوز إن يكون مخاطبا به خلافا للمعتزلة لان ايثارة لو باق وهو متمكن من الأقدام وشرط التكليف التمكن من الامتثال وآية بقاء خيرته تخيره بين الإقدام والإحجام وهم يقولون جلبته تحثه على فعله لخليص يكون الروح فهو سبب اقدامه لا قصد الامتثال فلا يستحق الثواب عليه ويقبح إن يؤمر بما لا يستحق الثواب عليه وعلى هذا قالوا يقبح من الرب جل وعز إن يبدي آية تخضع لها الاعناق ويؤمن لاجلها جملة العباد لان ذلك لا اختيار فيه فلا يتعلق به أمر وهذه الأصول عندنا باطلة
(1/90)
 
 
وحد ما يجوز به التكليف عندنا ما لا يستحيل في العقل وقوعه مع تمكن الكلف منه والزمهم القاضي رضي الله عنه اثم المكره على القتل ونسبهم في هذه المسألة إلى خرق الاجماع وهذا غير لازم فانهم يقولون لا يبعد كونه مأمورا بالإنزجار مع ومراغمة قضية الجبلة بل أولى باستحقاق الثواب كالوضوء في السبرات وتحمل
المشقات في العبادات والله أعلم
(1/91)
 
 
باب الكلام في حقائق العلوم
والكلام فيه يحصره بابان ويشتمل كل باب على خمسة فصول
الفصل الأول من الباب الأول في اثبات اصل العلم على منكريه من السوفسطائية وقد نفوا العلم والحقائق في الذوات وأثبت مثبتون للذوات حقائق وقالوا لا تعلم بالقوى البشرية
(1/92)
 
 
وقال بعض اصحابنا هؤلاء لا يناظرون فإنهم انكروا المحسوسات فإن كلمناهم فأقرب مسلك أن نقول أتعلمون تمييزكم سعيد في اعتقادكم عن مخالفيكم فإن علموه بطل اعتقادهم وإن جهلوه لم يسمع قولهم
(1/93)
 
 
الفصل الثاني في حقيقة العلم وحده
ولاصحابنا فيه ست عبارات
أولها قول شيخنا أبى الحسن العلم ما يوجب بمن قام به كونه عالما وهذا فاسد فإنه لا يفيد بيانا ولا يجدي وضوحا إذ العالم مشتق من العلم فمن جهل العلم جهله فهو حوالة على المجهول كقول من فقد خاتما في بيت لمن يسأله عن البيت فيقول البيت الذي تركت فيه خاتمي وثانيها قول أبى القاسم الإسكافي العلم ما يعلم به ووجه تزييفه كالأول إذ الحد يرد للبيان ولا بيان
(1/94)
 
 
وثالثها قول ابن فورك العلم صفة يتأتى للموصوف بها اتقان الفعل وأحكامه وهو باطل بالعلم بالله وبجملة المستحيلات فانه علم ولا يتأتى به الإتقان ثم الإتقان بالقدرة لا بالعلم ولا معنى للإتقان فإنه عبارة عن الانتظام وليس الانتظام صفة لذات المنتظم ولكن إن وقع حسب المراد فهو المنتظم بالنسبة إليه وقد يقبح بالنسبة إلى غيره ورابعها قول بعضهم تبيين المعلوم على ما هو به أو درك المعلوم ولفظ التبيين مشعر باستفتاح علم بعد سبق استبهام ويخرج عنه علم الباري سبحانه وكذا لفظ الدرك
(1/95)
 
 
وهو أيضا متردد بين درك الحاسة والعقل واللفظ المتردد لا يحد به وخامسها قولهم الإحاطة بالمعلوم والرب تعالى معلوم ولا يحاط به إذ الإحاطة تشعر بالإنطواء والإحتواء وسادسها قول القاضي رضي الله عنه معرفة المعلوم على ما هو به قال القاضي تحديد العلم لا يتأتى إلا بذكر عبارة تزيد في الوضوح عليه تنبئ عنه فغاية الإمكان ترديد العبارة على السائل حتى يفهم قال لو سألني سائل عن العلم فأقول هو المعرفة ولو سأل عن المعرفة فأقول هو العلم
(1/96)
 
 
وهذا غير سديد لانهما عبارتنا عن معبر واحد ولو سئل عن المعرفة والعلم فماذا يقول ثم المعرفة خلاف العلم في اللغة فإنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد والعلم والعلم يتعدى إلى مفعولين وأما المعتزلة فقالوا اعتقاد الشئ على ما هو به فأبطل عليهم بالعلم بنفي الشريك وليس ذلك شيئا فإن الشئ عندهم هو المعدوم الذي يجوز وجوده ويبطل بالمخمن وفي وقد زادوا عليه مع طمأنينة النفس إليه ونحن نعلم سكون نفس المقلد إلى اعتقاده فإنه يقطع اربا ولا يكيع
عنه
(1/97)
 
 
فإن زادوا مع كونه مستندا إلى ضرورة أو نظر قيل لهم لو خلق الرب سبحانه جنس اعتقاد المقلد على سبيل الاختراع لم ينقلب علما وهو مستند إلى الضرورة والمختار أن العلم لا حد له إذ العلم صريح في وصفه مفصح عن معناه ولا عبارة أبين منه وعجزنا عن التحديد لا يدل على جهلنا بنفس العلم كما إذا سئلنا عن حد رائحة المسك عجزنا عنه لكون العبارة عنها صريحة ولا يدل ذلك على جهلنا ولكن سنبين العلم بالتقاسيم فنقول لا خفاء بتمييزه عن الظن والشك والجهل وإنما مظنة الإشتباه الإعتقاد المشتبه مع العلم ووجه الفرق إن المقلد لو طلب متنفسا عز في مسلك النظر لوجده والعالم لا يتمكن منه إذ لا وضوح بعد الوضوح والمعتقد المقلد إن اصغى إلى الشبه تزلزل اعتقاده دون العالم
(1/98)
 
 
ولو عرض على المعتقد ما يعلم ضرورة لأدرك الفرق بينه وبين ما يعتبره تقليدا مع إن العلوم بعد حصولها ضرورية بأسرها لا تختلف والمعتقد إذا نظر فعلم ذاق من نفسه أمرا على خلاف ما وجده قبله والإعتقاد إفتعال من العقد وهو مشعر بتكليف ربط العقد به والعلم انشراح صدر من غير ربط تكليف والقول الوجيز أن المعتقد سابق إلى أحد معتقدي الشاك وواقف عليه إذا الشاك يقول أزيد في الدار أم لا فيقف المعتقد على أنه في
الدار ولا يقدر خلافه ولو قدره لتمكن من ذلك ولذلك نقول في إعتقاد المعتقد أن زيدا في الدار وهو في الدار كاعتقاد من يعتقد أنه في الدار وليس فيها والعلم لا يجانسه الجهل فقد بان الفرق
(1/99)
 
 
الفصل الثالث في تقاسيم العلوم
العلم ينقسم إلى قديم وإلى حادث فالقديم علم الباري سبحانه الذي لا أول له وهو محيط بجملة المعلومات فلا يتعدد بتعددها ولا يوصف بكونه كسبيا ولا ضروريا وأما الحادث فينقسم إلى الهجمي والنظري فالهجمي كل ما يضطر إلى علمه بأول العقل كالعلم بوجود الذات والآلام والملذات والنظري ما يفضي إليه النظر الصحيح مع انتفاء الآفات على وجه التضمن لا على وجه التولد خلافا للمعتزلة
(1/100)
 
 
والنظر مكتسب بالاتفاق والعلم المترتب عليه ضروري بعد حصوله عندنا خلافا لجماهير الاصحاب ودليله أنه لو كان مقدورا لقدر على دفعه بعد اتمام النظر وانتفاء
الآفات ودفعه غير ممكن كدفع الرعدة التي لا اختيار له فيها وهو بها أشبه منه بالحركة المرادة المجتلبة بالإيثار
(1/101)
 
 
الفصل الرابع في ماهية العقل
ذكرناه في هذا الباب لأنه من جملة العلوم وليس كلها إذ الخالي عن جمل العلوم عاقل وليس من النظري إذ شرط كل نظر تقدم العقل عليه وليس كل العلوم الضرورية إذ الأصم والأخرس والأعمى عاقل وقد إختل بعض حواسه وليس آحاد العلوم أي علم شئت إذ للبهيمة علم في الميز بين التبن والشعير وليست عاقلة فالوجه أن يقال هو علم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات احترازا عن البهائم ثم هكذا قاله القاضي
(1/102)
 
 
وهو مزيف فإن الذاهل عن الجواز والإستحالة عاقل والوجه أن يقال هو صفة يتهيأ للمتصف بها درك العلوم والنظر في المعقولات وقال الحارث المحاسبي رضي الله عنه هو غريزة يتوصل بها إلى درك العلوم وقالت الفلاسفة هو تهيؤ الدماغ لفيض النفس عليه
(1/103)
 
 
الفصل الخامس في مراتب العلوم
وهي عشرة أولها العلم بوجود الذات والآلام واللذات الثاني العلم باستحالة اجتماع المتضادات وهو ثاني العلم بأصل الذوات الثالث العلم بالمحسوسات ووجه استئخاره ما يتطرق إليه من التخيلات والآفات الرابع العلم الحاصل من اخبار التواتر إذ لا بد فيه من مزيد نظر لإستبانة الصدق وعدم التواطئ على الكذب
(1/104)
 
 
الخامس فهم فحوي فلا الخطاب ودرك قرائن الأحوال من الخجل والغضب والوجل وهو أخفى من التواتر السادس العلم بالحرف والصناعات وسبب تأخره توقفه لخفائه على تعلمه ومعاناته
السابع العلم بالنظريات ووجه استئخاره ما فيه من الخفاء ولذلك كان مظنة ارتباك العقلاء الثامن العلم بانبعاث الرسل وهو اغمض وادق فإنه يزاحم السمعيات التاسع العلم بالمعجزات ووجه خفائه بعده عن محض العقل واستناده إلى العلم باطراد العادات العاشر العلم بالسمعيات وهو يضاهي التقليد فلذلك جعلناه أخيرا
(1/105)
 
 
ولتعلم أن العلوم لا تفاوت فيها بعد حصولها وإن دق مدركها ولكن لكل علم مستند من البديهة والضرورة فما قرب من الضرورة كان أجلى وما بعد عنها كان أغمض وإليه الإشارة بهذه المراتب لا إلى التفاوت في العلم نفسه ومما ذكر في هذا إن الحواس على مرتبة واحدة وقيل إن السمع والبصر أقوى ثم قيل إن السمع أقوى من البصر وقيل عكسه وخلافه أيضا وقال القلانسي العقليات أقوى من الحسيات لأنها بعرض لحوق العاهات
(1/106)
 
 
الباب الثاني في مآخذ العلوم ومصادرها
وهي خمسة فصول
الفصل الأول في نقل المذاهب فيه
قال قائلون من الحشوية مأخذ العلوم الكتاب والسنة دون نظر العقل وهذا لا خفاء ببطلانه
(1/107)
 
 
وقال آخرون مدركه الحواس وزاد زائدون من السمنية أخبار التواتر ولا يظن بهؤلاء أنهم أنكروا المعقولات ولكنهم سموه معقولا وسمو المحسوسات معلوما فإنه يتشكل في خزانة التخيل وهذا تضايق في عبارة وقال علماء الهند مأخذ العلوم التفكر والتأمل وقال القلانسي مأخذه العقل ولا يظن به إنكار الحواس ولكنه يقول العقل مسيطر عليه فيدركه الحس عند انبعاث الأشعة ويعلم بالعقل عنده وقيل الصبي يرى نفسه في المرآة ويدرك المدركات ولا يعلمها لعدم العقل وقال آخرون مأخذ العلوم الإلهام ولعلهم عنوا به أن العلوم كلها ضرورية مخترعة لله تعالى ابتداء كما ذكرناه والمختار عندنا أن مأخذ العلوم الميز والميز قد لا يكون عقلا كميز منه
البهائم فنعني به ميز العقلاء
(1/108)
 
 
ثم إنه قد يفضي به إلى بعض العلوم بغير واسطة كالعلم بالذات وصفاتها وقد يفضي بوسائط والوسائط ثلاثة الحواس وهي الوسيلة إلى المحسوسات ونظر العقل وهي الوسيلة إلى العقليات واطراد العادات وبه يعرف معاني الخطاب وقرائن الأحوال ثم قد لا يفضي الميز إلى العلم إلا بواسطتين كالمعجزة تتوقف على واسطة العقل والعرف فيستبان بالعقل كونه فعل مخترع صانع متصرف ويستبان بالعرف أنه دال على الصدق إذ لا يناسب انقلاب العصى ثعبانا صدق موسى في كونه رسولا واما السمعيات فإنها معلومات ولكنها لا تظهر في العقل ظهور العقليات
(1/109)
 
 
ومستنده قول حق وخبر صدق وقول النبي عليه السلام صدق وكلام الله سبحانه كذلك وقول أهل الإجماع بتصديق الرسول إياهم
(1/110)
 
 
الفصل الثاني في مراسم المتكلمين
حووا به جميع مآخذ العلوم قالوا العلوم تنقسم إلى الضرورية والنظرية فأما الضرورية فتنقسم إلى سابقة ونتيجة ومثاله من الهندسة قولهم خطان متماثلان زيد عليهما مثلهما فهذه مقدمة وقولهم بعد ذلك الجملتان متماثلتان نتيجة ومثاله من الكلام قولك السواد والبياض ضدان فهذه مقدمة وقولك بعده والجمع بينهما غير مقدور نتيجة ثم قد تقع المقدمة ضرورية والنتيجة نظرية كالتفرقة البديهية بين حال السكون والحركة مقدمة نتيجتها العلم بجواز وقوعها نظرا
(1/111)
 
 
وقد يكون على العكس كقول مثبتي حدوث العالم بعد إثبات الأعراض وحدوثها واستحالة خلو الجواهر عنها بطريق النظر إن ما لا يسبق الحوادث حادث وهذه نتيجة ضرورية من مقدمة نظرية فأما النظريات فينحصر مسلك مأخذها في أربع جهات رد غائب لشاهد ورد مختلف إلى متفق وسبر وتقسيم وتمسك بمسلك جدلي والمعنى بالغائب ما غاب عن علمك فترده إلى ما علمته
والتحكم بالجمع باطل إذ لو جاز لجاز للزنوج: الحكم على جميع الخلائق بالسواد وللمعطلة غير الحكم بأن لا نطفة إلا من آدمي ولا آدمي إلا من نطفة بدليل الفرض ولجاز لمن رأى نجارا صغيرا أن يقضي على جميع النجارين به ثم قالوا وجه الجمع الصحيح أربع
(1/112)
 
 
جمع لعلة كقولهم العلم علة كون الذات عالمة فليكن كذلك في الغائب وجمع بالحقيقة كقولهم حقيقة كونه عالما قيام العلم به والجمع بالشرط كقولهم الحياة شرط العلم شاهدا فكذا غائبا والجمع بالدليل العقلي كقولهم رسم الخط المنظوم وإتقانه دليل على علم المتقن شاهدا فكذا غائبا وأما رد المختلف إلى المتفق كقولنا لمنكري استحالة خلو الجواهر عن الألوان إذا سلموا ذلك في الأكوان سبب استحالة خلوه عن الأكوان قبوله لها فكذا في الألوان وعكس ذلك مع من يعكس النزاع فيه وأما المسلك الجدلي كقولنا لهم إذا سلموا استحالة الخلو عنها في ثاني حال وجودها فليكن في أول حال وجود الجوهر كذلك إذ حقيقة الكون ما يخصص الجوهر بحيز وهذه التقاسيم عندنا باطلة
(1/113)
 
 
والمختار
إن أساليب العقول لا ضبط لها فإن العلوم لا نهاية لها ولا ننكر ترتيب بعض العلوم على بعض وانقسامها إلى مقدمة ونتيجة ولكنها بعد الحصول ضرورية وإن غمض مدركها ولا دليل عندنا في العقل إذ لا رابط ولا جمع ونهاية النظر تجريد العقل عن الغفلات لما يعرض عليه ومن فعل ذلك أدرك المعقول وهو كتحديق أحمد البصر إلى صوب المرئي فإنه يفضي إلى العلم من غير تقدير دليل ونبين ذلك بمثال كلامي وآخر هندسي فأما الهندسي كقولهم في صدر كتبهم الكل أكثر من الجزء وهو ضروري والأشياء المتساوية كشئ واحد ثم يقال سائر الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى
(1/114)
 
 
الخط المحيط بها من كل الجوانب متساوية وهذا أيضا معلوم ضرورة ثم يرتبون عليه العلم بأن المثلث المتساوي الأضلاع هو الذي تركبت آحاد أضلاعه من مراكز الخطوط الدائرة المتماثلة وهذا خفي يفتقر إلى تدبر ولكنه بعد العلم به ضروري كالأول وهكذا إلى الشكل الأخير إلا انه عسر الاحتواء عليها لتعلقها بمقدمات لا يحويها الذهن ويذهل عنها في غالب الأمر والمثال الكلامي كقول مثبتي الأعراض التفرقة الحاصلة بين الحركة والسكون مهجوم عليها من غير تأمل
(1/115)
 
 
ثم العلم بجوازه يفتقر إلى تأمل في ابطال جهة الوجوب استنادا إلى إن تخصيصه ببعض الاوقات وبعض السمات مع تساويها في العقل دليل على بطلان الوجوب ويتعين عند بطلانه جهة الجواز إذ التقسيم حاصر ولا قسم سواه ثم يبتدي له بعد ذلك انه هل وقع جائزا بنفسه أو بمقتضى فليس إلا تنبه العقل واستبانته انه وقع بمقتضى إذ لو وقع بنفسه لما اختص ببعض الاوقات وبعض السمات ويدرك العقل ذلك بعد التنبه إدراكه التفرقة الضرورية ابتداء هكذا إلى نهاية النظر في حدوث العالم فقد بان أن لا دليل في العقل فها نحن نبطل تفاصيل تقاسيمهم فنقول أما الجمع بالعلة فكون العلم علة العالمية باطل إذ لا علية ولا معلول في العقليات عندنا
(1/116)
 
 
فالعلم عين العالمية ولا فرق وإن سلم فنقول إن دل العقل بعد التجريد عن الغفلات للتدبر فيه أن العالمية في حق الرب مفتقرة إلى علم لا محالة فهو الدليل ولا حاجة إلى رد الغائب إلى الشاهد وإن لم يدل فلا مقنع في الجمع ثم علم الباري يخالف علمنا بالإتفاق
فكيف يقولون إذا دلت العالمية على العلم شاهدا ينبغي أن تدل في الغائب على علم يخالفه وكذا نقول في رد المختلف إلى المتفق ولا استرواح في المعقولات إلى إجماع ولا إلى مسلك جدلي وإلزام فإن دل العقل على شئ منها في محل النزاع فهو كاف وإلا فلا فائدة في الإتفاق وتسليم الخصم نعم ذلك يورد للتضييق وتبكيت الخصم إن جحد البديهة ليختزي بعد
(1/117)
 
 
وأما التقسيم فقد مثلوه بقولهم في مسألة الرؤية الجوهر مرئي فلا يرى لجوهريته يقول بدليل العرض ولا لصفاته بدليل جواز تعلق الرؤية به عند تقدير عدم كل صفة تتخيل مصححة له فدل أن المصحح هو الوجود وعارضتهم المعتزلة أن الرب لا يرى الآن وليس ذلك لقرب مفرط ولا لبعد مفرط إذ ذاك محال عليه فدل أنه غير مرئي في نفسه وهذه التقاسيم عندنا باطلة إذ لا يستحيل أن يكون مصحح الرؤية أو مانعها أمرا آخر جهله السائل والمسئول إذ ليس التقسيم دائرا بين نفي وإثبات وإذا تطرق خيال بعيد إلى مظان القطع فسد والله أعلم
(1/118)
 
 
الفصل الثالث في مواقف العقول ومجاريها
ولا مطمع في استيعاب مجاري العقول بالذكر إذ المعقولات لا ضبط لها فلا ضبط لمراتبها ولو ذكرناها لافتقرنا إلى ذكر الهندسة والفلسفة والنجوم والشعوذة وعلوم الصناعات والرياضيات فالوجه الرمز إلى ما يتعلق بالديانات ونهاية المغزى فيه الإحاطة بحدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بصفات تجب للذات متنزه عما يوجب إثبات مشاركته للمحدثات قادر على ما لا يكون وقوعه من المستحيلات ومن جملته انبعاث الرسل وتأييدهم بالمعجزات ومستند المعجزات أسلوب العقل أو العرف
(1/119)
 
 
وأما درك حقيقة الإله فمن مواقف العقول وكذا كل ما يتوقع في القيامة ما لم يرد به النص ولا مجال للعقل فيه وكيف لا والعلم إما مهجوم عليه أو مستند إلى مهجوم وحقيقة الإله لا يهجم على دركها ولم يسبق لنا علم هجمي بما يفضي إليها نعم ندرك حقيقة ما نحسه ونعانيه لأن وكذا حقيقة الآلام واللذات
(1/120)
 
 
الفصل الرابع أدلة العقل تتعلق بمدلولاتها لأعيانها
والحدوث يدل على المحدث بعينه والسمعيات لا تدل لأعيانها فإنها عبارات تفهم بالإصلاح لا يتعدى الإصطلاح بها على نقيضها وأما المعجزة تدل على الصدق وتستمد من أسلوب العقل ليتبين به أنه فعل فاعل ومن أسلوب العرف إذ لا مناسبة بين شق القمر وصدق الرسول ولكن القائم بين يدي الأمير إذا ادعى أنه رسوله واقترح عليه في روم تصديقه أن يخرق عادته ففعل علم على الضرورة صدقه ولهذا لم يعترف أحد بالمعجزة إلا واعترف بالنبوات
(1/121)
 
 
الفصل الخامس فيما يستدرك بمحض العقل دون السمع أو ما يشتركان فيه
والقول الضابط في ذلك أن كل ما يمكن إثباته دون إثبات كلام الباري كمعرفة الله تعالى وصفاته ودرك استحالة المستحيلات وجواز الجائزات ووجوب الواجبات العقلية دون التكليفية بأسرها فيستحيل دركه من السمع وأما الذي لا يدرك إلا بالسمع فكل ما لا يمكن إثباته إلا بعد إثبات الكلام فلا يدر بمحض العقل إذ السمع مستنده الكلام فلا يثبت أولا دون إثبات الكلام وتردد بين جهة الجواز فمأخذه السمع على التجرد ومنها ما يجوز أن يؤخذ منهما كخلق الأعمال وجواز الرؤية وكذا كل ما يجول العقل فيه فلا نتوقف في ترتيبه على تقديمه على الكلام ثم السمعيات مراتب فما قرب من المعجزة كان أوضح فإنها من أدلة السمع وهي كالبديهة وقد في المعقولات ثم دونها القرآن
ثم الأخبار المتواترة وقربه من المعجزات كقرب النظريات من البداية
(1/122)
 
 
كتاب البيان
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في حد البيان
وفيه ثلاث عبارات إحداها قول أبي بكر الصيرفي إنه إخراج الشئ من حيز الإشكال إلى حيز التجلي وهو فاسد فإن الحيز والتجلي من العبارات المنقوضة وقد كثر الإرتباك فيه والبيان في نفسه أبين منه ولا يحد الشئ إلا بعبارة بينة تزيد في الوضوح عليه
(1/123)
 
 
الثانية قول بعض أصحابنا البيان هو العلم وهذا فاسد إذ لو جاز ذلك لقيل أيضا العلم هو البيان ويحد به ويخرج عنه علم الباري سبحانه إذ البيان مشعر بتبيين مفتتح ثم يقال انظر إلى بيانه يعني إلى عبارته وتقريبه المعاني إلى الأفهام الثالثة
ما قاله القاضي إن البيان هو الدليل يقال بين الله الآيات لعباده أي نصب لهم أدلة دالة على أوامره ونواهيه ثم الدليل قد يحصل بالقول والفعل والإشارة وهذا هو المختار والله أعلم
(1/124)
 
 
الفصل الثاني في مراتب البيان
وهي باتفاق الأصوليين خمسة ولكنهم اختلفوا في ترتيبها على ثلاث مقالات قال الشافعي رضي الله عنه المرتبة الأولى النص الذي لا يختص بدرك فحواه الخواص المتأكد تأكيدا يدفع الخيال كقوله وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة الثانية النص الذي يختص بدركه بعض الناس كقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة الآية إذ لا بد من فهم معنى الواو ومعنى إلى الثالثة ما أشار الكتاب إلى جملته وتفصيله محال على الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله سبحانه أقيموا الصلاة وقوله وآتوا حقه يوم حصاده
(1/125)
 
 
والمرتبة الرابعة ما يتلقى أصله وتفصيله من الرسول عليه السلام الخامسة ما لا مستند له سوى القياس واعترض عليه بالإجماع فإنه لم يذكره وهو أقوى من القياس
المقالة الثانية إن المرتبة الأولى نصوص الكتاب والسنة والثانية ظواهرهما والثالثة المضمرات كقوله فعدة من أيام أخر الرابعة الالفاظ المشتركة مثل القرء وغيره والخامسة القياس المستنبط من موقع الإجماع وهذا مزيف من وجهين أحدهما أنه أخر المضمرات عن الظاهر وهو معلوم بالضرورة والآخر أنه عد القرء من البيان وهو مجمل إذ ثبت تردده واشتراكه
(1/126)
 
 
المقالة الثالثة إن المرتبة الأولى أقوال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة والثانية أفعاله كصلاته ووضوئه الثالثة إشارته كقوله الشهر هكذا هكذا هكذا وسكوته وتقريره الرابعة المفهوم ثم ينقسم إلى مفهوم مخالفة وموافقة كمفهوم تحريم الشتم من آية التأفيف الخامسة الأقيسة وهذا مزيف لأن فهم حظر الضرب من آية التأفيف مقطوع به فكيف يؤخر عن الأفعال والإشارات والمختار إن البيان هو دليل السمع فيترتب على ترتيب الأدلة فما قرب
من المعجزة فهو أقوى كالنظر القريب من مرتبة الضرورة
(1/127)
 
 
الفصل الثالث تأخير البيان عن وقت الحاجة محال لأنه من جنس تكليف ما لا يطاق وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز والمعتزلة منعوا ذلك ومنعوا جواز تأخير التخصيص عن العام إلى وقت الحاجة ومنهم من جوز تأخيره ولم يجوز تأخير الخصوص لأن العام يعمل بظاهره والمجمل لا يعمل به ونحن نتكلم في جوازه ثم في وقوعه فنقول
(1/128)
 
 
أولا يتصور أن يقول السيد لعبده خط هذا الثوب غدا ولا يبين له كيفية خياطته في الحال فإذا تصور وقوعه فلا مأخذ لإستحالته فإن العقل لا يقبح ذلك في العادات وإن تلقوه من الاستصلاح فلا نقول به ثم لعل الله علم أنه لو بين في الحال لطغوا وعصوا فتدرج في البيان ليمتثلوا ثم سلموا لنا جواز تأخير النسخ والنسخ عندهم بيان وقت التكليف وهذا تأخير البيان وآية وقوعه قصة موسى عليه السلام في تأخير بيان البقرة إلى المراجعة
وقصة نوح عليه السلام في تأخير بيان الأهل حتى ظن إن ابنه من أهله والنبي عليه السلام في ابتداء أمره أمر بالصلاة والزكاة والحج ثم بيانه ذكره على طول الدهر ولم يذكره على الفور
(1/129)
 
 
فإن قالوا فجوزوا موت النبي عليه السلام قبل البيان قلنا يجوز وتبين أن لا تكليف ثم يعكس عليه في النسخ وإن قالوا هذا إلغاز قلنا لا يعد ذلك إلغازا في العرف
(1/130)
 
 
القول في اللغات وفيه مسائل قال القائلون اللغات كلها اصطلاحية إذ التوقيف يثبت بقول الرسول عليه السلام ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة وقال آخرون هي توقيفة علي إذ لا اصطلاح يفرض بعد دعاء البعض البعض بالإصطلاح ولا بد من عبارة يفهم منها قصد الإصطلاح وقال آخرون ما يفهم منه قصد التواضع توقيفي دون ما عداه ونحن نجوز كونها اصطلاحية بأن يحرك الله تعالى رأس واحد فيفهم الآخر أنه قصد الإصطلاح ونجوز كونها توقيفية بأن يثبت الرب تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات ثم يتعلم البعض من البعض وكيف لا يجوز في العقل كل واحد منها ونحن نرى الصبي يتكلم بكلمة ابوبه حتى ويفهم ذلك من قرائن احوالهما في حال صغره فإذا الكل جائز
(1/131)
 
 
وأما وقع أحد الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع عليه وقوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ظاهر في كونه توقيفا وليس بقاطع
إذ يحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم مسألة اختلفوا في أن اللغات هل تثبت قياسا ووجه تنقيح محل النزاع أن صنع التصاريف على القياس ثابت في كل مصدر نقل بالإتفاق أو هو في الحكم المنقول وتبديل العبارات ممتنع بالإتفاق كتسمية الفرس دارا الدار فرسا ومحل النزاع القياس على عبارة تشير إلى معنى آخر وهو حائد عن منهج القياس كقولهم للخمر خمر لأنه يخامر العقل أو يخمر وقياسه أن يقال مخامر أو مخمر فهل تسمى الأشربة المخامرة للعقل خمرا قياسا
(1/132)
 
 
وكذا قولهم استحق البعير فهو حق فإنه مشتق وجوز الأستاذ أبو اسحق مثل هذا القياس والمختار منعه وهو مذهب القاضي قلنا إن كان اثبات هذا القياس مظنونا فلا يقبل إذ ليس هذا في مظنة وجوزب تعالى عمل وإن كان معلوما فاثبتوا مستنده ولا نقل من آهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع عليه السلام ومسلك العقل ضروريه ونظريه فإن منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فتحكم لان مستند ذلك التأسي بالصحابة فما مستند هذا القياس ثم اطبقوا على أن البنج لا يسمى خمرا مع كونه مخمرا
(1/133)
 
 
فإن سموه فليسموا عمر الدار قارورة لمشاركتها القارورة في المعنى وهذا محال مسالة قسمت المعتزلة ألاسامي النبي إلى اللغوية والدينية والشرعية فاللغوية وإن ما لم يتصرف فيه والدينية الإيمان والكفر والفسق ووجه تغيره إن الإيمان مجرد التصديق في اللغة والكفر الستر والفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها ثم دخلها تخصيص في الدين
(1/134)
 
 
وميزوها عن الألفاظ الشرعية لأنهم ظنوا أنها مستدركة بمحض العقل والشرعية كالصلاة والصوم والحج وقد قال بعض أصحابنا إنها منقولة بالكلية عن وضعها في اللغة وقال القاضي هي مبقاة على ما كانت عليه ولم تغير إذ الصلاة الدعاء والصوم الإمساك والحج القصد إلى الزيارة وقد بقيت عليها في الشرع وهذا مزيف إذ اسم الصلاة يشمل الركوع والسجود شرعا فإن قيل سمي به لقربه منه فنعلم أن أهل اللغة لا يسمون الواقف بين يدي الأمير على الخضوع مصليا لأنه يدعوه في وقوفه والمصير إلى أنها منقولة بالكلية محال لما قاله القاضي
والمختار لا يتبين إلا بمقدمة وهي أن تصرف أهل اللغة فيما تصرفوا فيه ينقسم إلى
(1/135)
 
 
ما غالب التصرف فيه الوضع كتخصيصهم كما الدابة ببعض الحيوانات حتى لا يسمى الآدمي دابة وإن كان يدب وإلى ما يتغير به الوضع كتسميتهم الخمر محرمة لارتباط التناول بها وهو المحرم وكتسميتهم الأم محرمة والمحرم وطؤها فتصرف الشرع في اللغة على هذين الوجهين إذ خصص الحج بزيارة مكة حتى لا يسمي زيارة بقعة أخرى حجا وسمي الإمساك عن الأكل والشرب والجماع صوما دون غيره وكاحتكامه هو بتسمية الفعل صلاة لقربه من الدعاء مسألة اللغة تشتمل على المجاز والحقيقة وقال الأستاذ لا مجاز فيها وخالفه القاضي فيه
(1/136)
 
 
ونحن نجمع بينهما إذ عني الأستاذ بنفي المجاز أن جميع الألفاظ حقائق ويكتفي في كونها حقائق بالاستعمال في جميعها وهذا مسلم ويرجع البحث لفظيا فإنه حينئذ يطلق الحقيقة على المستعمل وإن لم يكن بأصل الوضع ونحن لا نطلق ذلك لأن المجاز ثابت بثبوت الحقيقة وهذا لا ينكره القاضي ولا نظن بالأستاذ إنكاره الاستعارات مع كثرتها في النظم والنثر وتسويته بين تسمية الشجاع والأسد أسدا
مسألة القرآن يشتمل على المجاز وعلى الحقيقة خلافا للحشوية
(1/137)
 
 
ودليله كثرة الاستعارات سيما في سورة يوسف وإن عنوا بنفيه أن المجاز هو الكلام المردود ولا يوصف به كلام الباري سبحانه فالأمر كما قالوه مسألة قال أبو حنيفة رحمه الله الفرض هو ما يقطع بوجوبه والواجب ما يتردد فيه وعندنا لا فرق إذ الشارع لم ينص عليه وأهل اللغة لم يخصصوا واشتقاق الفرض لا يقتضيه فإنه القطع ومنه المفراض وسلم والفرائض
(1/138)
 
 
وفرضة القوس الحزة التي تستقر فيها عروة الوتر فعلى هذا تجوز تسمية التقرب فرضا والوجوب هو الثبوت يقال وجب الجدار إذا سقط ووجبت الشمس إذا ثبتت عند الغروب في نظر الناظرين ثم نقضه بتسمية الطهارة عند الفصد فرضا وهو متردد فيه مسألة صيغة النفي بلا إذا اتصلت بالجنس لم تقتض الإجمال كقوله لا عمل إلا بنية ولا صيام ولا صلاة وزعمت المعتزلة أنها مجملة من حيث إنه يتردد بين نفي العمل حسا وبين
نفيه حكما وهذه جهالة
(1/139)
 
 
إذ يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد مخالفة المحسوس وقال بعض الفقهاء هو عام فيهما وهذا محال لأن العام هو الذي يمكن تقدير عمومه ويستحيل أن يكون نفي العمل مندرجا تحت اللفظ قطعا ولا يفهم من الشارع ذلك وقال آخرون هو عام في نفي الكمال والجواز وهذا فاسد لأن نفي الجواز يتضمن نفي الكمال لا محالة فلا معنى لتعميم نفيهما وقال القاضي هو مجمل لتردده بين نفي الجواز والكمال والمختار أنه ظاهر في نفي الجواز محتمل لنفي الكمال والمتمسك به متمسك بظاهر لا يدرأ إلا بدليل والله أعلم
(1/140)
 
 
باب في مقدار من النحو ومعاني الحروف
الكلم ينقسم إلى اسم وفعل وحرف ولم يقل الكلام لأنه المفهوم والحرف لا يفهم وكذا الاسم والكلام المفهم جملة مركبة من مبتدأ وخبر كقولك زيد منطلق
أو فعل وفاعل كقولك قام زيد أو شرط وجزاء كقولك إن جئتني أكرمتك وقولك يا زيد أضمر فيه النداء وخاصة الاسم قبوله للجر والتنوين ودخول الألف واللام عليه وحده ما يشعر بمسمى من غير إشارة إلى زمن محصل
(1/141)
 
 
والفعل يخالف الاسم في خاصيته وهي صيغ دالة على أحداث مشعرة بزمان منقسم انقسام الزمان من ماض وحاضر ومستقبل وأما الحرف الذي جاء لمعنى تنعدم خاصية الاسم والفعل فيه ويظهر المعنى في غيره ثم الاسم أقوى في التأصيل من الفعل لأنه مستقل ويتركب من جنسه جملة مفيدة كقولك زيد قائم وما من فعل إلا ويحدث به ولا يحدث عنه فيقدر اسما والحرف دون الفعل فإنه لا معنى له في نفسه ثم الاسم ينقسم إلى المبني والمعرب
(1/142)
 
 
أما المبني كقولك من وكيف وأين ومتى وإنما سميت مبنية لأنها لا تتحرك كالأبنية وتسمى غير المتمكن لأنها تضاهي الحروف في صيغها والمعرب ينقسم إلى المتمكن والأمكن فالمتمكن كقولك عمر والأمكن كقولك زيد ويدخله الاعرابات الثلاثة بخلاف عمر
والفعل ينقسم إلى ماض ومستقبل فالماضي كقولك قام والمستقبل كقولك يقوم وتقوم وأقوم فهذه زيادات وأصل الزيادات حروف المد واللين وا ى فأما الياء فقد زيد في قولك يقوم والألف لا يمكن البداية بها فأبدل بالهمزة في قولهم أقوم وأما الواو فالبداية بها تشبه صياح الكلب فأبدل بالتاء لأنها تقوم مقام الواو
(1/143)
 
 
إذ أصل التخمة الوخمة وأصل التراث الوراث وأما النون فإنما زيد لأن فيها غنة تشبه غنة الياء وسمي المستقبل مضارعا لأنه يضارع الاسم إذ يشابه إعرابه ويقوم مقام الإسم فتقول جاء زيد يركض يعني الراكض وأما الحروف فتنقسم إلى مقطعة وإلى حروف المعاني فأما المقطعة فكالباء عنه والواو والفاء وثم فأما الباء فترد للإلصاق كقولك مررت بزيد وبمعنى على كقوله من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وبمعنى في كقوله تعالى بدعائك رب شقيا وقيل معناه لأجل دعائك وقيل معناه بسبب دعائك
وقد ترد للتعدية كقولهم دخلت به الدار وهو بدل الهمزة
(1/144)
 
 
ولا يجمع بينهما فهما متعاقبان وقوله أسرى بعبده بمعنى سرى وهي لغة فصيحة قال الشاعر: إن السري إذا سرى فبنفسه ابن السري إذا سرى أسراهما وظن ظانون أنه للتبعيض في مصدر يستقل دونه كقوله وامسحوا برؤوسكم وتمسكوا بقولهم أخذت زمام الناقة إذا أخذها من الأرض وأخذت بزمامها إذا أخذ بطرفه وليس الباء للتبعيض أصلا
(1/145)
 
 
وهذا خطأ في أخذ الزمام أيضا ولكن من المصادر ما يقبل الصلات كقولهم شكرت له ونصحت له وجلست بصدده وأما التبعيض في مسألة المسح فمأخوذ من معنى المصدر فمصدر المسح لا يشير إلى الاستيعاب كمصدر الضرب بخلاف الغسل وأما الواو فهي للعطف وهي أم العواطف وتقتضي الاشتراك في الإعراب والمعنى فتقول رأيت زيدا وعمرا يعني هما مرئيان وقولك وعمرا لا يستقل فيقتضي العطف ولو استقلت الجملة الثانية فالواو للنسق لا للعطف
(1/146)
 
 
وظن ظانون أنه للعطف وتمسكوا به في مسألة المحدود في القذف وهو خطأ إذ قد يجمع بين جمل متناقضة كقولك أكرمت زيدا وأهنت عمرا فلا عطف إذن
(1/147)
 
 
وليس الواو في وضعه للترتيب بدليل دخوله على التفاعل تقول تضارب زيد وعمرو ولا تقول ثم عمر
(1/148)
 
 
وليس للجمع ولكنه صالح له إذ لا يبين أثره على التثنية فلو قلت رأيت زيدين لم يقتض جمعا وقول الرجل لزوجته قبل الدخول أنت طالق وطالق إنما تقع الواحدة لأن الطلاق يساق إليها وقد بانت فالثاني واقع بعد البينونة لا لكونه للترتيب وقد يكون للجمع كقولهم جاء البرد والطيالسة واستوى الماء والخشبة معناه معها وكقولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن يعني لا تجمع ولو أفردت جاز وإذا قلت وتشرب اللبن كان النهي عنهما أفرادا وجمعا
(1/149)
 
 
قال الشاعر
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذ فعلت عظيم وهو منع عن الجمع وأما الفاء فهي للتعقيب كقولك إذا دخلت الدار فاجلس وللترتيب فإنه من ضرورة التعقيب وللتسبب إن كقولك إن جئتني فأكرمك وبمعنى الواو كقوله بسقط اللوى بين الدخول فحومل
(1/150)
 
 
وقال سيبويه أفاد التعقيب فمعناه فالممر بعده إلى حومل ومعناه أنه موضع تجوز على صوب الدخول لا على عرضه وأما ثم فهي لترتيب الفعل أو لترتيب الكلام قال الشاعر إن من ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده يعني ثم أفهم أنه كان كذا
(1/151)
 
 
وظن ظانون منهم أنه ليس للترتيب وليس كذلك وهذا كقوله والأرض بعد ذلك دحاها وهي قد دحيت قبل ذلك ومعناه ثم أفهم وأما حروف المعاني
فقد تغير الإعراب والمعنى كقولهم لعل زيد منطلق وهو للترجي وقد لا تغيرهما كقوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم يعني فبرحمة وقد تغير المعني دون الإعراب كقوله هل زيد منطلق وقد تغير الإعراب دون المعنى كقوله إن زيدا منطلق وقال سيبويه إن للتحقيق ولا زيادة في لغة العرب وقوله فبما رحمة من الله يشعر بالتنبيه والحث كقوله صه ومه
(1/152)
 
 
والعامل لا يكون معمولا فيه كقولك لعل زيدا والمعمول لا يكون عاملا كقولك زيدا إلا المضارع فإنه عامل ومعمول فيه والعامل الذي يتصل بالاسم لا يتصل بالفعل كقولك لعل والمتصل بالفعل لا يتصل بالاسم كقولك أن ونتكلم في خمسة عشر حرفا منها ما وقد يقع حرفا لا يفيد كقوله فبما رحمة من الله وقد يقع مفيدا للنفي في غيره كقولك ما زيد قائم وهي على لغة أهل الحجاز عاملة فتقول ما هذا بشرا وعند بني تميم لا تعمل فتقول بشر وهي كافة لعمل إن عند الكوفيين فتقول إنما زيد منطلق وقال البصريون لا تكف فتقول إنما زيدا منطلق
وقد تقع اسما منكورا بمعنى الاستفهام فتقول ما عندك
(1/153)
 
 
فجوابه إنه ثوب أو فرس وبمعنى الشرط كقولك ما تفعل أفعل أي الفعل الذي تفعله أفعل وبمعنى التعجب كقولك ما أحسن زيدا أي شئ حسن زيدا وبمعنى الصفة كقولك مررت بما معجب وقد يقع موصولا بفعل فتقول علمت ما عندك أي ما هو قار عندك وبمعنى المدة كقولك أقوم ما تقوم وبمعنى المصدر كقوله تعالى والسماء وما بناها أراد وبناءها وبمعنى الذي كقولك أتخمت مما أكلت يعني من الذي أكلت أو من أكلي بمعنى المصدر أو من طول أكلي بمعنى المدة ولم يعبر بما عمن يعقل بخلاف من وقال أبو عبد الله المغربي يعبر به عنه كقوله والسماء وما بناها أي ومن بناها فصل
أو للترديد تقول رأيت زيدا أو عمرا
(1/154)
 
 
وكذا أم ولكن أم قريبة للإستفهام فتقول أزيدا أكرمت أم عمرا ولا تقول أو عمرا وقد يراد به التخيير في آحاد الجنس كقولك جالس الحسن
أو ابن سيرين يعني هذا الجنس وقيل بمعنى الواو كقوله مائة ألف أو يزيدون والأصح أن معناه هم قوم إذا رأيتهم ظننتهم مائة ألف أو يزيدون والأصح كقوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى يعني قول من يرتجى أنه يتذكر أو يخشى وهذا على قدر فهم المخاطب وقد يراد بها حتى كقوله لا أفارقك أو تقضيني حقي معناه حتى تقضيني ديني
فصل هل للإستفهام ولا يغير الإعراب
(1/155)
 
 
وقد يكون بمعنى قد ك قوله تعالى هل أتى على الإنسان والمختار أن معناه استدعاء التقرير كقوله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان وإذا اتصل به لا كان للتخصيص فصل لو ترد لامتناع الشئ لامتناع غيره كقولك لو جئتني أكرمتك ولولا لامتناع الشئ لثبوت غيره كقولك لولا زيد لجئتك وقد ترد لو بمعنى إن كقوله ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم معناه وإن اعجبتكم
وإذا اتصل به لا كان للتخصيص كقوله فلولا نفر من كل فرقة
(1/156)
 
 
فصل من حرف جار لا يرد إلا على الاسم بمعنى التبعيض كقوله أخذت من مال زيد أو للعموم كقوله ما في الدار من رجل أو بمعنى على كقوله سبحانه ونصرناه من الذين كذبوا بآياتنا أو بمعنى ابتداء الغاية كقوله من البصرة إلى بغداد ويجوز أن تقول عن البصرة ومن هذا الجنس قولهم فلان أفضل من فلان إذا ساواه ثم ابتدأ فضلا ولا يقال عن فلان لأن من صريح في اقتضاء الإبتداء من غاية بخلاف عن وجوز في قولهم عن البصرة لأن الإعتماد ثم على الجنس فهو معلوم ويجوز أن يقول تلقنت عن فلان وهو أفصح من قوله منه ولا يقول رويت منه لأن تخييل التبعيض في الرواية بعيد وهو متخيل على الجملة في العلم فكأنه يأخذ بعض عمله وعن قد ترد اسما فيقال أخذته من عن الفرس
(1/157)
 
 
فصل إلى إذا اتصل بها من كان صريحا في التحديد
ومطلقة قيل للجمع وقيل للتحديد وقال سيبويه ظاهره للتحديد ويحتمل الجمع كقوله تعالى إلى المرافق ومن أنصاري إلى الله فصل على قد تقع فعلا كقولك علا يعلو وتقع اسما كقولك أخذته من على الفرس وحرفا كقولك لي عليك حق وفيه شوائب الاسم يعني الحق ثابت له وقال أبو عبد الله لا تقع قط فعلا وقولهم علا ليس ذلك هذه الحروف وهو إنما يطابق في اللفظ
(1/158)
 
 
فصل بلى لإستدراك النفي كقوله تعالى ألست بربكم قالوا بلى ولو قال نعم لكان معناه نفي الإلهية وجواب القائل إذا قال أليس زيد في الدار عند روم الإثبات يقال بلى وهذا لا يعتبر في الفقه في الإقرار بل يسوى بينهما إلا في حق النحويين فصل من لا يقع إلا اسما ويعبر به عمن يعقل في الاستفهام كقولك من عندك أو في الشرط كقولك من جاءك فأعطه درهما
(1/159)
 
 
فصل إذا تصلح للشرطية فيقول إذا دخلت الدار ولا يتمحض له لأن شرط الشرط أن يرتبط بما لا يقطع بوقوعه كالدخول ويصح أن يقول إذا طلعت الشمس وإذا جاءت القيامة ولو قال إن جاءت القيامة فهذا تردد
فصل إذن للتعليل كقول عليه السلام في حديث الرطب فلا إذن وقيل إنه بمعنى إذا وهو فاسد
(1/160)
 
 
فصل حتى بمعنى الغاية بمعنى الغاية كقوله اكلت السمكة حتى رأسها أي ويكون للعطف تقول حتى رأسها أي ورأسها ويكون بمعنى الاستئاف ومعناه حتى رأسها اكلته وهذا كقول الشاعر ألقى الصحيفة كي يخخف إلا رحله * والزاد حتى نعله ألقاها وبمعنى إلى كقوله حتى تقضيني ديني ولا تعطف به الا ما كان من جنس المعطوف فتقول اكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى الخبز ولو قلت والخبز جاز
(1/161)
 
 
كما تقول رأيت القوم حتى زيدا او وزيدا ولا تقول حتى الحمار ولكن تقول والحمار فصل مذ حرف يتصل بالزمان دون المكان يقال مذ الجمعة كما يقال من الجمعة وقد يقع اسما
(1/162)
 
 
كتاب الاوامر
الأمر قسم من اقسام الكلام واصل الكلام قد انكره المعتزلة فلا بد من تقديمه والكلام فيه في ثلاثة فصول
الفصل الأول في اثباته عليهم
والكلام عندنا معنى قائم بالنفس على حقيقة وخاصية يتميز بها عما عداه وأما العبارات فهل تسمى كلاما مجازا أو حقيقة تردد فيه شيخنا أبو الحسن وهو متلقى من اللغة وانكرت المعتزلة جنس الكلام وزعمت انه فعل حركات مخصوصة
(1/163)
 
 
واصوات مقطعة وزعموا ان الرب تعالى متكلم بمعنى انه فاعل الكلام والدليل على إثباته ثلاثة مسالك أحدهما يختص بالكلام الباري سبحانه وقد نطقت الامة بقولهم قال الله تعالى ونطق به القران العزيز كما نطقت بقولهم علم الله
فليدل على معنى هو قائل به ويستحيل ان يكون قائلا بفعله اذ لا حكم للفاعل في اخص اوصاف الفعل ولو جاز ان يقال هو قائل بكلام يخلقه في غيره لجاز ان يقال هو متحرك بحركة يخلقها في غيره المسالك الثاني انهم ردوا الكلام الى الفعل ونحن نعلم قطعا جواز الاحاطة بكون الشخص متكلما قبل التنبه للفعل وكونه فاعلا المسلك الثالث وهو الاقوى في اثبات الغرض ان من قال لعبده افعل صادف عند
(1/164)
 
 
الامر طلبا جازما قائما بذاته فأبداه بقوله افعل وهو معبره فيه ومدلوله فهو الكلام الذي ينبغي اثباته وهو معلوم على الضرورة وليس ذلك ارادة لمعنيين احدهما إن الإرادة تنقسم إلى تمن لا ينفك عن تردد ولا تردد في هذا الطلب وإلى قصد جازم ويستحيل تعلقه بفعل الغير فإنه غير مقدور للمريد ولأن السيد المعاتب من جهة السلطان بسبب ضربه عبده إذا اعتذر باستعصائه صلى فكذبه فأراد تحقيقه عيانا فيأمر عبده وهو يبغي عصيانه لتمهيد عذره وليس مريدا له ولا وجه لإنكار كونه أمرا فإن العبد فهم منه الأمر وميز بينه وبين الهاذي وقال ولو أحاط أيضا بقرائن الأحوال بمعنى غرض السيد يفهم الأمر ولكن يعلم منه إرادة العصيان فلا وجه لحمل ذلك الطلب على إرادة إيقاع
الصيغة أمرا تمييزا له عن الحكاية والهذيان لأن العبد يفهم طلبا وراءه ولأن الصيغة بعد أن صارت أمرا فله معبر ومدلول وهو الطلب الذي ذكرناه
(1/165)
 
 
الفصل الثاني في حد الكلام
وقد قيل إنه حديث النفس أو نطق النفس أو مدلول أمارات وضعت للتفاهم وهو الأصح ولعلنا نقول لا حد له كما ذكرنا في حد العلم إذ العبارات المنقولة قاصرة على المعاني المعقولة
(1/166)
 
 
الفصل الثالث في أقسام الكلام
والمختار فيه أنه خمسة طلب وهو متناول للأمر والنهي والدعاء وخبر واستخبار وتنبيه وهو مشير إلى النداء وتردد وهو متناول للتمني والترجي وأنواعه ولو حذفنا التردد اكتفاء بقسم التنبيه أو الخبر وكون التردد تنبيها من وجه للزم الاكتفاء به في الكل إذ الأمر والنهي والخبر والاستخبار أيضا فيه تنبيه وخبر وإذا ثبت أصل الكلام فنقول الأمر قول جازم يقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ويندرج
تحته الندب وقيل قول يتضمن إيجاب المأمور به ويخرج منه الندب
(1/167)
 
 
واستدل القاضي على صحة الحد الأول وكون الندب أمرا بكونه طاعة ولم يقع طاعة لكونه مرادا إذ المعصية مرادة فوقع طاعة لكونه مأمورا به وهذا تحكم على اللغة إذ يقال له وقع طاعة لكونه مطلوبا فإن سمي كل مطلوب أمرا قياسا على الواجب فلا قياس في اللغة ولم ينقل متواترا ونقل الآحاد لا يوجب العلم وأما حد المعتزلة فإنهم قالوا الأمر قول القائل افعل فأبطل عليهم بقوله قم وكل وكل أمر مشتق من مصدر آخر وبقوله قم لتأكل فإن الأكل مأمور به لا على صيغة الأمر
(1/168)
 
 
ثم قالوا لا بد من إرادة إحداث الكلمة وإرادة المأمور به وإرادة إيقاع الصيغة المحدثة أمرا تمييزا له عن الحكاية وخالفهم الكعبي في الإرادة الأخيرة وقال إنما تتميز عن الحكاية بصفة ذاتية فقيل له وكيف يتميز الشئ عن مثله بصفة ذاتية فقال وكيف يتميز عنه أيضا بالإرادة والجوهر لا يتميز عن الجوهر بالإرادة في ذاته فكفونا باضطرابهم أنه مؤنة الكلام عليهم فهذه مقدمات الكتاب
ومقصوده يحويه أربع عشرة مسألة مسألة (1) اختلفوا في مفهوم صيغة الأمر ومقتضاه وهو قول القائل افعل
(1/169)
 
 
فقال الجبائي يدل على كون المأمور به مرادا والوجوب لا يتلقى منه وقال بعض الناس يدل على رفع الحرج والإباحة لأنه متردد بين الوجوب والندب وهذا القدر مستيقن وهذا من جنس الاستصحاب الفقهي ولا تؤخذ منه اللغات ما لم ينقل أن قولهم افعل موضوع عندهم للإباحة ففيه المباحثة وقال الفقهاء هو للوجوب بدليل أوامر الشارع وأمر الله تعالى إبليس بالسجود واستيجاب المأمور للتعزير بتركه وكل ذلك يمكن تلقيه من القرآن وإنكار كون اللفظ بمجرده دالا عليه
(1/170)
 
 
فلا دليل فيه فأما شيخنا أبو الحسن والقاضي وجماعة من الأصوليين فإنهم توقفوا فيه وقالوا لا مفهوم له إلا بقرينة مخصصة له بإحدى جهات الاحتمال ثم قال بعضهم اللفظ مشترك بين هذه المعاني المحتملة كلفظ العين مشتركة في العين والميزان وعين الشمس والماء وغيرها وقال آخرون يتوقف أيضا
ثم استدلوا على المخصصة بأن العقل لا يهتدي إلى تخصيص اللغات وصريح النقل متواترا لم يوجد والآحاد ولو فرض فلا يورث العلم ولو تمسكتم بالنقل ضمنا زاعمين أنا فهمنا ذلك من إطلاق أهل اللغة إياها في شئ من ذلك يخصصها به ومن فهمهم ذلك منها فما الذي يؤمنكم من اعتمادهم في الفهم على القرائن دون مجرد الصيغ فإن قلتم الأمر معنى قائم بالنفس فليكن عنه صيغة دالة عليه فلم عينتم وهو هذه الصيغة لكونها دالة عليه تحكما من غير نقل ثم صيغته أن تقول أوجبت كما تقول في الندب ندبت أو استحب
(1/171)
 
 
فنقول للواقفية إن قضيتم بكون اللفظ مشتركا كلفظ العين فمن أين أخذتموه أمن عقل أم نقل متواتر أو آحاد وندير صلى الله عليه وسلم عليهم معتمدهم ولئن قالوا بحسن الاستفصال من المأمور تبينا تردده قلنا ذلك لتعارض القرائن المتناقضة لا لتردد الصيغة في نفسها فإن قالوا لا ندري أهو مشترك أم لا قلنا نرى أهل اللغة يبحثون عن معاني ألفاظ شاذة لا تتداولها الألسنة فيبرزون معناها فما تراهم تركوا هذه اللفظة مع تكرارها على الألسنة في الساعات والأزمنة في حيز الإجمال ولم يذكروا معناها واستحالة ذلك مقطوع به فلا يخلون وتجاهلهم إذا فيه وإذا أبطلنا المذاهب فالمختار
(1/172)
 
 
أن مقتضى صيغة الأمر في اللسان طلب جازم إلا أن تغيره قرينة
وقد فهمنا ذلك على الضرورة من فرق العرب بين قولهم افعل ولا تفعل وتسميتهم أحدهما أمرا والآخر نهيا وإنكار ذلك خلاف لما عليه أهل اللغة قاطبة ولكن الوجوب يتلقى من قرينة أخرى إذ لا يتقرر معناه ما لم يخف العقاب على تركه ومجرد الصيغة لا يشعر بعقاب والشافعي حمل أوامر الشرع على الوجوب وقد أصاب إذ ثبت لنا بالقرائن أن من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عصى وتعرض للعقاب
(1/173)
 
 
مسألة (2) مطلق النهي محمول على التكرار واختلفوا في مطلق الأمر وهو قول القائل افعل فتوقف الواقفية وزعم غيرهم أنه يختص بفعلة واحدة والمأمور بالقيام يتفصى عن الأمر بقومة واحدة وإليه صار الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وقال الأستاذ أبو اسحق إنه لا بد من قيام مستدام فهو للتكرار عنده وكذا عند المعتزلة وعند أبي حنيفة رحمه الله
(1/174)
 
 
وقد تمسك الأستاذ بمسلكين أحدهما أن النهي للتكرار فكذا الأمر وعضد ذلك بأن الأمر بالشئ نهي عن ضده والمأمور بالقيام منهي عن
القعود فلو نهاه عن القعود صريحا لوجب ترك القعود أبدا وقد نهاه ضمنا وقياسه الأمر على النهي في اللغات غير مسموح ودعواه اقتضاء الأمر بالشئ نهي عن ضده ممنوعة وبعد تسليم جدلا نقول الأمر المطلق عند الخصم كالمقيد بفعلة واحدة فالنهي الذي هو ضمنه يكون بحسبة لا محالة كما إذا صرح بالتقيد بخلاف النهي الصريح مطلقا المسلك الثاني أن مطلق الأمر يقتضي وجوب اعتقاد الوجوب ووجوب العزم على الإمتثال ثم يجب كونهما على الدوام فكذا مقتضاه الثالث وهو الفعل
(1/175)
 
 
قلنا أما اعتقاد الوجوب فيكفي في لحظة فلا يفعل يعد ذلك كالإيمان والمعرفة ثم اعتقاد الوجوب مستند إلى القيام الدلالة على صدق الرسول عليه السلام لا الى مطلق الصيغة وأما العزم فلا يجب إذ لو ذهل حتى أقدم جاز ذلك ثم يبطل ذلك صريحا بالأمر المقيد بفعلة واحدة ووجهه ظاهر وتمسك الفقهاء في معارضتهم بمسلكين أحدهما أن قول القائل قام فلان إخبار عن فعل واحد فكذا قوله قم يتقيد مرة واحدة لأنهما مشتقان من مصدر واحد ووجه الأخبار لا يتفيد فقال بفعل واحد الا بقرينة فلا نسلم
هذا المسلك الثاني ان الرجل إذا قال والله لأدخلن الدار يبر بدخلة واحدة ولو قال
(1/176)
 
 
لا ادخل لا يبر إلا بإنزجار أي أبدا والأمر مشبه بالبر والنهي مشبه بالحنث وهذا أيضا ضعيف لأن البر والحنث محل إحتكام الشرع والعرف فلا يستبان به وضع اللغة والعرف قد يؤثر في وضع اللغة كما يحمل الدرهم على المغشوش في الشراء المطلق ويحمله على النقرة في الإقرار مع استواء اللفظين فالمختار ان الفعلة الواحدة مفهومة قطعا وما عداه متردد فيه متوقف إلى بيان قرينة ودليل ذلك بطلان ما عداه من المذاهب مسالة (3) قال الشافعي وجوب البدار إلى المأمور به لا يفهم من مطلق الأمر خلافا لأبي حنيفة رحمه الله وجماعة من الاصولين
(1/177)
 
 
وتوقف الواقفية فيه وغلا بعضهم وقال لو بادر ايضا لا ندري هل يقع الموقع أم لا وهذا بعيد والذين قالوا بالتراخي تمسكوا بأن الأمر لا يختص بمكان فلا يختص بزمان أيضا
فعورضوا بأنه يختص بمكان بلوغ الأمر فيه فإن في الإنتقال تأخيرا وتمسك الشافعي رضي الله عنه بأن الامتثال مفهوم وليس فيه تعرض للوقت ولا يختص بزمان فيقال له وليس فيه تعرض لجواز التأخير فكيف فهمته وهلا توقفت فيه كالواقفية وتمسكوا أيضا بأن الأزمنة لا معنى لها إلا حركات الفلك وذلك إلى الله تعالى والمرتبط باختياره فعله لا الزمان فينزل اختلاف الزمان منزلة اختلاف الهواء بالصحو والغيم
(1/178)
 
 
وهذا فاسد فإن البدار مقدور وهو قد يكون مقصودا أما الصحو والغيم فلا يرتبط به قصد وتمسك القائلون بالفور بالنهي فإنه على الفور وهذا فاسد فإنه قياس في مقتضى اللغة ثم النهي للاستغراق وذلك لا يتصور إلا بالبدار والخلاف في هذه المسألة ينبني على أن الأمر المطلق يقتضي فعلة واحدة فلاح الفرق وتمسكوا بأن المؤخر تارك فرض متعرض للعصيان فإن قلتم لا يعصي فهذا تغيير للوجوب وإن عصيتموه فليس ذلك إلا لوجوب البدار قلنا لا يكون تاركا إلا باختلاء العمر عنه ولا يعصي إلا به
ثم نعارضهم بالأمر المقيد بالعمر على التوسيع
(1/179)
 
 
وقد أجيب عن هذا بأنه إنما يجوز التأخير بشرط العزم على الإمتثال فإن لم يعزم عصى وهذا فاسد لأن المحذور إثبات وجوب على الفور واللفظ غير مشير إلى زمان وقد أثبتوه ولأنه ترديد للوجوب بين الفعل والعزم لا على التعيين واللفظ غير مشعر به ثم الوجه أن يقال إن غفل ولم يعزم ثم اتفق الإقدام على الفعل فلا يعصي أصلا فالمختار إذن القضاء بأنه لو بادر وقع الموقع ولو أخر توقفنا فيه لما بيناه
(1/180)
 
 
مسألة (4) الأمر بالشئ لا يكون نهيا عن ضده ولا النهي عن الشئ أمر بأحد أضداده لا على التعيين خلافا للأستاذ أبي اسحق والكعبي لأن قول القائل قم لا يقتضي إلا الأمر بالقيام وترك ما عداه يقع من ضرورة الجبلة لا لكونه مقصودا بالأمر بدليل جواز تقدير ذهول الآمر عن جملة أضداده وبدليل تفصي المأمور عن الأمر لو قدر على استحالة الجمع بين القيام
والقعود والاقدام على القيام مع عدم الاتصاف بضد من أضداده محال والأمر يتلقى من فحوى الخطاب لا مما يقع من ضرورة الجبلة وليس ذلك مقصود المخاطب وبغيته وهذا كالسيد يقول للعبد أوجبت عليك كسر هذه الجوزات ثم نهي عن كسر جوزة واحدة فإذا كسر جوزا غيره من الجملة لا يقال إنه ارتسم
(1/181)
 
 
أمرا واجبا إذ اشتغاله به انحجاز ثنا عن كسر الجوزة المنهي عن كسرها وتمسك الأستاذ بأن قول القائل قم لا يتصور امتثاله إلا بترك القعود فترك القعود مضمر فيه والمتصف بالأمر لا محالة متصف بالنهي على هذا التقدير حتى لا يتصور خلو أحدهما عن الآخر وزاد فقال إذا تلازما وجب القضاء باتحداهما به فإن قول القائل قم أمر في نفسه نهي في نفسه كما أن العلم بالسواد والعلم بالعلم به لما تلازما اتحدا وكما اتحد علم الباري بتلازم معلوماته في حقه قلنا قولك المتصف بالنهي متصف بالأمر وعلى عكسه ممنوع إذ فرض ذهول الآمر بالقيام عن أضداده ممكن فكيف ينهى عما هو ذاهل عنه وقولك التلازم مشعر بالاتحاد تحكم لا يغني فيه الاستشهاد والقياس فلا بد فيه من مسلك عقلي ثم العلم بالعلم بالسواد غيره عندنا فلا نسلم
(1/182)
 
 
وعلم الباري سبحانه لا يتحد للتلازم إذ يلزم على مساقه اتحاد علمه وحياته وسائر صفاته فإنها متلازمة في حقه ثم الأمر بين أن يحد بقوله افعل وهو متميز عن قوله لا تفعل أو يحد بطلب جازم وذلك يفرض مع الذهول عما عداه مسألة (5) الشريعة تشتمل على المباح خلافا للكعبي واستدل بأن كل فعل يعد مباحا متضمن تركا لأمر محظور وترك المحظور واجب إلا أن إحدى جهاته لا يتعين وذلك لا ينافي وجوبه كخصال الكفارة فقيام الرجل إذا تضمن تركا للزنا وقع واجبا وهذا منه بناء على أن النهي عن الشئ أمر بأحد أضداده وقد أبطلناه ثم يلزمه وراء ذلك شيئان أحدهما إنكار النوافل والتطوعات فإن فيها ترك الزنا فليقع على جهة الوجوب وهذا خرق الإجماع
(1/183)
 
 
والثاني أن يصف الزنا بالوجوب فإن فيه ترك القتل والسرقة وإن قال واجب من وجه محرم من وجه كالصلاة في الدار المغصوبة فليقل القيام مباح من وجه واجب من وجه وقد أنكره
مسألة (6) الأمر بالشئ أمر بما لا يتم الواجب إلا به إذ ثبت أن صحة الصلاة موقوفة على الطهارة فالأمر المطلق بالصلاة الصحيحة أمر بالطهارة خلافا لبعض العلماء ودليله أن المأمور لا يكون ممتثلا إلا بفعل الطهارة فإذا وجبت فلا مستند لوجوبه إلا الأمر بالصلاة فإنه من ضرورة الصلاة الصحيحة وهو كبعض أجزائها بعد أن ثبت أنه شرطها وليس هذا يعود إلى الجبلة من ترك القعود وتوقف القيام عليه فإنا لو قدرنا عدم الاستحالة على فعل القيام مع القعود كان
(1/184)
 
 
ممتثلا والمقتصر على الصلاة غير ممتثل للأمر بصلاة صحيحة مسألة (7) الأمر بالشئ مشعر بوقوع المأمور به عند الامتثال مجزئا عن جهة الأمر إذ لا معنى للأجزاء إلا موافقة الأمر والامتثال قد حصل فأجزء هذا وأنكر بعض الفقهاء هذا وقال المفسد حجه بالجماع مأمور بأفعال الحج ولا يجزئه عن حجة الإسلام وهذا فاسد فإنه مأمور بالمضي في حج فاسد وهو مجز عن هذه الجهة
(1/185)
 
 
مسألة (8)
الجائز خلاف الواجب وكذا الواجب خلاف الجائز وقال بعض الناس كل واجب فهو جائز فنقول إن عنيتم به انه لا حرج في فعل الواجب فهو مسلم وإن عنيتم به أن الجواز حكم فمحال إذ الجواز يشعر بالتخيير والوجوب يشعر بالتعيين فلا يصطحبان وفائدته أن الوجوب إذا نسخ عن الشئ لم يبق للإباحة حكم في الشرع بل يتوقف فيه وقالوا بنفي الجواز وهذه خيرة أثبتوها من غير نص يشعر بها مسالة (9) يجوز الأمر بخصلة من ثلاث خصال مع تفويض التعيين إلى خيرة المكلف
(1/186)
 
 
خلافا لأبي هاشم ولنا فيه مسلكان أحدهما أن يقول لا شك في جواز وقوعه وتصوره إذ لا يستحيل أن يقول السيد لعبده ادخل إحدى هذه الدور أيتها شئت ويسقط عنك الواجب بما تريد منها واذا تصور جاز ورود الشرع به
والإستصلاح ثم أيضا لا يرده وربما يقتضي الصلاح ذلك ليتخير في ذلك ولا يعصي المسلك الثاني الكفارة المخيرة واجبة شرعا بالاتفاق ولا تجب الخصال الثلاثة جميعا ولا أحدها على التعيين فلم يبقى إلا وجوب واحدة على الإبهام فان قال الكل واجب لكن يسقط الوجوب بواحدة فهذه لفظة لا حاصل لها إذ لو تركها لا يعاقب على ثلاثة أوامر
(1/187)
 
 
ولو أقدم على واحدة لا يثاب على الثلاثة تمسك بأن الأمر بالمجهول محال والجهل لا يرتفع بالخيرة كما لا يرتفع في بيع عبد من ثلاثة أعبد مع إثبات الخيار قلنا التكليف وجد مستقرا ومتعلقا وهو خيرته خصلة منها فتقرر وأما البيع عقد يتلقى من تقييد في تعيين المحل مسألة الأمر المطلق بأداء الصلاة لا يتلقى منه وجوب القضاء عند فوات الوقت لأن العقل لا يهتدي إلى وجوب القضاء واللفظ لم يتناول إلا صلاة في وقت وقد فات ولا تدارك له فإنشاؤها رسول في وقت آخر صلاة أخرى كإنشاء العبادة في مكان آخر إذا تعذر أداؤها بالمكان المأمور بفعلها فيه فيجب القضاء بأمر مبتدأ في الشريعة أو بقياس مقتضب من أصل مجمع عليه
خلافا للفقهاء حيث قالوا يجب القضاء لمطلق الأمر الأول بالاداء
(1/188)
 
 
مسألة (11)
الصلاة تجب بأول الوقت على التوسيع ولا يعصي بالتأخير وقال ابو حنيفة لا يوصف بالوجوب إلى ان يضيق الوقت والكلام معه وقد ناقض في القضا والكفارات والزكوات سهل فأما من أنكر الوجوب الموسع أصلا وقال اذا جاز الإعراض وتخير الرجل فلا معنى للوجوب ولا يغني عن هذا الإشكال تصويرنا ولا قول السيد لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وجعلت الشهر متسعك لم فإن هذا لم يمنع جواز التأخير وهو يقتضي الوجوب ولا يغني ما قاله القاضي ذبا عن الفقهاء ان التأخير لا يجوز إلا بشرط العزم على الإمتثال فإن الفقهاء لا يوجبوب حدثنا ذلك إذ لو ذهل جاز ولأن الأمر ليس فيه اشعار بوجوب العزم وترديد بينه وبين الفعل لا على التعيين وهذا تحكم والمختار ان تبين الوجوب لا يتحقق إلا في آخر الوقت لما ذكرناه من جواز
(1/189)
 
 
التأخير ولكن الشرع سماه واجبا توسعا كالكفارة وغيرها ودلت الامارات عليها وهذا التجويز لا مانع منه فيتبع امارات الشرع في اطلاقه مسألة (12) المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن
وإليه صار أبو هاشم خلافا للقاضي لأن التمكن شرط يقرر التكليف ويحتمل اخترام المنية قبل التمكن فكيف يعلم مع احتمال ذلك وقد ثبت أن التكليف بما لا يطاق محال عندنا والقاضي يعتقد ثبوت الأمر قبل التكليف وعلى هذا جوز النسخ قبل التمكن وتمسك بأن البدار إلى الإقدام واجب ولا يجوز التأخير لإرتقاب ابن الموت قبل الإقدام على الفعل فإذا تمكن وجب لأنه لو تكاسل لأدى إلى خرم الشرع وأبطل غرض الشارع
(1/190)
 
 
فأما العلم فلا يثبت مع الإحتمال مسألة عند المعتزلة المأمور يخرج عن كونه مأمورا حال الإمتثال وحدوث الفعل المطلوب لأن الأمر طلب والكائن لا يطلب كما قالوا يخرج عن كونه مقدورا لأن القدرة لا تتعلق بالموجود وخالفهم أصحابنا في المسألتين جميعا وبنوا الأمر على القدرة ونحن نعتقد أن تعلق القدرة بالمقدور حالة الوجود لو قدر مسلم وهو اعتقادنا فيجب القطع بأنه يخرج عن كونه مأمورا لأن الكائن لا يطلب
(1/191)
 
 
وأما القدرة فهي سبب الوجود فإذا لم تقارنه لم يحصل الوجود
لأن العدم المستمر لا حاجة فيه إلى قدرة وكذلك الوجود المستمر وبينهما حالة لطيفة هي أول حالة الحدوث ولا تحدث إلا بقدرة تقارنها فإنها في حكم الموجد لها والمخرج لها عن العدم فأما الأمر فإنه ليس موقعا للفعل حتى تجب مقارنته لها فإن قيل هو موقع لكونها طاعة قلنا يمكن إيقاعها بطلب سابق إذ ليس وجود الفعل متعلقا به ووصفه بالطاعة ممكن بخلاف القدرة السابقة فيتنزل الأمر مع الطاعة منزلة النظر مع العلم ثم العلم يحصل بتصرم النظر وإن كان لا بد من تقدم النظر مسألة (14) قال شيخنا أبو الحسن الأشعري رحمه الله المعدوم مأمور على تقدير الوجود إذ ثبت عنده الكلام القديم وثبت كون الباري آمرا أزلا
(1/192)
 
 
وأبى المعتزلة له ذلك وقالوا الأمر طلب فكيف يتوجه على المعدوم والمجنون يستحيل خطابه لأنه عديم الفهم فالمعدوم أولى بأن لا يخاطب ثم جعلوا هذا ذريعة إلى رد الكلام ولا يغني في الجواب ما ألزمهم القاضي من كون المأمور معدوما إذ ذلك من ضرورته فلا استحالة فيه ولا قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي فهو كالمعدوم في حقنا وقد بقي آمرا بعد العدم فإنه لا أمر للرسول عليه السلام وهو سفير فالأمر لله تعالى
الذي لا يموت ولأن القاضي لا يجوز كون الآمر معدوما قطعا فلا معنى لهذا الكلام فالوجه أن يقول لا يبعد من حيث التصور أن يقوم طلب بذات شخص لزيد
(1/193)
 
 
من ولده الذي لم يحدث تعلم العلم إذا حدث ويبقى الطلب مستمرا فإذا وجد اتصل الطلب الذي هو الأمر به فكذلك الباري تعالى كان الطلب الذي هو الأمر قائما بذاته قديما ولم يتوجه الطلب على المعدوم ولكنهم إذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الطلب السابق من غير تغير وتبدل والمعدوم لا يكلف قطعا وهذا معنى قوله على تقدير الوجود فإن المعدوم إذا قدر وجوده لم يكن معدوما وحكى عن عبد الله بن سعيد انه قال كلامه كان قائما بذاته قديما ولم يكن امرا إنما صار أمرا عند الوجود فإن عني به ما ذكرناه وهو الظن فسديد وإلا فهو قول بحدوث الأمر إذا الأمر إثما كان أمرا لعينه فلا يتغير بالأوقات وثبت الكلام القديم بدليل آخر ووجه تصور الأمر قديما ذكرناه والله اعلم
(1/194)
 
 
القول في النواهي وقد اندرج معظم مقاصدها تحت الأمر فإنها تلوها
فمن توقف في صيغة الأمر توقف في صيغة النهي ومن حملة على الوجوب حمل النهي على الخطر ومن حملة على الندب حمل هذا على الكراهية ومن حمل ذلك على رفع الحرج في الفعل حمل هذا على رفع الحرج في ترك الفعل ومقصود الباب تحويه خمس مسائل مسالة (1) النهي محمول على فساد المنهي عنه على معنى انه يجعل وجوده كعدمه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ولكنا مع هذا نقضي بصحة الصلاة في الدار المغصوبة خلافا لأبي هاشم فإنه قضى ببطلانها
(1/195)
 
 
واستدل بأن المكث منهي عنه والصلاة مكث في الدار بحركة أو سكون فقد تمكن النهي من نفس الفعل فيستحيل وقوع النهي طاعة إذ ذلك يؤدي إلى وصف الشئ الواحد بالوجوب والتحريم فأورد عليه البيع في وقت النداء وتحريم المودع بصلاة وقد طولب بالرد واجناس لهذه المسالة فارتبك وقال اقضي بفساد كل عقد تمكن التحريم منه ان ثبت التحريم وعورض استبعاده بوقوع فعل الذاهل في اثناء صلاته طاعة مع عدم التقرب فقال لا بعد في هذا فإنه لم يكلف القصد إلا في أول الوقت ثم حكمه منسحب كما ينسحب حكم الايمان في لحظة على جميع العمر وانما البعيد كون
الشئ الواحد مأمورا مطلوبا واجبا منهيا مطلوب الترك قال القاضي هذه الصلاة لا تقع طاعة كما ذكره ابو هاشم ولكن يسقط الفرض عندها ولا يسقط بها وهذا غير بعيد
(1/196)
 
 
كما قال ابو حنيفة رضي الله عنه يسقط قضاء الصلوات والزكوات بالرد وليس ذلك طاعة وإمتثالا فقيل له ثبت جوازه عقلا فما الدليل على وقوعه قال ذلك موكول إلى رأي الفقهاء فلينظروا فيه نظرهم وليتمسكوا بغلبة الظن ثم قال يمكن اثبات وقوعه بالتمسك بمسالك الصحابة فانهم كانوا يأمرون الظلمة بتدارك المظالم ورد المغصوب مع علمهم بأن عمر الظالم لا يخلو من اداء صلاة في دار استولى عليها ولم يأمروا بإعادة الصلاة فتبين سقوط الفرض به والمختار ان الصلاة واقعة طاعة لان افعاله تضمن مكثا في الدار واداء الفعل للصلاة فله جهتان المقصود بالنهي جهة الكون والواقع طاعة اداء الصلاة ولا نظر إلى اتحاد صورة الفعل إذ الأمر والنهي يتلقى من قصد المخاطب
(1/197)
 
 
وعن هذا قلنا الأمر بالشئ لا يكون نهيا عن ضده وان وقع من ضرورته ولو قال السيد لغلامه لا تدخل هذه الدار وخط هذا الثوب فدخل الدار وخاط الثوب عد في العرف ممتثلا في الخياطة مخالفا في الكون في الدار وان كان الكون من ضرورة الخياطة ونحن نحمل النهي على الفساد اذا تمكن من الشئ مقصودا وكذا المودع إذا طولب بالرد فتحرم بالصلاة صحت صلاته لأنه ليس مقصودا بالنهي وان تضمن منع المالك من الأخذ وهو المنهي مسالة (2) اذا دخل عرصة مغصوبة وتوسطها وجب عليه الخروج وانتحاء اقرب الطرق وقال الجبائي يحرم الخروج لأنه تخطى في دار الغير قلنا والمكث أيضا كون في دار الغير والنهي عنهما جميعا تكليف مستحيل فليجب الخروج إذ به الخلاص
(1/198)
 
 
فإن قال الساقط على انسان محفوف باناس صرعى اذا علم أنه لو مكث قتل من تحته ولو انتقل قتل غيره فينهي عن المكث والانتقال جميعا قلنا قال القاضي حظ الاصولي انه لا يجمع بين الأمر والنهي عنهما في المسالتين أما ما يؤمر به من الجانبين فذاك إلى رأي الفقهاء والمختار في صورة القتل ان يقال لا حكم لله تعالى فيه فلا يؤمر بمكث ولا انتقال ولكن ان تعدى في الابتداء انسحب حكم العدوان
وان لم يقصد فلا يعصي ولا تكليف عليه ونفي الحكم حكم لله تعالى في هذه الصورة واما الخروج فمكن فانه لا يؤدي إلى اتلاف وهو اقرب من المكث مسالة 3 السجود بين يدي الصنم على قصد الخشوع يحرم وقال ابو هاشم المحرم هو القصد إذ عين هذا الفعل يقع طاعة بقصد التقرب
(1/199)
 
 
وهذا فاسد فإنه إذا قصد اكتسب الفعل حكم القصد فصار محرما كما يكتسب حكم النية فيصير طاعة وهذا يجره إلى نفي التحريم عن فعل الزاني واخراج الأفعال عن وقوعها قربة وهو محال مسالة 4 أجمع القائلون بأن صيغة النهي للتحريم على انه ان تقدمت صيغة عليه لا تغيره فأما صيغة الأمر بالشئ بعد تقدم النهي عليه اختلفوا فيها قال القاضي في التفريغ على مذهبهم هو للوجوب لأن الصيغة لم تتبدل وما سبق ليست قرينة مقترنة بها وصار آخرون إلى أنه للإباحة بدليل قوله وإذا حللتم فاصطادوا وله الاعتضاد بالعرف أيضا والمختار
(1/200)
 
 
ان نتوقف فيه إذ يحتمل ان يكون تقدم النهي عنه قرينة تؤثر في هذه الصيغة ويح