عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الكتاب: التقرير والتحبيرتأليف: محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
ج / 3 ص -387- قال السبكي: وعلى هذا ينبغي حمل مذهب الجاحظ أيضا ولكن صرح القاضي عنه في التقريب بخلافه فانتفى ما في حاشية الأبهري وقول من زعم أن يكون الخلاف في الكافر الذي هو من أهل القبلة لاستبعاد الخلاف من المسلم في كون اليهودي مخطئا في نفيه رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ليس على ما ينبغي؛ لأن القول بأن اليهودي غير مخطئ في نفي رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ليس بأبعد من القول بأن المجسمة من أهل القبلة غير مخطئة في أن الله جسم وفي جهة انتهى."لنا إجماع المسلمين قبل المخالف من الصحابة وغيرهم من لدنه عليه السلام وهلم عصرا تلو عصر على قتال الكفار وأنهم في النار بلا فرق بين مجتهد ومعاند مع علمهم بأن كفرهم ليس بعد ظهور حقية الإسلام لهم" جميعهم بل لبعضهم. ولو كانوا غير آثمين لما ساغ قتالهم وأنهم من أهل النار، وهو ظاهر ثم هذا إن كان خلاف المخالف فيمن خالف ملة الإسلام جملة وكيف لا، والمخالف حينئذ خارج عن ملة الإسلام بهذه المخالفة لا يعتد بقوله لو كان قبلها مسلما فالإجماع قائم من هذه الأمة بأسرها لكن كما قال المصنف رحمه الله "والأول" أي الإجماع على قتالهم "لا يجري" دليلا على تأثيم المجتهد منهم "على" قواعد "الحنفية القائلين وجوبه" أي قتالهم "لكونهم حربا علينا لا لكفرهم، وإنما لهم" أي للحنفية في التأثيم "القطع بالعمومات" الدالة على ذلك "مثل: ويل للكافرين، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين" وهذا القطع "إما من الصيغة" الموضوعة للعموم مثل الكافرين، والخاسرين "أو" من "الإجماعات" الكائنة من الصدر الأول قبل ظهور المخالف "على عدم التفصيل" في كفرهم، فإن كان خلاف المخالف مخصوصا بما اختلف فيه المسلمون من الأصول فهو محجوج بالإجماع قبله "قالوا" أي القائلون بنفي التأثيم عن المجتهد في نفي الإسلام، وإن كان ممن ليس مسلما "تكليفهم" أي الكفار "بنقيض مجتهدهم" تكليف "بما لا يطاق؛ لأنه" أي ما يؤدي إليه الاجتهاد "كيف"؛ لأنه حكم هو إدراك أن كذا واقع، أو ليس بواقع "لا فعل" اختياري للنفس ليكون مكلفا أن يأتي به على وجه كذا بعينه فهو مدفوع إليه بعد فعله الاختياري، وهو النظر فليس مقدورا له فلا يكلف به "فالمكلف به اجتهاده، وقد فعل، والجواب منع فعله" أي لا نسلم أنه فعل ما كلف به من الاجتهاد "إذ لا شك أن على هذا المطلوب" أي الإيمان "أدلة قطعية ظاهرة لو وقع النظر في موادها لزمها" أي الأدلة القطعية المطلوب "قطعا، فإذا لم يثبت" المطلوب عند مكلف "علم أنه" أي عدم ثبوته عنده "لعدم الشروط" في النظر "بالتقصير" أي بواسطته "مثلا من بلغه بأقصى فارس ظهور مدعي نبوة ادعى نسخ شريعتكم لزمه السفر إلى محل ظهور دعوته لينظر أتواتر وجوده ودعواه ثم أتواتر من صفاته وأحواله ما يوجب العلم بنبوته، فإذا اجتهد جامعا للشروط قطعنا من العادة أنه" أي هذا المجتهد "يلزمه" أي اجتهاده "علمه" أي المجتهد "به" أي بهذا المدعي "لفرض وضوح الأدلة، ولو اجتهد في مكانه فلم يجزم به لا يعذر؛ لأنه" أي اجتهاده "في غير محله" أي ظهور دعوته. "والحاصل أنه كلف بالنظر الصحيح ولم يفعله" على أن القول بأن الاعتقاد غير مقدور لكونه من الصفات، والكيفات النفسانية، والمقدور إنما هو الفعل الاختياري قال الأبهري: لا يتم؛ لأنه(1/19)ج / 3 ص -388- إن أريد بالفعل التأثير فلا نسلم أن غيره ليس مقدورا إذ العلم الكسبي مقدور مع أنه ليس تأثيرا بل من الصفات، وإن أريد به ما يحصل به عقيب القدرة الحادثة ويكون أثرا لها على مذهب من يقول: القدرة الحادثة مؤثرة فالاعتقاد من هذا القبيل؛ ولهذا قالت المعتزلة: العلم الكسبي يتولد من النظر وعرفوا التوليد بأن يوجب فعله فعلا آخر لفاعله كيف، ولو لم يكن الاعتقاد مقدورا لامتنع التكليف به."وأما الجواب" عن حجتهم كما في الشرح العضدي "بمنع كون نقيض اعتقادهم غير مقدور" لهم "إذ ذاك" أي غير المقدور لهم الذي لا يجوز التكليف به هو "الممتنع عادة كالطيران وحمل الجبل وما ذكروا من الامتناع" لتكليفهم بنقيض مجتهدهم هو امتناع بالغير أي "بشرط وصف الموضوع هكذا معتقد ذلك الكفر يمتنع اعتقاد غيره" أي الكفر "ما دام" الكفر "معتقده، والمكلف به الإسلام، وهو" أي الإسلام "مقدور" له ومعتاد حصوله من غيره ومثله لا يكون مستحيلا وخبر الجواب "لا يزيل الشغب" غير أن الأولى إثبات الفاء فيه؛ لأنه جواب أما، وإنما لا يزيله "إذ يقال التكليف بالاجتهاد لاستعلام ذلك" أي الإيمان "فإذا لم يؤد" الاجتهاد "إليه" أي إلى ذلك "لو لزم" ذلك "كان" التكليف بالاجتهاد لاستعلام ذلك تكليفا "بما لا يطاق".مسألة: الجبائي وابنه ونسب إلى المعتزلة: لا حكم في المسألة الاجتهادية قبل الاجتهاد سوى إيجابه بشرطه:"الجبائي" وابنه على ما في البديع "ونسب إلى المعتزلة لا حكم في المسألة الاجتهادية" أي التي لا قاطع فيها من نص، أو إجماع "قبل الاجتهاد سوى إيجابه" أي الاجتهاد فيها "بشرطه فما أدى" الاجتهاد "إليه" أنه حكم الله فيها "تعلق" بها وكان هو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده ونسبه إليهم فخر الإسلام وصاحب الميزان والروياني والماوردي وزاد، وهو قول أبي الحسن الأشعري ثم قال وقالت الأشعرية بخراسان: لا يصح هذا المذهب عن أبي الحسن قال: والمشهور عنه عند أهل العراق ما ذكرناه وذكره أيضا عنه وعن القاضي والغزالي والمزني وبعض متكلمي أهل الحديث غير واحد منهم صاحب الكشف فالحق عندهم متعدد، وإنما اختلفوا في أن تلك الحقوق متساوية في الحقيقة أم لا فطائفة منهم نعم وطائفة لا بل أحد تلك الحقوق أحق من غيره "ولا يمتنع تبعيته" أي الحكم المتعلق بها "للاجتهاد" لحدوثه أي الحكم "عندهم" أي المعتزلة، وإنما الشأن فيه على قول الأشعرية؛ لأن الحكم قديم عندهم فذكر التفتازاني أن المعنى أن لله فيها خطابا لكنه إنما يتعين وجوبا، أو حرمة، أو غيرهما بحسب ظن المجتهد فالتابع لظن المجتهد هو الخطاب المتعلق لا نفس الخطاب. وذكر الأبهري أن ليس المراد بالحكم هنا خطاب الله المختلف في قدمه وحدوثه بل ما يتأدى إليه الاجتهاد ويستلزمه ويجب عليه وعلى من يقلده العمل به "والباقلاني" والأشعري على ما ذكر السبكي "وطائفة" الحكم "الثابت" للواقعة "قبله" أي الاجتهاد "تعلق ما يتعين" ذلك الحكم "به" أي بالاجتهاد "وإذ علمه" عز وجل "محيط بما سيتعين" من الحكم(1/20)ج / 3 ص -389- "أمكن كون الثابت تعلق" حكم "معين" لها "في حق كل" من المجتهدين "وهو" أي الحكم المعين "ما علم أنه يقع عليه اجتهاده وإذ وجب الاجتهاد" للواقعة على المجتهدين واختلف ما يقع عليه اجتهادهم "تعدد الحكم بتعددهم، والمختار" أن حكم الواقعة المجتهد فيها "حكم معين، أوجب طلبه فمن أصابه" فهو "المصيب ومن لا" يصيبه فهو "المخطئ ونقل" هذا "عن" الأئمة "الأربعة" أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وذكر السبكي أن هذا هو الصحيح عنهم بل نقله الكرخي عن أصحابنا جميعا ولم يذكر القرافي عن مالك غيره وذكر السبكي أنه الذي حرره أصحاب الشافعي عنه وقال ابن السمعاني: ومن قال عنه غيره فقد أخطأ عليه "ثم المختار" كما صرح به أصحابنا وفي المحصول: وهو قول كافة الفقهاء وينسب إلى أبي حنيفة والشافعي "أن المخطئ مأجور" لما تقدم في بحث الخطإ من الصحيحين إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد "وعن طائفة لا أجر ولا إثم" ذكره في الكشف وغيره قال المصنف "ولعله" أي هذا الخلاف "لا يتحقق، فإن القول بأجره ليس على خطئه بل لامتثاله أمر الاجتهاد، وثبوت ثواب ممتثل الأمر معلوم من الدين لا يتأتى نفيه وإثم خطئه موضوع اتفاقا" بين أهل هذين القولين "فهو" أي فهذا القول الثاني هو القول "الأول" قلت: وقد حكى الشافعية فيما عليه الأجر للمخطئ اختلافا فإمام الحرمين الذي ذهب إليه الأئمة أنه لا يؤجر على الخطإ بل على قصده الصواب وقيل بل على اشتداده في تقصي النظر، فإن المخطئ يشتد أولا ثم يزول قال: والأول أقرب؛ لأن المخطئ قد يحيد في الأول عن سنن الصواب والرافعي ثم الأجر علام فيه وجهان عن أبي إسحاق المروزي أحدهما، وهو ظاهر النص واختيار المزني وأبي الطيب أنه على القصد إلى الصواب لا الاجتهاد؛ لأنه أفضى به إلى الخطإ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به انتهى، والنص المذكور قول المزني في كتاب ذم التقليد قال الشافعي في الحديث: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" لا يؤجر على الخطإ؛ لأن الخطأ في الدين لم يؤمر به أحد، وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي أخطأه قال أبو إسحاق: ويجوز أن يؤجر على قصده، وإن كان الفعل خطأ كما لو اشترى رقبة فأعتقها تقربا إلى الله ثم وجدها حرة الأصل بعد تلف ثمنها فهو مأجور، وإن لم يصح شراؤه ولم يقع عتقه لما أتى به من القصد إلى فك الرقبة، والتقرب إلى الله وشبهه القفال برجلين رميا إلى كافر فأخطأ أحدهما يؤجر على قصده الإصابة، والثاني يؤجر على القصد، والاجتهاد جميعا لأنه بذل وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه وربما سلك الطريق في الابتداء ولم يتيسر له الإتمام قلت: على هذا أيضا غير واحد من الحنابلة منهم ابن عقيل لكن قال ابن الرفعة: وهذا مناسب إذا سلكه في الابتداء، فإن حاد عنه في الأول تعين الوجه الأول ونص القاضي أبو الطيب على أنه الأصح؛ لأن ذلك الاجتهاد خلاف الاجتهاد الذي يصيب به الحق؛ لأنه لو وضعه في صفته ورتبه على ترتيبه لأفضى به إلى الحق فلا يؤجر عليه ولا على بعض أجزائه قلت: ولا يعرى عن نظر للمنصف هذا، وأورد عليه لو كان على القصد لوجب أن يكون له عشر أجر المصيب للحديث الصحيح من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة كاملة،(1/21)ج / 3 ص -390- فإن عملها كتبت له عشر حسنات وأجيب بالقول بالموجب لما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اقض بينهما" فقلت: يا رسول الله كنت أولى قال: "وإن كان قلت ما أقضي" قال: "إنك إن أصبت كان لك عشر حسنات، وإن أخطأت كان لك حسنة واحدة" أخرجه النقاش في كتاب القضاة وصححه الحاكم في المستدرك لكن تعقب بأن مداره على فرج بن فضالة ضعفه الأكثرون، ومحمد بن عبد الله النهرواني وأبوه مجهولان قلت: ويمكن التقصي عن هذا الإيراد على قاعدة الشافعية بأن حديث الصحيحين مقدم على ذا؛ لأنه خاص وذا عام، والخاص مقدم على العام عندهم، وأما على قاعدة الحنفية فغير ظاهر إلا أنه لا إشكال بهذا عليهم حيث كان الأجر على نفس الاجتهاد كما هو ظاهر كلام المصنف والله سبحانه أعلم هذا وقال ابن دقيق العيد: لله تعالى في الواقعة حكمان أحدهما مطلوب بالاجتهاد ونصب عليه الدلائل، والأمارات، فإذا أصيب حصل أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد. والثاني: وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد وهذا متفق عليه فمن نظر إلى هذا الثاني ولم ينظر إلى الأول قال: حكم الله على كل أحد ما أدى إليه اجتهاده، ومن نظر إلى الأول قال المصيب واحد وكلا القولين حق من وجه دون وجه أما أحدهما فبالنظر إلى وجوب المصير إلى ما أدى إليه الاجتهاد، وأما الآخر فبالنظر إلى الحكم الذي في نفس الأمر المطلوب بالنظر انتهى ثم قد أورد كيف يثاب على الإصابة وهي ليست من صنعه وأجيب؛ لأنها من آثار صنعه وقيل: يجوز أن يكون الثواب الثاني لكونه سن سنة حسنة يقتدي به فيها من يتبعه من المقلدين قيل: فعلى هذا لا يؤجر المخطئ على اتباع المقلدين له بخلاف المصيب؛ لأن مقلد المصيب قد اهتدى به؛ لأنه صادف الهدى، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم "ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" بخلاف مقلد المخطئ، فإن المخطئ لم يحصل على شيء غاية الأمر سقط الحق عنه باعتبار ظنه. قلت: وفيه نظر يظهر مما يذكر في آخر هذه المسألة والله سبحانه أعلم."وهذان" القولان بناء "على أن عليه" أي حكم الله في الحادثة "دليلا ظنيا"، وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين "وقيل" بل عليه دليل "قطعي، والمخطئ آثم"، وهو "قول بشر، والأصم" ذكره ابن الحاجب وغيره وزاد بعضهم وابن علية وبعضهم ابن أبي هريرة "وقيل: غير آثم لخفائه" أي الدليل القطعي وغموضه وعزاه في الكشف إلى الأصم وابن علية وأنه مال إليه أبو منصور الماتريدي وفي المحصول إلى الجمهور من قائلي: إن عليه دليلا قطعيا، وقيل: لا دلالة عليه ولا أمارة بل هو كدفين يعثر عليه الطالب اتفاقا فمن وجده فله أجران ومن أخطأ فله أجر وعزى هذا في المحصول وغيره إلى طائفة من الفقهاء، والمتكلمين زاد القرافي ونقل عن الشافعي "ونقل الحنفية الخلاف أنه" أي المخطئ "مخطئ ابتداء وانتهاء" في اجتهاده وفيما أدى إليه اجتهاده، وهو اختيار أبي منصور الماتريدي. "أو" مصيب في ابتداء اجتهاده مخطئ "انتهاء" فيما طلبه، وهو قول الرستغفني وعزاه بعضهم إلى الشافعي "وهو" أي وهذا الأخير "المختار" عند فخر الإسلام وموافقيه(1/22)ج / 3 ص -391- وغير خاف أن نقل الحنفية مبتدأ خبره "لا يتحقق إذ الابتداء بالاجتهاد، وهو" أي المجتهد "به" أي بالاجتهاد "مؤتمر غير مخطئ به" أي بالاجتهاد "قطعا" وكيف، وهو آت بما كلف به ممتثل لما أمر به بقدر وسعه ويشهد له أيضا ما في التقويم، وقال علماؤنا: كان مخطئا للحق عند الله مصيبا للحق في حق عمله حتى إن عمله يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند الله تعالى بلغنا عن أبي حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتي: وكل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد فبين أن الذي أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله، وقال محمد بن الحسن في كتاب الطلاق: إذا تلاعن الزوجان ثلاثا ثلاثا ففرق القاضي بينهما نفذ قضاؤه، وقد أخطأ السنة فجعل قضاءه في حقه صوابا مع فتواه أنه مخطئ الحق عند الله تعالى انتهى وقد ظهر من هذا أن ما نقله الماوردي وغيره عن أبي يوسف كل مجتهد مصيب، وإن كان الحق في واحد فمن أصابه فقد أصاب الحق ومن أخطأه فقد أخطأه انتهى غير مخالف في المعنى لما عن أبي حنيفة ومحمد والله سبحانه أعلم."وإن حمل" كونه مخطئا ابتداء "على خطئه فيه" أي في الاجتهاد "لإخلاله ببعض شروط الصحة" للاجتهاد "فاتفاق" أي فكونه مخطئا اتفاق وقيل هو نزاع لفظي؛ لأن من قال المجتهد مخطئ انتهاء وابتداء أراد بالإصابة أن دليله لا بد وأن يكون موصولا إلى ما هو حق عند الله. ومن قال: مخطئ انتهاء لا ابتداء أراد بالإصابة ابتداء استفراغ الجهد في رعاية شروط الاجتهاد وفي الدليل الموصل إلى ما هو الحق "لنا" على المختار "لو كان الحكم" في الحادثة "ما" أدى اجتهاد المجتهد "إليه كان" المجتهد "بظنه" للحكم "يقطع بأنه" أي مظنونه "حكمه تعالى، والقطع" ثابت "بأن القطع" بأن مظنونه حكم الله تعالى "مشروط ببقاء ظنه" لذلك الحكم "والإجماع" أيضا ثابت "على جواز تغيره" أي ظنه بظن غيره. "و" على "وجوب الرجوع" عن الحكم الأول إلى ذلك الغير "وأنه" أي ذلك الحكم الأول "لم يزل عند ذلك القطع" به بل يتأكد أن حكم القطع به القطع بأن متعلقه هو الحكم في حق المجتهد ويجب عليه العمل به أيضا فيكون عالما بالشيء ما دام ظانا له ولا يقال: لا نسلم اجتماع الظن، والعلم فيه إذ الظن ينتفي بالعلم؛ لأنا نقول: انتفاء الظن ممنوع، فإنا نقطع ببقاء الظن "وإنكاره" أي بقاء الظن "بهت" أي مكابرة "فيجتمع العلم، والظن" للشيء الواحد "فيجتمع النقيضان تجويز النقيض" للحكم "وعدمه" أي تجويز نقيضه "وإلزام كونه" أي اجتماع النقيضين "مشترك الإلزام"، فإنه كما يلزم إصابة كل مجتهد يلزم إصابة واحد وخطأ الآخرين أيضا للعلم بالدليل القاطع، وهو الإجماع أن الحكم الذي أدى إليه الاجتهاد صوابا كان، أو خطأ يجب اتباعه على الوجه الذي أدى إليه من الوجوب وغيره، والعلم بوجوب متابعته مشروط ببقاء ظن المجتهد فيكون المجتهد عالما حال كونه ظانا فيلزم القطع وعدم القطع وهما نقيضان، وإذا كان مشترك الإلزام كان الدليل باطلا إذ به يعلم أن منشأ الفساد ليس خصوصية أحد المذهبين "منتف"؛ لأنه إنما يتم لو اتحد متعلق الظن، والعلم هنا لكنه لم يتحد هنا "لاختلاف محل الظن، وهو" أي محله "حكمه أي خطابه" تعالى المطلوب بالاجتهاد "و" محل "العلم، وهو" أي محله "حرمة(1/23)ج / 3 ص -392- مخالفته" أي الحكم المذكور؛ لأنه واجب الاتباع "بشرط بقاء ظنه" لوجوب اتباع الظن لا أن محله الحكم المطلوب بالاجتهاد "فهنا خطأ بأن الثابت في نفس الأمر، وهو المظنون وتحريم تركه" أي المظنون "ويلازمه" أي هذا المجموع "إيجاب الفتوى به" أي بذلك الحكم المظنون "وهما" أي تحريم تركه وإيجاب الفتوى به "متعلقة" أي الحكم المظنون "المعلوم" بالرفع صفة متعلقة فلم يتحد المحلان "بخلاف" قول "المصوبة، فإن الحكم في نفس الأمر ليس إلا ما تأدى إليه" الاجتهاد فيكون الخطاب متعلق العلم كما هو متعلق الظن فيتحد المحلان."فإن قالوا" أي المصوبة هذا الجواب بعينه، وهو بيان تعدد متعلقي العلم، والظن يجري في دليلكم؛ لأنا "نقول متعلق الظن كونه" أي الدليل "دليلا" أي دالا على الحكم "و" متعلق "العلم ثبوت مدلوله" أي الدليل، وهو الحكم "شرعا بذلك الشرط" أي بقاء ظنه "فإذا زال" ظنه "رجع" عنه لزوال شرط ثبوته، وهو ظن الدلالة عليه؛ لأن الشيء كما ينتفي بانتفاء موجبه قد ينتفي بانتفاء شرطه "أجيب بأن كونه" أي الدليل "دليلا" أيضا "حكم شرعي، وإن كان غير عملي" أي ليس بخطاب تكليف بل هو حكم شرعي اعتقادي هو كون الدليل الذي لاح للمجتهد دليلا "فإذا ظنه" أي كون الدليل دليلا فقد "علمه" أي كون الدليل دليلا إذ لو لم يعلم كونه دليلا لجاز أن يكون الدليل عنده غيره فيجب عليه العمل بذلك الغير لا به فلا يحصل له الجزم بوجوب العمل بظنه ويكون مخطئا في اعتقاد أنه دليل فلا يكون كل مجتهد مصيبا إذ هذا مجتهد، وقد أخطأ في هذا الحكم، وهو اعتقاد أنه دليل "ويتم إلزامه" أي دليل المصوبة "اجتماع النقيضين"، وهو القطع بكون الدليل دليلا وعدم القطع به بخلاف المخطئة، فإن على مذهبهم لا يوجب ظن كون الدليل دليلا العلم به وجاز أن يكون في ظن الدليل دليلا مخطئا أيضا، ولا يلزم خلاف الفرض هذا وفي حاشية الأبهري وهنا نظر؛ لأن الشارع جعل مناط وجوب العمل بالدليل الظني ظن كونه دليلا لا نفس الدليل فيجوز أن يوجب مجرد الظن بكونه دليلا العلم بوجوب العمل به من غير أن يحصل الجزم بكونه دليلا، وتجويز كون غيره دليلا لا يوجب العمل بالغير ما لم يتعلق الظن بكون الغير دليلا فالمظنون ما دام مظنونا يجب العمل به، وإذا صار غيره مظنونا انتفى الظن المتعلق فلا يجب العمل به فلا فرق بين المذهبين في اندفاع التناقض على أن المراد بكون كل مجتهد مصيبا إصابته في الأحكام الفقهية لا في كل حكم فلا يتم الإلزام.وقال المصنف: "والجواب" من قبل المصوبة عن هذا الجواب "أن اللازم" من ظن الدليل "ثبوت العلم بالحكم ما لم يثبت الرجوع" عنه "وهو" أي ما يثبت الرجوع عنه "انفساخ هذا الحكم بظهور" الحكم "المرجوع" إليه "لا" ظهور "خطئه" أي الحكم الأول "وبطلانه عندهم" أي المصوبة "وتجويز انقضاء مدة الحكم" الأول "بعد هذا الوقت لا يقدح في القطع به حال هذا التجويز" لنقيض الحكم، وهو المرجوع إليه "فبطل الدليل" المذكور للمخطئة "عنهم" أي المصوبة. "وبهذا" الجواب "يندفع" عن المصوبة الدليل "القائم" من المخطئة "لو كان"(1/24)ج / 3 ص -393- ظن الحكم موجبا للعلم به على ما هو اللازم لتصويب كل مجتهد "امتنع الرجوع" عن الحكم "لاستلزامه" أي الرجوع عنه "ظن النقيض" للحكم "والعلم" به "ينفي احتماله" لظن نقيضه "فلم يكن العلم حين كان علما، أو لو كان" ظن الحكم موجبا لعلمه "جاز ظنه" أي النقيض "مع تذكر موجب العلم" بالحكم الذي نقيضه ذلك "وهو" أي موجب العلم "الظن الأول" وجواز الظن مع تذكر موجب العلم باطل، بيان الملازمة قوله: "لجواز الرجوع، أو لو كان" ظن الحكم موجبا للعلم به "امتنع ظنه" أي ظن نقيضه "مع تذكر الظن" للحكم الأول "لامتناع ظن نقيض ما علم مع تذكر الموجب" للعلم به لوجود دوام العلم بدوام ملاحظة موجبه "وإلا" لو لم يمتنع ظن نقيضه مع تذكر الموجب "لم يكن" ذلك الموجب "موجبا" هذا خلف "لكنه" أي ظن نقيض الأول "جائز بالرجوع" عن الأول إلى نقيضه ثم هذه الأوجه الثلاثة يمكن أن تجعل أدلة مستقلة من قبل المخطئة لإبطال مذهب المصوبة "وقد لا يكتفى بدعوى ضرورية البهت" لإمكان بقاء الظن "فتجعل" هذه الأوجه الثلاثة "دليل بقاء الظن عند القطع بمتعلقه" أي الظن "لا" دليلا "مستقلا وألزم على المختار"، وهو قول المخطئة "انتفاء كون الموجب موجبا في الأمارة" حيث قالوا: لا يمتنع زوال ظن الحكم إلى ظن نقيضه مع تذكر الأمارة التي عنها الظن مع أنها بمنزلة الموجب."وجوابه" أي هذا الإلزام "أن بطلانه" أي كون الموجب موجبا الذي هو التالي إنما هو "في غيرها" أي الأمارة "أما هي" أي الأمارة "فإذن لا ربط عقلي" بين الظن، وما ينشأ عنه حتى يكون بمنزلة الموجب له كما في العلم الذي لا يكون إلا عن موجب "جاز انتفاء موجبها مع تذكرها" كما يزول ظن نزول المطر من الغيم الرطب الذي هو مظنة له إلى عدم نزوله مع وجوده بل ربما يحصل الظن بشيء ثم يحصل العلم بنقيضه كما إذا ظن شخص كون زيد في الدار لأمارات تدل عليه ثم رآه خارج الدار، وإذا لم يسلم للمخطئة ما تقدم دليلا لهم مع أن المطلوب حق لم يكن ذلك هو الدليل "بل الدليل إطلاق" الصحابة "الخطأ في الاجتهاد شائعا متكررا بلا نكير كعلي وزيد بن ثابت وغيرهما من مخطئة ابن عباس في ترك العول، وهو" أي ابن عباس "خطأهم" في القول به "فقال من شاء باهلته" أي لاعنته، والحقيقة التضرع في الدعاء باللعن "إن الله لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا" لكن قال شيخنا الحافظ: ولم أقف على إنكار علي وزيد صريحا وقدمنا في الإجماع في مسألة إذا أفتى بعضهم تخريج تخطئة ابن عباس معنى للقائلين بنحو هذا السياق بدون من شاء باهلته "وقول أبي بكر في الكلالة: أقول فيها برأيي "فإن يكن صوابا فمن الله" إلى قوله: "وإن يكن خطأ فمني، ومن الشيطان" أراه ما خلا الولد، والوالد فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر رواه البيهقي وقال ورويناه عن ابن عباس وابن أبي شيبة قال أبو بكر: رأيت في الكلالة رأيا، فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمن قبلي والشيطان، الكلالة ما عدا الوالد، والولد. "ومثله" أي هذا القول "قول ابن مسعود في المفوضة المتوفى عنها" زوجها "أجتهد إلى قوله فإن يكن خطأ فمن ابن أم عبد" ولم أقف عليه مخرجا ويغني عنه قوله "وعنه"(1/25)ج / 3 ص -394- أي ابن مسعود "مثل" قول "أبي بكر" الماضي ففي سنن أبي داود عنه، فإن يك صوابا فمن الله، وإن يك خطأ فمني، ومن الشيطان والله ورسوله بريئان، وقد تقدم الأثر بدون هذا في الكلام في جهالة الراوي "وقول علي لعمر في المجهضة" بضم الميم وكسر الهاء وهي المرأة التي أسقطت جنينا ميتا خوفا من عمر لما استحضرها وسأل عمر من حضره عن حكم ذلك فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئا ثم سأل عليا: ماذا تقول فقال: "إن كانا قد اجتهدا فقد أخطآ يعني عثمان وعبد الرحمن بن عوف"، وإن لم يجتهدا فقد غشاك كذا في شرح العلامة ومشى عليه التفتازاني والذي في الشرح العضدي وعن علي في قصة المجهضة إن كان قد اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك انتهى، وهو المذكور في رواية البيهقي فأخرج عن الحسن البصري أن عمر أرسل إلى امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل يدعوها وكانت ترقى في درج ففزعت فألقت حملها فاستشار عمر الصحابة فيها فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدب ولا شيء عليك قال علي: إن اجتهد فقد أخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك عليك الدية فقال عمر لعلي: عزمت عليك لتقسمنها على قومك قيل أراد قوم عمر وأضافهم إلى علي إكراما، وقد ظهر أن الضمير في إن كان وما بعده في العضدي لعبد الرحمن لا لعثمان كما ذكر الكرماني ثم هذا مذهب الشافعي خلافا لأصحابنا ولا حجة له في هذا على أصوله؛ لأنه منقطع، فإن الحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ثم الإجهاض إلقاء الولد قبل تمامه، والمعروف تخصيصه بالإبل قاله ابن سيده وغيره."واستدل" للمختار بأوجه ضعيفة أحدها إن كان أحد قولي المجتهدين، أو كلاهما بلا دليل فباطل؛ لأن القول في الدين بلا دليل باطل، وإن كان قولهما بدليل فالجواب "إن تساوى دليلاهما تساقطا" وكان الحكم الوقف، أو التخيير فكانا في النفي، والإثبات مخطئين "وإلا" إن ترجح أحدهما "تعين الراجح" للصحة ويكون الآخر خطأ إذ لا يجوز العمل بالمرجوح "وأجيب أن ذلك" التقسيم إنما هو "بالنسبة إلى نفس الأمر لكن الأمارات ترجحها بالنسبة إلى المجتهد" إذ ليست أدلة في نفسها بل بالنسبة إلى نظر الناظر، فإنها أمور إضافية لا حقيقية "فكل" من القولين "راجح عند قائله وصواب" لرجحان أمارته عنده، ورجحانه عنده هو رجحانه في نفس الأمر؛ لأنه تابع لظن المجتهد ثانيها ما أشار إليه بقوله "وبأن المجتهد طالب" لمعرفة حكم الله في الواقعة "ويستحيل" طالب "بلا مطلوب" فإذن له مطلوب "فمن أخطأه" أي ذلك المطلوب فهو "المخطئ"، ومن وجده فهو المصيب "أجيب نعم" يستحيل طالب ولا مطلوب "فهو" أي المطلوب "غلبة ظنه" أي المجتهد "فيتعدد الصواب" لتعدد الغالب على الظنون للمجتهدين ثالثها ما أشار إليه بقوله: "وبالإجماع على شرع المناظرة" بين المجتهدين "وفائدتها ظهور الصواب" عن الخطإ وتصويب الجميع ينفي ذلك "وأجيب بمنع الحصر" أي حصر فائدة المناظرة في ذلك "لجوازها" أي فائدتها أن تكون "ترجيحا" أي بيان ترجيح إحدى الأمارتين على الأخرى فتعتمد الراجحة، أو تساويهما فيحكم بمقتضاه من وقف،(1/26)ج / 3 ص -395- أو غيره "وتمرينا" للنفس على المناظرة فتحصل ملكة الوقوف على المأخذ ورد الشبه وتشحيذ الخاطر فيكون ذلك عونا على الاجتهاد "ولا يخفى ضعفه" أي تمرينا، فإن من الظاهر أن شرع المناظرة ليس لهذا ففي ما قبله كفاية رابعها ما أشار إليه بقوله. "وبلزوم" المحال كحل الشيء وتحريمه معا في زمان واحد على تقدير التصويب مثل "حل المجتهدة كالحنفية وحرمتها لو قال بعلها المجتهد كالشافعية: أنت بائن ثم قال: راجعتك" إذ هي بالنظر إلى معتقده حل؛ لأن الكنايات عنده ليست بوائن فتجوز الرجعة وبالنظر إلى معتقدها حرام؛ لأن هذه الكناية عندها طلقة بائنة فلا تجوز الرجعة "وحلها لاثنين لو تزوجها مجتهد بلا ولي" لكونه يرى صحته "ثم مثله" أي ثم تزوجها مجتهد "به" أي بولي لكونه لا يرى صحة الأول "وأجيب" بأن هذا "مشترك الإلزام" إذ يرد على المخطئة "إذ لا خلاف في وجوب اتباع ظنه" أي المجتهد "فيجتمع النقيضان وجوب العمل بحلها له" أي المجتهد كالشافعي لكون مظنونه جواز الرجعة. "ووجوبه" أي العمل "بحرمتها عليه" لكون مظنونها عدم جواز الرجعة "وكذا وجوب العمل بحلها للأول ووجوبه" أي العمل بحلها "للثاني" في المسألة الثانية "فإن لم يكن الوجوبان متناقضين لتناقض متعلقيهما" نظرا إلى نفسيهما، فإنهما متماثلان "استلزم اجتماع متعلقيه" أي الوجوب واجتماع "المتناقضين"، فإن حلها لأحدهما يناقض حلها للآخر في زمان واحد "فإن أجبتم" أيها المخطئة بأنه "لا يمتنع" اجتماع النقيضين "بالنسبة إلى مجتهدين فكذلك المتنازع فيه"، وهو كون كل مجتهد مصيبا لا يمتنع اجتماع النقيضين فيه مثل الحل، والحرمة بالنسبة للمجتهدين "نعم يستلزم مثله مفسدة المنازعة" إذ يلزم على هذا في الأولى أن يكون للزوج طلب التمكين منها وللزوجة الامتناع منه وفي الثانية أن يكون لكل من الزوجين طلب التمكين، وهو محال. "وقد يفضي إلى التقاتل فيلزم فيه" أي في هذا حينئذ "رفعه إلى قاض يحكم برأيه فيلزم" حكمه "الآخر وإذن فالجواب الحق أن مثله مخصوص من تعلق الحكمين" فلا يتعلقان في مثل هذا "بل الثابت حرمتها إلى غاية الحكم؛ لأن لزوم المفسدة يمنع شرع ذلك" أي الحكمين مع إيجاب الارتفاع إلى القاضي؛ لأن تلك المفسدة قد تقع قبل الارتفاع إليه بأن أتاها أي المجوز قبل الارتفاع لشدة حاجة له إليها، أو أتاها كل منهما قبله، وذلك قريب في العادة فتقع مفسدة المنازعة، والتقاتل فوجب أن مثله، وهو ما يؤدي إلى ذلك أن يثبت فيه إذا وجد حكم واحد، وهو حرمتها إلى أن يحكم حاكم ذكره المصنف."وبما وضحناه" من أن مثل هذا مخصوص من تعلق الحكمين وأن الثابت حرمتها إلى غاية الحكم "اندفع ما أورد من أن القضاء لرفع النزاع إذا تنازعا في التمكين، والمنع لا لرفع تعلق الحل، والحرمة بواحد"، فإنه بعد الحكم لم يرتفع ذلك التعلق على تقدير تصويب كل مجتهد ذكره الخنجي "وقرره محقق" أي سكت عليه ولم يتعقبه التفتازاني "وهو" أي المورد "بعد اندفاعه بما ذكرنا" الآن من أنه مخصوص من تعلق الحكمين فليس الثابت إلا حرمتها إلى غاية الحكم الرافع للخلاف "غير صحيح في نفسه إذ لا مانع من رفع تعلق الحل، والحرمة بالقضاء مع كون كل منهما" أي الحل، والحرمة "صوابا؛ لأنه" أي رفعه بالقضاء "نسخ منه تعالى"(1/27)ج / 3 ص -396- لأحدهما "عند حكم القاضي" بالموافق للآخر "كالرجوع" عن أحد القولين لأحدهما "عندهم" أي المصوبة، وحول هذا حام الأبهري حيث قال: ولقائل أن يقول: بل حكم الحاكم يرفع تعلق الحل، والحرمة؛ لأن ظن المجتهد إنما يفيد تعلق الحكم به إذا لم يعارضه معارض وحكم الحاكم معارض له؛ لأن الشارع أوجب العمل به "قالوا" أي المصوبة "لو كان المصيب واحدا وجب النقيضان على المخطئ إن وجب حكم نفس الأمر عليه" أيضا؛ لأن المخطئ يجب عليه متابعة ظنه إجماعا، وهو محال "وإلا" إذا لم يجب عليه الحكم في نفس الأمر "وجب" عليه "العمل بالخطأ" الذي هو مظنونه "وحرم" عليه العمل "بالصواب" الذي هو الحكم في نفس الأمر "وهو" أي وجوب العمل بالخطأ وتحريمه بالصواب "محال أجيب باختيار الثاني" أي عدم وجوب حكم نفس الأمر ووجوب مظنونه "ومنع انتفاء التالي" أي وجوب العمل بالخطأ "للقطع به" أي بوجوب العمل بالخطأ فيما لو خفي على المجتهد "قاطع" من نص، أو إجماع فأدى اجتهاده إلى مخالفته "حيث تجب مخالفته" لوجوب اتباع الظن "والاتفاق أنه" أي خلاف القاطع "خطأ إذ الخلاف" في أن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد إنما هو "فيما لا قاطع" فيه من الأحكام الاجتهادية "أما ما فيه" دليل قاطع "فالاجتهاد على خلافه" أي القاطع "خطأ اتفاقا" ثم إن كان قد قصر في طلبه فهو آثم أيضا لتقصيره فيما كلف به من الطلب، وإن لم يكن قصر في طلبه بل إنما تعذر عليه الوصول إليه لبعد الراوي عنه، أو لإخفائه منه فلا إثم عليه."قالوا" ثانيا قال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فجعل الاقتداء بكل منهم هدى مع اختلافهم "فلا خطأ" في اجتهاده "وإلا" لو كان أحدهم مخطئا في اجتهاده "ثبت الهدى في الخطإ، وهو" أي الخطأ "ضلال" لا هدى؛ لأنه عمل بغير حكم عينه الله تعالى."أجيب بأنه" أي الخطأ "هدى من وجه"، وهو كونه مما أدى إليه الاجتهاد لإيجاب الشارع العمل به سواء كان مجتهدا، أو مقلدا "فيتناوله" الاهتداء في الحديث؛ لأن المراد به فيه متابعة ما يوصل إلى الصواب، والعمل بما أدى إليه الاجتهاد كذلك لما ذكرنا على أن الحديث له طرق بألفاظ مختلفة ولم يصح منها شيء على ما قالوا، وقد أشبعنا القول فيه في مسألة ولا ينعقد بأهل البيت من مسائل الإجماع تكميل ثم وجه القائلين باستواء الحقوق أن الدليل الدال على تعددها، وهو تكليف الكل بإصابة الحق لم يوجب التفاوت بينها فترجيح بعضها ترجيح بلا مرجح، ووجه القائلين بأن واحدا منها أحق، وهو القول بالأشبه أن استواءها يقطع تكليف المجتهد ببذل المجهود في طلب الحكم في الواقع لتحقق إصابة كل مجتهد ما هو الحق بمجرد اختيار ما غلب عليه ظنه بأدنى نظر؛ لأن الكل حيث كان حقا عند الله على السواء لم يكن في إتعاب النفس وأعمال الفكر في الطلب فائدة بل يختار كل مجتهد ما غلب على ظنه من غير امتحان كالمصلي في جوف الكعبة يختار أي جهة شاء من غير بذل المجهود، وذلك باطل؛ لأن فيه إسقاط درجة العلماء، والاجتهاد، والنظر في المآخذ، والمدارك؛(1/28)ج / 3 ص -397- لأن المقصود من النظر إظهار الصواب بإقامة الدليل عليه ودعوة المخالف إليه عند ظهوره بالدليل وإذا كان الكل على السواء في الحقية لم يتجه هذا ألا ترى أنه لا مناظرة في أصناف أنواع الكفارة ولا بين المسافر، والمقيم في أعداد ركعات صلاتهما لثبوت الحقية على السواء فيلزم اللزوم المذكور، وأجيب عن هذا من قبل الأولين بأنه إنما يلزم هذا أن لو كان ما ذهب إليه كل حقا عند الله تعالى قبل الاجتهاد، وليس كذلك بل الحكم بحقية ما أدى إليه اجتهاد كل تابع لاجتهاده وقبل الاجتهاد لا يمكن إصابة الحق بمجرد الاختيار فلا يثبت له ولاية الاختيار وبعد ما اجتهد وأدى اجتهاده إلى شيء مع سلامته عن المعارض لا يجوز له الاختيار أيضا؛ لأن ذلك هو الحق في حقه دون ما أدى إليه اجتهاد غيره فلم تسقط درجة العلماء، والاجتهاد ولا النظر في المآخذ على أن المقصود من المناظرة غير منحصر فيما ذكر كما تقدم والله سبحانه أعلم."تتمة من المخطئة الحنفية" فقد "قسموا الخطأ" بالمعنى المشار إليه يعني ضد الصواب "وهو" أي الخطأ بهذا المعنى "الجهل المركب" وتقدم في مباحث النظر تعريفه. والكلام فيه "إلى ثلاثة" من الأقسام والذي يظهر أولا أن الخطأ بهذا المعنى أعم من الجهل المركب كما لا يخفى، وثانيا أنهم لم يصرحوا بتخصيص هذه الأقسام الآتية بالجهل المركب ولا يظهر انطباقه على جميعها وخصوصا القسم الثالث كما سيظهر. نعم قسموا الجهل إلى هذه الأقسام ويظهر أن مرادهم به ما هو أعم من كل من البسيط، والمركب كما أشار إليه في التلويح، وقد سبق ذكره في مباحث النظر حيث قال في بحث العوارض المكتسبة فمن الأولى أي التي تكون من المكلف الجهل، وهو عدم العلم عما من شأنه، فإن قارن اعتقاد النقيض فهو مركب وهو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به وإلا فبسيط، وهو المراد بعدم الشعور، وأقسامه فيما يتعلق بهذا المقام أربعة جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة فهو في الغاية، وجهل هو دونه وجهل يصلح شبهة وجهل يصلح عذرا غير أن تربيع الأقسام له بناء على ما مشى عليه صدر الشريعة وغيره موافقة لفخر الإسلام، وأما تثليثها كما مشى عليه المصنف فموافقة لصاحب المنار، والأمر في ذلك قريب.القسم "الأول جهل لا يصلح عذرا ولا شبهة، وهو أربعة" أقسام "جهل الكافر بالذات" أي ذات واجب الوجود تعالى "والصفات" أي وبصفات كماله ونعوت جلاله من الصفات الذاتية وغيرها "لأنه" أي هذا الكافر "مكابر" أي مترفع عن الانقياد للحق واتباع الحجة إنكارا باللسان وإباء بالقلب "لوضوح دليله" أي وجود واجب الوجود بما له من صفات الكمال ونعوت الجلال "حسا من الحوادث المحيطة به" أي بالكافر أنفسا وآفاقا "وعقلا إذ لا يخلو الجسم عنها" أي عن الحوادث من الأعراض وغيرها "وما لا يخلو عنها" أي عن الحوادث "حادث بالضرورة لا بد له من موجد إذ لم يكن الوجود مقتضى ذاته ويستلزم" الحكم بوجود ذاته "الحكم بصفاته" العلى بالضرورة "كما عرف" في فن الكلام. "وكذا منكر الرسالة" من الله(1/29)ج / 3 ص -398- تعالى لأحد من رسله ولا سيما لخاتم النبيين محمد عليه من الله أفضل الصلاة، والتسليم إلى الناس أجمعين وتقدم تعريفها في شرح خطبة الكتاب "بعد ثبوت المعجزة" وهي أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى خارق للعادة على وفق دعوى مدعي الرسالة مقرون بها مع عدم المعارضة من المرسل إليهم أي بأن لا يظهر منهم مثل ذلك الخارق ولا سيما القرآن العظيم، فإنه المعجزة المستمرة على ممر السنين "و" ثبوت "تواتر ما يوجب النبوة" لمدعيها من أهليها بالإتيان بما يصدقه في ذلك وتقدمت الإشارة إلى تعريفها في شرح خطبة الكتاب أيضا لكونها ظاهرة محسوسة في زمانه ومنقولة بالتواتر فيما بعده حتى صارت بمنزلة المحسوس وخصوصا ذلك لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم "فلذا" أي فلكون منكرها كافرا مكابرا "لا تلزم مناظرته" لانتفاء ثمرتها حينئذ ثم لانتفاء العذر في حق المصر على الكفر وخصوصا بعد الاطلاع على محاسن الإسلام لم يبق المرتد عن الإسلام على ما صار إليه "بل إن لم يتب المرتد" بأن أصر على ما صار إليه "قتلناه" وخصوصا إن عرض الإسلام عليه ولم يرجع إليه. وفي التلويح، فإن قلت: الكافر المكابر قد يعرف الحق، وإنما ينكره تمردا واستكبارا قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] ومثل هذا لا يكون جهلا قلت: من الكفار من لا يعرف الحق ومكابرته ترك النظر في الأدلة، والتأمل في الآيات، ومنهم من يعرف الحق وينكره مكابرة وعنادا قال الله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الآية ومعنى الجهل فيهم عدم التصديق المفسر بالإذعان، والقبول انتهى، وهذا يفيد أيضا ما ذكرنا من أن مورد التقسيم مطلق الجهل الشامل للبسيط، والمركب وأن من أقسامه ما يكون جهلا بسيطا، ومنها ما يكون جهلا مركبا "وكذا" الكافر مكابر "في حكم لا يقبل التبدل" عقلا ولا شرعا "كعبادة غيره تعالى" لوضوح الأدلة القطعية العقلية، والنقلية على انفراده تعالى باستحقاق العبادة فلا يكون لكفره حكم الصحة أصلا. "وأما تدينه" أي اعتقاد الكافر "في" حكم "غيره" أي غير ما لا يقبل التبدل، وهو ما يقبله كتحريم الخمر حال كونه "ذميا فالاتفاق على اعتباره" أي تدينه "دافعا للتعرض" له حتى لو باشر ما دان به لا يتعرض له "فلا يحد لشرب الخمر إجماعا" لتدينه له "ثم لم يضمن الشافعي متلفها" أي خمرة مثلها إن كان ذميا ولا قيمتها إن كان مسلما وبه قال أحمد للحديث المتفق عليه ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة حتف أنفها ولأنها ليست بمال متقوم وإتلاف ما ليس بمتقوم لا يكون سببا للضمان وعقد الذمة خلف عن الإسلام فكل حكم يثبت به يثبت بعقدها، والحاصل أن عنده خطاب التحريم يتناول الكافر الذمي كالمسلم، وقد بلغه ذلك بإشاعة الخطاب في دار الإسلام، فإنكاره تعنت فلا يكون عذرا إلا أن الشرع أمر بأن لا يتعرض له بعقد الذمة فكل ما يرجع إلى ترك التعرض يثبت في حقه وما يرجع إلى التعرض لا يثبت في حقه "وضمنوه" أي الحنفية متلفها مثلها إن كان ذميا وقيمتها إن كان مسلما، وبه قال مالك "لا للتعدي" لديانة الكافر الذمي حلها "بل لبقاء التقوم" لها "في حقهم" أي أهل الذمة كما يشير إليه ما أخرج عبد الرزاق وأبو عبيد عن(1/30)ج / 3 ص -399- سعيد بن عفلة بلغ عمر أن عماله يأخذون الجزية من الخمر فناشدهم ثلاثا فقال له بلال: إنهم ليفعلون ذلك قال فلا تفعلوا ولوهم بيعها زاد أبو عبيد وخذوا أنتم من الثمن وأخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج بلفظ ولوا أربابها بيعها ثم خذوا الثمن منهم ومن أتلف مالا متقوما في حق المتلف عليه وجب أن يضمن كإتلافه الشيء المتفق على ماليته وتقومه بخلاف الميتة حتف أنفها، فإن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولها "ولأن الدفع عن النفس، والمال بذلك" أي بالتضمين؛ لأن المتلف إذا علم أنه إذا أتلف لا يؤاخذ بالضمان أقدم على الإتلاف، والدفع واجب "فهو" أي التضمين "من ضرورته" أي الدفع ثم إذا وجب الضمان وهي من المثليات فعلى المتلف الذمي مثلها؛ لأنه غير ممنوع من تملكها وتمليكها وعلى المسلم قيمتها؛ لأنه ممنوع من تمليكها، والقيمة غيرها. "ثم قال أبو حنيفة ومنع" التدين "تناول الخطاب إياهم" في أحكام الدنيا "مكرا بهم"، وهو الأخذ على غرة "واستدراجا لهم"، وهو تقريب الله تعالى العبد إلى العقوبة بالتدريج على وجه لا شعور للعبد به كالطبيب يترك مداواة المريض ولا يمنعه من التخليط عند يأسه من البرء لا تخفيفا عليه "فيما يحتمل التبدل كخطاب لم يشتهر فلو نكح مجوسي بنته، أو أخته صح في أحكام الدنيا فلا نفرق بينهما لا إن ترافعا إلينا" لانقيادهما لحكم الإسلام حينئذ فيثبت حكم الخطاب في حقهما كما أشار إليه قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] "لا" إن دفع "أحدهما" صاحبه إلينا "خلافا لهما" أي لأبي يوسف ومحمد "في" نكاح "المحارم"؛ لأنهما، وإن وافقا أبا حنيفة على أن ما لإباحته أصل قبل شريعتنا يبقى عليه في حقهم لقصر الدليل عنهم فيه باعتبار ديانتهم وذلك كالخمر، والخنزير فقالا: يقومان في حقهم لإباحتهما قبل شريعتنا فيبقيان على الإباحة، والتقوم، والضمان كقول أبي حنيفة فهما يخالفانه فيما ليس لإباحته أصل قبل شريعتنا فقالا: لا يصح في حقهم أيضا، ونكاح المحارم من هذا القبيل "لأنه" أي جواز نكاحهن "لم يكن حكما ثابتا" قبل الإسلام "ليبقى" النكاح عليه "لقصر الدليل" عنهم بالديانة بل حين وقع وقع باطلا، وإنما تركنا التعرض لهم لتدينهم ذلك وفاء بالذمة "وفي مرافعة أحدهما" صاحبه إلينا أيضا فقالا يفرق بينهما الزوال المانع من التفريق بانقياد أحدهما لحكم الإسلام قياسا على إسلامه، ومن ثمة لا يتوارثون بهذه الأنكحة إجماعا، ولو كانت صحيحة لتوارثوا بها. ووجه قول أبي حنيفة العمل بظاهر الأمر بتركهم وما يدينون استدراجا لهم كما أشار إليه المصنف، وإذا كان الفرض أنهم يدينون نكاح المحارم فيكون صحيحا على أنه قد كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام ثم إذ كان صحيحا فرفع أحدهما لا يرجحه على الآخر بل يعارضه فيبقى على الصحة بخلاف إسلام أحدهما، فإنه وإن عارض الباقي لتغير اعتقاده يترجح عليه لما تقدم في السكر مخرجا موقوفا ومرفوعا: "الإسلام يعلو ولا يعلى", ولو دخل" المجوسي "بها" أي بزوجته التي هي محرم منه "ثم أسلم حد قاذفهما"، والوجه قاذفه كما كانت عليه النسخة أولا وأحسن من هذا ثم أسلما حد قاذفهما عند أبي حنيفة أيضا لإحصانهما بناء على صحة النكاح عنده ولا يحد عندهما لعدم إحصانهما بناء على بطلان النكاح عندهما، فإن قيل: إذا كانت ديانتهم معتبرة في ترك(1/31)ج / 3 ص -400- التعرض فيجب أن يتركوا على ديانتهم في الربا قلنا: ليست ديانتهم مطلقا معتبرة في ترك التعرض لهم بل الديانة الصحيحة بالنسبة إليهم وليست ديانتهم تناول الربا صحيحة كما أشار إليه بقوله: "بخلاف الربا؛ لأنهم فسقوا به" أي بالربا "لتحريمه عليهم قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161]". وروى القاسم بن سلام عن أبي المليح الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران وكتب لهم كتابا وساقه وفيه "ولا تأكلوا الربا فمن أكل منكم الربا فذمتي منه بريئة". "وأورد" على أبي حنيفة "أن نكاح المحارم كذلك" أي ليست ديانتهم به صحيحة فلا يكون نكاحهن صحيحا فلا يحد قاذفهما بعد إسلامهما إذا دخل بها في الكفر ولا تجب به النفقة "لأنه" أي جواز نكاحهن "نسخ بعد آدم في زمن نوح فيجب أن لا يصح كقولهما: فلا حد ولا نفقة إلا أن يقال بعد ثبوته" أي نسخ جواز نكاحهن "المراد من تدينهم ما اتفقوا عليه" أي ما كان شائعا من دينهم متفقا عليه فيما بينهم وردت به شريعتهم أم لم ترد حقا، كان أو باطلا ونكاح المحارم في زمن المجوس، وإن كان باطلا غير ثابت في كتابهم شائع فيما بينهم فلم تثبت حرمته عندهم فيكون ديانة لهم بخلاف الربا عند اليهود، فإن حرمته ثابتة في التوراة فارتكابهم إياه فسق منهم لا ديانة اعتقدوا حله وليس المراد بمعتقدهم ما يعتقده بعض منهم كما أشار إليه بقوله "بخلاف انفراد القليل بعدم حد الزنا ونحوه"، فإنه لا يكون دافعا أصلا "ولأن أقل ما يوجب الدليل ك {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]" الآية "الشبهة" لعدم الصحة في حقهم "فيدرأ الحد" بها إذا سلمنا صحة نكاح المحارم وكونها حكما أصليا "وفرق" أبو حنيفة "بين الميراث، والنفقة فلو ترك" المجوسي "بنتين إحداهما زوجته فالمال بينهما نصفان أي باعتبار الرد" مع فرضهما "لأنه" أي الميراث "صلة مبتدأة لا جزاء لدفع الهلاك بخلاف النفقة"، فإن وجوبها لدفع الهلاك عن المنفق عليه؛ لأن سببها عجز المنفق عليه، ومن أسباب العجز الاحتباس الدائم، فإن دوامه بلا إنفاق يؤدي إلى الهلاك عادة، والمرأة محبوسة على الدوام لحق الزوج فتكون نفقتها عليه لدفع هلاكها فتكون ديانتها محبوسة لحقه على الدوام دافعة للهلاك لا موجبة عليه شيئا "فلو وجب إرث" البنت "الزوجة" بالزوجية "بديانتها" بالزوجية "كانت" ديانتها "ملزمة على" البنت "الأخرى" زيادة الميراث "والزيادة دافعة لا متعدية، وأورد أن الأخرى دانت به" أي بجواز نكاح أختها حيث اعتقدت المجوسية فيكون استحقاق أختها الزيادة في الميراث عليها بناء على التزامها بديانتها ولا يلتفت إلى نزاعها فيها؛ لأنه بمنزلة نزاع الزوج في النفقة "فذهب بعضهم"، وهو في طريقة الدعوى معزو إلى كثير من المشايخ "إلى أنه قياس قوله" أي أبي حنيفة ينبغي "أن ترثا"، والوجه أن ترث بها أيضا أي بالزوجية، أو بهما أي بالزوجية والبنتية لصحة هذا النكاح عنده "وأن النفي" لإرثها بالزوجية "قولهما" أي أبي يوسف ومحمد "لعدم الصحة عندهما وقيل" أي وقال شيخ الإسلام خواهر زاده "بل" إنما لا ترث بالزوجية عنده "لأنه" أي نكاح المحارم "إنما تثبت صحته فيما سلف" أي في شريعة آدم عليه السلام "ولم يثبت كونه" أي نكاحهن "سببا للإرث" في دينه فلا يثبت سببا للميراث في اعتقادهم وديانتهم؛ لأنه لا عبرة(1/32)ج / 3 ص -401- لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع ومشى عليه في المحيط. ومن هنا ما في التلويح المراد بالديانة المعتقد الشائع الذي يعتمد على شرع في الجملة "والقاضي أبو زيد الدبوسي" قال: لا ترث البنت الزوجة بالنكاح "لفساده" أي النكاح "في حق" البنت "الأخرى؛ لأنها" أي الأخرى "إذا نازعتها" أي البنت الزوجة "عند القاضي" في استحقاقها الإرث بالزوجية "دل أنها لم تعتقده" أي جواز النكاح، واستحقاق الإرث مبني على النكاح الصحيح ولم يوجد في حقها، وهذا بخلاف الزوج إذا نازع عند القاضي بأن لا ينفق عليها بعد النكاح، فإنه لا يصح منه لما سنذكر قال المصنف "ومقتضاه" أي المذكور لأبي زيد "أنها" أي البنت الأخرى "لو سكتت" عن منازعة أختها الزوجة في استحقاقها الإرث بالزوجية "ورثت" البنت الزوجة بالزوجية أيضا "ولا يعرف عنه" أي عن أبي حنيفة "تفصيل" في أن البنت الزوجة لا تستحق بالزوجية إرثا ثم لما كان يرد على تعليل إيجاب النفقة لها على الزوج بأنه لدفع الهلاك عنها كما تقدم أن ما يكون ثبوته بطريق الدفع لا يكون بدون الحاجة، والزوجة هنا تستحق النفقة، وإن لم تكن محتاجة إليها لكونها غنية، وقد أجيب بأن الحاجة الدائمة بدوام حبس الزوج لا يردها المال المقدم للزوجة فتتحقق الحاجة لا محالة فيكون وجوبها لدفع الهلاك ولا يخفى ما فيه واختار بعضهم طريقا غير هذا فوافقه المصنف عليه وأشار إليه بقوله: "والحق في النفقة أن الزوج أخذ بديانته الصحة" لنكاح محرمه حيث نكحها؛ لأن بذلك التزم النفقة عليها وديانته حجة عليه "فلا يسقط حق غيره"، وهو النفقة على البنت الزوجة "لمنازعته بعده" أي النكاح في ذلك، وإنما يسقط عنه بإسقاط صاحب الحق ولم يوجد "بخلاف من ليس في نكاحهما" كذا وقع في عبارة فخر الإسلام ثم صدر الشريعة، والمراد من ليس مشاركا للبنت الزوجة وأبيها الزوج في النكاح له والأظهر من ليس في نكاحه "وهو البنت الأخرى" التي ليست بمنكوحة له لفوات الالتزام منها في هذا بخصوصه ابتداء وانتهاء هذا وفي المحيط وكل نكاح حرم لحرمة المحل كنكاح المحارم، والجمع بين خمس نسوة وبين الأختين لا يجوز عندهما واختلفوا على قول أبي حنيفة فمشايخ العراق يقع فاسدا؛ لأن ديانتهم لا تصح إذا لم تعتمد شرعا كديانتهم اجتماع رجلين على امرأة واحدة، وديانتهم نكاح المحارم لا تعتمد شرعا؛ لأن نكاحهن لم يكن مشروعا في شريعة آدم عليه السلام إلا لضرورة إقامة النسل حال عدم الأجانب وهم يدينون جوازه في حالة كثرة الأجانب فلا يمكن الحكم بالجواز بديانتهم، ومشايخنا يقع جائزا؛ لأن نكاحهن كان مشروعا في شريعة آدم عليه السلام حال عدم الأجانب ولم يثبت النسخ حال كثرة الأجانب فكان مشروعا في غير حالة الضرورة فقد اعتمدوا ديانتهم جواز ما كان مشروعا، وقد أنكروا النسخ فلم يثبت النسخ في حقهم؛ لأنا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون ولهذا لم يثبت حرمة الخمر في حقهم انتهى، وهذا يفيد أن ليس في المسألة نص عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم يظهر أن الأوجه ما عليه العراقيون، ومنهم القدوري لا القول الآخر، وإن اختاره أبو زيد. وذكر صاحب الهداية أنه الصحيح؛ لأن الظاهر أن حل نكاح المحارم في الجملة في شريعة آدم عليه السلام لم يكن(1/33)ج / 3 ص -402- حكما أصليا بل كان حكما ضروريا لتحصيل النسل وإلا لم يحصل النسل أصلا، ومن ثمة لم يحل في شرعه للرجل أخته التي في بطنه وحلت له أخته من بطن آخر، والظاهر أنه لاندفاع الضرورة بالبعدى عن القربى وإلا لحلت القربى كالبعدى ثم لما ارتفعت الضرورة بكثرة النسل نسخ حل تلك الأخوات أيضا على أن المحكي في عامة كتب أصول الحنفية أن الكفار مخاطبون بالمعاملات في أحكام الدنيا بالاتفاق ولا خفاء في أن النكاح من المعاملات فيلزم كما قال شيخنا المصنف رحمه الله: اتفاق الثلاثة على أنهم مخاطبون بأحكام النكاح غير أن حكم الخطاب إنما يثبت في حق المكلف ببلوغه إليه، والشهرة تنزل منزلته وهي متحققة في حق أهل الذمة دون أهل الحرب فمقتضى النظر التفصيل وفي البديع الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات عندنا هو الصحيح من الأقوال، وعلى طريق وجوب الضمان وجهان أحدهما أن الخمر، وإن لم يكن مالا متقوما في الحال فهي بعرض أن تصير مالا متقوما في الثاني بالتخلل، والتخليل، ووجوب ضمان الغصب والإتلاف يعتمد كون المحل المغصوب والمتلف مالا متقوما في الجملة ولا نقف على ذلك للحال ألا ترى أن المهر، والجحش وما لا منفعة له في الحال مضمون بالغصب والإتلاف، والثاني أن الشرع منعنا عن التعرض لهم بالمنع عن شرب الخمر وأكل الخنزير حسا لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أمرنا أن نتركهم وما يدينون، وقد دانوا شرب الخمر وأكل الخنزير فلزمنا ترك التعرض لهم في ذلك ونفي الضمان بالغصب، والإتلاف يفضي إلى التعرض؛ لأن السفيه إذا علم أنه إذا غصب، أو أتلف لا يؤاخذ بالضمان يقدم على ذلك، وفي ذلك منعهم وتعرض لهم من حيث المعنى انتهى. وهذا أيضا يفيد فساد نكاح المحارم والله سبحانه أعلم فهذا هو الجهل الأول من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة."وجهل المبتدع كالمعتزلة" وموافقيهم "مانعي ثبوت الصفات" الثبوتية الحقيقية من الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والكلام وغيرها لله تعالى "زائدة" على الذات على اختلاف عباراتهم في التعبير عن ذلك فقيل هو حي عالم قادر لنفسه وقيل بنفسه إلى غير ذلك كما ذكرناه في فصل شرائط الراوي "و" ثبوت "عذاب القبر"، وإنكاره معزو في المواقف إلى ضرار بن عمر وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة وفي شرح المقاصد اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ونسب خلافه إلى المعتزلة قال بعض المتأخرين منهم من حكى ذلك عن ضرار بن عمرو، وإنما نسب إلى المعتزلة وهم برآء منه لمخالطة ضرار إياهم وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق. "و" ثبوت "الشفاعة" للرسل، والأخيار وخصوصا سيد ولد آدم النبي المختار في أهل الكبائر في العرصات وبعد دخول النار "و" ثبوت "خروج مرتكب الكبيرة" إذا مات بلا توبة من النار "و" ثبوت جواز "الرؤية" لله تعالى بمعنى الانكشاف التام بالبصر لمن شاء الله تعالى ذلك له فضلا عن وجوبها للمؤمنين في الدار الآخرة "و" مثل "الشبهة لمثبتيها" أي الصفات المذكورة لله تعالى زائدة على الذات لكن "على ما يفضي إلى التشبيه" بالمخلوق سبحانه(1/34)ج / 3 ص -403- وتعالى عما يصفون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} "لا يصلح عذرا لوضوح الأدلة من الكتاب، والسنة الصحيحة" على ثبوت الصفات المشار إليها على الوجه المنزه عن التشبيه وكذا ما بعدها كما هو مذكور في علم الكلام وغيره "لكن لا يكفر" المبتدع في ذلك "إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل" في الجملة كما هو مسطور في موضعه "وللنهي عن تكفير أهل القبلة" أي ولما روى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب" لكن تعقب بأن عن أحمد أنه موضوع لا أصل له كيف بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر" وأجيب بأن في صحته عن أحمد نظرا، فإن معناه في الصحيحين، وهو ما عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر، وإن شاء عذبه" وروى البيهقي بسند صحيح أن جابر بن عبد الله سئل هل تسمون الذنوب كفرا، أو شركا، أو نفاقا قال معاذ الله: ولكنا نقول مؤمنين مذنبين انتهى. قلت: والأولى صحته عن أحمد بما روى أبو داود وسكت عليه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل"، فإنه هو وحديث "من ترك الصلاة فقد كفر" مؤول بترك جحود أو مقارنة كفر، ولو كان تركها كفرا لما أمر الشارع بقضائها بدون تجديد إيمان "وعنه عليه السلام "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان" رواه النسائي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري وأبو داود، والترمذي إلا أنهم قالوا بدل فاشهدوا إلخ "فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته" كما قدمناه في فصل شروط الراوي وعنه صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] " رواه ابن ماجه، والترمذي وفي لفظ للترمذي بعباد وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه إلا أنهما قالا "فاشهدوا عليه بالإيمان" قال ابن حبان: أي اشهدوا له وقال الحاكم: لم يختلفوا في صحة هذه الترجمة وصدق رواتها "وجمع بينه" أي هذا الحديث "وبين" حديث "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة و ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه وللترمذي ورواية لأبي داود ملة مكان " فرقة " ولأحمد ورواية لأبي داود "ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة". وللترمذي "كلهم في النار إلا ملة واحدة" قالوا: "من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي" وقال حديث حسن صحيح ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بمحمد بن عمر واستدركه عليه الذهبي بأنه لم يحتج به منفردا ولكن مقرونا بغيره، وللحديث طرق كثيرة من رواية كثير من الصحابة بألفاظ متقاربة "أن التي في الجنة المتبعون في العقائد، والخصال وغيرهم يعذبون، والعاقبة الجنة وعدوهم من أهل الكبائر"، وقد ذيل القاضي عضد الدين(1/35)ج / 3 ص -404- المواقف بذكرهم على سبيل التفصيل وهذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم حيث وقع ما أخبر به ثم قال عطفا على قوله للنهي "وللإجماع على قبول شهادتهم" أي المبتدعة "على غيرهم ولا شهادة لكافر على مسلم" لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] "وعدمه" أي قبول الشهادة "في الخطابية" من الرافضة وتقدم الكلام فيهم في فصل شرائط الراوي "ليس له" أي لكفرهم بل لتدينهم الكذب فيها لمن كان على رأيهم وحلف أنه محق "وإذ كانوا" أي المبتدعة "كذلك" أي غير كفار "وجب علينا مناظرتهم" لإزالة شبهتهم وإظهار الصواب فيما نحن عليه لهم "وأورد استباحة المعصية كفر" وكثير منهم إن لم يكن عامتهم يستبيحها فيكونون كفارا "وأجيب" بأن عد فعلها مباحا إنما يكون كفرا "إذا كان عن مكابرة وعدم دليل بخلاف ما" يكون "عن دليل شرعي"، فإنه لا يكون كفرا "والمبتدع مخطئ في تمسكه" بما ليس عند التحقيق بدليل لمطلوبه "لا مكابر" لمقتضى الدليل "والله تعالى أعلم بسرائر عباده".هذا والمراد بالمبتدع الذي لم يكفر ببدعته، وقد يعبر عنه بالمذنب من أهل القبلة كما أشار إليه المصنف سابقا بقوله: وللنهي عن تكفير أهل القبلة هو الموافق على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم وحشر الأجساد من غير أن يصدر عنه شيء من موجبات الكفر قطعا من اعتقاد راجع إلى وجود إله غير الله تعالى، أو إلى حلوله في بعض أشخاص الناس، أو إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو ذمه، أو استخفافه، ونحو ذلك المخالف في أصول سواها مما لا نزاع أن الحق فيه واحد كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقدم الكلام ولعل إلى هذا أشار المصنف ماضيا بقوله إذ تمسكه بالقرآن، أو الحديث، أو العقل إذ لا خلاف في تكفير المخالف في ضروريات الإسلام من حدوث العالم وحشر الأجساد ونفي العلم بالجزئيات، وإن كان من أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات وكذا المتلبس بشيء من موجبات الكفر ينبغي أن يكون كافرا بلا خلاف وحينئذ ينبغي تكفير الخطابية لما قدمناه عنهم في فصل شرائط الراوي، وقد ظهر من هذا أن عدم تكفير أهل القبلة بذنب ليس على عمومه إلا أن يحمل الذنب على ما ليس بكفر فيخرج المكفر به كما أشار إليه السبكي غير أن قوله: غير أني أقول إن الإنسان ما دام يعتقد الشهادتين فتكفيره صعب وما يعرض في قلبه من بدعة إن لم تكن مضادة لذلك لا يكفر، وإن كانت مضادة له، فإذا فرضت غفلته عنها واعتقاده الشهادتين مستمر فأرجو أن ذلك يكفيه في الإسلام، وأكثر الملة كذلك ويكون كمسلم ارتد ثم أسلم إلا أن يقال: ما به كفر لا بد في إسلامه من توبته عنه فهذا محل نظر. وجميع هذه العقائد التي يكفر بها أهل القبلة قد لا يعتقدها صاحبها إلا حين بحثه فيها لشبهة تعرض له، أو مجادلة، أو غير ذلك وفي أكثر الأوقات يغفل عنها، وهو ذاكر للشهادتين لا سيما عند الموت انتهى فيه ما فيه ثم عدم تكفير أهل القبلة بذنب نص عليه أبو حنيفة في الفقه الأكبر فقال: ولا نكفر أحدا بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها وجعله من شعار أهل الجماعة على ما في منتقى الحاكم الشهيد عن إبراهيم بن رستم عن أبي عصمة(1/36)ج / 3 ص -405- نوح بن أبي مريم المروزي قال سألت أبا حنيفة من أهل الجماعة فقال: من فضل أبا بكر وعمر وأحب عليا وعثمان ولم يحرم نبيذ الجر ولم يكفر واحدا بذنب ورأى المسح على الخفين وآمن بالقدر خيره وشره من الله ولم ينطق في الله بشيء قالوا: ونقل عن الشافعي ما يدل عليه حيث قال: لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء إلا الخطابية، فإنهم يعتقدون حل الكذب، والظاهر أنه لم يثبت عنده ما يفيد كفرهم كما سلف في فصل شرائط الراوي وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رجع الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة؛ لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات وقال: اختلفنا في عبارة، والمشار إليه واحد قلت بل قال في أول كتاب مقالات الإسلاميين واختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم انتهى فلا جرم أن قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما: أظهر مذهبي الأشعري ترك تكفير المخطئ في الأصول. وقال الإمام أيضا ومعظم الأصحاب على ترك التكفير وقالوا: إنما يكفر من جهل وجود الرب، أو علم وجوده ولكن فعل فعلا، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر ومن قال بتكفير المتأولين يلزمه أن يكفر أصحابه في نفي البقاء كما يكفر في نفي العلم وغيره من المسائل المختلف فيها وذكر غيره أن على هذا جمهور الفقهاء، والمتكلمين ويترتب على عدم التكفير أنه لا يقطع بخلوده في النار وهل يقطع بدخوله فيها حكى القاضي حسين فيه وجهين وقال المتولي: ظاهر المذهب أنه لا يقطع وعليه يدل كلام الشافعي ثم قد ظهر أنه لا إجماع على قبول شهادتهم، ومن ثمة في الاختيار ولا تقبل شهادة المجسمة؛ لأنهم كفرة ويوافقه ما في المواقف وقد كفر المجسمة مخالفوهم قال الشارحون من أصحابنا والمعتزلة وقال شيخنا المصنف رحمه الله في المسايرة، وهو أظهر، فإن إطلاق الجسم مختارا بعد علمه بما فيه من اقتضاء النقص استخفاف انتهى. نعم من أهل السنة، والجماعة من لم يكفرهم بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب لصاحبه فمن يلزمه الكفر ولم يقل به فليس بكافر، وعليه مشى الإمام الرازي والشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم كيف يكون في قبول شهادة أهل الأهواء إجماع ومالك لا يقبلها، ولو لم يكفروا بأهوائهم بناء على أنهم فسقة وتابعه أبو حامد من الشافعية اللهم إلا أن يراد إجماع من قبله، وهو يحتاج إلى ثبت فيه والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الثاني من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة."وجهل الباغي، وهو" المسلم "الخارج على الإمام الحق" ظانا أنه على الحق، والإمام على الباطل متمسكا بذلك "بتأويل فاسد"، فإن لم يكن له تأويل فحكمه حكم اللصوص، وهو لا يصلح عذرا لمخالفته التأويل الواضح، فإن الدلائل على كون الإمام الحق على الحق مثل الخلفاء الراشدين ومن سلك طريقهم ظاهرة على وجه يعد جاحدها مكابرا معاندا قالوا: وهذان الجهلان دون الجهل الأول. وأما قول المصنف جهل الباغي "دون جهل المبتدعة" فلم أقف على تصريحهم به نعم "لم يكفره" أي الباغي "أحد إلا أن يضم" الباغي "أمرا آخر" يكفر(1/37)ج / 3 ص -406- به إلى البغي "وقال علي: رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا" فأطلق عليهم أخوة المسلمين وظاهر ذلك لا يقال للكافر "فنناظره" أي الباغي "لكشف شبهته" لعله يرجع إلى طاعة الإمام الحق بلا قتال "بعث علي ابن عباس لذلك" كما أخرجه بطوله النسائي وغيره. "فإن رجع" الباغي إلى طاعة الإمام الحق "بالتي هي أحسن، وإلا وجب جهاده" لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولأن البغي معصية ومنكر، والنهي عن المنكر فرض وذلك بالقتال حينئذ، وقيل: إنما تجب محاربتهم إذا تجمعوا وعزموا على القتال؛ لأنها إنما تجب بطريق الدفع ثم ظاهر هذا السوق يفيد أن هذه الدعوة لهم قبل القتال واجبة، وأن القتال إنما يجب بعدها وليس كذلك بل القتال واجب قبلها، وأن تقديمها عليه أحسن كما في المبسوط، أو مستحب كما في الاختيار؛ لأنهم علموا لماذا يقاتلون فصاروا كالمرتدين "وما لم يصر له" أي الباغي "منعة" بالتحريك، وقد يسكن أي قوة يمنع بها من قصد من الأعداء "فيجري عليه" أي الباغي "الحكم المعروف" في قصاص النفوس وغرامات الأموال وغيرها بين المسلمين لبقاء ولاية الإلزام في حقه كما في حقهم "فيقتل" الباغي "بالقتل" العمد للعدوان "ويحرم به" أي بالقتل المذكور لمورثه الإرث منه "ومعها" أي المنعة "لا" يجري عليه الحكم المعروف "لقصور الدليل عنه" أي الباغي "لسقوط إلزامه" بسبب تأويله الذي استند إليه لدفع الخطاب عنه "والعجز عن إلزامه" حسا وحقيقة فيما يحتمل السقوط، وهو حق العبد بواسطة المنعة "فوجب العمل بتأويله" الفاسد فيه بخلاف ما لا يحتمل السقوط بها، وهو الإثم، فإن الباغي يأثم، وإن كان له منعة؛ لأنها لا تظهر في حق الشارع ولا تسقط حقوقه؛ لأن الخروج على الله حرام أبدا، والجزاء واجب لله تعالى أبدا إلا أن يعفو "ولا نضمن ما أتلفنا من نفس ومال" وهذا ظاهر لا خلاف فيه، وقد كان الأولى فلا يضمن الباغي ما أتلف من نفس ومال في هذه الحالة بعد أخذه، أو توبته كما في الحربي بعد الإسلام تفريعا على وجوب العمل بتأويله. فإن كان المال قائما في يده ورده على صاحبه؛ لأنه لا يملكه بالأخذ كما لا يملك ماله، والتسوية بين الفئتين المتقابلتين في الدين في الأحكام أصل ثم في المبسوط عن محمد قال: أفتيهم بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس، والأموال ولا ألزمهم بذلك في الحكم قال شمس الأئمة: وهذا صحيح، فإنهم كانوا معتقدين الإسلام، وقد ظهر لهم خطؤهم إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة فيفتون به ولا يفتى أهل العدل بمثله؛ لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للأمر ثم الحاصل أن نفي ضمان الباغي منوط بالمنعة مع التأويل فلو تجردت عنه كقوم غلبوا على أهل بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليهم أخذوا بجميع ذلك، ولو انفرد التأويل عنها بأن انفرد واحد، أو اثنان فقتلوا وأخذوا المال عن تأويل ضمنوا إذا تابوا، أو قدر عليهم لإجماع الصحابة على إناطة نفي الضمان بالمنعة. والتأويل كما يفيده ما في مصنف عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت(1/38)ج / 3 ص -407- بالحرورية فتزوجت ثم إنها رجعت إلى أهلها تائبة قال فكتب إليه: أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن ولا قصاصا في دم استحلوه بتأويل القرآن ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه، وإني أرى أن ترد على زوجها وأن يحد من افترى عليها وبقاء ما عدا المجمع عليه على حكمه المعروف له "ويدفف على جرحاهم" في المغرب دفف على الجريح بالدال، والذال أسرع قتله وفي كلام محمد عبارة عن إتمام القتل ويتبع موليهم، وهذا إذا كان لهم فئة أما إذا لم يكن لهم فئة فلا يذفف على جريحهم ولا يتبع موليهم كما في المبسوط وغيره وكان الواجب ذكر القيد المذكور ثم ظاهر الكتاب كغيره وجوب التدفيف، وقد صرح به فخر الإسلام لكن المذكور في المبسوط لا بأس بأن يجهز على جريحهم إذا كانت لهم فئة باقية، وقال الشافعي وأحمد: لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر لما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه قال يوم الجمل: لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح وأجيب بأن القتل لدفع الشر، وإذا كان لهما فئة لم يخرج عن كونه دفعا؛ لأنهما يتحيزان إلى الفئة ويعود شرهما كما كان وأصحاب الجمل لم يكن لهم فئة أخرى سواهم "ويرث" العادل "مورثه" الباغي "إذا قتله" اتفاقا؛ لأنه مأمور بقتله فلا يحرم الميراث، وقد كان الأولى التصريح بالعادل. "وكذا عكسه" أي يرث الباغي مورثه العادل إذا قتله، وقال: كنت على الحق وأنا الآن عليه موافقة "لأبي حنيفة ومحمد" وكأنه لم يذكر هذا القيد؛ لأن الظاهر من حال إرادته، ولو قال: قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه عندهما وقال أبو يوسف والشافعي: لا يرثه في الوجهين؛ لأن إلحاق التأويل الفاسد بالصحيح بقول الصحابة كما في دفع الضمان، والحاجة هنا إلى إثبات الاستحقاق فإلحاقه به بلا دليل وأبو حنيفة ومحمد يقولان: المتحقق من الصحابة جعل تلك المنعة والاعتقاد دافعا ما لولاه لثبت لثبوت أسباب الثبوت ألا ترى أنه لولا تلك المنعة والاعتقاد لثبت الضمان لثبوت سببه من القتل العمد العدوان وإتلاف المال المعصوم فيتناول ما نحن فيه، فإن القرابة التي هي سبب استحقاق الميراث قائمة، والقتل بغير حق مانع وجد عن اعتقاد الحقية مع المنعة فمنع مقتضاه من المنع فعمل السبب عمله من إثبات الميراث "ولا يملك ماله" أي الباغي "بوحدة الدار" أي بسبب اتحاد دار العادل، والباغي؛ لأنهما في دار الإسلام إذ تملك المال بطريق الاستيلاء يتوقف على كمال اختلاف الدار، وهو منتف ثم "على هذا" أي عدم تملك مال الباغي "اتفق علي، والصحابة رضي الله عنهم" فقد أخرج ابن أبي شيبة أن عليا لما هزم طلحة وأصحابه أمر مناديه فنادى أن لا يقتل مقبل ولا مدبر ولا يفتح باب ولا يستحل فرج ولا مال وزاد في رواية ولم يأخذ من متاعهم شيئا وأخرجه عبد الرزاق وزاد فيه وكان علي لا يأخذ مالا لمقتول ويقول: من عرف شيئا فليأخذه إلى غير ذلك ولم ينقل عن غيره من الصحابة مخالفته فكان اتفاقا والله سبحانه أعلم وهذا هو الجهل الثالث من القسم الأول من أقسام الجهل الثلاثة.(1/39)ج / 3 ص -408- "وجهل من عارض مجتهده الكتاب كحل متروك التسمية عمدا و" جواز "القضاء بشاهد ويمين" من المدعي "مع {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}" الآية قال الفاضل القاآني وفيه نظر؛ لأن المخالفة إنما تتحقق بينهما أن لو لم يكن قوله تعالى: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] كناية عما لم يذبحه موحد، وهو ممنوع سلمنا أنه محمول على ظاهره ولكنه يحتمل أن يكون الذكر القلبي كافيا فلم قلت: إنه ليس بكاف فلا بد له من دليل انتهى وأجيب بمنع إرادة هذا الاحتمال هنا؛ لأنه تعالى قرن الذكر بكلمة على، وهو يفيد إرادته باللسان؛ لأنه يقال: ذكر عليه وسمي عليه بلسانه، ولا يقال بقلبه قلت على أنه أيضا لم يرد القائلون بأن المراد بالذكر الذكر القلبي حقيقته، وهو حضور المعنى للنفس كما هو نقيض النسيان، وهو ذهاب المعنى من النفس للزوم عدم جواز أكل ما نسي ذكر الله عليه حينئذ بل أريد به ما أقيم مقامه، وهو الملة ليدخل النسيان أيضا وأيضا النهي يقتضي تصور المنهي عنه وبحمل الذكر على الذكر القلبي ثم إقامة الملة مقامه لا يكون المنهي عنه متصورا فتعين إرادة الذكر اللساني ليكون المنهي عنه متصورا، وفي غاية البيان ولا يقال: المراد ذبيحة المشرك، والمجوسي فيتصور المنهي عنه؛ لأنا نقول: حرمة ذبائحهم لا باعتبار ترك التسمية، فإن المشرك لا تحل ذبيحته، وإن سمى الله تعالى انتهى. هذا وكون ما لم يذكر اسم الله عليه كناية عما لم يذبحه موحد سواء كان ميتة، أو ذكر غير اسم الله عليه، وقد يؤيد بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والفسق ما أهل لغير الله به تأويل مخالف للظاهر محوج إلى معين له، والشأن في ذلك نعم ظاهر الآية حرمة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه من الحيوان وغيره لكن سوق الكلام وسبب النزول وإجماع من عدا عطاء دل على التخصيص باللحم، والشحم ونحوهما من أعضاء الحيوان وأجزائه ثم هو يعم متروك التسمية مطلقا كما ذهب إليه داود وبشر لكن خرج متروك التسمية نسيانا إما بالإجماع على ما حكاه ابن جرير وغيره على ما فيه من بحث؛ لأنه إن أريد الصدر الأول فيخدشه ما أخرج الشيخ أبو بكر الرازي أن قصابا ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها فأمر ابن عمر غلاما له أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري يقول له: إن ابن عمر يقول لك هذه شاة لم تذك فلا تشتر منها شيئا وأخرج عن علي وابن عباس وغيرهما قالوا: لا بأس بأكل ما نسي أن يسمى عليه عند الذبح وقالوا: إنما هي على الملة، وإن أريد من بعدهم فصحيح إذ لم يصح عن مالك ولا أحمد عدم الأكل في النسيان ولم يعتبر قول داود وبشر في الإجماع على مثله. وإما؛ لأن الناسي ليس بتارك لذكر اسم الله في المعنى على ما قالوا لما عن أبي هريرة سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله قال: اسم الله على كل مسلم" وفي لفظ "على فم كل مسلم" أخرجه الدارقطني وابن عدي لكن فيه مروان بن سالم متروك لكن يشده ما قدمناه في بحث فساد الاعتبار من مراسيل أبي داود ثم ظاهرهما أنه لا فرق بين الناسي، والعامد وبه تتضاءل التفرقة بينهما بعذر الناسي؛ لأن النسيان من قبل من له الحق فأقام الشارع الملة مقام التسمية فجعل عفوا دافعا للعجز وعدم عذر العامد؛ لأن الترك من قبله فلم يكن في معناه، فإن هذا إبطال النص بالمعنى، وهو غير جائز على أنه يرد على هذا أيضا(1/40)ج / 3 ص -409- بالنسبة إلى أصل الدليل بعد التنزل نحو هذا، فإن هذا خبر واحد، وهو لا يجوز تخصيص الكتاب به ابتداء فالأول أشبه بعد أن يكون المراد إجماع من يعتد بإجماعه بعد الصدر الأول وحينئذ لا يلحق به العامد؛ لأن الظاهر أن المعقول من حكم الإجماع بالإجزاء إنما هو دفع الحرج، وهو في الناسي لا في العامد ثم هذا في ذبيحة المسلم، وأما ذبيحة الكتابي، فإن ترك التسمية عليها عمدا ففي الدراية لم تحل ذبيحته بإجماع الفقهاء وأهل العلم. وصورة متروك التسمية عمدا أن يعلم أن التسمية شرط وتركها مع ذكرها أما لو تركها من لا يعلم اشتراطها فهو في حكم الناسي ذكره في الحقائق ومع قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية قالوا: لأن الله تعالى بين المعتاد بين الناس من الشهادة، وهو شهادة رجلين ثم انتقل إلى غيره، وهو شهادة النساء مبالغة في البيان مع أن حضورهن في مجالس الحكم غير معتاد بل هو حرام بلا ضرورة؛ لأنهن أمرن بالقرار في البيوت فلو كان يمين المدعي مع شاهد حجة لانتقل إليه لكونه أيسر وجودا ولم ينتقل إلى ما هو غير معتاد إذ لم يتحقق ضرورة مبيحة لحضورهن لإمكان وصوله إلى حقه بشاهد ويمين فكان النص من هذا الوجه بطريق الإشارة دالا على أن الشاهد مع اليمين ليس بحجة، والنص وإن كان في التحمل لكن فائدة التحمل الأداء فهو يفضي إليه وأيضا أول الآية، وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] أمر بفعل الاستشهاد، وهو مجمل فيما يرجع إلى عدد الشهود كقول القائل: كلوا، فإنه مجمل في حق تناول المأكولات فيكون ما بعده تفسيرا لذلك المجمل وبيانا لجميع ما هو المراد، وهو استشهاد رجلين {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كقوله: كلوا الخبز، واللحم، فإن لم يوجد فالخبز، والجبن، وإذا ثبت أن المذكور في النص هو جميع المستشهد به فلا يكون القضاء بشاهد ويمين حجة إذ لو كان حجة لبينه الله تعالى في معرض الاستقصاء في البيان {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] وأيضا نص الله تعالى على أن أدنى ما تنتفي به الريبة ما هو المذكور في النص حيث قال {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وليس دون الأدنى شيء تنتفي به الريبة فلو كان الشاهد مع اليمين حجة لزم منه انتفاء كون المنصوص أدنى فيكون مخالفا للنص ضرورة."والسنة المشهورة" أي وجهل من عارض مجتهده السنة المشهورة "كالقضاء المذكور" أي بشاهد ويمين المدعي "مع" قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" لفظ البيهقي ولفظ الصحيحين "واليمين على المدعى عليه" فجعل جنس الأيمان على المنكر، أو على المدعى عليه إذ لا عهد ثمة وليس وراء الجنس شيء فلا يكون بعض الأيمان في جانب المدعي وما أخرج مسلم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. أجيب بأنه أخرجه عن سيف عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، وقد ذكر الترمذي أنه سأل محمدا يعني البخاري فقال عمرو لم يسمع هذا من ابن عباس عندي. وقال الطحاوي: قيس بن سعد لا يعلم أنه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء فقد رمى الحديث بالانقطاع في موضعين وسيف عن قيس ذكره ابن عدي في كتابه الموضوع في الضعفاء، وهو(1/41)ج / 3 ص -410- الكامل وساق له هذا الحديث وعن ابن المديني أنه قال: غلط سيف في هذا الحديث، والحديث المعروف الذي رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. وسأل عياش ابن معين عن هذا الحديث فلم يعرفه ورواه محمد بن مسلم الطائفي أيضا عن عمرو بن دينار إلا أن محمدا هذا تكلم فيه قال أحمد: ما أضعف حديثه وضعفه جدا ومع ضعفه اختلف عليه في هذا الحديث كما ذكر البيهقي في سننه وذكر في المعرفة أن الشافعي لم يحتج بهذا الحديث في هذه المسألة لذهاب بعض الحفاظ إلى كونه غلطا، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث إرساله أشهر انتهى. وروي من وجوه لا تخلوا كلها من النظر وروى ابن أبي شيبة بإسناد على شرط مسلم عن الزهري هي بدعة وأول من قضى بها معاوية وفي مصنف عبد الرزاق أخبرنا معمر سألت الزهري عن اليمين مع الشاهد فقال: شيء أحدثه الناس لا بد من شاهدين إلى غير ذلك وأورد لم يبق لتضعيف الحديث مجال بعد ما أخرجه مسلم وأجيب بالمنع، فإن مسلما ليس بمعصوم عن الخطإ، وقد وهم في ذلك، وقد أخذ عليه بمثل ذلك غير ناقد فذكر المازري أن فيه أربعة عشر حديثا مقطوعا وقال غيره: أخذ على مسلم في سبعين موضعا رواه متصلا، وهو منقطع ويجوز أن يطلع على أكثر من ذلك على أنه غير خاف رجحان الكتاب، والسنة المشهورة على هذا الحديث مع أنه لا دلالة ظاهرة فيه على المطلوب إذ ليس فيه بيان المحكوم به، والمحكوم عليه ولا كيفية السبب في ذلك ولا المستحلف من هو حتى يصح اعتبار غيره به إذ ليس هو عموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فيعتبر فيه لفظه بل هو قضية خاصة لا يدرى ما هي أيضا وإذا كان قضية خاصة في شيء خاص فيجوز أن يكون على معنى متفق على جوازه، وهو أن يكون قبل شهادة الطبيب، أو امرأة في عيب لا يطلع عليه غير ذلك الشاهد واستحلف المشتري مع ذلك أنه ما رضي بالعيب فيكون قاضيا في رد المبيع بشاهد واحد مع يمين المشتري ويحتمل أيضا أن يكون معنى قوله: قضى باليمين مع الشاهد أي مع البينة، أو مع الشاهدين فأطلق اسم الشاهد وأراد به الجنس لا العدد إلى غير ذلك ومع الاحتمال يسقط الاستدلال ثم جمهور العلماء على أن القضاء بيمين المدعي وشاهد واحد في غير الأموال لا يصح، واختلفوا في الأموال فأصحابنا ومن وافقهم لا يصح أيضا والشافعي وآخرون يصح فيها والله أعلم."والتحليل" أي وكالقول بحل المطلقة ثلاثا لزوجها الأول إذا تزوجها الثاني ثم طلقها "بلا وطء" كما هو قول سعيد بن المسيب فقد روى سعيد بن منصور عنه أنه قال: الناس يقولون حتى يجامعها، وأما أنا فأقول: إذا تزوجها نكاحا صحيحا، فإنها تحل للأول "مع حديث العسيلة"، وهو ما روى الجماعة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول قال: "حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول"، فإن قول سعيد مخالف لهذه السنة المشهورة واستغرب منه ذلك حتى قيل لعل الحديث لم يبلغه وقال الصدر الشهيد ومن أفتى بهذا القول فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين. وفي المبسوط: ولو أفتى فقيه بذلك يعزر.(1/42)