الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية
تأليف:
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي
911 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم,
نحمدك يا من تنزه في كماله عن الأشباه والنظائر, وتقدس في جلاله عن أن تدركه الأبصار, أو تحيط به الأفكار, أو تعزب عنه الضمائر, وتأزر بالكبرياء وتردى بالعظمة, فمن نازعه واحدا منهما فهو المقصوم البائر ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك شهادة يلوح عليها للإخلاص أماير, وتبهج قائلها بأعظم البشائر, يوم تبلى السرائر, ونشهد أن سيدنا محمدا عبدك ورسولك أفضل من نسلته من ظهور الأماثل وبطون الحرائر, وأرسلته لخير أمة أخرجت للناس ; فهديت به كل حائر, ومحيت به مظالم الجاهلية, وأحييت به معالم الإسلام والشعائر. وواعدته المقام المحمود وشفعته في الصغائر والكبائر, وكم بين شرائع دينك القويم, حتى ورثها من بعده أولي البصائر, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ذوي الفضل السائر, صلاة وسلاما نعدهما يوم القيامة من أعظم الذخائر, دائمين ما سار الفلك الجاري ودار الفلك الدائر.
أما بعد: فعلم الفقه بحوره زاخرة, ورياضه ناضرة, ونجومه زاهرة, وأصوله ثابتة مقررة, وفروعه ثابتة محررة. لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه, ولا يبلى على طول الزمان عزه. أهله قوام الدين وقوامه, وبهم ائتلافه وانتظامه, هم ورثة الأنبياء, وبهم يستضاء في الدهماء, ويستغاث في الشدة والرخاء, ويهتدى كنجوم السماء, وإليهم المفزع في الآخرة والدنيا, والمرجع في التدريس والفتيا, ولهم المقام المرتفع على الزهرة العليا, وهم الملوك, لا بل الملوك تحت أقدامهم, وفي تصاريف أقوالهم وأقلامهم, وهم الذين إذا التحمت الحرب أرز الإيمان إلى أعلامهم, وهم القوم كل القوم إذا افتخر كل قبيل بأقوامهم:
بيض الوجوه, كريمة أحسابهم شم الأنوف, من الطراز الأول
ص -3-
ولقد نوعوا هذا الفقه فنونا وأنواعا, وتطاولوا في استنباطه يدا وباعا,
وكان من أجل أنواعه: معرفة نظائر الفروع وأشباهها, وضم المفردات إلى أخواتها وأشكالها. ولعمري, إن هذا الفن لا يدرك بالتمني, ولا ينال بسوف ولعل ولو أني, ولا يبلغه إلا من كشف عن ساعد الجد وشمر, واعتزل أهله وشد المئزر, وخاض البحار وخالط العجاج, ولازم الترداد إلى الأبواب في الليل الداج, يدأب في التكرار والمطالعة بكرة وأصيلا, وينصب نفسه للتأليف والتحرير بياتا ومقيلا, ليس له همة إلا معضلة يحلها, أو مستصعبة عزت على القاصرين فيرتقي إليها ويحلها, يرد عليه ويرد, وإذا عذله جاهل لا يصد, قد ضرب مع الأقدمين بسهم والغمر يضرب في حديد بارد, وحلق على الفضائل واقتنص الشوارد:
وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
يقتحم المهامه المهولة الشاقة, ويفتح الأبواب المرتجة, إذا قال الغبي لا طاقة, إن بدت له شاردة ردها إلى جوف الفرا, أو شردت عنه نادة اقتنصها ولو أنها في جوف السماء. له نقد يميز به بين الهباب والهباء, ونظر يحكم إذا اختلفت الآراء بفصل القضاء, وفكر لا يأتي عليه تمويه الأغبياء, وفهم ثاقب لو أن المسألة من خلف جبل قاف لخرقه حتى يصل إليها من وراء, على أن ذلك ليس من كسب العبد, وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
هذا, وطالما جمعت من هذا النوع جموعا, وتتبعت نظائر المسائل أصولا وفروعا حتى أوعيت من ذلك مجموعا جموعا, وأبديت فيه تأليفا لطيفا, لا مقطوعا فضله ولا ممنوعا. ورتبته على كتب سبعة:
الكتاب الأول: في شرح القواعد الخمس التي ذكر الأصحاب أن جميع مسائل الفقه ترجع إليها.
الكتاب الثاني: في قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية, وهي أربعون قاعدة: الكتاب الثالث: في القواعد المختلف فيها, ولا يطلق الترجيح لظهور دليل أحد القولين في بعضها ومقابله في بعض, وهي عشرون قاعدة.
الكتاب الرابع: في أحكام يكثر دورها, ويقبح بالفقيه جهلها: كأحكام الناسي, والجاهل والمكره والنائم والمجنون والمغمى عليه والسكران والصبي والعبد والمبعض, والأنثى, والخنثى, والمتحيرة, والأعمى, والكافر, والجان, والمحارم والولد, والوطء, والعقود, والفسوخ, والصريح, والكناية, والتعريض, والكتابة والإشارة, والملك, والدين, وثمن المثل, وأجرة المثل, ومهر المثل, والذهب والفضة
ص -4-
والمسكن والخادم, وكتب الفقيه وسلاح الجندي, والرطب, والعنب, والشرط, والتعليق, والاستثناء, والدور, والحصر, والإشاعة, والعدالة, والأداء, والقضاء, والإعادة, والإدراك, والتحمل, والتعبدية, والموالاة ; وفروض الكفاية, وسننها والسفر, والحرم, والمساجد وغير ذلك. وفي ضمن ذلك قواعد وفوائد, وتتمات وزوائد, تبهج الناظر, وتسر الخاطر.
الكتاب الخامس: في نظائر الأبواب, أعني التي هي من باب واحد, مرتبة على, أبواب الفقه والمخاطب بهذا الباب والذي يليه المبتدئون.
الكتاب السادس: فيما افترقت فيه الأبواب المتشابهة.
الكتاب السابع: في نظائر شتى.
واعلم أن كل كتاب من هذه الكتب السبعة لو أفرد بالتصنيف لكان كتابا كاملا, بل كل ترجمة من تراجمه تصلح أن تكون مؤلفا حافلا.
وقد صدرت كل قاعدة بأصلها من الحديث والأثر, وحيث كان في إسناد الحديث ضعف أعملت جهدي في تتبع الطرق والشواهد لتقويته على وجه مختصر, وهذا أمر لا ترى عينك الآن فقيها يقدر عليه, ولا يلتفت بوجهه إليه, وأنت إذا تأملت كتابي هذا علمت أنه نخبة عمر, وزبدة دهر, حوى من المباحث المهمات, وأعان عند نزول الملمات, وأنار مشكلات المسائل المدلهمات, فإني عمدت فيه إلى مقفلات ففتحتها, ومعضلات فنقحتها, ومطولات فلخصتها, وغرائب قل أن توجد منصوصة فنصصتها: واعلم أن الحامل لي على إبداء هذا الكتاب أني كنت كتبت من ذلك أنموذجا لطيفا في كتاب سميته [شوارد الفوائد: في الضوابط والقواعد] فرأيته وقع موقعا حسنا من الطلاب, وابتهج به كثير من أولى الألباب, وهذا الكتاب هو بالنسبة إلى هذا كقطرة من قطرات بحر, وشذرة من شذرات نحر. وكأني بالناس وقد افترقوا فيه فرقا: فرقة قد انطوى على الحسد جنوبهم, ورامت إطفاء نوره بأفواههم, وما هم ببالغيه إلا أن تقطع قلوبهم ; وكيف يقاس من نشأ في حجر العلم منذ كان في مهده, ودأب فيه غلاما وشابا وكهلا, حتى وصل إلى قصده, بدخيل أقام سنوات في لهو ولعب, وقطع أوقاتا يحترف فيها أو يكتسب, ثم لاحت منه التفاتة إلى العلم, فنظر فيه وما احتكم, وقنع منه بتحلة القسم, ورضي بأن يقال: عالم وما اتسم؟
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي وهل بدارة يا للناس من عار
على أنا لا نتكل على الأحساب والأنساب ولا نكل عن طلب المعالي بالاكتساب
لسنا وإن كنا ذوي حسب يوما على الأحساب نتكل
ص -5-
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وأكثر ما عند هذه الفرقة: أن تزدري بالشباب, وبالشيخوخة افتخارها, وتلك شكاة ظاهر عنك عارها, ولو أنصفت لعرفت أن ذلك من سمات المدح, لا من وصمات القدح, وكفى بالرد عليها عند أولي الألباب ما ورد مرفوعا وموقوفا: "ما أوتي عالم علما إلا وهو شاب"
وفرقة: غلب عليها الجهل المركب, وبعد عنها طريق الخير وتنكب, لا تبرح جدالا ولا تعي مقالا, ولا تحسن جوابا ولا سؤالا, ليس لها دأب إلا أكل الحرام, والخوض في أعراض الأنام, وغمص الناس نهارا, وبالليل نيام, فهذه لا تصلح لخطاب ولا تأهل إذا غابت لأن تعاب والسلام.
وفرقة آتاها الله هداها, وألهمها تقواها, وزكاها مولاها, فرأت محاسنه وسناها, وفوائده التي لا تتناهى, فاعترفت بشكرها وثناها, واغترفت من بحرها ولم يلوها عذل عاذل ولا ثناها, وارتشفت من كؤوس حمياها, وانتشقت من, شذا عرف رياها, وهذه طائفة لا تكاد تراها, ولا نسمع بخبرها فوق الأرض وثراها, فحياها الله وبياها, وأمطر علينا سحائب فضله وإياها.
فصل: اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم,
به يطلع على حقائق الفقه ومداركه, ومآخذه وأسراره, ويتمهر في فهمه واستحضاره, ويقتدر على الإلحاق والتخريج, ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة, والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان, ولهذا قال بعض أصحابنا: الفقه معرفة النظائر.
وقد وجدت لذلك أصلا من كلام عمر بن الخطاب
أخبرنا شيخنا الإمام تقي الدين الشمني, أخبرنا أبو الحسن بن عبد الكريم, أخبرنا أبو العباس أحمد بن يوسف "ح" وكتب إلي عاليا أبو عبد الله محمد بن مقبل الحلبي, عن محمد بن علي الحراوي قال: أخبرنا الحافظ أبو محمد الدمياطي, أخبرنا الحافظ أبو الحجاج بن خليل, أخبرنا أبو الفتح بن محمد, أخبرنا إسماعيل بن الفضل أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد "ح" قال الدمياطي: وأنبأنا عاليا أبو الحسن بن المقير, أخبرنا المبارك بن أحمد إجازة, أنبأنا أبو الحسن بن المهتدي بالله قالا: أنبأنا الإمام أبو الحسن الدارقطني, حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان النعماني, حدثنا عبد الله عبد الصمد بن أبي خداش, حدثنا, عيسى بن يونس, حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي قال:
كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك
ص -6-
فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له, لا يمنعك قضاء قضيته, راجعت فيه نفسك, وهديت فيه لرشدك, أن تراجع الحق, فإن الحق قديم, ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل, الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك, مما لم يبلغك في الكتاب والسنة, اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عندك, فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق, فيما ترى".
هذه قطعة من كتابه, وهي صريحة في الأمر بتتبع النظائر وحفظها, ليقاس عليها ما ليس بمنقول.
وفي قوله: "فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق" إشارة إلى أن من النظائر ما يخالف نظائره في الحكم لمدرك خاص به وهو الفن المسمى بالفروق, الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويرا ومعنى, المختلفة حكما وعلة.
وفي قوله: "فيما ترى" إشارة إلى أن المجتهد إنما يكلف بما ظنه صوابا, وليس عليه أن يدرك الحق في نفس الأمر, ولا أن يصل إلى اليقين, وإلى أن المجتهد لا يقلد غيره.
الكتاب الأول: في شرح القواعد الخمس التي ذكر الأصحاب أن جميع مسائل الفقه ترجع إليها
حكى القاضي أبو سعيد الهروي: أن بعض أئمة الحنفية بهراة بلغه أن الإمام أبا طاهر الدباس إمام الحنفية بما وراء النهر, رد جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة, فسافر إليه. وكان أبو طاهر, ضريرا وكان يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد أن يخرج الناس منه فالتف الهروي بحصير, وخرج الناس, وأغلق أبو طاهر المسجد وسرد من تلك القواعد سبعا, فحصلت للهروي سعلة فأحس به أبو طاهر فضربه وأخرجه من المسجد, ثم لم يكررها فيه بعد ذلك, فرجع الهروي إلى أصحابه, وتلا عليهم تلك السبع.
قال القاضي أبو سعيد: فلما بلغ القاضي حسينا ذلك رد جميع مذهب الشافعي إلى أربع قواعد:
الأولى: اليقين لا يزال بالشك. وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته, فيقول له: أحدثت فلا ينصرف, حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا".
والثانية: المشقة تجلب التيسير قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة".
الثالثة: الضرر يزال. وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"
الرابعة: العادة محكمة, لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" انتهى.
ص -7-
قال بعض المتأخرين: في كون هذه الأربع دعائم الفقه كله نظر, فإن غالبه لا يرجع إليها إلا بواسطة وتكلف,.
وضم بعض الفضلاء إلى هذه قاعدة خامسة وهي: الأمور بمقاصدها, لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات", وقال: "بني الإسلام على خمس", والفقه على خمس.
قال العلائي: وهو حسن جدا, فقد قال الإمام الشافعي يدخل في هذا الحديث ثلث العلم.
وقال الشيخ تاج الدين السبكي: التحقيق عندي أنه إن أريد رجوع الفقه إلى خمس بتعسف وتكلف وقول جملي, فالخامسة داخلة في الأولى, بل رجع الشيخ عز الدين بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد, بل قد يرجع الكل إلى اعتبار المصالح, فإن درء المفاسد من جملتها. ويقال على هذا: واحدة من هؤلاء الخمس كافية, والأشبه أنها الثالثة, وإن أريد الرجوع بوضوح, فإنها تربو على الخمسين, بل على المئين ا هـ.
وها أنا أشرح هذه القواعد, وأبين ما فيها من النظائر.
القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها
فيها مباحث:
[الأول]: الأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات",
وهذا حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب, والعجب أن مالكا لم يخرجه في الموطإ, وأخرجه ابن الأشعث في سننه من حديث علي بن أبي طالب الدارقطني في غرائب مالك, وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي سعيد الخدري, وابن عساكر في أماليه من حديث أنس, كلهم بلفظ واحد وعن البيهقي في سننه من حديث أنس: "لا عمل لمن لا نية له", وفي مسند الشهاب من حديثه: "نية المؤمن خير من عمله", وهو بهذا اللفظ في معجم الطبراني الكبير من حديث سهل بن سعد والنواس بن سمعان, وفي مسند الفردوس للديلمي من حديث أبي موسى.
وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في في امرأتك", ومن حديث ابن عباس: "ولكن جهاد ونية", وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود: "رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته". وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله: "يبعث الناس على نياتهم", وفي السنن الأربعة من حديث عقبة بن عامر: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة", وفيه: "وصانعه يحتسب في صنعته الأجر", وعند النسائي من حديث أبي ذر, "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى". وفي معجم الطبراني من حديث صهيب
ص -8-
"أيما رجل تزوج امرأة فنوى أن لا يعطيها من صداقها شيئا مات يوم يموت وهو زان, وأيما رجل اشترى من رجل بيعا فنوى أن لا يعطيه من ثمنه شيئا مات يوم يموت وهو خائن", وفيه أيضا من حديث أبي أمامة: "من أدان دينا وهو ينوي أن يؤديه أداه الله عنه يوم القيامة, ومن أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه فمات قال الله يوم القيامة: ظننت أني لا آخذ لعبدي بحقه؟ فيؤخذ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر, فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر, فجعلت عليه".
المبحث الثاني: فيما يرجع إلى هذه القاعدة من أبواب الفقه
اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر حديث النية.
قال أبو عبيدة: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه, واتفق الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وابن مهدي, وابن المديني, وأبو داود, والدارقطني وغيرهم على أنه ثلث العلم, ومنهم من قال: ربعه, ووجه البيهقي كونه ثلث العلم: بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه, فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ; لأنها قد تكون عبادة مستقلة, وغيرها يحتاج إليها ومن ثم ورد: "نية المؤمن خير من عمله".
وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم, أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده فإنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث: "الأعمال بالنية" وحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"1 وحديث: "الحلال بين والحرام بين".
وقال أبو داود: مدار السنة على أربعة أحاديث: حديث: "الأعمال بالنيات", وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه", وحديث: "الحلال بين والحرام بين", وحديث: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا", وفي لفظ عنه: يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث, فذكرها, وذكر بدل الأخير: حديث: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه".
وعنه أيضا: الفقه يدور على خمسة أحاديث: "الأعمال بالنيات", "والحلال بين", "ولا ضرر ولا ضرار", "وما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"2.
وقال الدارقطني: أصول الأحاديث أربعة: "الأعمال بالنيات", "ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه", "والحلال بين", "وازهد في الدنيا يحبك الله".
وحكى الخفاف من أصحابنا في كتاب الخصال عن ابن مهدي وابن المديني: أن مدار الأحاديث على أربعة: "الأعمال بالنيات", و "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث", و "بني الإسلام على خمس", و "البينة على المدعي واليمين على من أنكر",
وقال ابن مهدي أيضا: حديث النية يدخل في ثلاثين بابا من العلم.
وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا.
قلت: وهذا ذكر ما يرجع إليه من الأبواب إجمالا:
من ذلك: ربع العبادات بكماله, كالوضوء, والغسل فرضا ونفلا, ومسح الخف في مسألة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم بلفظ: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
2 رواه البخاري ومسلم بلفظ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فأجتنبوه"
ص -9-
الجرموق إذا مسح الأعلى, وهو ضعيف, فينزل البلل إلى الأسفل, والتيمم, وإزالة النجاسة على رأي, وغسل الميت على رأي, والأواني في مسألة الضبة بقصد الزينة أو غيرها, والصلاة بأنواعها: فرض عين وكفاية, وراتبة وسنة, ونفلا مطلقا, والقصر, والجمع, والإمامة والاقتداء وسجود التلاوة والشكر, وخطبة الجمعة على أحد الوجهين, والأذان, على رأي, وأداء الزكاة, واستعمال الحلي أو كنزه, والتجارة, والقنية, والخلطة على رأي, وبيع المال الزكوي, وصدقة التطوع, والصوم فرضا ونفلا, والاعتكاف, والحج والعمرة كذلك, والطواف فرضا واجبا وسنة, والتحلل للمحصر, والتمتع على رأي, ومجاوزة الميقات, والسعي, والوقوف على رأي, والفداء, والهدايا, والضحايا فرضا ونفلا, والنذور, والكفارات, والجهاد والعتق والتدبير, والكتابة, والوصية, والنكاح, والوقف, وسائر القرب, بمعنى توقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى, وكذلك نشر العلم تعليما وإفتاء وتصنيفا, والحكم بين الناس وإقامة الحدود, وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة, وتحمل الشهادات وأداؤها. بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد بها التقوي على العبادة أو التوصل إليها, كالأكل, والنوم, واكتساب المال وغير ذلك, وكذلك النكاح والوطء إذا قصد به إقامة السنة أو الإعفاف أو تحصيل الولد الصالح, وتكثير الأمة, ويندرج في ذلك ما لا يحصى من المسائل.
ومما تدخل فيه من العقود ونحوها: كنايات البيع والهبة, والوقف, والقرض, والضمان, والإبراء, والحوالة, والإقالة, والوكالة, وتفويض القضاء, والإقرار, والإجارة والوصية, والعتق, والتدبير, والكتابة, والطلاق, والخلع, والرجعة, والإيلاء, والظهار, والأيمان, والقذف, والأمان.
ويدخل أيضا فيها في غير الكنايات في مسائل شتى: كقصد لفظ الصريح لمعناه, ونية المعقود عليه في المبيع والثمن, وعوض الخلع, والمنكوحة, ويدخل في بيع المال الربوي ونحوه وفي النكاح إذا نوى ما لو صرح به بطل.
وفي القصاص في مسائل كثيرة منها تمييز العمد وشبهه من الخطأ, ومنها إذا قتل الوكيل في القصاص, إن قصد قتله عن الموكل, أو قتله بشهوة نفسه. وفي الردة, وفي السرقة فيما إذا أخذ آلات الملاهي بقصد كسرها وإشهارها أو بقصد سرقتها, وفيما إذا أخذ الدائن مال المدين بقصد الاستيفاء, أو السرقة, فلا يقطع في الأول, ويقطع في الثاني وفي أداء الدين, فلو كان عليه دينان لرجل, بأحدهما رهن, فأدى أحدهما ونوى به دين الرهن, انصرف إليه والقول قوله في نيته. وفي اللقطة بقصد الحفظ أو التمليك, وفيما لو أسلم على أكثر من أربع, فقال: فسخت نكاح هذه, فإن نوى به الطلاق كان تعيينا لاختيار النكاح, وإن نوى الفراق أو أطلق حمل على اختيار الفراق, وفيما لو وطئ أمة بشبهة, وهو يظنها زوجته الحرة, فإن الولد ينعقد حرا وفيما لو تعاطى فعل شيء مباح له, وهو يعتقد عدم حله, كمن وطئ امرأة يعتقد أنها
ص -10-
أجنبية, وأنه زان بها, فإذا هي حليلته أو قتل من يعتقده معصوما, فبان أنه يستحق دمه, أو أتلف مالا لغيره, فبان ملكه.
قال الشيخ عز الدين: يجري عليه حكم الفاسق لجرأته على الله ; لأن العدالة إنما شرطت لتحصل الثقة بصدقه, وأداء الأمانة, وقد انخرمت الثقة بذلك, لجرأته بارتكاب ما يعتقده كبيرة.
قال: وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل, ولا آكل مالا حراما لأن عذاب الآخرة مرتب على ترتب المفاسد في الغالب, كما أن ثوابها مرتب على ترتب المصالح في الغالب.
قال: والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة ; لأجل جرأته وانتهاك الحرمة ; بل عذابا متوسطا بين الصغيرة والكبيرة.
وعكس هذا: من وطئ أجنبية وهو يظنها حليلة له لا يترتب عليه شيء من العقوبات المؤاخذات المترتبة على الزاني اعتبارا بنيته ومقصده.
وتدخل النية أيضا: في عصير العنب بقصد الخلية والخمرية, وفي الهجر فوق ثلاثة أيام فإنه حرام, إن قصد الهجر وإلا فلا.
ونظيره أيضا: ترك الطيب والزينة فوق ثلاثة أيام لموت غير الزوج, فإنه إن كان بقصد الإحداد حرم وإلا فلا
وتدخل أيضا في نية قطع السفر, وقطع القراءة في الصلاة, وقراءة القرآن جنبا بقصده, أو بقصد الذكر. وفي الصلاة بقصد الإفهام, وفي غير ذلك وفي الجعالة إذا التزم جعلا لمعين, فشاركه غيره في العمل إن قصد إعانته, فله كل الجعل, وإن قصد العمل للمالك فله قسطه, ولا شيء للمشارك, وفي الذبائح.
فهذه سبعون بابا, أو أكثر, دخلت فيها النية كما ترى.
فعلم من ذلك فساد قول من قال إن مراد الشافعي بقوله: "تدخل في سبعين بابا من العلم" المبالغة وإذا عددت مسائل هذه الأبواب التي للنية فيها مدخل لم تقصر عن أن تكون ثلث الفقه أو ربعه.
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله": أن المؤمن يخلد في الجنة وإن أطاع الله مدة حياته فقط ; لأن نيته أنه لو بقي أبد الآباد لاستمر على الإيمان, فجوزي على ذلك بالخلود في الجنة, كما أن الكافر يخلد في النار, وإن لم يعص الله إلا مدة حياته فقط ; لأن نيته الكفر ما عاش.
ص -11-
المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله
المقصود الأهم منها: تمييز العبادات من العادات, وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض, كالوضوء والغسل, يتردد بين التنظف والتبرد, والعبادة, والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي, أو لعدم الحاجة إليه, والجلوس في المسجد, قد يكون للاستراحة, ودفع المال للغير, قد يكون هبة أو وصلة لغرض دنيوي, وقد يكون قربة كالزكاة, والصدقة, والكفارة, والذبح قد يكون بقصد الأكل, وقد يكون للتقرب بإراقة الدماء, فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها, وكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضا ونذرا ونفلا, والتيمم قد يكون عن الحدث أو الجنابة وصورته واحدة, فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها من بعض.
ومن ثم ترتب على ذلك أمور:
أحدها: عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها, كالإيمان بالله تعالى, والمعرفة والخوف والرجاء, والنية, وقراءة القرآن, والأذكار ; لأنها متميزة بصورتها, نعم يجب في القراءة إذا كانت منذورة, لتمييز الفرض من غيره, نقله القمولي في الجواهر عن الروياني, وأقره.
وقياسه: إن نذر الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك, نعم إن نذر الصلاة عليه كلما ذكر, فالذي يظهر لي أن ذلك لا يحتاج إلى نية لتميزه بسببه,.
وأما الأذان: فالمشهور أنه لا يحتاج إلى نية. وفيه وجه في البحر, وكأنه رأى أنه يستحب لغير الصلاة, كما سيأتي, فأوجب فيه النية للتمييز.
وأما خطبة الجمعة: ففي اشتراط نيتها والتعرض للفرضية فيها خلاف في الشرح والروضة بلا ترجيح, وفي الكفاية: أنه مبني على أنها بمثابة ركعتين. ومقتضاه ترجيح أنها شرط, وجزم به الأذرعي في التوسط, وعندي خلافه, بل يجب أن لا يقصد غيرها. وأما التروك: كترك الزنا وغيره, فلم يحتج إلى نية لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي بكونه لم يوجد, وإن يكن نية, نعم يحتاج إليها في حصول الثواب المترتب على الترك. ولما ترددت إزالة النجاسة بين أصلين: الأفعال من حيث إنها فعل, والتروك من حيث إنها قريبة منها جرى في اشتراط النية خلاف, ورجح الأكثرون عدمه تغليبا لمشابهة التروك.
ونظير ذلك أيضا: غسل الميت, والأصح فيه أيضا عدم الاشتراط ; لأن القصد منه التنظيف كإزالة النجاسة.
ونظيره أيضا نية الخروج من الصلاة ; هل تشترط؟ والأصح لا قال الإمام: لأن النية إنما تليق بالإقدام, لا بالترك.
ص -12-
ونظيره أيضا: صوم التمتع والقران, هل يشترط فيه نية التفرقة؟ والأصح: لا ; لأنها حاصلة بدونها. ونظيره أيضا: نية التمتع هل تشترط في وجوب الدم؟ والأصح: لا ; لأنه متعلق بترك الإحرام للحج من الميقات, وذلك موجود بدونها.
ونظيره أيضا: نية الخلطة, هل تشترط؟ والأصح: لا ; لأنها إنما أثرت في الزكاة للاقتصار على مؤنة واحدة وذلك حاصل بدونها.
ومقابل الأصح في الكل راعى جانب العبادات, فقاس غسل الميت على غسل الجنابة, والتمتع على الجمع بين الصلاتين, فإنه جمع بين نسكين, ولهذا جرى في وقت نيته الخلاف في وقت نية الجمع, وفي الجمع وجه أنه لا يشترط فيه النية, واختاره البلقيني, قال: لأنه ليس بعمل, وإنما العمل الصلاة, وصورة الجمع حاصلة بدون نية ولهذا لا تجب في جمع التأخير, نعم يجب فيه أن يكون التأخير بنية الجمع ويشترط كون هذه النية في وقت الأولى بحيث يبقى من وقتها بقدر ما يسعها, فإن أخر بغير نية الجمع حتى خرج الوقت أو ضاق بحيث لا يسع الفرض عصى وصارت الأولى قضاء. هكذا جزم به الأصحاب ويقرب منه ما ذكر النووي في شرح المهذب. والتحقيق أن الأصح في الصلاة وفي كل واجب موسع إذا لم يفعل في أول الوقت أنه لا بد عند التأخير من العزم على فعله في أثناء الوقت والمعروف في الأصول خلاف ذلك, وقد جزم ابن السبكي في جمع الجوامع بأنه لا يجب العزم على المؤخر.
وأورد عليه ما ذكره النووي فيما تقدم.
فأجاب في منع الموانع: بأن مثل هذا لا يؤخذ من التحقيق ; ولا من شرح المهذب, وأن القول بالوجوب لا يعرف إلا عن القاضي ومن تبعه.
قال: ولولا جلالة القاضي لقلت: إن هذا من أفحش الأقوال, ولولا أني وجدته منصوصا في كلامه, منقولا في كلام الإثبات عنه, لجوزت الزلل على الناقل لسفاهة هذا القول في نفسه, وهو قول مهجور في هذه الملة الإسلامية, أعتقد أنه خارق لإجماع المسلمين, ليس لقائله شبهة يرتضيها محقق, وهو معدود من هفوات القاضي, ومن العظائم في الدين, فإنه إيجاب بلا دليل. انتهى.
ضابط:
قال بعضهم: ليس لنا عبادة يجب العزم عليها ولا يجب فعلها سوى الفار من الزحف لا يجوز إلا بقصد التحيز إلي فئة, وإذا تحيز إليها لا يجب القتال معها في الأصح ; لأن العزم مرخص له في الانصراف لا موجب للرجوع.
ص -13-
الأمر الثاني:
اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره. قال في شرح المهذب: ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فهذا ظاهر في اشتراط التعيين, لأن أصل النية فهم من أول الحديث: "إنما الأعمال بالنيات".
فمن الأول: الصلاة, فيشترط التعيين في الفرائض, لتساوي الظهر والعصر فعلا وصورة, فلا يميز بينهما إلا التعيين, وفي النوافل غير المطلقة, كالرواتب, فيعينها بإضافتها إلى الظهر مثلا, وكونها التي قبلها أو التي بعدها, كما جزم به في شرح المهذب, والعيدين, فيعينهما بالفطر والنحر. وقال الشيخ عز الدين: ينبغي أن لا يجب التعرض لذلك ; لأنهما يستويان في جميع الصفات ; فيلحق بالكفارات والتراويح, والضحى, والوتر, والكسوف, والاستسقاء, فيعينها بما اشتهرت به هذا ما ذكر في الروضة, وأصلها وشرح المهذب, في باب صفة الصلاة.
وبقي نوافل أخر منها ركعتا الإحرام, والطواف. قال في المهمات: وقد نقل في الكفاية عن الأصحاب: اشتراط التعيين فيهما, وصرح بركعتي الطواف النووي في تصحيح التنبيه, وعدها فيما يجب فيه التعيين بلا خلاف.
قلت: وصرح بركعتي الإحرام في المناسك.
ومنها: التحية, فنقل في المهمات عن الكفاية أنها تحصل بمطلق الصلاة, ولا يشترط فيها التعيين بلا شك, وقال في شرح المنهاج: فيه نظر لأن أقلها ركعتان ولم ينوهما إلا أن يريد الإطلاق مع التقييد بركعتين. ومنها: سنة الوضوء, قال في المهمات: ويتجه إلحاقها بالتحية, وقد صرح بذلك الغزالي في الإحياء.
قلت: المجزوم به في الروضة في آخر باب الوضوء خلاف ذلك وأما الغزالي فإنه أنكر في الإحياء سنة الوضوء, أصلا ورأسا.
ومنها: صلاة الاستخارة والحاجة, ولا شك في اشتراط التعيين فيهما ولم أر من تعرض لذلك, لكن قال النووي في الأذكار: الظاهر أن الاستخارة تحصل بركعتين من السنن الرواتب, وبتحية المسجد, وبغيرها من النوافل.
قلت: فعلى هذا يتجه إلحاقها بالتحية في عدم اشتراط التعيين, ومثلها صلاة الحاجة ومنها: سنة الزوال, وهي أربع ركعات: تصلى بعده لحديث ورد بها, وذكرها المحاملي في الكتاب وغيره, والمتجه أنها كسنة الوضوء فإن قلنا: باشتراط التعيين فيها, فكذا هنا وإلا فلا ; لأن المقصود إشغال ذلك الوقت بالعبادة. كما أشار إليه النبي
ص -14-
صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح".
ومنها: صلاة التسبيح والقتل, ولا شك في اشتراط التعيين في الأولى وإن كانت ليست ذات وقت ولا سبب, وأما الثانية فلها سبب متأخر كالإحرام, فيحتمل اشتراط التعيين فيها, ويحتمل خلافه.
ومنها: صلاة الغفلة, بين المغرب والعشاء, والصلاة في بيته, إذا أراد الخروج لسفر, والمسافر إذا نزل منزلا وأراد مفارقته, يستحب أن يودعه بركعتين, والظاهر في الكل عدم اشتراط التعيين ; لأن المقصود إشغال الوقت أو المكان بالصلاة, كالتحية ولم أر من تعرض لذلك كله.
ومن ذلك: الصوم, والمذهب المنصوص الذي قطع به الأصحاب اشتراط التعيين فيه, لتمييز رمضان من القضاء والنذر, والكفارة, والفدية, وعن الحليمي, وجه أنه لا يشترط في رمضان, قاله النووي, وهو شاذ مردود, نعم لا يشترط تعيين السنة على المذهب, ونظيره في الصلاة أنه لا يشترط تعيين اليوم, لا في الأداء ولا في القضاء, فيكفي فيه فائتة الظهر, ولا يشترط أن يقول يوم الخميس, وقياس ما تقدم في النوافل المرتبة اشتراط التعيين في رواتب الصوم, كصوم عرفة, وعاشوراء, وأيام البيض, وقد ذكره في شرح المهذب بحثا ولم يقف على نقل فيه, وهو ظاهر, إذا لم نقل بحصولها بأي صوم كان كالتحية كما سيأتي عن البارزي.
ومثل الرواتب في ذلك: الصوم ذو السبب, وهو الأيام المأمور بها في الاستسقاء ومن الثاني: أعني ما لا يشترط فيه التعيين: الطهارات, والحج والعمرة ; لأنه لو عين غيرها انصرف إليها, وكذا الزكاة والكفارات.
ضابط:
قال الشيخ في المهذب: كل موضع افتقر إلى نية الفريضة افتقر إلى تعيينها إلا التيمم للفرض في الأصح.
قاعدة:
وما لا يشترط التعرض له جملة وتفصيلا إذا عينه وأخطأ لم يضر, كتعيين مكان الصلاة وزمانها, وكما إذا عين الإمام من يصلي خلفه, أو صلى في الغيم, أو صام الأسير, ونوى الأداء والقضاء فبان خلافه, وما يشترط فيه التعيين, فالخطأ فيه مبطل, كالخطأ من الصوم إلى الصلاة وعكسه, ومن صلاة الظهر إلى العصر. وما يجب التعرض له جملة لا يشترط تعيينه تفصيلا إذا عينه وأخطأ ضر. وفي ذلك فروع:
ص -15-
أحدها: نوى الاقتداء بزيد, فبان عمرا لم يصح.
الثاني: نوى الصلاة على زيد فبان عمرا, أو على رجل فكان امرأة أو عكسه لم تصح, ومحله في الصورتين: ما لم يشر, كما سيأتي في مبحث الإشارة, وقال السبكي في الصورة الأولى: ينبغي بطلان نية الاقتداء لا نية الصلاة, ثم إذا تابعه خرج على متابعة من ليس بإمام, بل ينبغي هنا الصحة وجعل ظنه عذرا, وتابعه في المهمات على هذا البحث.
وأجيب بأنه قد يقال: فرض المسألة حصول المتابعة, فإن ذلك شأن من ينوي الاقتداء, والأصح في متابعة من ليس بإمام البطلان.
الثالث: لا يشترط تعيين عدد الركعات, فلو نوى الظهر خمسا أو ثلاثا, لم يصح لكن قال في المهمات: إنما فرض الرافعي في المسألة في العلم, فيؤخذ منه أنه لا يؤثر عند الغلط.
قلت: ذكر النووي المسألة في شرح المهذب في باب الوضوء, وفرضها في الغلط فقال: ولو غلط في عدد الركعات, فنوى الظهر ثلاثا أو خمسا, قال أصحابنا: لا يصح ظهره, هذه عبارته, ويؤيده تعليله البطلان في باب الصلاة بتقصيره.
ونظير هذه المسألة: من صلى على موتى, لا يجب تعيين عددهم ولا معرفته, فلو اعتقدهم عشرة فبانوا أكثر, أعاد الصلاة على الجميع لأن فيهم من لم يصل عليه, وهو غير معين, قاله في البحر. قال: وإن بانوا أقل, فالأظهر الصحة, ويحتمل خلافه لأن النية قد بطلت في الزائد لكونه معدوما, فتبطل في الباقي.
الرابع: نوى قضاء ظهر يوم الاثنين, وكان عليه ظهر يوم الثلاثاء, لم يجزئه.
الخامس: نوى ليلة الاثنين صوم يوم الثلاثاء, أو في سنة أربع صوم رمضان سنة ثلاث, لم يصح بلا خلاف.
السادس: عليه قضاء يوم الأول من رمضان, فنوى قضاء اليوم الثاني, لم يجزئه على الأصح.
السابع: عين زكاة ماله الغائب, فكان تالفا لم يجزئه عن الحاضر.
الثامن: نوى كفارة الظهار فكان عليه كفارة قتل لم يجزئه.
التاسع: نوى دينا, وبان أنه ليس عليه, لم يقع عن غيره, ذكره السبكي.
وخرج عن ذلك صور:
منها: لو نوى رفع حدث النوم, مثلا, وكان حدثه غيره, أو رفع جنابة الجماع وجنابته باحتلام, أو عكسه, أو رفع حدث الحيض وحدثها الجنابة, أو عكسه, خطأ لم يضر وصح الوضوء والغسل في الأصح.
واعتذر عن خروج ذلك عن القاعدة بأن النية في الوضوء والغسل ليست للقربة, بل
ص -16-
للتمييز, بخلاف تعيين الإمام والميت مثلا, وبأن الأحداث وإن تعددت أسبابها فالمقصود منها واحد وهو المنع من الصلاة, ولا أثر لأسبابها من نوم أو غيره.
ومنها: ما لو نوى المحدث رفع الأكبر غالطا فإنه يصح كما ذكره في شرح المهذب, ولم يستحضره الأسنوي ومن تابعه فنقلوه عن المحب الطبري وعبارة شرح المهذب لو نوى المحدث غسل أعضائه الأربعة عن الجنابة غلطا ظانا أنه جنب صح وضوءه, وأما عكسه, وهو أن ينوي الجنب رفع الأصغر غلطا فالأصح أنه يرتفع عن الوجه واليدين والرجلين فقط دون الرأس ; لأن فرضها في الأصغر المسح فيكون هو المنوي دون الغسل, والمسح لا يغني عن الغسل.
ومنها: إذا قلنا باشتراط نية الخروج من الصلاة, لا يشترط تعيين الصلاة التي يخرج منها, فلو عين غير التي هو فيها خطأ, لم يضر, بل يسجد للسهو ويسلم ثانيا, أو عمدا بطلت صلاته. وإن قلنا بعدم وجوبها, لم يضر الخطأ في التعيين مطلقا.
تنبيه:
أما لو وقع الخطأ في الاعتقاد دون التعيين فإنه لا يضر, كأن ينوي ليلة الاثنين صوم غد, وهو يعتقده الثلاثاء, أو ينوي صوم غد من رمضان هذه السنة وهو يعتقدها سنة ثلاث. فكانت سنة أربع, فإنه يصح صومه.
ونظيره في الاقتداء: أن ينوي الاقتداء بالحاضر مع اعتقاد أنه زيد, وهو عمرو فإنه يصح قطعا, صرح به الروياني في البحر. وفي الصلاة: لو أدى الظهر في وقتها, معتقدا أنه يوم الاثنين فكان الثلاثاء صح, نقله في شرح المهذب عن البغوي قال: ولو غلط في الأذان, فظن أنه يؤذن للظهر, وكانت العصر فلا أعلم فيه نقلا, وينبغي أن يصح ; لأن المقصود الإعلام ممن هو أهله, وقد حصل.
ولو تيمم معتقدا أن حدثه أصغر, فبان أكبر, أو عكسه يصح, ولو طاف الحاج معتقدا أنه محرم بعمرة, أو عكسه أجزأه.
تنبيه:
من المشكل على ما قررناه ما صححوه من أن الذي أدرك الإمام في الجمعة بعد ركوع الثانية ينوي الجمعة مع أنه إنما يصلي الظهر, وعلله الرافعي بموافقة الإمام, قال الأسنوي: ولا يخفى ضعف هذا التعليل, بل الصواب ما ذكروه فيمن لا عذر له, إذا ترك الإحرام بالجمعة, حتى رفع الإمام من الركعة الثانية, ثم أراد الإحرام بالظهر قبل السلام, فإنهم قالوا: إن الأصح عدم انعقادها, وعللوه بأنا تيقنا انعقاد الجمعة وشككنا في فواتها ; إذ يحتمل أن يكون الإمام قد ترك ركنا من الركعة الأولى ويتذكره قبل السلام, فيأتي به, وعلى هذا فليس لنا من ينوي غير ما يؤدي إلا في هذه الصورة.
ص -17-
الأمر الثالث: مما يترتب على ما شرعت النية لأجله. وهو التمييز اشتراط التعرض للفرضية
وفي وجوبها في الوضوء, والغسل, والصلاة, والزكاة, والصوم, والخطبة, وجهان, والأصح اشتراطها في الغسل دون الوضوء ; لأن الغسل قد يكون عادة, والوضوء لا يكون إلا عبادة.
ووجه اشتراطها في الوضوء أنه قد يكون تجديدا, فلا يكون فرضا, وهو قوي وفي الصلاة دون الصوم ; لأن الظهر تقع مثلا نفلا كالمعادة, وصلاة الصبي, ورمضان, لا يكون من البالغ إلا فرضا فلم يحتج إلى التقييد به.
وأما الزكاة, فالأصح الاشتراط فيها إن أتى بلفظ الصدقة, وعدمه إن أتى بلفظ الزكاة ; لأن الصدقة قد تكون فرضا وقد تكون نفلا فلا يكفي مجردها, والزكاة لا تكون إلا فرضا لأنها اسم للفرض المتعلق بالمال, فلا حاجة إلى تقييدها به.
وأما الحج والعمرة فلا يشترط فيهما بلا خلاف لأنه لو نوى النفل انصرف إلى الفرض, ويشترط في الكفارات بلا خلاف لأن العتق أو الصوم أو الإطعام يكون فرضا ونفلا.
إذا عرفت ذلك ; فقول ابن القاص في التلخيص: لا يجزي فرض بغير نية فرض إلا في ثلاثة: الحج, والعمرة, والزكاة. يزاد عليه: والوضوء والصوم فتصير خمسة, وسادس: وهو الجماعة فإنها فرض, ولا يشترط في نيتها الفرضية. وسابع وهو الخطبة إن قلنا باشتراط نيتها وبعدم فرضيتها.
وإن شئت قلت: العبادات في التعرض للفرضية على أربعة أقسام: ما يشترط فيه بلا خلاف, وهو الكفارات: ما لا يشترط فيه بلا خلاف, وهو الحج والعمرة والجماعة. وما يشترط فيه على الأصح, وهو الغسل والصلاة والزكاة بلفظ الصدقة. وما لا يشترط فيه على الأصح, وهو الوضوء والصوم والزكاة بلفظها والخطبة.
تنبيهات:
الأول: لا خلاف أن التعرض لنية الفرضية في الوضوء أكمل, إذا لم نوجبه, وفيه إشكال إذا وقع قبل الوقت, بناء على أن الوضوء لا يجب بالحدث.
وجوابه: أن المراد بها فعل طهارة الحدث المشروطة في صحة الصلاة, وشرط الشيء يسمى فرضا من حيث إنه لا يصح إلا به, ولو كان المراد حقيقة الفرضية, لما صح وضوء الصبي بهذه النية.
الثاني: يختص وجوب نية الفرضية في الصلاة بالبالغ, أما الصبي فنقل في شرح المهذب عن الرافعي أنه كالبالغ, ثم قال إنه ضعيف والصواب أنه لا يشترط
ص -18-
في حقه نية الفرضية وكيف ينويها وصلاته لا تقع فرضا؟
الثالث: من المشكل ما صححه الأكثرون في الصلاة المعادة أن ينوي بها الفرض مع قولهم بأن الفرض أولى, ولذلك اختار في زوائد الروضة وشرح المهذب قول إمام الحرمين: إنه ينوي للظهر أو العصر مثلا ولا يتعرض للفرض. قال في شرح المهذب: وهو الذي تقتضيه القواعد والأدلة. وقال السبكي: لعل مراد الأكثرين أنه ينوي إعادة الصلاة المفروضة, حتى لا يكون نفلا مبتدأ.
الرابع: لا يكفي في التيمم نية الفرضية في الأصح: فلو نوى فرض التيمم أو التيمم المفروض أو فرض الطهارة لم يصح, وفي وجه يصح كالوضوء, قال إمام الحرمين: والفرق أن الوضوء مقصود في نفسه ولهذا استحب تجديده, بخلاف التيمم.
قلت: والأولى أن يقال: إن التمييز لا يحصل بذلك ; لأن التيمم عن الحدث والجنابة فرض, وصورته واحدة, بخلاف الوضوء والغسل, فإنهما يتميزان بالصورة.
وإنما قلت هذا ليتخرج على قاعدة التمييز, كما قال الشيخ عز الدين: إنما شرعت النية في التيمم, وإن لم يكن متلبسا بالعادة, لتمييز رتبته, فإن التيمم عن الحدث الأصغر عين التيمم عن الأكبر, وهما مختلفان.
الخامس: لا يشترط في الفرائض تعيين فرض العين بلا خلاف وكذا صلاة الجنازة لا يشترط فيها نية فرض الكفاية على الأصح, والثاني يشترط, لتتميز عن فرض العين.
اشتراط الأداء والقضاء. وفيهما في الصلاة أوجه:
أحدها: الاشتراط, واختاره إمام الحرمين, طردا لقاعدة الحكمة التي شرعت لها النية ; لأن رتبة إقامة الفرض في وقته تخالف رتبة تدارك الفائت, فلا بد من التعرض في كل منهما للتمييز.
والثاني: تشترط نية القضاء دون الأداء ; لأن الأداء يتميز بالوقت, بخلاف القضاء.
والثالث: إن كان عليه فائتة اشترط في المؤداة نية الأداء, وإلا فلا, وبه قطع الماوردي.
والرابع: وهو الأصح لا يشترطان مطلقا, لنص الشافعي على صحة صلاة المجتهد في يوم الغيم, وصوم الأسير إذا نوى الأداء, فبانا بعد الوقت. وللأولين أن يجيبوا بأنهما معذوران, وأما غير الصلاة فقل من تعرض له.
وقد بسط العلائي الكلام في ذلك في كتابه "فصل القضاء في الأداء والقضاء", فقال: ما لا يوصف من العبادات بأداء ولا قضاء, فلا ريب في أنه لا يحتاج إلى نية أداء ولا قضاء ويلحق بذلك ماله وقت محدود, ولكنه لا يقبل القضاء كالجمعة فلا يحتاج فيها إلى نية الأداء إذ لا يلتبس بها قضاء فتحتاج إلى نية مميزة, وأما سائر النوافل التي تقضى, فهي كبقية الصلوات في جريان الخلاف. وأما الصوم فالذي يظهر ترجيحه أن نية القضاء لا بد منها. وقد صرح به
ص -19-
في التتمة, فجزم باشتراط التعرض فيه لنية القضاء دون الأداء, لتمييزه بالوقت. انتهى.
قلت: وقد ذكر الشيخان في الصوم الخلاف في نية الأداء, وبقي الحج والعمرة ولا شك أنهما لا يشترطان فيهما; إذ لو نوى بالقضاء الأداء لم يضره وانصرف إلى القضاء, ولو كان عليه قضاء حج أفسده في صباه أو رقه, ثم بلغ أو عتق فنوى القضاء, انصرف إلى حجة الإسلام وهي الأداء.
وأما صلاة الجنازة: فالذي يظهر أنه يتصور فيها الأداء والقضاء لأن وقتها محدود بالدفن, فإن صح أنها بعده قضاء فلا يبعد جريان الخلاف فيهما.
وأما الكفارة: فنص الشافعي في كفارة الظهار على أنها تصير قضاء إذا جامع قبل أدائها ولا شك في عدم الاشتراط فيها.
وأما الزكاة: فيتصور القضاء فيها في زكاة الفطر, والظاهر أيضا عدم الاشتراط, وإذا ترك رمي يوم النحر أو يوما آخر تداركه في باقي الأيام, ولا دم, وهل هو أداء أو قضاء؟ سيأتي الكلام فيه في مبحثه
الأمر الخامس: مما يترتب على التمييز: الإخلاص
ومن ثم لم تقبل النيابة ; لأن المقصود اختبار سر العبادة, قال ابن القاص وغيره: لا يجوز التوكيل في النية إلا فيما اقترنت بفعل, كتفرقة زكاة, وذبح أضحية, وصوم عن الميت وحج وقال بعض المتأخرين: الإخلاص أمر زائد على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه, ونظر الفقهاء قاصر على النية, وأحكامهم إنما تجري عليها, وأما الإخلاص فأمره إلى الله, ومن ثم صححوا عدم وجوب الإضافة إلى الله في جميع العبادات.
ثم للتشريك في النية نظائر ; وضابطها أقسام:
الأول: أن ينوى مع العبادة ما ليس بعبادة فقد يبطلها, ويحضرني منه صورة:
وهي ما إذا ذبح الأضحية لله ولغيره ; فانضمام غيره يوجب حرمة الذبيحة ; ويقرب من ذلك ما لو كبر للإحرام مرات ونوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة, فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار ; ويخرج بالأشفاع ; لأن من افتتح صلاة ثم افتتح أخرى بطلت صلاته ; لأنه يتضمن قطع الأولى, فلو نوى الخروج بين التكبيرتين خرج بالنية ودخل بالتكبيرة, ولو لم ينو بالتكبيرات شيئا ; لا دخولا ولا خروجا: صح دخوله بالأولى ; والبواقي ذكر, وقد لا يبطلها, وفيه صور:
منها: ما لو نوى الوضوء أو الغسل والتبرد, ففي وجه لا يصح للتشريك ; والأصح الصحة ; لأن التبرد حاصل: قصده أم لا, فلم يجعل قصده تشريكا وتركا للإخلاص
ص -20-
بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها ; لأن من ضرورتها حصول التبرد.
ومنها: ما لو نوى الصوم, أو الحمية أو التداوي, وفيه الخلاف المذكور.
ومنها: ما لو نوى الصلاة ودفع غريمه صحت صلاته لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد, وفيه وجه خرجه ابن أخي صاحب الشامل من مسألة التبرد.
ومنها: لو نوى الطواف وملازمة غريمه, أو السعي خلفه, والأصح الصحة, لما ذكر, فلو لم يفرد الطواف بنية لم يصح ; لأنه إنما يصح بدونها, لانسحاب حكم النية في أصل النسك عليه. فإذا قصد ملازمة الغريم كان ذلك صارفا له ولم يبق للاندراج أثر كما سيأتي.
ونظير ذلك في الوضوء: أن تعزب نية رفع الحدث ثم ينوي التبرد أو التنظيف, والأصح أنه لا يحسب المغسول حينئذ من الوضوء.
ومنها: ماحكاه النووي عن جماعة من الأصحاب فيمن قال له إنسان: صل الظهر ولك دينار, فصلى بهذه النية أنه تجزئه صلاته, ولا يستحق الدينار, ولم يحك فيها خلافه.
ومنها: ما إذا قرأ في الصلاة آية وقصد بها القراءة والإفهام, فإنها لا تبطل.
ومنها ( 1 ):
تنبيه: ما صححوه من الصحة في هذه الصور هو بالنسبة إلى الإجزاء, وأما الثواب فصرح ابن الصباغ بعدم حصوله في مسألة التبرد, نقله في الخادم ولا شك أن مسألة الصلاة والطواف أولى بذلك.
ومن نظائر ذلك: مسألة السفر للحج والتجارة, والذي اختاره ابن عبد السلام أنه لا أجر له مطلقا, تساوى القصدان أم لا, واختار الغزالي اعتبار الباعث على العمل, فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر, وإن كان الديني أغلب كان له الأجر بقدره, وإن تساويا تساقطا.
قلت: المختار قول الغزالي ; ففي الصحيح وغيره "أن الصحابة تأثموا أن يتجروا في الموسم بمنى فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج.
القسم الثاني: أن ينوى مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة. وفيه صور:
منها ما لا يقتضي البطلان ويحصلان معا, ومنها ما يحصل الفرض فقط, ومنها ما يحصل النفل فقط ومنها: ما يقتضي البطلان في الكل.
فمن الأول: أحرم بصلاة ونوى بها الفرض والتحية ; صحت, وحصلا معا, قال في شرح المهذب: اتفق عليه أصحابنا, ولم أر فيه خلافا بعد البحث الشديد سنين. وقال الرافعي وابن الصلاح: لا بد من جريان خلاف فيه كمسألة التبرد, قال النووي: والفرق
ص -21-
ظاهر, فإن الذي اعتمده الأصحاب في تعليل البطلان في مسألة التبرد هو التشريك بين القربة وغيرها وهذا مفقود في مسألة التحية, فإن الفرض والتحية قربتان. إحداهما: تحصل بلا قصد, فلا يضر فيها القصد, كما لو رفع الإمام صوته بالتكبير ليسمع المأمومين, فإن صلاته صحيحة بالإجماع, وإن كان قصد أمرين, لكنهما قربتان. انتهى.
نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة, حصلا جميعا على الصحيح, وفيه وجه.
والفرق بينه وبين التحية حيث لم يجر فيها أنها تحصل ضمنا ولو لم ينوها, وهذا بخلافها.
نوى بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الحاضرين حصلا.
نوى حج الفرض وقرنه بعمرة تطوع أو عكسه حصلا.
ولو نوى بصلاته الفرض وتعليم الناس جاز للحديث. ذكره السنجي في شرح التلخيص. صام في يوم عرفة مثلا قضاء أو نذرا, أو كفارة ; ونوى معه الصوم عن عرفة, فأفتى البارزي بالصحة, والحصول عنهما, قال: وكذا إن أطلق فألحقه بمسألة التحية, قال الأسنوي: وهو مردود والقياس أن لا يصلح في صورة التشريك واحد منهما, وأن يحصل الفرض فقط في صورة الإطلاق.
ومن الثاني: نوى بحجه الفرض والتطوع, وقع فرضا ; لأنه لو نوى التطوع انصرف إلى الفرض.
صلى الفائتة في ليالي رمضان, ونوى معها التراويح ففي فتاوى ابن الصلاح حصلت الفائتة دون التراويح. قال الأسنوي: وفيه نظر ; لأن التشريك مقتض للإبطال. ومن الثالث: أخرج خمسة دراهم, ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع, لم تقع زكاة ووقعت صدقة تطوع بلا خلاف.
عجز عن القراءة فانتقل إلى الذكر, فأتى بالتعوذ ودعاء الاستفتاح, قاصدا به السنة والبدلية لم يحسب عن الفرض, جزم به الرافعي.
خطب بقصد الجمعة والكسوف لم يصح للجمعة ; لأنه تشريك بين فرض ونفل, جزم به الرافعي.
ومن الرابع: كبر المسبوق والإمام راكع تكبيرة واحدة, ونوى بها التحريم والهوي إلى الركوع, لم تنعقد الصلاة أصلا, للتشريك. وفي وجه: تنعقد نفلا, كمسألة الزكاة, وفرق بأن الدراهم لم تجزئه عن الزكاة, فبقيت تبرعا وهذا معنى صدقة التطوع, وأما تكبيرة الإحرام فهي ركن لصلاة الفرض والنفل معا, ولم يتمحض هذا التكبير للإحرام فلم ينعقد فرضا, وكذا نفلا ; إذ لا فرق بينهما في اعتبار تكبيرة الإحرام.
نوى بصلاته الفرض والراتبة لم تنعقد أصلا
ص -22-
القسم الثالث: أن ينوي مع المفروضة فرضا آخر. قال ابن السبكي: ولا يجزئ ذلك إلا في الحج والعمرة.
قلت: بل لهما نظير آخر وهو أن ينوى الغسل والوضوء معا, فإنهما يحصلان على الأصح, وفي قول نص عليه في الأمالي لا يحصلان ; لأنهما واجبان مختلفان, فلا يتداخلان, كالصلاتين.
ولو طاف بنية الفرض والوداع صح للفرض وهل يكفي للوداع؟ حتى لو خرج عقبه أجزأه ولا يلزمه دم؟ لم أر فيه نقلا صريحا, وهو محتمل, وربما يفهم من كلامهم أنه لا يكفي.
وما عدا ذلك إذا نوى فرضين بطلا, إلا إذا أحرم بحجتين أو عمرتين, فإنه ينعقد واحدة, وإذا تيمم لفرضين, صح لواحد على الأصح.
"تذنيب": يشبه ذلك ما قيل: هل يتصور وقوع حجتين في عام؟ وقد قال الأسنوي: إنه ممنوع, وما قيل في طريقه من أنه يدفع بعد نصف الليل فيرمي ويحلق ويطوف, ثم يحرم من مكة ويعود قبل الفجر إلى عرفات, مردود بأنهم قالوا: إن المقيم بمنى للرمي لا تنعقد عمرته, لاشتغاله بالرمي, والحاج بقي عليه رمي أيام منى قال: وقد صرح باستحالة وقوع حجتين في عام جماعة منهم الماوردي, وكذلك أبو الطيب وحكى فيه الإجماع, ونص عليه الشافعي في الأم
الرابع: أن ينوي مع النفل نفلا آخر: فلا يحصلان. قاله القفال ونقض عليه بنيته الغسل للجمعة والعيد, فإنهما يحصلان.
قلت: وكذا لو اجتمع عيد وكسوف, خطب لهما خطبتين, بقصدهما جميعا ذكره في أصل الروضة, وعلله بأنهما سنتان, بخلاف الجمعة والكسوف, وينبغي أن يلحق بها ما لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلا, فيصح, وإن لم نقل بما تقدم عن البارزي فيما لو نوى فيه فرضا لأنهما سنتان, لكن في شرح المهذب في مسألة اجتماع العيد والكسوف أن فيما قالوه نظرا, قال: لأن السنتين إذا لم تدخل إحداهما في الأخرى لا ينعقد عند التشريك بينهما, كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر, بخلاف تحية المسجد وسنة الظهر مثلا ; لأن التحية تحصل ضمنا.
الخامس: أن ينوي مع غير العبادة شيئا آخر غيرها, وهما مختلفان في الحكم.
ومن فروعه: أن يقول لزوجته: أنت علي حرام, وينوي الطلاق والظهار, فالأصح أنه يخير بينهما, فما اختاره ثبت وقيل: يثبت. الطلاق لقوته. وقيل: الظهار, لأن الأصل بقاء النكاح.
ص -23-
المبحث الرابع: في وقت النية.
الأصل أن وقتها أول العبادات ونحوها. وخرج عن ذلك الصوم, فجوز تقديم نيته على أول الوقت, لعسر مراقبته ثم سرى ذلك إلى أن وجب. فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح.
قلت: وعلى حده جواز تأخير نية صوم النفل عن أوله. وبقي نظائر يجوز فيها تقديم النية على أول العبادة.
منها: الزكاة, فالأصح فيها جواز التقديم للنية على الدفع للعسر, قياسا على الصوم, وفي وجه: لا يجوز, بل يجب حالة الدفع إلى الأصناف, أو الإمام, كالصلاة.
ومنها: الكفارة, وفيها الوجهان في الزكاة. وذكر في الفرق بين الزكاة والكفارة وبين الصلاة أنهما يجوز تقديمهما على وجوبهما فجاز تقديم نيتهما, بخلاف الصلاة, وأنهما تقبلان النيابة, بخلافها.
قلت: الأول ينتقض بالصوم, والثاني بالحج.
ومنها: الجمع, فإن نيته في الصلاة الأولى, ولو كان في أول العبادة لكان في أول الصلاة الثانية ; لأنها المجموعة. وإن جعلت الأولى أول العبادة فهو مما جاز فيه التأخير عن أولها ; لأن الأظهر جواز النية في أثنائها, ومع التحلل منها, وفي قول: لا يجوز إلا في أول الأولى, وفي وجه: لا يجوز مع التحلل, وفي آخر: يجوز بعده قبل الإحرام بالثانية قال في شرح المهذب: وهو قوي.
ومنها: نية التمتع على الوجه القائل به, وفيه الأوجه في الجمع, فالأصح أن وقتها ما لم يفرغ من العمرة, والثاني: حالة الإحرام بها, والثالث: بعد التحلل منها, ما لم يشرع في الحج.
ومنها: نية الأضحية, يجوز تقديمها على الذبح ولا يجب اقترانها في الأصح, ويجوز عند الدفع إلى الوكيل في الأصح.
ومنها: في غير العبادات نية الاستثناء في اليمين, فإنها تجب قبل فراغ اليمين مع وجوبها في الاستثناء أيضا.
فرع:
مما جرى على هذا الأصل من اعتبار النية أول الفعل: ما نقله في الروضة وأصلها عن فتاوى البغوي, وأقره: أنه لو ضرب زوجته بالسوط عشر ضربات, فصاعدا متوالية فماتت ; فإن قصد في الابتداء العدد المهلك وجب القصاص, وإن قصد تأديبها بسوطين أو ثلاثة, ثم بدا له فجاوز فلا ; لأنه اختلط العمد بشبه العمد.
ص -24-
تنبيهات
الأول: ما أوله من العبادات ذكر, وجب اقترانها بكل اللفظ. وقيل: يكفي بأوله, فمن ذلك الصلاة. ومعنى اقترانها بكل التكبير: أن يوجد جميع النية المعتبرة عند كل حرف منه, ومعنى الاكتفاء بأوله: أنه لا يجب استصحابها إلى آخره, واختاره الإمام والغزالي.
ونظير ذلك: نية كناية الطلاق. وفيها الوجهان, قال في المنهاج: وشرط نية الكناية اقترانها بكل اللفظ, وقيل: يكفي بأوله, ورجح في أصل الروضة خلافهما فقال: ولو اقترنت بأول اللفظ دون آخره, أو عكسه طلقت في الأصح. والذي في الشرح: نقل ترجيح الوقوع في اقترانها بأوله عن الإمام والغزالي. قال: وسكتا عن الترجيح في اقترانها بآخره خاصة. وهو يشعر بأنهما رأيا فيه البطلان. وفي الشرح الصغير: في الأولى الأظهر الوقوع, وميل الإمام في الثانية إلى ترجيح عدمه, ثم حكى الرافعي عن المتولي: أنه قرب الخلاف في الأولى من الخلاف فيما إذا اقترنت نية الصلاة بأول التكبير, دون آخره, والخلاف في الثانية من الخلاف في نية الجمع في أثناء الصلاة. قال الرافعي: وقضيته أنه إذا كان الوقوع في الأولى أظهر ففي الثانية أولى ; لأن الأظهر في اقتران النية بأول التكبير عدم الانعقاد, وفي الجمع الصحة. وهذا هو الذي حمل النووي على تصحيح الوقوع فيهما.
وهنا دقيقة: وهو أن الرافعي مثل اقترانها بأوله دون آخره: بأن توجد عند قوله "أنت", وقال في المهمات: المعتبر اقترانها بلفظ الكناية: إما كله وإما بعضه, لأن القصد منها تفسير إرادة الطلاق به, فلا عبرة باقترانها بلفظ "أنت", قال: وقد صرح بهذا البندنيجي والماوردي وغيرهما.
قلت: ونظير ذلك في الصلاة أن يقال: المعتبر اقترانها باللفظ الذي يتوقف الانعقاد عليه, وهو "الله أكبر" فلو قال: الله الجليل أكبر, فهل يجب اقترانها بالجليل؟ محل نظر, ولم أر من ذكره, وفي الكواكب للأسنوي: إذا كتب: زوجتي طالق, ونوى وقع الطلاق في الأصح. قال: والقياس اشتراط النية في جميع اللفظ الذي لا بد منه, لا في لفظ الطلاق خاصة ; لأنا إنما اشترطنا النية فيه لكونه غير ملفوظ به, لا لانتفاء الصراحة فيه. وهذا المعنى موجود في الجميع, وحينئذ فينوي الزوجة حين يكتب "زوجتي" والطلاق حين يكتب "طالق" انتهى.
ونظير ذلك أيضا: كنايات البيع وسائر العقود, قال في الخادم: سكتوا عن وقتها, ويحتمل أن يأتي فيها ما في الطلاق, ويحتمل المنع, واشتراط وجودها في جميع اللفظ.
ص -25-
ويفرق بأن الطلاق مستقل بنفسه, بخلاف البيع ونحوه.
ومن ذلك الوضوء والغسل, فيستحب اقتران النية فيهما بالتسمية, كما صرح به في شرح المهذب. وعبارته في باب الغسل: ويستحب أن يبتدئ بالنية مع التسمية, ولم يستحضره الأسنوي فنقله عن المحب الطبري, وعبارته: والأولى أن تقارنها النية ; لأن تقديم النية عليها يؤدي إلى خلو بعض الفرائض عن التسمية, والعكس يؤدي إلى خلو بعض السنن عن النية.
ومن ذلك: الإحرام, فينبغي أن يقال بمقارنة النية التلبية وهو ظاهر, كما يفهم من كلامهم وإن لم يصرحوا به.
ومن ذلك: الطواف, وينبغي اقتران نيته بقوله: "بسم الله والله أكبر".
ومن ذلك: الخطبة, إن أوجبنا نيتها, والظاهر وجوب اقترانها بقوله "الحمد لله" لأنه أول الأركان. التنبيه الثاني: قد يكون للعبادة أول حقيقي, وأول نسبي, فيجب اقتران النية بهما.
من ذلك: التيمم, فيجب اقتران نيته بالنقل ; لأنه أول المفعول من أركانه, وبمسح الوجه ; لأنه أول الأركان المقصودة, والنقل وسيلة إليه.
ومن ذلك: الوضوء والغسل, فيجب للصحة اقتران نيتهما بأول مغسول من الوجه والبدن, ويجب للثواب اقترانهما بأول السنن السابقة, ليثاب عليها, فلو لم يفعل لم يثب عليها في الأصح لأنه لم ينوها.
وفي نظيره من الصوم: لو نوى أثناء النهار حصل له ثواب الصوم من أوله, وخرج منه وجه في الوضوء ; لأنه من جملة طهارة منوية, ولكن فرق بأن الصوم خصلة واحدة فإذا صح بعضها صح كلها, والوضوء أفعال متغايرة, فالانعطاف فيها بعيد, وبأنه لا ارتباط لصحة الوضوء بما قبله, بخلاف إمساك أول النهار.
والوجهان جاريان فيمن أكل بعض الأضحية وتصدق ببعضها, هل يثاب على الكل أو على ما تصدق به؟ قال الرافعي: وينبغي أن يقال: له ثواب التضحية بالكل والتصدق بالبعض.
ومن نظائر ذلك: نية الجماعة في الأثناء, أما في أثناء صلاة الإمام وفي أول صلاة المأموم فلا شك في حصول الفضيلة, لكن هل هي فضيلة الجماعة الكاملة أو لا؟ سيأتي تحرير القول في ذلك, فإن قلنا بالأول فقد عادت النية بالانعطاف, وبه صرح بعض شراح الحديث. وأما في أثناء صلاة المأموم, فإن الصلاة تصح في الأظهر, لكن تكره
ص -26-
كما في شرح المهذب. وأخذ من ذلك بعض المحققين عدم حصول الفضيلة بالكلية, لا أصلا ولا انعطافا, وسيأتي.
ومن النظائر المهمة: وقت نية الإمامة, ولم يتعرض الشيخان لهذه المسألة, وفيها اختلاف. قال صاحب البيان: عند حضور من يريد الاقتداء به ; لأنه قبل ذلك ليس بإمام. وارتضاه ابن الفركاح, فعلى هذا: يأتي الانعطاف وقال الجويني: عند التحرم. قال الأذرعي وهو: الصواب, ومقتضى كلام الأصحاب.
قلت: صدق وبر, فإن الأصحاب صححوا اشتراطها في الجمعة, فلو لم يأت بها في التحرم لم تنعقد جمعته.
ومنها: وقت نية الاغتراف, هل هو عند وضع يده في الماء, أو عند انفصاله؟ قال في الخادم: ينبغي أن يتخرج على الوجهين المحكيين عن القاضي حسين: أن الماء هل يحكم باستعماله إذا لم ينوها من إدخال اليد, أو من انفصالها عن الماء؟ قال: والأشبه الثاني.
التنبيه الثالث: العبادات ذات الأفعال يكتفى بالنية في أولها, ولا يحتاج إليها في كل فعل, اكتفاء بانسحابها عليها كالوضوء والصلاة, وكذا الحج, فلا يحتاج إلى إفراد الطواف والسعي والوقوف بنية على الأصح.
ثم منها ما يمنع فيه ذلك, ومنها ما لا يمنع, ومنها ما يشترط أن لا يقصد غيره, ومنها ما لا يشترط.
من الأول الصلاة, فلا يجوز تفريق النية على أركانها. ومن الثاني: الحج فيجوز نية الطواف والسعي والوقوف, بل هو الأكمل, وفي الوضوء وجهان: أحدهما: لا يجوز كالصلاة, والأصح الجواز. والفرق أن الوضوء يجوز تفريق أفعاله, فجاز تفريق نيته بخلاف الصلاة.
ولتفريق النية فيه صور: الأولى أن ينوي عند كل عضو رفع حدثه. الثانية: أن ينوي رفع حدث المغسول دون غيره. الثالثة: أن ينوي رفع الحدث عند كل عضو ويطلق, صرح بها ابن الصلاح.
ومن الثالث: الوضوء والصلاة والطواف والسعي, فلو عزبت نيته ثم نوى التبرد لم يحسب المفعول حتى يجدد النية, أو هوى لسجود تلاوة فجعله ركوعا, أو ركع ففزع من شيء, فرفع رأسه, أو سجد فشاكته شوكة فرفع رأسه, لم يجزه فعليه العود واستئناف الركوع والرفع, ولو طاف للحج بلا نية وقصد ملازمة غريمه لم يحسب عن الطواف.
ومن ذلك: مسألة الحامل فإذا حمل محرم عليه طواف محرما وطاف به وقصد الحامل الطواف عن المحمول فقط دون نفسه, وقع للمحمول فقط على الأصح ; لأنه
ص -27-
صرف الطواف لغرض آخر, ولو قصد نفسه أو كليهما وقع للحامل فقط, وكذا لو لم يقصد شيئا, كما في شرح المهذب, ولو نام في الطواف على هيئة لا تنقض الوضوء قال إمام الحرمين: هذا يقرب من صرف النية إلى طلب الغريم. قال: ويجوز أن يقطع بصحة الطواف, لأنه لم يصرف الطواف إلى غير النسك, ولا يضر كونه غير ذاكرها. قال النووي: وهذا أصح.
قلت: ونظيره في الوضوء, لو نام قاعدا, ثم انتبه في مدة يسيرة, لم يجب تجديد النية في الأصح, كما في شرح المهذب, ولو أمر بصب الماء في وضوئه, فصب عليه ناسيا بعد ما غسل بعض أعضائه بنفسه فإنه يصح, ذكره فيه أيضا.
ومن الرابع: الوقوف, فالأصح أنه لا يضر صرفه إلى غيره, فلو مر بعرفات في طلب آبق أو ضالة, ولا يدري أنها عرفات صح وقوفه. قال الإمام: والفرق بينه وبين مسألة صرف الطواف أن الطواف قد يقع قربة مستقلة, بخلاف الوقوف, ولهذا لو حمله في الوقوف أجزأ عنهما مطلقا ; بخلاف الطواف.
"تنبيه" من مشكلات هذا الأصل: ما سمعته من بعض مشايخي, أن الأصح إيجاب نية سجود السهو دون نية سجود التلاوة في الصلاة, وعلل الأخير بأن نية الصلاة تشمله, وعندي: أن العكس كان أولى ; لأن سجود السهو أعلق بالصلاة من سجود التلاوة ; لأنه آكد, بدليل أنه يشرع للمأموم إذا سها الإمام ولم يسجد ; بخلاف ما إذا تلا الإمام ولم يسجد, والذي يظهر لي في توجيه ذلك, إن صح أن يقال: التلاوة من لوازم الصلاة, فكأن الناوي عند نيتها مستحضر لها, وفي ذكره تعرض لها, وليس السهو نفسه من لوازم الصلاة, بل وقوعه فيها خلاف الغالب, فلم يكن في النية إيماء إليه ولا ادكار.
ونظير ذلك: فدية المحظورات في الحج والعمرة, فإنه لا بد لها من النية. ولا يقال: يكتفى بنية الإحرام ; لأنها ليست من لوازم الإحرام, ولا من ضرورياته. بخلاف طواف القدوم مثلا, فإنه وإن لم يكن من ماهية الحج, ولا أبعاضه, ولا هيئاته, بل هو أجنبي منه محض, لكنه من لوازمه فلذلك لا يشترط له نية, كما صرح به الشيخ أبو حامد. ونقله عنه ابن الرفعة: اكتفاء بنية الحج فهو نظير سجود التلاوة في الصلاة, ثم إني تتبعت كلام الشيخين وغيرهما فلم أر أحدا ذكر وجوب النية في سجود السهو إلا على القول القديم أن محله بعد السلام. أما على الجديد الأظهر فلم يذكروا ذلك أصلا, بل صرحوا بخلافه, فقالوا فيما إذا سلم ناسيا ثم عاد للسجود هل يكون عائدا إلى الصلاة؟ وجهان: أصحهما: نعم, والثاني: لا. فإن قلنا: نعم, لم يحتج إلى تحر, وإلا احتاج إليه, وهذا كلام لا غبار عليه, والتقليد آفة كبيرة.
ومن ذلك: الوضوء المسنون في الغسل. قال الرافعي: وإنما يعد الوضوء من مندوبات
ص -28-
الغسل إذا كان جنبا غير محدث, أو قلنا بالاندراج, وإلا فلا, وعلى هذا يحتاج إلى إفراده بنية ; لأنه عبادة مستقلة. وعلى الأصح: لا. قال الأسنوي: ومقتضاه أن نية الغسل تكفي فيه, كما تكفي نية الوضوء في حصول المضمضة والاستنشاق, وبه صرح ابن الرفعة في الكفاية. ورأيته في شرح المفتاح لأبي خلف الطبري, قال: وهو عجيب, فإن نية الغسل على هذا التقدير لا بد أن تقارن أول هذا الوضوء ; إذ لو تأخرت عنه لم يكن المأتي به وضوءا, بل ولا عبادة. ونية الغسل فقط لا تكفي, بل لا بد أن ينوي الغسل من الجنابة أو نحوه. وإذا أتى بذلك ارتفعت الجنابة عن المغسول من أعضاء الوضوء بلا نزاع, لوجود الشرائط, فيكون المأتي به غسلا لا وضوءا, وليس ذلك كالمضمضة والاستنشاق فإن محلهما غير محل الواجب, فظهر اندفاع ما قالوه. قال: فالصواب ما ذكره النووي في الروضة وغيرها: أنه إن تجردت الجنابة عن الحدث نوى بوضوئه سنة الغسل, وإن اجتمعا نوى به رفع الحدث الأصغر, ليخرج من الخلاف ; وسبقه إليه ابن الصلاح.
ومن ذلك: الأغسال المسنونة في الحج. أما الغسل لدخول مكة, فصرح في التتمة بأنه لا يحتاج إلى نية ; لأن نية الحج تشمله, وقياسه أن يكون غسل الوقوف وما بعده كذلك. وأما غسل الإحرام فجزم الإمام بعدم احتياجه إلى النية أيضا, ثم قال: وفيه أدنى نظر. وفي الذخائر: في صحة غسل الإحرام من الحائض دليل أنه لا يحتاج إلى نية. قال: ويفرق بينه وبين غسل الجمعة بأن الإحرام من سننه, ونية الحج مشتملة على جميع أفعاله فرضا وسنة فلا يحتاج إلى نية, بخلاف غسل الجمعة فإنه سنة مستقلة وليس جزءا من الصلاة.
ورد هذا بأنه إنما يصح لو نوى الإحرام أولا والسنة تقديم الغسل, فلا تنعطف عليه النية.
ولهذا صحح في الروضة وأصلها احتياجه إلى النية, وإن كان فرض المسألة في الحائض فقط.
وقال ابن الرفعة: ينبغي أن يبنى ذلك على انعطاف النية في الوضوء, فإن قلنا به فكذلك هنا, فلا يحتاج إلى النية وإلا فلا.
ومن ذلك: ركعتا الطواف يشترط فيهما النية قطعا, ولا ينسحب عليهما نية الإحرام لأنها محض صلاة, فافتقرت إليها بخلاف الطواف, فإنه بالوقوف أشبه, ولأنها تابعة للطواف وهو تابع للإحرام فلا تنسحب نيته على تابع التابع, وهذا تعليل حسن ظريف, له نظير في العربية.
ومن ذلك: طواف الوداع, وقد حكى السنجي في شرح التلخيص عن القفال أنه
ص -29-
لا يحتاج إلى النية, كسائر الأركان. وجزم ابن الرفعة بأنه يحتاج إليها, لأنه يقع بعد التحلل التام.قال في الخادم: وينبغي أن يتخرج على الخلاف في أنه من المناسك أم لا؟
"تنبيه": تشترط النية في طواف النذر والتطوع, بلا خلاف لانتفاء العلة وهي الاندراج. وعلى هذا يقال: لنا عبادة تجب النية في نفلها دون فرضها, وهو الطواف ولا نظير لذلك.
خاتمة: من نظائر هذا الأصل: أن نية التجارة إذا اقترنت بالشراء صار المشترى مال تجارة, ولا تحتاج كل معاملة إلى نية جديدة ; لانسحاب حكم النية أولا عليه.
المبحث الخامس: في محل النية
محلها القلب في كل موضع ; لأن حقيقتها القصد مطلقا, وقيل: المقارن للفعل, وذلك عبارة عن فعل القلب. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا من جلب نفع أو دفع ضر, حالا أو مآلا, والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى, وامتثال حكمه.
والحاصل أن هنا أصلين: الأول: أنه لا يكفي التلفظ باللسان دونه. والثاني: أنه لا يشترط مع القلب التلفظ.
أما الأول فمن فروعه: لو اختلف اللسان والقلب, فالعبرة بما في القلب, فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد, صح الوضوء, أو عكسه فلا, وكذا لو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر, أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة, أو عكسه صح له ما في القلب.
ومنها: إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد فلا تنعقد, ولا يتعلق به كفارة, أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره, هذا في الحلف بالله, فلو جرى مثل ذلك في الإيلاء أو الطلاق أو العتاق, لم يتعلق به شيء باطنا, ويدين, ولا يقبل في الظاهر لتعلق حق الغير به.
وذكر الإمام في الفرق: أن العادة جرت بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد, بخلاف الطلاق والعتاق, فدعواه فيهما تخالف الظاهر فلا يقبل.
قال: وكذا لو اقترن باليمين ما يدل على القصد.
وفي البحر: أن الشافعي نص في البويطي على أن من صرح بالطلاق أو الظهار أو العتاق, ولم يكن له نية, لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق.
ومنها: أن يقصد لفظ الطلاق والعتق دون معناه الشرعي, بل يقصد معنى له آخر, أو يقصد ضم شيء إليه برفع حكمه, وفيه فروع بعضها يقبل فيه, وبعضها لا, وكلها لا تقتضي الوقوع في نفس الأمر ; لفقد القصد القلبي.
قال الفوراني في الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه, فإذا نواه قبل
ص -30-
فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم, وقال نحوه القاضي حسين والبغوي, والإمام في النهاية وغيرهم.
وهذه أمثلته: قال: أنت طالق: ثم قال: أردت من وثاق, ولا قرينة, لم يقبل في الحكم ويدين, فإن كان قرينة, كأن كانت مربوطة فحلها, وقال ذلك, قبل ظاهرا. مر بعبد له على مكاس, فطالبه بمكسه, فقال: إنه حر وليس بعبد, وقصد التخليص لا العتق لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى, كذا في فتاوى الغزالي, قال الرافعي: وهو يشير إلى أنه لا يقبل ظاهرا. قال في المهمات: وقياس مسألة الوثاق أن يقبل ; لأن مطالبة المكاس قرينة ظاهرة في إرادة صرف اللفظ عن ظاهره,
ورد بأنه ليس قرينة دالة على ذلك, وإنما نظير مسألة الوثاق, أن يقال له: أمتك بغي, فيقول: بل حرة, فهو قرينة ظاهرة على إرادة العفة لا العتق. انتهى.
زاحمته امرأة, فقال تأخري يا حرة, وكانت أمته وهو لا يشعر, أفتى الغزالي بأنها لا تعتق. قال الرافعي: فإن أراده في الظاهر فيمكن أن يفرق بأنه لا يدري من يخاطب هاهنا, وعنده أنه يخاطب غير أمته وهناك خاطب العبد باللفظ الصريح.
وفي البسيط أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئا, فلم يعطوه, فقال متضجرا منهم: طلقتكم ثلاثا, وكانت زوجته فيهم, وهو لا يعلم. فأفتى إمام الحرمين بوقوع الطلاق, قال الغزالي وفي القلب منه شيء. قال الرافعي: ولك أن تقول: ينبغي أن لا تطلق ; لأن قوله "طلقتكم" لفظ عام, وهو يقبل الاستثناء بالنية, كما لو حلف لا يسلم على زيد, فسلم على قوم هو فيهم, واستثناه بقلبه لم يحنث, وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم كان مقصوده غيرها. وقال النووي: ما قاله الإمام والرافعي عجيب, أما العجب من الرافعي فلأن هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد ; لأنه هناك علم به واستثناه, وهنا لم يعلم بها ولم يستثنها, واللفظ يقتضي الجميع, إلا ما أخرجه ولم يخرجها. وأما العجب من الإمام فلأن الشرط قصد لفظ الطلاق بمعنى الطلاق, ولا يكفي قصد لفظ من غير قصد معناه, ومعلوم أن الواعظ لم يقصد معنى الطلاق, فينبغي أن لا تطلق لذلك لما ذكره الرافعي. وقال في المهمات: ونظير ذلك ما حكيناه, عن الغزالي في مسألة "تأخري يا حرة" أنها لا تعتق.
وقال البلقيني فتح الله بتخريجين آخرين, يقتضيان عدم وقوع الطلاق: أحدهما: أن يخرج ذلك على من حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم وهو لا يعلم أنه فيهم, والمذهب أنه لا يحنث, وهذا غير مسألة الرافعي التي قاس عليها, فإنه هناك علم واستثنى وهنا لم يعلم أصلا.
الثاني: أن الطلاق لغة: الهجر, وشرعا: حل قيد النكاح بوجه مخصوص, ولا يمكن حمل كلام الواعظ على المشترك ; لأنه هنا متعذر ; لأن شرط حمل المشترك على معنييه أن
ص -31-
لا يتضادا, فتعينت اللغوية, وهو لا يفيد إيقاع الطلاق على زوجته ; بل لو صرح فقال: طلقتكم وزوجتي, لم يقع الطلاق عليها, كما قالوه في: "نساء العالمين طوالق وأنت يا فاطمة" من جهة أنه عطف على نسوة لم تطلق. انتهى.
قال يا طالق وهو اسمها ; ولم يقصد الطلاق لم تطلق, وكذا لو كان اسمها طارقا أو طالبا وقال قصدت النداء فالتف الحرف,
قال: أنت طالق, ثم قال: أردت إن شاء زيد أو إن دخلت الدار دين ولم يقبل ظاهرا. قال: كل امرأة لي طالق, وقال أردت غير فلانة دين, ولم يقبل ظاهرا إلا لقرينة ; بأن خاصمته وقالت تزوجت, فقال ذلك, وقال: أردت غير المخاصمة, ولو وقع ذلك في اليمين قبل مطلقا ; كأن يحلف لا يكلم أحدا ويريد زيدا, أو لا يأكل طعاما ويريد شيئا معينا. قال أنت طالق, ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها دين.
قال: طلقتك, ثم قال, أردت طلبتك دين.
قال: أنت طالق إن كلمت زيدا, ثم قال: أردت إن كلمته شهرا. قال الإمام: نص الشافعي أنه لا يقع الطلاق باطنا بعد الشهر, فلو كان في الحلف بالله قبل ظاهرا أيضا.
قال: أنت طالق ثلاثا للسنة وقال نويت تفريقها على الأقراء ; دين ولم يقبل ظاهرا ; لأن اللفظ يقتضي وقوع الكل في الحال إلا لقرينة, بأن كان يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد ولو لم يقل للسنة, ففي المنهاج أنه كما لو قال. والذي في الشرحين والمحرر: أنه لا يقبل مطلقا ولا ممن يعتقد التحريم.
قال: لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق, وقال: أردت الأجنبية قبل, بخلاف ما لو قال: عمرة طالق ; وهو اسم امرأته, وقال: أردت أجنبية, فإنه يدين ولا يقبل.
تتمة:
استثنى مواضع يكتفى فيها باللفظ. على رأي ضعيف:
منها: الزكاة: ففي وجه أو قول يكفي نيتها لفظا. واستدل بأنها تخرج من مال المرتد ولا تصح نيته, وتجوز النيابة فيها, ولو كانت نية القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها لأن النيات سر العبادات والإخلاص فيها. قال: ولا يرد على ذلك الحج حيث تجري فيه النيابة وتشترط فيه نية القلب, لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج. وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهلها كالعبد والكافر.
ومنها: إذا لبى بحج أو عمرة ولم ينو, ففي قول: إنه ينعقد ويلزمه ما سمى لأنه التزمه بالتسمية, وعلى هذا لو لبى مطلقا انعقد الإحرام مطلقا.
ومنها إذا أحرم مطلقا, ففي وجه يصح صرفه إلى الحج والعمرة باللفظ, والأصح في الكل أنه لا أثر للفظ.
ص -32-
وأما الأصل الثاني: وهو أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ فيه, ففيه فروع كثيرة منها كل العبادات. ومنها: إذا أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا, فإنها تصير مسجدا بمجرد النية, ولا يحتاج إلى لفظ.
ومنها: من حلف لا يسلم على زيد, فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بالنية, فإنه لا يحنث, بخلاف من حلف لا يدخل عليه ; فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه, وقصد الدخول على غيره, فإنه يحنث في الأصح, والفرق أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء, ولا ينتظم أن يقول: دخلت عليكم إلا على فلان, ويصح أن يقال: سلمت عليكم إلا على فلان.
وخرج عن هذا الأصل صور, بعضها على رأي ضعيف.
منها: الإحرام, ففي وجه أو قول, أنه لا ينعقد بمجرد النية حتى يلبي, وفي آخر: يشترط التلبية أو سوق الهدي وتقليده, وفي آخر: أن التلبية واجبة, لا شرط للانعقاد فعليه دم, والأصح أنها لا شرط ولا واجبة, فينعقد الإحرام بدونها ولا يلزمه شيء.
ومنها: لو نوى النذر أو الطلاق بقلبه ولم يتلفظ, لم ينعقد النذر ولا يقع الطلاق.
ومنها: اشترى شاة بنية التضحية أو الإهداء, لم تصر كذلك على الصحيح حتى يتلفظ. ومنها: باع بألف وفي البلد نقود لا غالب فيها, فقبل ونويا نوعا لم يصح في الأصح حتى يبيناه لفظا, وفي نظيره من الخلع: يصح في الأصح لأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع. وفي نظيره من النكاح لو قال من له بنات: زوجتك بنتي, ونويا واحدة صح على الأصح.
ومنها لو قال أنت طالق, ثم قال أردت إن شاء الله تعالى لم يقبل. قال الرافعي: والمشهور أنه لا يدين أيضا, بخلاف ما إذا قال: أردت إن دخلت ; أو إن شاء زيد فإنه يدين وإن لم يقبل ظاهرا, قال: والفرق بين إن شاء الله وبين سائر صور التعليق ; أن التعليق بمشيئة الله يرفع حكم الطلاق جملة فلا بد فيه من اللفظ, والتعليق بالدخول ونحوه لا يرفعه جملة, بل يخصصه بحال دون حال.
ومنها: من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به".
ووقع في فتاوى قاضي القضاة تقي الدين بن رزين أن الإنسان إذا عزم على معصية فإن كان قد فعلها ولم يتب منها فهو مؤاخذ بهذا العزم لأنه إصرار, وقد تكلم السبكي في الحلبيات على ذلك كلاما مبسوطا أحسن فيه جدا فقال: الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس: وهو ما يلقى فيها, ثم جريانه فيها وهو الخاطر, ثم حديث النفس: وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا؟ ثم الهم: وهو ترجيح قصد الفعل, ثم العزم: وهو قوة ذلك القصد والجزم به, فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعا لأنه ليس
ص -33-
من فعله ; وإنما هو شيء ورد عليه, لا قدرة له ولا صنع, والخاطر الذي بعده كان قادرا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده, ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح, وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى. وهذه المراتب الثلاثة أيضا لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر. أما الأول فظاهر, وأما الثاني والثالث فلعدم القصد, وأما الهم فقد بين الحديث الصحيح: "إن الهم بالحسنة, يكتب حسنة, والهم بالسيئة لا يكتب سيئة, وينتظر فإن تركها لله كتبت حسنة, وإن فعلها كتبت سيئة واحدة" والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده ; وهو معنى قوله "واحدة", وأن الهم مرفوع.
ومن هذا يعلم أن قوله في حديث النفس: "ما لم يتكلم أو يعمل" ليس له مفهوم, حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت يكتب عليه حديث النفس ; لأنه إذا كان الهم لا يكتب, فحديث النفس أولى, هذا كلامه في الحلبيات.
وقد خالفه في شرح المنهاج فقال: إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم: "أو تعمل" ولم يقل أو تعمله, قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية, وإن كان المشي في نفسه مباحا, لكن لانضمام قصد الحرام إليه, فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده, أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق "أو تعمل" المؤاخذة به. قال: فاشدد بهذه الفائدة يديك, واتخذها أصلا يعود نفعه عليك.
وقال ولده في منع الموانع: هنا دقيقة نبهنا عليها في جمع الجوامع وهي: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقا بل بشرط عدم التكلم والعمل, وحتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله, ولا يكون همه مغفورا, وحديث نفسه إلا إذا لم يتعقبه العمل, كما هو ظاهر الحديث, ثم حكى كلام أبيه الذي في شرح المنهاج, والذي في الحلبيات ورجح المؤاخذة,
ثم قال في الحلبيات: وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به, وخالف بعضهم وقال: إنه من الهم المرفوع, وربما تمسك بقول أهل اللغة, هم بالشيء عزم عليه, والتمسك بهذا غير سديد لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق.
واحتج الأولون بحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "كان حريصا على قتل صاحبه", فعلل بالحرص, واحتجوا أيضا بالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد ونحوه, وبقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} على تفسير الإلحاد بالمعصية, ثم قال: إن التوبة واجبة على الفور, ومن ضرورتها العزم على عدم العود, فمتى عزم على العود
ص -34-
قبل أن يتوب منها, فذلك مضاد للتوبة, فيؤاخذ به بلا إشكال, وهو الذي قاله ابن رزين, ثم قال في آخر جوابه: والعزم على الكبيرة, وإن كان سيئة, فهو دون الكبيرة المعزوم عليها.
المبحث السادس: في شروط النية.
الأول: الإسلام, ومن ثم لم تصح العبادات من الكافر, وقيل يصح غسله دون وضوئه وتيممه, وقيل يصح الوضوء أيضا, وقيل يصح التيمم أيضا, ومحل الخلاف في الأصلي, أما المرتد فلا يصح منه غسل ولا غيره, كذا قال الرافعي, لكن في شرح المهذب أن جماعة أجروا الخلاف في المرتد,
وخرج من ذلك صور:
الأولى: الكتابية تحت المسلم, يصح غسلها عن الحيض, ليحل وطؤها بلا خلاف للضرورة, ويشترط نيتها كما قطع به المتولي والرافعي في باب الوضوء وصححه في التحقيق, كما لا يجزي الكافر العتق عن الكفارة إلا بنية العتق, وادعى في المهمات أن المجزوم به في الروضة وأصلها, في النكاح عدم الاشتراط, وما ادعاه باطل, سببه سوء الفهم, فإن عبارة الروضة هناك, إذا طهرت الذمية من الحيض والنفاس ألزمها الزوج الاغتسال, فإن امتنعت أجبرها عليه واستباحها ; وإن لم تنو للضرورة, كما يجبر المسلمة المجنونة, فقوله "وإن لم تنو" بالتاء الفوقية, عائد إلى مسألة الامتناع, لا إلى أصل غسل الذمية, وحينئذ لا شك في أن نيتها لا تشترط, كالمسلمة المجنونة. وأما عدم اشتراط نية الزوج عند الامتناع والمجنون, أو عدم اشتراط نيتها في غير حال الإجبار, فلا تعرض له في الكلام لا نفيا ولا إثباتا, بل في قوله في مسألة الامتناع "استباحها وإن لم تنو للضرورة" ما يشعر بوجوب النية في غير حال الامتناع.
وعجبت للإسنوي كيف غفل عن هذا؟ وكيف حكاه متابعوه عنه ساكتين عليه؟ والفهم من خير ما أوتي العبد.
الثانية: الكفارة تصح من الكافر, ويشترط منه نيتها, لأن المغلب فيها جانب الغرامات, والنية فيها للتمييز لا للقربة, وهي بالديون أشبه, وبهذا يعرف الفرق بين عدم وجوب إعادتها بعد الإسلام ووجوب إعادة الغسل بعده.
الثالثة: إذا أخرج المرتد الزكاة في حال الردة, تصح وتجزيه.
الرابعة: ذكر قاضي القضاة جلال الدين البلقيني: أنه يصح صوم الكافر في صورة, وذلك إذا أسلم مع طلوع الفجر, ثم إن وافق آخر إسلامه الطلوع فهو مسلم حقيقة ويصح منه النفل مطلقا, قال: ونظيرها من المنقول صورة المجامع, يحس وهو مجامع بالفجر فينزع بحيث يوافق آخر نزعه الطلوع, وإن وافق أول إسلامه الطلوع, فهذا إذا نوى
ص -35-
النفل صح على الأرجح. ولا أثر لما وجد من موافقة أول الإسلام الطلوع, كما ذكره الأصحاب في صورة أن يطلع وهو مجامع ويعلم بالطلوع في أوله, فينزع في الحال أنه لا يبطل الصوم فيها على الأصح, فحينئذ تلك اللحظة التي كانت وقت الطلوع هي المرادة بالتصوير وذلك قبل الحكم بالإسلام, والأخذ في الإسلام ليس بقاء على الكفر, كما أن النزع ليس بقاء على الجماع, ولا يصح منه صوم الفرض والحالة هذه ; لأن التبييت شرط, فإن بيت وهو كافر, ثم أسلم كما صورنا. قال: فهل لهذه النية أثر؟ لم أر من تعرض لذلك, ويجوز أن يقال: الشروط لا تعتبر وقت النية كما قالوا في الحائض: تنوي من الليل قبل انقطاع دمها, ثم ينقطع الأكثر أو العادة, فلا يحتاج إلى التجديد, ويجوز أن يقال: يعتبر شرط الإسلام وقت النية ; لأن المعتادة على يقين من الانقطاع لأكثر الحيض, وعلى ظن قوي للعادة بظهورها, وليس في إسلام الكافر يقين ولا ظاهر, فكان مترددا حال النية, فيبطل الجزم, كما إذا لم يكن لها عادة أو لها عادة مختلفة, ولو اتفق الطهر بالليل لعدم الجزم.
قال: ومما يناظر ذلك: ما إذا نوى سفر القصر وهو كافر فإنه تعتبر نيته, فإذا أسلم في أثناء المسافة قصر على الأرجح. ا هـ.
الشرط الثاني: التمييز: فلا تصح عبادة صبي, لا يميز ولا مجنون: وخرج عن ذلك الطفل يوضئه الولي للطواف حيث يحرم عنه, والمجنونة يغسلها الزوج عن الحيض, وينوي على الأصح.
ومن فروع هذا الشرط: مسألة عمدها في الجنايات هل هو عمد أو لا؟ لأنه لا يتصور من