التقرير والتحبير – الجزء الثالث
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في التعارض
وأشار إلى وجه ذكره بعد خبر الواحد بقوله "وغالبه في الآحاد" و "هو" أي التعارض لغة "التمانع" على سبيل التقابل تقول: عرض لي كذا إذا استقبلك ما يمنعك مما قصدته، ومنه سمي السحاب عارضا؛ لأنه يمنع شعاع الشمس وحرارتها من الاتصال بالأرض "وفي الاصطلاح اقتضاء كل من دليلين عدم مقتضى الآخر" وفيه المعنى اللغوي كما هو ظاهر "فعلى ما قيل" والقائل غير واحد من مشايخنا كفخر الإسلام وأتباعه "لا يتحقق" التعارض "إلا مع الوحدات" الثمان وحدة المحكوم عليه وبه والزمان والمكان والإضافة والقوة والفعل والشرط وقيل التسع والتاسعة وحدة الحقيقة والمجاز كما عرف في المنطق وردت إلى الإضافة والجميع إلى وحدتي المحكوم عليه وبه وإلى وحدة النسبة الحكمية كما عرف في المنطق أيضا فالتعارض "لا يتحقق في" الأحكام "الشرعية للتناقض" حينئذ والشارع منزه عنه لكونه أمارة العجز "ومتى تعارضا" أي الدليلان "فيرجح" أحدهما إذا وجد المرجح له "أو يجمع" بينهما بأن يحمل كل منهما على محمل بطريقة يتحقق "معناه" أي التعارض "ظاهرا" أي يكون التعارض المذكور ظاهر اقتضاء الدليلين "لجهلنا" بالمتقدم منهما "لا" حقيقته "في نفس الأمر" كما أشار إليه صاحب البديع وصدر الشريعة "وهو" أي كون المراد به هذا هو "الحق" فيفرع عليه قوله "فلا تعتبر" الوحدات المذكورة فيه؛ لأن المبوب له صورة المعارضة لا حقيقتها لاستحالتها على الشارع فلا معنى لتقييدها بتحقق الوحدات؛ لأنها حينئذ المعارضة الممتنعة والكلام في إعطاء أحكام المعارضة الواقعة في الشرع وهي ما تكون صورة فقط مع الحكم بانتفائها حقيقة.
وقوله أيضا "ولا يشترط تساويهما" أي الدليلين المتعارضين "قوة" لا كما قيل يشترط؛ لأن الأضعف بالنسبة إلى الأقوى في حكم العدم فلا تماثل بينهما؛ لأنه بناء على التعارض حقيقة.
وقوله أيضا "ويثبت" التعارض "في" دليلين "قطعيين ويلزمه" أي التعارض في قطعيين "محملان" لهما إذا لم يعلم تأخر أحدهما عن الآخر "أو نسخ أحدهما" بمعارضة الآخر إن علم تأخر أحدهما عن الآخر "فمنعه" أي التعارض "بينهما" أي القطعيين "وإجازته في الظنين" كما ذكره ابن الحاجب وغيره وعلله العلامة الشيرازي بأنه إما أن يعمل بهما وهو جمع بين النقيضين في الإثبات أو لا يعمل بشيء منهما وهو جمع بين النقيضين في طرف النفي أو بأحدهما دون الآخر وهو ترجيح بلا مرجح "تحكم" لجريان هذا التعليل بعينه في الظنيين أيضا على أن الكلام في صورة التعارض لا في تحققه في الواقع وهي كما توجد في الظنيين توجد في القطعيين وفي القطعي والظني "والرجحان" لأحد المتعارضين القطعيين أو
ج / 3 ص -3-
الظنيين إنما هو "بتابع" أي بوصف تابع لذلك الراجح كما في خبر الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خبر الواحد الذي يرويه عدل غير فقيه "مع التماثل" أي تساويهما في القطع والظن لا بما هو غير تابع "ومنه" أي التماثل بين الدليلين في الثبوت السنة "المشهورة مع الكتاب حكما" أي من حيث وجوب تقييد مطلقه وتخصيص عمومه وجواز نسخه بها ولا سيما على قول الجصاص وإن كانت لا تماثله من حيث إكفار جاحده على ما هو الحق كما سلف في موضعه "فلا يقال النص راجح على القياس"؛ لأن رجحان النص على القياس بوصف غير تابع فلا مماثلة بينهما أولا "بخلاف عارضه" أي القياس النص "فقدم" النص عليه فإنه يقال؛ لأن المراد صورة التعارض فلا يلزم منه تحقق المماثلة بينهما في نفس الأمر "إذ حكمه" أي التعارض صورة "النسخ إن علم المتأخر" فيكون ناسخا للمتقدم "وإلا" إذا لم يعلم المتأخر "ف" الحكم "الترجيح" لأحدهما على الآخر بطريقه إن أمكن "ثم الجمع" بينهما إن أمكن إذا لم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر؛ لأن إعمال كليهما في الجملة حينئذ أولى من إلغاء كليهما بالكلية "وإلا" إذا لم يعلم المتقدم ولم يمكن ترجيح أحدهما ولا الجمع بينهما "تركا" أي المتعارضان "إلى ما دونهما" من الأدلة "على الترتيب إن كان" أي وجد ما دونهما بأن كان التعارض بين آيتين فإنهما يتركان إلى السنة إن كانت ولم تكن متعارضة فإن لم يوجد في ذلك سنة أو وجدت لكن متعارضة ففخر الإسلام تركها إلى القياس وأقوال الصحابة ولم يفصح بما يصار إليه أولا منهما ولفظ السرخسي يصار إلى ما بعد السنة فيما يكون حجة في حكم الحادثة وذلك الحكم قول الصحابي أو القياس الصحيح فقيل في الأول إشارة إلى تقديم القياس وفي الثاني إشارة إلى قول الصحابي؛ لأن التقديم في الذكر يدل على شدة العناية وفي التقويم وإن كان بين السنتين فالميل إلى قول الصحابي ثم إلى الراوي انتهى. وعليه مشى المصنف كما سترى.
ثم ظاهر أن هذا كله فيما يدرك بالقياس أما فيما لا يدرك، فقول الصحابي مقدم على القياس اتفاقا ثم إنما يتساقط المتعارضان حيث لا ترجيح ولا جمع بينهما ممكن إلى ما دونهما حيث وجد لتعذر العمل بهما للتنافي بينهما وبأحدهما عينا لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح ثم لا ضرورة في العمل بأحدهما أيضا لوجود الدليل الذي يعمل به وهو ما دونهما فلا يقع العمل بما يحتمل أنه منسوخ ثم إنما يجب المصير إلى ما دونهما حينئذ؛ لأن الحادثة التحقت بما إذا لم يوجد فيها ائتزرت الدليلان ولا بد من دليل يتعرف به حكم الحادثة "وإلا" إذا لم يوجد دون المتعارضين دليل آخر يعمل به أو وجد التعارض في الجميع "قررت الأصول" أي يجب العمل بالأصل في جميع ما يتعلق بالمتعارضين "أما" في التعارض "في القياسين" إذا وقعت الحاجة إلى العمل "فبأيهما شهد قلبه" أي أدى تحري المجتهد إليه يجب العمل به عليه "إن" طلب الترجيح وظهر له أن "لا ترجيح" ولا يسقطان لأداء تساقطهما إلى العمل بلا دليل شرعي بعد القياس يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة الذي هو مضطر إلى معرفته، والعمل بلا دليل شرعي باطل وكل من القياسين حجة في
ج / 3 ص -4-
العمل به لوضع الشارع إياه للعمل به لا في إصابة الحق؛ لأنه عند الله واحد فمن حيث الأول وجب أن يثبت الخيار من غير تحر كما في الكفارات ومن حيث الثاني وجب أن يسقطا كما في النصين؛ لأن أحدهما خطأ وهو لا يدري فوجب العمل من وجه وسقط من وجه فقلنا يحكم رأيه ويعمل بشهادة قلبه؛ لأن لقلب المؤمن نورا يدرك به ما هو باطن لا دليل عليه كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" رواه الترمذي ثم إذا عمل بأحدهما بالتحري ليس له أن يعمل بالآخر لصيرورة الذي عمل به هو الحق عند الله والآخر خطأ في الظاهر فلا يجوز له أن يعمل به إلا بدليل فوق التحري كأن يتبين نص بخلافه لظهور خطئه حينئذ حيث اجتهد في المنصوص عليه وإذا لم تقع حاجة إلى العمل يتوقف فيه. وقال الشافعي يعمل بأيهما شاء من غير تحر ولهذا صار له في المسألة قولان وأقوال وأما الروايتان عن أصحابنا في مسألة واحدة فإنما كانتا في وقتين إحداهما صحيحة والأخرى لا، ولكن لم تعرف الأخيرة منهما ودفع العمل بالقياسين جميعا بأن الحق عند الله واحد كما عليه أهل السنة والجماعة، فالجمع بينهما في العمل جمع بين الحق والباطل وهو غير جائز.
"وقول الصحابيين بعد السنة قبل القياس كالقياسين فلا يصار عنهما إلى القياس" أي قولهما إما أن يكون فيما يمكن فيه الرأي أو لا ففيما يمكن حمل تعارضهما أن يترجح أحدهما بطريقة فإن لم يكن مرجح عمل بأيهما شاء ولا يصار إلى القياس؛ لأن عملهم حينئذ عن رأي؛ لأنهم لما لم يتحاجوا بالسمع ظهر أنهم اختلفوا عن اختلاف رأي ولا رأي في الشرع إلا القياس فصار قولاهما كقياسين تعارضا ولا مرجح وفي ذلك يعمل بأيهما شاء فكذا هذا فإن قيل جاز أنا لو صرنا إلى القياس ظهر لنا قياس آخر غيرهما قلنا قدمنا أن اجتهاد الصحابي مقدم على اجتهاد غيره فهو كالدليل الراجح بالنسبة إلى المرجح فالقياس الثالث محكوم بمرجوحيته بالنسبة إلى القياسين اللذين هما قولاهما فلا يجوز أن يعمل به أصلا وأيضا يكون الحاصل أنهم أجمعوا على قولين فلا يجوز إحداث ثالث فلا فائدة في المصير إلى القياس عند تعارضهما ولا مرجح غير واقع بل الواقع الإطلاقات المشهورة في الكتب أنه لا يصار في معارضتهما إلى القياس بل يعمل بأيهما شاء ذكره المصنف. "والجمع في العامين بحمل كل على بعض" كاقتلوا المشركين لا تقتلوا المشركين ولا مرجح يحمل الأول على الحربيين والثاني على الذميين "أو" على "القيد" أي على قيد غير قيد الآخر كإذا لم يكونوا ذمة في الأول وإذا كانوا ذمة في الثاني "وكذا" الجمع "في الخاصين" يحمل كل على قيد غير قيد الآخر "أو يحمل أحدهما على المجاز" والآخر على الحقيقة "وفي العام والخاص ولا مرجح للعام" على الخاص موجود "كإخراج من تحريم، ولا الخاص" أي ولا مرجح له على العام موجود "كمن إباحة" أي إخراج منها "فبالخاص" أي فالعمل به "في محله" أي الخاص نفسه "والعام" أي والعمل به "فيما سواه" أي سوى محل الخاص "فيتحد الحاصل منه" أي من الجمع بين العام والخاص على هذا الوجه "ومن تخصيص العام به" أي بالخاص
ج / 3 ص -5-
"مع اختلاف الاعتبار"؛ لأنه على الشافعية تخصيص العام بالخاص وعلى الحنفية حمل لدفع التعارض إذا تعذر الترجيح ومعرفة التأخر لينسخ الآخر ذكره المصنف أما لو وجد مرجح للعام فقط قدم على الخاص أو للخاص فقد قدم على ما يعارضه من العام.
"وقد يخال" أي يظن "تقدم الجمع" بين العام والخاص على الترجيح عند الحنفية "لقولهم الإعمال أولى من الإهمال وهو" أي الإعمال "في الجمع" بين العام والخاص كما هو غير خاف لا في ترجيح أحدهما على الآخر فإن فيه إبطال الآخر "لكن الاستقراء خلافه" أي دال على عدم اطراد تقدم الجمع على ترجيح أحدهما فقد "قدم عام "استنزهوا البول" "على" خاص "شرب العرنيين أبوال الإبل" المفصح به حديثهم وتقدم تخريج الحديثين في آخر البحث الرابع من مباحث العام "لمرجح التحريم" لشرب أبوال وهو أبو حنيفة رحمه الله تعالى "مع إمكان حمله" أي عام "استنزهوا البول" "على" ما "سوى" بول "ما يؤكل" كما ذهب إليه مبيحه مطلقا كمحمد وأحمد رحمهما الله أو للتداوي فقط كأبي يوسف رحمه الله "وعام ما سقت" أي "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر" "على خاص الأوسق" أي "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وتقدم تخريج الحديثين في مسألة تخصيص السنة بالسنة "لمرجح الوجوب" للعشر في كل ما سقته السماء أو سقي سيحا قل أو كثر وهو أبو حنيفة "مع إمكان نحوه" أي حمل ما سقته السماء على ما كان خمسة أوسق فصاعدا كما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وغيرهما "وكيف" يقدم الجمع مطلقا على اعتبار الراجح منهما "وفي تقديمه" أي الجمع مطلقا عليه "مخالفة ما أطبق عليه العقول من تقديم المرجوح على الراجح" وظاهر أن هذا بيان للمخالفة لا لما أطبق وإلا لكان الوجه القلب مع أنه قد كان هو الأولى "وتأويل" أخبار "الآحاد" المعارضة ظاهر الكتاب "عند تقديم الكتاب" عليها "ليس منه" أي الجمع بين المتعارضين ظاهرا "بل استحسان حكما للتقديم" للكتاب عليها "وقولهم" أي الحنفية "تقديم النص على الظاهر تعارضا فيما وراء الأربع" من النساء بملك النكاح للأحرار "أي" قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فإنه ظاهر في حل الأكثر من الأربع "ومثنى إلخ" أي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فإنه نص على قصر الحل على الأربع "فيرجح النص" على الظاهر "ويحمل الظاهر عليه" أي النص "اتفاق منهم" أي الحنفية "عليه" أي نفي الجمع بعد الترجيح وعلى تأويل المرجوح بعد تقديم الراجح بحمله على معنى الراجح وليس هذا جمعا فإن الجمع أن يحمل كل على بعض، وفيه عدم إعمال الراجح في جميع معناه وليس هذا كذلك بل أعمل الراجح وهو النص في كل معناه وهو قصر الحل على الأربع ثم حمل المرجوح وهو الظاهر على هذا بعينه.
قال المصنف "ولو خالفوا" أي الحنفية هذا الأصل "كغيرهم" وجعلوا الجمع قبل الترجيح حتى يصار إليه مع أن أحدهما راجح أو عرف تأخره "منعناه"؛ لأن هذه الأصول ليست إلا من تصرفات العقول فلكل أحد أن يبدي وجها عقليا ويعمل به ويدفع غيره إن أمكنه كما
ج / 3 ص -6-
ذكرناه وقولهم الإعمال أولى إلخ إن أريد مع المرجوحية منعناه؛ لأنه نقض الأصول ومكابرة العقول وإن أريد عند عدهم الرجحان فيقدم على المصير إلى ما دونهما فنعم ذكره المصنف.
هذا والذي في الميزان المخلص من التعارض من وجهين: أحدهما ما يرجع إلى الركن بأن لم يكن بين الدليلين مماثلة كنص الكتاب وخبر المتواتر مع خبر الواحد والقياس أو خبر الواحد مع القياس؛ لأن شرط قبول خبر الواحد والقياس أن لا يكون ثمة نص من الكتاب والسنة المتواترة والإجماع بخلافه، وكذا إذا كان لأحد الخبرين من الآحاد أو لأحد القياسين رجحان على الآخر وجه من وجوه الترجيح؛ لأن العمل بالراجح واجب عند عدم المتيقن بخلافه، ولا عبرة للمرجح بمقابلة الراجح ولكن هذا إنما يستقيم بين خبري الواحد وبين القياسين؛ لأن كلا منهما ليس بدليل موجب للعلم وإنما يوجب الظن أو علم غالب الرأي وهذا يحتمل التزايد من حيث القوة بوجوه الترجيح فأما بين النصين كتابا وسنة متواترة في حق الثبوت فلا يتصور الترجيح؛ لأن العلم بثبوتها قطعي. والعلم القطعي لا يحتمل التزايد في نفسه من حيث الثبوت وإن كان يحتمله من حيث الجلاء والظهور، إلا إذا وقع التعارض في موجبيهما بأن كان أحدهما محكما والآخر فيه احتمال فالمحكم أولى وثانيهما ما يرجع إلى الشرط بأن لا يثبت التنافي بين الحكمين ويتصور الجمع بينهما لاختلاف المحل والحال والقيد والإطلاق والحقيقة والمجاز واختلاف الزمان حقيقة أو دلالة وبيانه أن النصين إذا تعارضا ولم يكن أحدهما خاصا والآخر عاما فأما أن لا يكون بينهما زمان يصلح للنسخ ففي الخاصين يحمل أحدهما على قيد أو حال أو مجاز ما أمكن وفي العامين من وجه يحمل على وجه يتحقق الجمع بينهما وفي العامين لفظا يحمل أحدهما على بعض والآخر على بعض آخر أو على القيد والإطلاق، وإما أن يكون بينهما زمان يصلح للنسخ بأن كان المكلف يتمكن من الفعل والاعتقاد أو من الاعتقاد لا غير على الاختلاف فيه فيمكن العمل بالطريقين بالتناسخ والتخصيص والتقييد والحمل على المجاز في العامين والخاصين فأصحاب الحديث العمل بطريق التخصيص، والبيان أولى والمعتزلة بالتناسخ أولى ومشايخنا واختيار أبي منصور الماتريدي ينظر إلى عمل الأمة في ذلك فإن حملوه على التناسخ يجب العمل به وإن حملوه على التخصيص يجب العمل به وإن لم يعرف عمل الأمة في ذلك على أحد الوجهين أو استوى عملهم فيه بأن عمل بعضهم على أحد الوجهين والبعض على الوجه الآخر فيرجع في ذلك إلى شهادة الأصول فيعمل بالوجه الذي شهدت به وإن كان أحدهما خاصا والآخر عاما فإن عرف تاريخهما وبينهما زمان يصح فيه التناسخ فإن كان الخاص سابقا والعام متأخرا نسخ الخاص به وإن كان العام سابقا والخاص متأخرا نسخ العام بقدر الخاص ويبقى الباقي وإن وردا معا وكان بينهما زمان لا يصح فيه النسخ يبنى العام على الخاص فيكون المراد من العام ما وراء المخصوص وهذا قول مشايخ العراق والقاضي أبي زيد ومن تابعه من ديارنا وقالت الشافعية يبنى العام على الخاص في الفصلين حتى إن الخاص السابق يكون مبينا للعام اللاحق فيكون المراد من العام
ج / 3 ص -7-
ما وراء قدر المخصوص بطريق البيان. وعلى قول مشايخ سمرقند الجواب فيه كذلك إذا لم يكن بينهما زمان يصلح للنسخ؛ لأنه لا يندفع التناقض إلا بهذا الطريق فأما إذا كان بينهما زمان يصلح فيه التناسخ قالوا يتوقف في حق الاعتقاد ويعمل بالنص العام بعمومه ولا يبنى على الخاص، وتوجيه هذه الأقوال مذكورة فيه فليراجعه من أراد ذلك.
"ومنه" أي التعارض صورة في الكتاب والتعارض "ما" أي الذي "بين قراءتي آية الوضوء من الجر" لابن كثير وأبي عمرو وحمزة "والنصب" للباقين "في أرجلكم" من قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] "المقتضيتين مسحهما" أي الرجلين كما هو ظاهر قراءة الجر "وغسلهما" كما هو ظاهر قراءة النصب "فيتخلص" من هذا التعارض "بأنه تجوز بمسحهما" المفاد ب وامسحوا المقدر الدال عليه الواو "عن الغسل" مشاكلة كما في قول الشاعر:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد "والعطف فيهما" أي القراءتين "على رءوسكم" ولعل فائدته التحذير من الإسراف المنهي عنه إذ غسلهما مظنة له لكونه يصب الماء عليهما فعطفت على الممسوح لا لتمسح بل للتنبيه على وجوب الاقتصاد فكأنه قال اغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا شبيها بالمسح وإنما قلنا تجوز بمسحهما عن غسلهما "لتواتر الغسل عنه صلى الله عليه وسلم" لهما إذ قد "أطبق من حكى وضوءه" من الصحابة "ويقربون من ثلاثين عليه" أي على غسله صلى الله عليه وسلم رجليه يزيدون على ذلك. وقد أسعف المصنف بذكر اثنين وعشرين منهم في فتح القدير عثمان رواه البخاري ومسلم وعلي رواه أصحاب السنن وعائشة رواه النسائي وغيره وابن عباس والمغيرة رواه البخاري وغيره وعبد الله بن زيد رواه الستة وأبو مالك الأشعري وأبو هريرة وأبو أمامة والبراء بن عازب رواه أحمد وأبو بكر رواه البزار ووائل بن حجر رواه الترمذي ونفيل بن مالك رواه ابن حبان وأنس رواه الدارقطني وأبو أيوب الأنصاري وأبو كاهل وعبد الله بن أنيس رواه الطبراني والمقدام بن معدي كرب وكعب بن عمرو اليامي والربيع بنت معوذ وعبد الله بن عمرو بن العاص رواه أبو داود وعبد الله بن أبي أوفى رواه أبو يعلى وممن حكاه أيضا زيادة على هؤلاء عمر رواه عبد بن حميد وابن عمر وأبي بن كعب رواه ابن ماجه ومعاوية رواه أبو داود ومعاذ بن جبل وأبو رافع وجابر بن عبد الله وتميم بن غزية الأنصاري وأبو الدرداء وأم سلمة رواه الطبراني وعمار رواه الترمذي وابن ماجه وزيد بن ثابت رواه الدارقطني فبلغت الجملة أربعة وثلاثين، وباب الزيادة مفتوح للمستقرئ. ثم المراد اتفاق الجم الغفير الذي يمنع العقل تواطؤهم على الكذب من الصحابة على نقل غسلهما عنه صلى الله عليه وسلم ثم اتفاق الجم الغفير الذين هم بهذه المثابة التابعين على نقل ذلك عن الصحابة وهلم جرا حتى إلينا وليس معنى التواتر إلا هذا "وتوارثه" أي ولتوارث غسلهما "من الصحابة" أي لأخذنا غسلهما عمن يلينا وهم ذلك عمن
ج / 3 ص -8-
يليهم وهكذا إلى الصحابة وهم أخذوه بالضرورة عن صاحب الوحي فلا يحتاج إلى أن ينقل فيه نص معين. ثم النسخ في المسح المقدر لهما في الآية منتف اتفاقا فتعين تجوزه فيهما عن الغسل لإمكانه وإلجاء الدليل إليه "وانفصال ابن الحاجب عن المجاورة" أي عن جر الأرجل بالمجاورة لقوله {بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] "إذ ليس" الجر بها "فصيحا" أي قال لم يأت في القرآن ولا في كلام فصيح "بتقارب الفعلين" أي امسحوا واغسلوا "وفي مثله" أي تقارب الفعلين "تحذف العرب" الفعل "الثاني وتعطف متعلقه على متعلق" الفعل "الأول كأنه" أي متعلق الفعل الأول "متعلقه" أي الفعل الثاني كقولهم متقلد سيفا ورمحا وعلفتها تبنا وماء باردا إذ الأصل ومعتقلا رمحا وسقيتها ماء باردا فحذفا وعطف متعلقهما على متعلق ما قبلهما، والآية من هذا القبيل أي امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم فحذف اغسلوا وعطف متعلقه وهو أرجلكم على متعلق الأول وهو رءوسكم فبعد الإغضاء عن المناقشة في أنه لم يأت في القرآن ولا في كلام فصيح بوقوعه في نحو قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26، والزخرف:65] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] في قراءة حمزة والكسائي إلى غير ذلك وفي أنه لا حذف في النظيرين المذكورين بل ضمن متقلدا معنى حاملا وعلفتها معنى أنلتها والتزم على هذا صحة علفتها ماء باردا وتبنا لما ألزم به لقول طرفة:
لها سبب ترعى به الماء والشجر
"غلط" منه وهو خبر انفصال "إذا لا يفيد" هذا منه ما قصده من الخروج عن المجاورة في القرآن "إلا في اتحاد إعرابهما" أي إلا إذا كان إعراب المتعلقين المتعاطفين من نوع واحد كما ذكر في علفتها وسقيتها "وليست الآية منه" أي مما اتحد فيه إعراب المتعلقين المتعاطفين بل هو مختلف فيهما؛ لأنه على ما ذكر تكون الأرجل منصوبة؛ لأنها معمول اغسلوا لمحذوف فحين ترك إلى الجر الذي هو المشاكل لإعراب الرءوس "فلا يخرج" جرها "عن الجوار" بجر رءوسكم فما هرب منه وقع فيه "وما قيل" أي وما في التلويح علاوة على ما تقدم أولا "في الغسل المسح" وزيادة "إذا لا إسالة" وهي معنى الغسل "بلا إصابة" وهي معنى المسح "فينتظمه" أي الغسل المسح "غلط بأدنى تأمل"؛ لأن الغسل لا ينتظمه وإنما ينتظم المعنى الأعم المشترك بينهما وهو مطلق الإصابة وهي إنما تسمى مسحا إذا لم يحصل سيلان "ولو جعل" الغسل "فيهما" أي الرجلين بالعطف "على وجوهكم" في القراءتين وقد كان حقه النصب كما هو إحداهما لكون المعطوف عليه كذلك لكنه كما قال "والجر" لأرجلكم "للجوار" لرءوسكم "عورض بأنه" أي الجر "فيهما" بالعطف "على رءوسكم والنصب" بالعطف "على المحل" أي محل رءوسكم كما هو اختيار المحققين من النحاة فإن محله النصب "ويترجح" هذا "بأنه" أي العطف على المحل "قياس" مطرد يظهر في الفصيح وإعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي "لا الجوار" فإنه في العطف شاذ إذ الحمل على الشائع المطرد حيث أمكن مقدم على الشاذ "و" منه ما بين "قراءتي التشديد في يطهرن" لحمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن
ج / 3 ص -9-
عباس من قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] "المانعة" من قربانهن "إلى الغسل والتخفيف" فيه للباقين المانعة من قربانهن "إلى الطهر" أي الانقطاع "فيحل" قربانهن "قبله" أي الاغتسال "بالحل الذي انتهى. ما عرضه من الحرمة فتحمل تلك" أي فيتخلص من هذا التعارض بحمل قراءة التشديد "على ما دون الأكثر" من مدة الحيض الذي هو العادة لها ليتأكد جانب الانقطاع به أو بما يقوم مقامه على تقدير عدمه لتوهم معاودة الدم فإنه ينقطع تارة ويدر أخرى والوقت صالح له "وهذه" أي قراءة التخفيف "عليه" أي على أكثر مدة الحيض؛ لأنه انقطاع بيقين، وحرمة القربان إنما كانت باعتبار قيام الحيض فلا يجوز تراخيها إلى الاغتسال لأدائها إلى جعل الطهر حيضا وإبطال التقدير الشرعي ومنع الزوج من حق القربان بدون العلة المنصوص عليها وهو الأذى والكل غير جائز فإن قيل إنما يتم هذا التخلص أن لو قرئ فإذا طهرن بالتخفيف كما قرئ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} بالتشديد ليكون التخفيف موافقا للتخفيف، والتشديد موافقا للتشديد ولم يقرأ فثبت أن المراد الجمع بين الطهر والاغتسال بالقراءتين أجيب بالمنع وليس المراد الجمع بينهما فيهما لما ذكرنا من اللازم الممنوع فيحمل {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} في {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف على طهرن بالتخفيف أيضا "وتطهرن بمعنى طهرن" غير مستنكر فإن تفعل تجيء بمعنى فعل من غير أن يدل على صنع "ك تكبر" وتعظم "في صفاته تعالى" إذ لا يراد به صفة تكون بإحداث الفعل "وتبين" بمعنى بان وظهر "محافظة على حقيقة يطهرن بالتخفيف" وأورد يلزم من هذا التعميم المشترك إن كان يطهرن حقيقة في الانقطاع كما في الاغتسال والجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان مجازا في الانقطاع ودفع بالمنع؛ لأن إرادة الانقطاع حال اختبار التخفيف وهو في هذه الحالة ليس له معنى غيره وإرادة الاغتسال حال اختيار التشديد هو في هذه الحالة ليس له معنى غيره والحالتان لا يجتمعان إذ لا يقرأ بهما في حالة واحدة فلا جمع بينهما إذ من شرطه اتحاد الحالة ولم توجد "وكلاهما" أي المحملين المذكورين "خلاف الظاهر" كما رأيت "لكنه" أي حمل قراءة التخفيف على مجرد الانقطاع على الأكثر "أقرب" من حملها على الاغتسال "إذ لا يوجب" حملها على ذلك "تأخر حق الزوج" في الوطء "بعد الانقطاع بارتفاع العارض المانع" من ذلك وهو الحيض "مع قيام المبيح" وهو الحل الأصلي الثابت قبل عروض هذا المحرم بخلاف حملهما على الاغتسال فإنه يوجب ذلك، فالقول بأن ذاك الحمل متعين أحق من أنه أقرب ثم هذا جمع من قبل الحال كما سيفصح به المصنف.
"و" منه "بين آيتي اللغو" في اليمين وهي عند أصحابنا وأحمد الحلف على أمر يظن أنه كما قال وهو بخلافه وعند الشافعي وأحمد في رواية كل يمين صدرت عن غير قصد في الماضي وفي المستقبل "تقيد إحداهما" أي {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] "المؤاخذة بالغموس" وهي الحلف على أمر ماض أو حال يتعمد الكذب به "لأنها مكسوبة" أي مقصودة بالقلب "والأخرى" أي {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] "عدمه" أي أن لا يأخذ بالغموس "إذ ليست" الغموس "معقودة"؛
ج / 3 ص -10-
لأن العقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع ونحوه وقد قوبلت باللغو فيكون اللغو الخالية عن الفائدة واللغو بهذا المعنى ثابت قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [الواقعة: 25] {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] "فدخلت" الغموس في هذه الآية "في اللغو لعدم الفائدة التي تقصد اليمين لها" شرعا وهي تحقيق العمد والصدق في الغموس إذ لا يتصور فيها فلا يكون مؤاخذا بها "وخرجت" الغموس "منه" أي من اللغو "في" الآية "الأخرى" ودخلت في المكسوبة "بشمول الكسب إياها" أي الغموس فيكون مؤاخذا بها "وأفادت" هذه الآية الأخرى "ضدية" حكم "اللغو" وهو المؤاخذة "للكسب" أي؛ لأن حكم اللغو عدم المؤاخذة "فهو" أي اللغو هنا "السهو" فتعارضتا في الغموس حينئذ "والتخلص" من هذا التعارض "عند الحنفية بالجمع" بينهما "بأن المراد بالمؤاخذة" الثابتة للغموس "في" الآية "الأولى" المؤاخذة "الأخروية" وهي العقاب "وفي الثانية" أي والمراد بالمؤاخذة المنفية عن الغموس في الآية الثانية المؤاخذة "الدنيوية بالكفارة" فتغايرت المؤاخذتان فلا تعارض "أو" المراد باللغو في الآيتين الخالي عن القصد وبالمؤاخذة "فيهما" أي الآيتين المؤاخذة "الأخروية" والغموس في المكسوبة لا في المعقودة فالآية الأولى أوجبت المؤاخذة على الغموس "و" الآية "الثانية ساكتة عن الغموس وهي" أي الغموس "ثالثة" وعلى هذا مشى صدر الشريعة.
فإن قيل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} تفسير للمؤاخذة والمؤاخذة التي هي الكفارة إنما هي في الدنيا والمختصة بالآخرة إنما هي المؤاخذة التي هي العقاب وجزاء الإثم أجيب بالمنع بل هو تنبيه على طريق دفع المؤاخذة في الآخرة "أي يؤاخذكم في الآخرة بما عقدتم" أي إذا جعل الإثم باليمين المنعقدة "فطريق دفعه" أي الفعل الذي هو المؤاخذة على المعقودة الحانثة فيما لا يجب فيه الحنث "وستره إطعام" عشرة مساكين إلخ، وكذا فيما يجب فيه الحنث قال المصنف ووجه المؤاخذة في هذه ما تضمنه من سوء الأدب على الشرع فإنه لما حرم تعالى الخمر فحلف ليشربنها فقد بالغ في المكابرة على قصد المخالفة فإن لم يفعل حتى سلم من إثم ارتكاب النهي بقي عليه إقدامه على اليمين على فعل ما نهي عنه فدفعه الله عنه كرما وفضلا بالكفارة فصار الحاصل من الآيتين أنه أثبت المؤاخذة على الغموس والمنعقدة في الآخرة ثم دفع المؤاخذة عن المنعقدة بشرع الكفارة فبقيت الغموس مسكوتا عنها في ذلك فلم تشرع الكفارة فيها دافعة ساترة.
"واحتج الأول" أي القائل بأن المراد بالمؤاخذة في الأولى الأخروية وفي الثانية الدنيوية فلا تكون الغموس واسطة بين اللغو والمنعقدة "بأن المفهوم من: لا يؤاخذ بكذا لكن" يؤاخذ "بكذا عدم الواسطة" أي كون الثاني مقابلا للأول من غير واسطة بينهما كما في التلويح فلو كانت المؤاخذة فيهما المؤاخذة الأخروية لزم كون المؤاخذ به في الآيتين واحدا قلت وهذا ظاهر الورود على أن المراد المؤاخذة الأخروية، أما لو أريد المؤاخذة
ج / 3 ص -11-
مطلقا عقوبة كانت أو كفارة فلا؛ لأنه حينئذ لا يمكن دخول الغموس في اللغو؛ لأنها كبيرة محضة نطق الحديث الصحيح بها واليمين اللغو ليست كذلك ولا في المعقودة؛ لأنها توجب الكفارة ولا كفارة في الغموس لما أخرج أحمد بسند صرح ابن عبد الهادي بجودته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس ليس لهن كفارة" وذكر منهن ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" إلى غير ذلك وكل من قال: لا كفارة في الغموس لم يفصل بين اليمين الصابرة أي المصبورة على مال كذبا وبين غيرها وهي المفضي بها؛ لأنها مصبور عليها أي محبوس "وعند الشافعي" المراد بالمؤاخذة "فيهما" أي الآيتين المؤاخذة "الدنيوية وهي" أي الغموس عنده "داخلة في المعقودة" بناء على حمل العقد على القلب كقول الشاعر:
عقدت عن قلبي بأن يكتم الهوى
"كما" هي داخلة "في المكسوبة فلا تعارض، ودفعه" أي دخولها في المعقودة كما أشار إليه غير واحد "بأن حقيقة العقد بغير القلب" أي بأن فيه عدولا عن الحقيقة بغير ضرورة؛ لأن العقد ربط الشيء بالشيء، وذلك حقيقة في العقد المصطلح بين الفقهاء لما فيه من ربط أحد الكلامين بالآخر وارتباط الكلام بمحل الحكم إن كان الكلام واحدا، وعزم القلب لا يرتبط بشيء؛ لأنه لا يوجب حكما فإطلاق اسم العقد عليه مجاز؛ لأنه سبب العقد فلا تكون الغموس معقودة حقيقة بل مجازا ثم دفعه مبتدأ خبره "قد يمنع" مبنيا للمفعول "بأنه" أي العقد "أعم" من أن يكون في الأعيان أو المعاني "يسند إلى الأعيان فيراد" به "الربط" لبعضها ببعض "وإلى القلب فعزمه" أي فيراد به عزم القلب "وكثر" إطلاق عزم القلب على هذا المعنى "في اللغة" وفي التلويح على أن عقد القلب واعتقاده بمعنى ربطه وجعله ثابتا عليه أشهر في اللغة من العقد المصطلح في الفقه فإنه من مخترعات الفقهاء، وأجيب بأن العقد بمعنى الربط وإن كان حقيقة في الأعيان إلا أنه في عرف الشرع صار حقيقة شرعية في قول يكون له حكم في المستقبل لارتباط بينهما كما يدل عليه قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ لأن الأمر بالإيفاء لا يصلح إلا لما له حكم في المستقبل فلا يصار إلى غيره إلا عند تعذره ولم يتعذر "بل" الأولى في الجواب أن يقال "الظاهر" أن المراد بالمؤاخذة "في" الآية "الأولى" المؤاخذة "الأخروية للإضافة إلى كسب القلب" كما أشار إليه صدر الشريعة إذ لا عبرة بالقصد وعدمه في المؤاخذة الدنيوية في بعض الصور كما في حقوق العباد فلا يصار إليها عند عدم الدليل على أن الغموس كبيرة محضة لا تناسب الكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة فاندفع رد ذلك في حقوق الله لا سيما الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة، وقال غير واحد من المحققين؛ لأنها مطلقة والمطلق ينصرف إلى الكامل والأخروية هي الكاملة؛ لأن الآخرة خلقت للجزاء كما يشير إليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] فتجازى فيه على وفاق عملها بخلاف الدنيا فإنها دار ابتلاء قد يؤاخذ فيها المطيع بجناية تطهيرا وقد ينعم العاصي بها استدراجا على أن المؤاخذات في الدنيا شرعت بأسباب فيها نوع ضرر لتكون زواجر فيها إصلاحنا فلا
ج / 3 ص -12-
تتمحض مؤاخذة لحق الله وإنما تتمحض في الآخرة فلم يكن الحكم الثابت في أحد النصين الحكم الثابت في الآخرة فبطل التدافع.
"وهذا" الجمع بين مضمون هاتين الآيتين "جمع من قبل الحكم" باختلافه فيهما. "ومنه" أي الجمع من قبل الحكم "توزيعه" أي الحكم بأن يجعل بعض أفراد الحكم ثابتا بأحد الدليلين وبعضها منفيا بالآخر "كقسمة المدعي بين المثبتين" أي مدعي كل منهما إياه كلا بحجته "وما قيل" أي قيل هذا الجمع في قراءتي التشديد والتخفيف في {حَتَّى يَطْهُرْنَ} هو "من قبل الحال" فإنه قد حمل إحداهما على حالة والأخرى على حالة كما رأيت وعبر عنه صدر الشريعة بالمحل "ويكون" الجمع بينهما "من قبل الزمان صريحا بنقل التأخر" لأحدهما عن الآخر كقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإن بينهما تعارضا في حق الحامل المتوفى عنها زوجها، وجمع الجمهور بينهما بأن {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] الآية "بعد {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} الآية كما صح عن ابن مسعود وتقدم تخريجه في البحث الخامس في التخصيص "أو" يكون من قبل الزمان "حكما كالمحرم" أي كتقديمه "على المبيح" إذا عارضه "اعتبارا له" أي للمحرم "متأخرا" عن المبيح "كي لا يتكرر النسخ" على تقدير كون المحرم مقدما على المبيح "بناء على أصالة الإباحة" فإن المحرم حينئذ يكون ناسخا للإباحة الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم بخلاف تقدير كون المحرم متأخرا مع القول بأصالة الإباحة فإنه لا يتكرر النسخ؛ لأن المبيح وارد لإبقائها حينئذ والمحرم ناسخ له والأصل عدم التكرار وتقدم ما في أصالة الإباحة في المسألة الثانية من مسألتي التنزل في فصل الحاكم من البحث والتحرير فليطلب ثمة "ولأنه" أي تقديم المحرم على المبيح "الاحتياط"؛ لأن فيه زيادة حكم وهو نيل الثواب بالانتهاء عنه واستحقاق العقاب بالإقدام عليه، وهو ينعدم في المبيح، والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع ذكره شمس الأئمة السرخسي. وعن ابن أبان وأبي هاشم أنهما يطرحان ويرجع المجتهد إلى غيرهما من الأدلة كالغرقى إذا لم يتقدم بعضهم على بعض ثم من أمثله هذا ما ورد في تحريم الضب وإباحته إذ في سنن أبي داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب". وروى أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار برجال الصحيح عن عبد الرحمن بن حسنة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصبنا منها فذبحنا فبينما القدور تغلي بها خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أمة من بني إسرائيل فقدت وإني أخاف أن تكون هي فأكفئوها فأكفأناها وإنا لجياع" وروى الجماعة إلا الترمذي عن خالد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إليه ضب فأهوى بيده إليه فقيل هو الضب يا رسول الله فرفع يده فقال خالد أحرم يا رسول الله؟ قال: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد فاجتررته فأكلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فلم ينهني" فتعارض المحرم والمبيح فجعلنا المحرم آخرا لما قلنا من تقليل معنى النسخ له كالطحاوي في شرح الآثار محجوج بهذا.
ج / 3 ص -13-
"ولا يقدم الإثبات" لأمر عارض "على النفي" له كما ذهب إليه الكرخي والشافعية "إلا إن كان" النفي لا يعرف بالدليل بل كان "بالأصل" أي بناء على العدم الأصلي فإن الإثبات يقدم عليه حينئذ. "كحرية" مغيث "زوج بريرة؛ لأن عبديته كانت معلومة فالإخبار بها" أي بعبديته كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خيرها وكان زوجها عبدا "بالأصل" أي بناء على أن رقبته لم تتغير فهذا نفي لا يدرك عيانا بل بناء على ما كان من ثبوتها والإخبار بحريته كما في الكتب الستة أنه كان حرا حين أعتقت إثباتا لأمر عارض على ما ثبت له أولا من الرقبة فيقدم عليه لاشتماله على زيادة علم ليست في النفي المذكور فلا جرم أن ذهب أصحابنا إلى ثبوت خيار العتق لها عبدا كان زوجها أو حرا خلافا لهم فيما إذا كان حرا "فإن" كان النفي "من جنس ما يعرف بدليله عارضه" أي الإثبات لتساويهما "وطلب الترجيح" لأحدهما بوجه آخر "كالإحرام في حديث ميمونة رضي الله عنها" أي ما في الكتب الستة عن ابن عباس: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم". زاد البخاري وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف. وفي رواية النسائي تزوج نبي الله ميمونة وهما محرمان. فإنه "نفي لأمر" عارض وهو الإحرام على الأصل الذي هو الحل "يدل عليه هيئة محسوسة" من التجرد ورفع الصوت بالتلبية "فساوى رواية" مسلم وابن ماجه عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وزاد فيه أبو يعلى: بعد أن رجعنا من مكة رواية الترمذي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي رافع تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما. "ورجح نفي ابن عباس على" إثبات "ابن الأصم وأبي رافع" بقوة السند وخصوصا بالنسبة إلى حديث أبي رافع فقد. قال الترمذي لا نعلم أحدا أسنده غير حماد عن مطر يعني عن ربيعة عن سليمان بن يسار. قال ابن عبد البر وهو غلط منه؛ لأن سليمان ولد سنة أربع وثلاثين ومات أبو رافع قبل عثمان بسنتين وكان قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فلا يمكن أن يروي عنه قال شيخنا الحافظ رواه الطبراني من طريق ابن سلام بن المنذر عن مطر موصولا لكنه خالف في إسناده فقال عن عكرمة عن ابن عباس فوهم من وجهين والمحفوظ عن ابن عباس: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم". انتهى. ومطر ضعفه يحيى بن سعيد وأحمد بل قال الطحاوي لا يحتج بحديثه عندهم وبضبط الرواة وفقههم وخصوصا ابن عباس إذ ناهيك به فقاهة وضبطا واتفاقا ولذا قال عمرو بن دينار للزهري وما يدري ابن الأصم أعرابي بوال على ساقه أتجعله مثل ابن عباس. وقال الطحاوي الذين رووا أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها وهو محرم أهل علم وثبت من أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وهؤلاء كلهم فقهاء والذين نقلوا عنهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح وهؤلاء أئمة يقتدى برواياتهم إلى غير ذلك.
"هذا بالنسبة إلى الحل اللاحق" للإحرام "وأما على إرادة" الحل "السابق" على الإحرام "كما في بعض الروايات" أي ما في موطأ مالك عن سليمان بن يسار قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا
ج / 3 ص -14-
رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج وفي معرفة الصحابة للمستغفري قبل أن يحرم" فابن عباس مثبت ويزيد" بن الأصم "ناف فيترجح" حديث ابن عباس "بذات المتن" لترجيح المثبت على النافي "ولو عارضه" أي نفي يريد إثبات ابن عباس لكون نفي يزيد مما يعرف بدليله؛ لأن حالة الحل تعرف بالدليل أيضا وهو هيئة الحلال "فيما قلنا" أي فالترجيح لحديث ابن عباس قلنا من قوة السند وفقه الراوي ومزيد ضبطه فترجح قول أصحابنا بجواز عقد نكاح المحرم والمحرمة حالة الإحرام على قول الأئمة الثلاثة بعدم الجواز "وعرف" من هذا "أن النافي راوي الأصل" أي الحالة الأصلية للمروي عنه بالنسبة للمثبت كما أن المثبت هو الراوي الحالة العارضة على تلك الحالة الأصلية "فإن أمكنا" أي كون النفي بناء على الدليل وكونه بناء على العدم الأصلي "كحل الطعام وطهارة الماء" فإن كلا منهما "نفي يعرف بالدليل" بأن ذبح شاة وذكر اسم الله عليها وغسل إناء بماء السماء أو بماء جار ليس به أثر نجاسة وملأه بأحدهما ولم يغب عنه أصلا ولم يشاهد وقوع نجاسة فيه "والأصل" بأن يعتمد على أن الأصل في المذبوحة الحل ولم يعلم ثبوت حرمة فيها وفي الماء الطهارة ولم يعلم وقوع نجاسة فيه "فلا يعارض" الإخبار بهما "ما" أي الإخبار "بحرمته ونجاسته ويعمل بهما" أي بالحل في الطعام والطهارة في الماء "إن تعذر السؤال" للمخبر عن مستنده؛ لأن الاستصحاب وإن لم يصلح دليلا يصلح مرجحا فيرجح الخبر النافي به "وإلا" إذا لم يتعذر السؤال للخبر عن مستنده "سئل" المخبر "عن مبناه" أي مبنى خبره "فعمل بمقتضاه" فإن تمسك المخبر بظاهر الحال من أن الأصل في الشاة الحل وفي الماء الطهارة ولم يعلم ما ينافيهما فخبر الحرمة والنجاسة أولى؛ لأنه خبر عن دليل فلا يعارض الخبر المثبت وإن تمسك بالدليل كان مثل الإثبات فيقع التعارض ثم يجب العمل بالأصل لما ذكرنا.
"ومثل الحنفية تقرير الأصول" لمتعلق المتعارضين إذا لم يكن بعدهما دليل يصار إليه "بسؤر الحمار" أي البقية من الماء الذي شرب منه في الإناء "تعارض في حل لحمه وحرمته المستلزمتين لطهارته" أي سؤره "ونجاسته الآثار" ففي الصحيحين عن جابر "نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر". والنهي عنها يدل على تحريمها وحرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء إذا لم يكن للكرامة آية النجاسة ولحمها من هذا القبيل فيكون نجسا وإذا كان نجسا كان لعابه نجسا؛ لأنه يجلب من اللحم وهو يخالط الماء فيكون نجسا وفي سنن أبي داود عن غالب بن أبجر قال: "أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية فقال "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية" وهذا يدل على حلها وإذا كانت حلالا كانت طاهرة وإذا كانت طاهرة كان سؤرها طاهرا لأن اللعاب المختلط به طاهر. "فقرر حديث المتوضئ به" أي بسوره على ما كان عليه من الوجود "وطهارته" أي
ج / 3 ص -15-
السؤر على ما كان عليه الماء قبل مخالطة اللعاب له قال المصنف "ولا يخفى أنه" أي تقرير الأصول "حكم عدم الترجيح لكن رجحت الحرمة" على الإباحة إذا تعارضتا كما تقدم آنفا فينبغي أن ترجح هنا أيضا الحرمة الموجبة للنجاسة وكيف لا وحديث التحريم صحيح الإسناد، والمتن لا اضطراب فيه وحديث الإباحة مضطرب الإسناد ذكره البيهقي ثم النووي ثم المزي ثم الذهبي فلم يوجد ركن المعارضة على أن في دلالته على الإباحة مطلقا نظرا فإن القصة تشير إلى اضطرارهم ومن ثمة قال البيهقي وإن صح فإنما رخص له عند الضرورة وأيضا هو مصرح بتأخره عن حديث التحريم فلو صح مفيد الإباحة مطلقا لكان ناسخا للتحريم موجبا للطهارة "والأقرب" في تقرير الأصول في هذا المثال لوجود التعارض الملجئ إلى ذلك "تعارضت الحرمة المقتضية للنجاسة والضرورة المقتضية للطهارة" فيه؛ لأن الحمار في الدور والأفنية ويشرب في الأواني المستعملة ويحتاج إليه في الركوب والحمل "ولم تترجح" الطهارة "للتردد فيها" أي الضرورة المسقطة للنجاسة "إذا ليس كالهرة" في المخالطة حتى تسقط نجاسته كما سقطت نجاسة سؤر الهرة؛ لأن الهرة تلج المضايق دونه "ولا الكلب" في المجانبة الغالبة حتى لا تسقط نجاسته لانعدام الضرورة في الكلب دونه "ولا النجاسة" لما فيه من إسقاط حكم الضرورة بالكلية وأنه خلاف النظر فتساقطتا ووجب المصير إلى الأصل فالماء كان طاهرا فلا يتنجس بما لم تتحقق نجاسته والسؤر بمقتضى حرمة اللحم نجس فلا يحكم بطهارته ولا بنجاسة الماء الواقع فيه وعلى هذا مشى شيخ الإسلام صاحب المبسوط.
تتميم ثم إذا كان الكتاب لبيان اصطلاحي الحنفية والشافعية وما تقدم بيان اصطلاح الحنفية فلا بأس بذكر اصطلاح الشافعية تكميلا وحاصله على ما ذكره الإمام الرازي وغيره أن النصين المتعارضين قسمان أحدهما أن يكونا متساويين في القوة بأن يكونا معلومين أو مظنونين وفي العموم بأن يصدق كل على ما يصدق عليه الآخر وهذا له ثلاثة أحوال: الأول أن يعلم تأخر ورود أحدهما بعينه عن الآخر فالمتأخر ناسخ للمتقدم إذا كان مدلوله قابلا للنسخ سواء كانا معلومين أو مظنونين آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس وإن كان غير قابل للنسخ تساقطا، ووجب الرجوع إلى غيرهما ومن لم يجوز النسخ عند اختلاف الجنس يمنع ورود هذا القسم والخاصان حكمهما هذا الحكم، الثاني أن يجهل المتأخر منهما فإن كانا معلومين تساقطا لاحتمال كل منهما أن يكون هو المنسوخ احتمالا على السواء ووجب الرجوع إلى غيرهما وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا تخير المجتهد، الثالث أن تعلم مقارنتهما فإن كانا معلومين وأمكن التخيير فيهما تعين القول به؛ لأنه تعذر الجمع ولا يترجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد، وإنما يرجع إلى الحكم ككون أحدهما حاظرا أو مثبتا حكما شرعيا؛ لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية وهو غير جائز، وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا قوة فالتخيير، ثانيهما أن لا يتساويا في القوة والعموم معا. وهذا له ثلاثة
ج / 3 ص -16-
أحوال أيضا: الأول أن لا يتساويا في القوة بأن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فيترجح القطعي ويعمل به إن كانا عامين أو خاصين أو القطعي خاصا والظني عاما فإن كان القطعي عاما والظني خاصا يرجح الخاص على العام ويعمل به جمعا بينهما سواء علم تأخره عن العام أم لا؛ لأن الصحيح أن المظنون يخصص المعلوم؛ لأن فيه إعمالا للدليلين أما الخاص ففي جميع ما دل عليه وأما العام فمن وجه وهو الأفراد التي لم تخصص، ومنع التخصيص يقضي إلى إلغاء أحدهما وهو الخاص وإعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إلغاء أحدهما وفي شرح المنهاج للإسنوي نعم إن عملنا بالعام المقطوع به ثم ورد الخاص بعد ذلك فلا نأخذ به إذا كان مظنونا؛ لأن الأخذ به في هذه الحالة نسخ لا تخصيص ونسخ المقطوع بالمظنون لا يجوز، الثاني أن يتساويا في القوة لا في العموم فإن كانا عامين وكان أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالأخص سواء كانا قطعيين أو ظنيين علم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه يصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أو ظنيين لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا أو شرعيا أو مثبتا والآخر إباحة أو عقليا أو نافيا ونحو ذلك، وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد، الثالث أن لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة فإن كانا عامين وأحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالقطعي إلا إذا كان القطعي هو الأعم فإنه يخص بالظني عند الأكثرين وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه صير إلى الترجيح فيرجح الظن بما يتضمنه الحكم من كونه حظرا أو مثبتا أو غير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال وإن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا والله تعالى أعلم.
مسألة
"لا شك في جري التعارض بين قولين ونفيه" أي ولا في نفي جريه "بين فعلين متضادين" لجواز كون الفعل المضاد لغيره واجبا أو مندوبا أو مباحا في وقت وليس كذلك في وقت آخر مثله من غير رفع وإبطال لذلك الحكم إذ لا عموم للفعلين ولا لأحدهما "كصوم يوم وفطر في مثله" أي مثل ذلك اليوم بأن كان الصوم في يوم السبت والفطر في سبت آخر قال المصنف وهذا نص من قول عضد الدين وفطر في يوم آخر ثم قال استثناء من نفيه "إلا إن دل على وجوبه" أي ذلك الفعل "عليه" صلى الله عليه وسلم "ونحوه" أي أو على ندبه أو إباحته "وسببية متكرر" أي ودل مع ذلك على سببية متكرر لذلك الوجوب أو الندب بأن دل أن يوم السبت جعل سببا لوجوبه أو ندبه فإنه حينئذ يثبت التعارض بواسطة هذه الدلالة فيكون فطره في يوم السبت الآخر بعد هذه الدلالة دليل رفع ما وجب من صوم كل سبب "وتقدمت الدلالة على "أن الأمة مثله" صلى الله عليه وسلم فيما عرفت فيه صفة الفعل وقد فرض أنه دل هنا على صفة الفعل في حقه، وتكرره بتكرر ثبوته في حق الأمة على تلك الصفة فحينئذ "فالنافي" وهو فطره "ناسخ عن الكل"؛ لأن فطره المتأخر مثبت بحكم تلك الدلالة المتقدمة على الأمة الفطر كما أن صومه كان
ج / 3 ص -17-
مثبتا ذلك فلهذا يلزم أن فطره المتأخر ناسخ عنه وعن الأمة الصفة المتقدمة منه. "وعن الكرخي وطائفة" أن فعله الثاني ينسخ "عنه" صلى الله عليه وسلم "فقط" بناء على أن قوله لا يوجب في حق الأمة شيئا بدليل الوجوب عليه ونحوه ومن الندب والإباحة، ودليل التكرر يخصه "وأما" التعارض "بين فعل" للنبي صلى الله عليه وسلم "عرفت صفته" من وجوب أو ندب مثلا "في حقه وقول" ينفي ذلك كأن يصوم يوم السبت ثم يقول صومه حرام "فعلى المختار من أن أمته مثله وجوبا أو غيره" لا يخلو من أن يدل على سببية متكرر لوجوب ذلك الفعل ونحوه أو لا "فمع دليل سببية متكرر، والقول خاص به" كقوله صوم يوم السبت حرام علي "نسخ عنه المتأخر منهما" أي القول والفعل الآخر "ولا معارضة فيهم" أي في الأمة "فيستمر ما فيهم" أي عليهم ما كان ثبت عليهم من الاتباع على الوجه الثابت في حقه إذ الناسخ لم يتعرض سواه صلى الله عليه وسلم "فإن جهل" المتأخر منهما اختلف فيه "قيل يؤخذ بالفعل فيثبت" الفعل "على صفته على الكل" أي فيلزمه أي يستمر ما كان وعليهم "وقيل" يؤخذ "بالقول فيخصه النسخ ويثبت ما فيهم" أي يستمر عليهم مقتضى الفعل من الاتباع على الوجه الذي عرف عليه "وقيل يتوقف" في حقه "وهو المختار دفعا للتحكم" أي الترجيح بلا مرجح إذ جواز تقدم كل منهما وتأخره ثابت فالتعيين تحكم "في حقه وثبت" أي ذلك الفعل "ما فيهم" أي على الأمة على صفته لعدم المعارضة في حقهم "وإن" كان القول "خاصا بهم" أي الأمة بأن صام يوم السبت وقال لا يحل للناس صومه "فلا تعارض في حقه فما كان له" أي ثابتا في حقه من وجوب أو ندب متكررين أو إباحة فهو ثابت عليه "كما كان وفيهم" أي في الأمة "المتأخر ناسخ وإن جهل" المتأخر منهما فأقوال أحدهما يؤخذ بالفعل فيجب عليهم الصوم ثانيها يؤخذ بالوقف فلا يثبت حكم "فثالثها" وهو "المختار" يؤخذ "بالقول" فيحرم عليهم الصوم "لوضعه" أي القول "لبيان المرادات" القائمة بنفس المتكلم "وأدليته" أي؛ لأنه أدل من الفعل على خصوص المراد "وأعميته" أي ولأنه أعم دلالة أي فأفراد مدلولاته أكثر لذا يدل به على الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس "بخلاف الفعل" فإن له محامل وإنما يفهم منه ذلك في بعض الأحوال بقرينة خارجية فيقع الخطأ فيه كثيرا ويختصر بالموجود والمحسوس؛ لأن المعدوم والمعقول لا يمكن مشاهدتهما بل الفعل "إنما يدل على إطلاقه" نفسه "للفاعل" لا على وجوبه أو ندبه أو إباحته "فإن دل على الاقتداء" أي على اقتداء غير الفاعل به "فبذلك" الدال لا بالفعل "وإنما يثبت معه" أي مع الفعل بعد دلالته على مجرد إطلاقه للفاعل "احتمالات" الوجوب والندب والإباحة للفاعل وغيره ولا يتعين شيء منهما بالفعل بل "إن تعين بعضها فبغيره" أي غير الفعل "وكونه" أي الفعل "قد يقع بيانا للقول" أي لصورة مدلول القول إنما هو "عند إجماله" أي القول فيها كفعل الصلاة "وكلامنا" في الترجيح "مع عدمه" أي الإجمال "والفرق" بين ما تقدم وهو ما إذا كان خاصا به حيث اختير الوقف عند جهل المتأخر وبين ما هنا حيث اختير الوقف عند جهل المتأخر "أنا هنا" أي فيما إذا كان خاصا بنا "متعبدون بالاستعلام لتعبدنا بالعمل" المتوقف عليه "لا هناك" فإنا لسنا هناك مأمورين باستعلام حاله صلى الله عليه وسلم في جهلنا بالمتأخر "إذ لم تؤمر به في حقه
ج / 3 ص -18-
وهو" صلى الله عليه وسلم "أدرى به" أي المتأخر الذي يلزمه حكمه "أو" كان القول "شاملا" له ولهم بأن فعل الصوم ثم قال حرم علي وعليكم "فالمتأخر ناسخ عن الكل" أي عنه وعن أمته فإن كان الفعل فيثبت في حق الكل وإن كان القول فيحرم على الكل "وفي الجهل" بالمتأخر قدم "بالقول" فيحرم الصوم على الكل "لوجوب الاستعلام في حقنا" فيجب البحث عنه "وباتفاق الحال بعلم حاله مقتضى للشمول" أي ثم يلزم من بحثنا العلم بحاله صلى الله عليه وسلم باتفاق الحال لا بالقصد بالبحث إلى استعلامه في حقه "لكنا لا نحكم به" عليه "لما ذكرنا" من أنا لسنا مأمورين باستعلام حاله في جهلنا بالمتأخر بل هو أدرى بالمتأخر الذي يلزمه حكمه.
ثم شرع في قسيم قوله فمع دليل سببية متكرر فقال "وأما مع عدم دليل التكرار" أي إذا كان الفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم لا دليل على تكرره وعلمت صفته وجوبا أو ندبا فلا يخلو القول: إما أن يكون خاصا به أو بالأمة أو شاملا له ولهم فأشار إلى الأول بقوله "والقول الخاص به معلوم التأخر" بأن يفعل شيئا ثم يعلم أنه قال بعده لا يحل لي فعله فلا شيء عليه لعدم معارضته للفعل؛ لأنه إن كان واجبا عليه أو مندوبا "فقد أخذت صفة الفعل مقتضاها منه بذلك الفعل الواحد"؛ لأن الإيجاب لا يقتضي التكرار ولم يقم دليل عليه فإنما يجب أو يندب مرة وقد فعله مرة فلا شيء عليه "والقول شرعية مستأنفة في حقه لا ناسخ" للفعل؛ لأنه لا يقتضي التكرار وقد فعله فتم أمره "ويثبت في حقهم" أي الأمة الفعل "مرة بصفته" عليهم من وجوب أو ندب "إذ لا تعارض في حقهم" لفرض أن القول خاص به "ولا سبب تكرار أو" علم "المتقدم" للقول كأن يقول لا يحل لي كذا ثم يفعله "نسخ عنه الفعل مقتضى القول أي دل" الفعل "عليه" أي نسخ القول "ويثبت" الفعل "على الأمة على صفته مرة" بذلك الفعل الناسخ "لفرض الاتباع فيما علم وعدم التكرار وإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" الأقوال فيه تقديم الفعل فيثبت الفعل في حقهم وتقديم القول فيحرم والوقف فلا يثبت حكم "قيل والمختار الوقف ونظر فيه" والناظر القاضي عضد الدين "بأن لا تعارض مع تأخر القول" الخاص به "فيؤخذ به" أي بالقول حكما بأن الفعل متقدم؛ لأنه لو أخذ بالفعل نسخ موجب القول عنه وهذا معنى قوله "ترجيحا لرفع مستلزم النسخ وعلمت استواء حالتي الأمة فيهما" أي تقدم القول وتأخره "من ثبوته" أي الفعل "مرة منهم" أي عليهم فلا فائدة في التوقف بالنسبة إليهم وفي هذا إشارة إلى دفع ترجيح القول على الوقف يعني أنه علم حال الأمة بالنسبة إلى محل الجهل من تقدم القول وتأخره فلم يبق التردد إلا في حالة فإنه يختلف فيهما وتقدم في مثله اختيار الوقف لعدم التكليف باستعلام الثابت له "وإن" كان القول "خاصا بهم" بأن فعل وقال لا يحل للناس هذا "فلا تعارض في حقه" لعدم تعلق القول به علم تقدمه أو لا "وفيهم" أي في الأمة "المتأخر" من القول أو الفعل "ناسخ للمرة" فإن الفعل بلا تكرار يوجب المرة فينسخها كما لو قال: صوموا يوم سبت فإنه يوجب مرة فإذا أفطر - والأمة مثله - أو قال لا تصوموا فيه نسخ عنهم الصوم فيه "وإن جهل" المتأخر "فالثلاثة" الأقوال فيه الوقف وتقديم الفعل وتقديم القول "والمختار القول وإن" كان "شاملا" له ولهم "فعلى ما تقدم فيه وفيهم في علم
ج / 3 ص -19-
المتأخر" من القول والفعل ففي حقه إن تقدم الفعل فلا يعارض لعدم تكرر الفعل وإن تقدم القول فالفعل ناسخ له وفي حق المتأخر ناسخ "وإن جهل" المتأخر في حقه وحقنا "فالثلاثة" الأقوال الوقف وتقديم الفعل وتقديم القول "والمختار القول فينسخ عنهم المرة لكن لو قدم الفعل وجبت" المرة "فالاحتياط فيه" أي وفي وجوبه مرة "ثم تقول في الوجه الذي قدم به القول" على الفعل والوقف "حيث قدم" عليهما من أنه وضع القول لبيان المرادات إلى آخر ما سلف "نظر وإنما يفيد" الوجه المذكور "تقديمه" أي القول "ولو كان" التقديم "باعتبار مجرد ملاحظة ذات الفعل معه" أي مع القول "لكن النظر بين فعل دل على خصوص حكمه وعلى ثبوته في حق الأمة ففي الحقيقة النظر" إنما هو "في تقديم القول على مجموع أدلة منها قول وفعل والقول وإن كان بحيث يدل به على هذا المجموع فإنما عارضه ما دل به أيضا عليه" أي هذا المجموع "فاستويا" أي الفعل والقول "والأدلية ونحوه" مما تقدم من الأعمية وغيرها "طردا وحينئذ" لا أثر لها في هذا المحل "فالوجه في كل موضع من ذلك" التعارض "ملاحظة أن الاحتياط يقع فيه على تقدير" تقديم "القول أو الفعل فيقدم ذلك" الذي فيه الاحتياط "كفعل عرفت صفته وجوب أو ندب أو حكم فيه بذلك" أي بالوجوب أو الندب إذا كان التاريخ مجهولا "يقدم" الفعل المذكور "على القول المبيح وقلبه القول" فيقدم القول المبيح على فعل عرفت صفته من وجوب أو ندب أو حكم فيه بذلك "وكذا القول" حال كونه "محرما مع الفعل مطلقا" يقدم على الفعل مطلقا "وقول كراهة مع فعل إباحة" يقدم الأول على الثاني "وقس" على هذه أمثالها "فأما إذا لم تعرف صفة الفعل فعلى الوجوب عليه وعليهم" عند الجمهور "والندب والإباحة كذلك" أي له ولهم عند القائلين بالندب فيما لم يعرف صفة فعله والآخرين القائلين بالإباحة فيه "وعلى خصوص هذه" الأحكام من الوجوب والندب والإباحة "بالأمة المتأخر" من الفعل والقول "ناسخ عنهم فعلا" كان "أو قولا شاملا" له ولهم "أو خاصا بهم فإن جهل" المتأخر "فالمختار ما فيه الاحتياط كما ذكرنا وعلى الوقف في الكل" أي كل الأحكام "سوى إطلاق الفعل إن تأخر القول النافي له" أي إطلاق الفعل حال كونه "خاصا به" بأن صام يوم الجمعة ثم قال: لا يحل لي صوم يوم الجمعة "منعه" أي نسخ القول إطلاق الفعل "في حقه دونهم" فيستمر لهم موجب الفعل وهو حلة لهم مع الوقف عما زاد على ذلك "أو" حال كونه خاصا "بهم" كأن قال: لا يحل لأمتي صوم يوم الجمعة "ففي حقهم" أي نسخ القول إطلاق الفعل في حقهم وحكمنا بالإطلاق مع الوقف عما زاد عليه "أو" حال كونه "شاملا" له ولهم "نفي الإطلاق مطلقا" أي نسخ الحل الذي كان مقتضى الفعل عن الكل وزال الوقف مطلقا "فلو كان" القول المتأخر "موجبا أو نادبا قرره" أي الفعل "على مقتضاه" أي القول من الوجوب والندب "وإن" كان المتأخر "الفعل والقول خاص به" كأن يقول أولا لا يحل لي صوم يوم الجمعة ثم يصوم "فالوقف فيما سوى مجرد الإطلاق في حق الكل" أي ثبت الحل في حقه وحقهم بمقتضى الفعل المتأخر مع الوقف عما سوى في حق الكل "أو" كان القول خاصا "بهم" كأن يقول: لا يحل للأمة صوم يوم الجمعة ثم استمر
ج / 3 ص -20-
بصومه "أو شاملا" له ولهم كلا يحل لي ولكم ثم صامه "منعوا" أي منع الحل في حقهم "دونه" فيحل له "وإن جهل" المتأخر "ففي الأول" أي إذا كان القول خاصا به "الوقف في حقه"؛ لأنه لو كان المتأخر القول حرم عليه أو الفعل حل له ولسنا مأمورين بالبحث عن ذلك فنقف عن الحكم عليه بشيء "والحل لهم" أي فيحكم بالحل في حقهم؛ لأنه ثابت لهم تقدم هذا القول أو تأخر "وفي الثاني" أي إذا كان القول خاصا بهم "منعوا" لثبوته لهم تقدم القول أو تأخر وجهل المتأخر لا يخرج عن كون الواقع أحدهما "وحل له"؛ لأن الفعل يوجبه ولم يعارضه القول "وفي الثالث" أي إذا كان شاملا له ولهم "الوقف في حقه"؛ لأنه إن كان القول الشامل متأخرا عن فعله حرم عليه أو متقدما حل ويجب أن لا يحكم في حقه بشيء فيجب فيه الوقف "ومنعوا"؛ لأنهم في التأخر والتقدم كذلك.
ثم لما كان مما يتخلص به من التعارض الترجيح أعقبه بفصل فيه فقال:
فصل
"الشافعية" أي بعضهم "الترجيح اقتران الأمارة بما تقوى به على معارضها" وعلى هذا مشى ابن الحاجب "وهو" أي هذا المعنى "وإن كان" هو "الرجحان وسبب الترجيح"؛ لأن الترجيح جعل أحد جانبي المتعاملين راجحا بإظهار فضل فيه لا تقوم به المماثلة كترجيح إحدى كفتي الميزان على الأخرى بنحو شعيرة وذلك الفضل هو الرجحان والسبب الداعي إلى جعله زائدا على معاملة "فالترجيح" أي فهو الترجيح "اصطلاحا" لمعرفي الترجيح به فهو حقيقة عرفية خاصة فيه ومجاز لغوي من تسمية الشيء باسم سببه "والأمارة" أي وإنما ذكرها لا الدليل القطعي ولا ما هو أعم منهما "لأنه لا تعارض مع قطع" كما سلف عن ابن الحاجب وغيره "وتقدم ما فيه" في أول فصل التعارض بل التحقيق جريانه في القطعيين أيضا كما في الظنيين وإن تخصيص الظنيين به دون القطعيين تحكم ثم قيل: يتساقط الدليلان وقال القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه: يلزم التخيير وقال الأكثرون يجب تقديم الأمارة التي ظهر رجحانها كما أشار إليه بقوله "فيجب تقديمها" أي الأمارة المقترنة بما تقوى به على معارضها "للقطع عن الصحابة ومن بعدهم به" أي بتقديمها كما يفيده تتبع الوقائع الكثيرة لهم ومن ذلك تقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في "الغسل بالتقاء الختانين" على خبر أبي سعيد الخدري "إنما الماء من الماء" كما يشير إليه سياق خبرها في صحيح مسلم وكلا الخبرين في صحيح مسلم للاحتياط ولكون الحال في مثله على أزواجه أبين وأكشف. "وأورد" على الأكثرين "شهادة أربعة مع" شهادة "اثنين" إذا تعارضتا فإن الظن بالأربعة أقوى منه بالاثنين ولا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين "فالتزم" تقديم شهادة الأربعة كما هو قول لمالك والشافعي "والحق الفرق" بين الشهادة والدليل إذ كم من وجه ترجح به الأدلة ولا ترجح به الشهادات، ووجه أن الشهادة في الشرع مقدورة بعدد معلوم فكفينا الاجتهاد فيها بخلاف الرواية فإنها مبنية عليه "وللحنفية" في تعريف الترجيح بناء "على أنه" أي الترجيح
ج / 3 ص -21-
"فعل إظهار الزيادة لأحد المتماثلين على الآخر بما لا يستقل" فخرج النص مع القياس المعارض له صورة فلا يقال: النص راجح عليه ولا العمل بالنص ترجيح لانتفاء المماثلة التي هي الاتحاد في النوع وقد عرفت فائدة التقييد بما لا يستقل من قوله في التعارض، والرجحان تابع مع التماثل وهو مصرح بها أيضا الآن وعلى أنه فعل أيضا ما في منهاج البيضاوي وغيره تقوية إحدى الإمارتين ليعمل بها "وعلى مثل ما قبله" أي وعلى أن المراد بالترجيح الرجحان قول فخر الإسلام وغيره "فضل إلخ" أي لأحد المتماثلين على الآخر وصفا فلا حاجة إلى نسبة قائله إلى المساهلة كما ذكر الشارحون إذ لا مشاحة في الاصطلاح. "وأفاد" تعريف الحنفية "نفي الترجيح بما يصلح دليلا" في نفسه مع قطع النظر عن الدليل الموافق فلا يقال لما تعارض فيه حديثان أو قياسان إذا وجد دليل آخر موافق لأحدهما على مقتضاه دون الآخر إن الموافق لموافقه راجح على معارضه ثم إذا كان معنى الترجيح عند الحنفية هذا "فبطل" الترجيح لأحد الحكمين المتعارضين "بكثرة الأدلة" له على الآخر "عندهم" لاستقلال كل بثبوت المطلوب به فلا ينضم إلى الآخر ولا يتحد به ليفيد تقويته؛ لأن الشيء إنما يتقوى بصفة توجد في ذاته لا بانضمام مثله إليه كما في المحسوسات وسيذكر المصنف هذا عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وخلافه عن الأكثر والوجه من الطرفين آخر هذا الفصل.
ثم لما كان عن بعض مشايخنا أن النصين المتعارضين يترجح أحدهما بالقياس كما ذكر في الكشف وغيره وقد يظن أنه من الترجيح بكثرة الأدلة وليس كذلك نبه عليه بقوله "وترجيح ما" أي نص "يوافق القياس على ما" أي نص "يخالفه" أي القياس بالقياس "ليس به" أي بالترجيح بكثرة الأدلة "عند قابله" بالباء الموحدة أي من يقبل الترجيح بكثرة الأدلة ويراه مذهبا "لأنه" أي القياس الموافق للنص "غير معتبر هناك" أي في إثبات ذلك الحكم؛ لأنه غير معتبر في مقابلة النص "فليس" القياس ثمة "دليلا والاستقلال فرعه" أي كونه دليلا بل هو بمنزلة الوصف لذلك النص فترجيحه به إنما هو بهذا الاعتبار "وصح عندهم" أي الحنفية "نفيه" أي ترجيح ما يوافق القياس على ما يخالفه به وذكر في الكشف وغيره أنه الأصح "لأنه" أي القياس "دليل في نفسه مستقل" ولذا يثبت الحكم به عند عدم النص والإجماع "لكن عدم شرط اعتباره" هنا لما ذكرناه وسيذكر المصنف في أثناء ما به الترجيح أن الأحق أنه يترجح به ونذكر هناك وجهه والجواب عن وجههم إن شاء الله تعالى "والقياس على مثله" أي وترجيح القياس على قياس مثله معارض له "بكثرة الأصول" كما سيأتي تمثيله في موضعه "ليس منه" أي من الترجيح بكثرة الأدلة "لأنها" أي الأصول "لا توجب حكم الفرع" بل توجب زيادة تأكيد ولزوم للحكم بذلك الوصف ليحدث فيه قوة مرجحة "وهو" أي وجوب حكم الفرع بالقياس هو "المطلوب" من القياس "فيعتبر فيه" أي الفرع "التعارض" بين القياسين ثم يرجح القياس الذي له أصول يؤخذ فيها جنس الوصف أو نوعه على ما ليس كذلك "فهو" أي الترجيح بكثرة الأصول ترجيح "بقوة الأثر" وهو من الطرق الصحيحة في ترجيح الأقيسة كما سيعلم.
ج / 3 ص -22-
ثم أخذ في بيان ما به الترجيح في المتن فقال "ففي المتن" أي ما تضمنه الكتاب والسنة من الأمر والنهي والعام والخاص ونحوها يكون "بقوة الدلالة كالمحكم في عرف الحنفية على المفسر وهو" أي المفسر عندهم "على النص" كذلك "وهو" أي النص كذلك "على الظاهر" كذلك والكل ظاهر مما تقدم في التقسيم الثاني من الفصل الثاني من المبادئ اللغوية "ولذا" أي ولترجيح الأقوى دلالة "لزم نفي التشبيه" عن الباري جل وعز "في {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه: 5] ونحوه مما ظاهره يوهم المكان "ب" قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]"؛ لأنه يقتضي نفي المماثلة بينه وبين شيء ما والمكان والمتمكن فيه يتماثلان من حيث القدر إذ حقيقة المكان قدر ما يتمكن فيه المتمكن لا ما فصل عنه وقدم العمل بهذه الآية؛ لأنها محكمة لا تحمل تأويلا "ويضبط ما تقدم من الاصطلاحين" للحنفية والشافعية في ألقاب أفراد تقسيمات الدلالة للمفرد في الفصل الثاني من المقالة الأولى في المبادئ اللغوية "يجمع" أي يحكم بوجود بعض الأقسام على الاصطلاحين جميعا في بعض الموارد "ويفرق" أي ويحكم بوجود بعضها على أحد الاصطلاحين دون الآخر وينشأ لك من ذلك ترجيح البعض على البعض بحسب التفاوت بينهما في قوة الدلالة "والخفي" ترجيح "على المشكل عندهم" أي الحنفية لما عرف ثمة من أن الخفاء في المشكل أكثر منه في الخفي "وأما المجمل مع المتشابه" باصطلاح الحنفية "فلا يتصور" ترجيح أحدهما على الآخر "ولو" قصد إليه "بعد البيان" للمجمل "لأنه" أي ترجيح أحدهما على الآخر "بعد فهم معناهما"؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره والمتشابه انقطع رجاء معرفته في الدنيا عندهم "والحقيقة" ترجح "على المجاز المساوي" في الاستعمال لها "شهرة" و "اتفاقا" لترجحها عليه بأنها الأصل في الكلام "وفي" ترجيح المجاز "الزائد" في الاستعمال من حيث الشهرة عليها "خلاف أبي حنيفة" فقال يرجح عليه وقال الجمهور منهم الصاحبان يرجح عليها وتقدم الكلام في ذلك في الفصل الخامس في الحقيقة والمجاز.
"والصريح على الكناية والعبارة على الإشارة" "وهي" أي الإشارة "على الدلالة مفهوم الموافقة" ومثل هذه مذكور في الشروح فلا نطول بذكرها "وهي" أي الدلالة "على المقتضى ولم يوجد له" أي لترجيح الدلالة عليه "مثال في الأدلة وقيل يتحقق" له مثال فيها وهو ما "إذا باعه" أي عبدا "بألف ثم قال" البائع للمشتري قبل نقد الثمن "أعتقه عني بمائة" ففعل إذ "دلالة حديث زيد بن أرقم" السابق في المسألة التي يليها فصل التعارض "تنفي صحته" أي بيع العبد المذكور الثابت للبائع اقتضاء لشرائه ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن "واقتضاء الصورة" أي قول غير مالك العبد لمالكه أعتق عبدك عني بمائة في غير هذه الواقعة "يوجبها" أي صحة البيع المقتضى "وليس" هذا مثالا لترجيح الدلالة على المقتضى "إذ ليسا" أي بيع زيد واقتضاء الصورة صحة البيع "دليلين" سمعيين كما هو ظاهر فأين تعارض الدليلين الذي الترجيح فرعه ؟، "ولأن حديث زيد إنما نسب إليه" أي إلى زيد "لأنه صاحب الواقعة في زمن عائشة الرادة عليه" به "فلا يكون غيره" أي ثبوت الحكم في واقعة زيد لغير زيد إذا وقع منه مثل ما وقع من زيد "مثله" أي مثل زيد "دلالة إذ هو" أي الحديث المردود به
ج / 3 ص -23-
على زيد "نهيه عليه السلام عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن". فيثبت" هذا النهي "في غيره" أي غير زيد "عبارة كما" يثبت "فيه" أي في زيد عبارة أيضا غاية ما في الباب أن واقعته مثار رواية عائشة الحديث وهو منطبق على واقعة زيد وعلى غيرها مما وجد فيه مثل هذا الصنيع كهذه الصورة على تقدير ارتكاب تصحيح كلام البائع المذكور بجعلها صورة من صور الاقتضاء "وكيف" يكون هذا من تعارض الدلالة والمقتضى "ولا أولوية" لهذه الصورة بالحكم المذكور لبيع زيد على اشتراط أولوية المسكوت بالحكم في الدلالة "ولا لزوم فهم المناط" للحكم المذكور في المسكوت "في محل العبارة" ولا دلالة بدونه "والمقتضى" بفتح الضاد "للصدق" أي ضرورة صدق الكلام يرجح "عليه" أي على المقتضى "لغيره" أي غير الصدق وهو وقوعه شرعيا؛ لأن الصدق أهم من وقوعه شرعيا. "ومفهوم الموافقة على" مفهوم "المخالفة" "عند قابله" بالباء الموحدة كما فيما تقدم آنفا أي من يقبل مفهوم المخالفة؛ لأن مفهوم الموافقة أقوى ومن ثمة لم يقع فيه خلاف وألحق بالقطعيات وقال ابن الحاجب على الصحيح فانتفى قول الآمدي يمكن ترجيح مفهوم المخالفة بوجهين الأول أن فائدة التأسيس وفائدة مفهوم الموافقة التأكيد والتأسيس أصل والتأكيد فرع والثاني أن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان فعل وجوده في فعل المسكوت وإن اقتضاء الحكم في محل السكوت أشد وأما مفهوم المخالفة فإنه يتم بتقدير عدم فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبتقدير كونه غير متحقق في محل السكوت وبتقدير أن لا يكون أولى بإثبات الحكم في محل السكوت وبتقدير أن يكون له معارض في محل السكوت ولا يخفى أن ما يتم على تقديرات أربع أولى مما لا يتم إلا على تقدير واحد وأما من لم يقبل مفهوم المخالفة فهو مهدر الاعتبار عنده مع قطع النظر عن مفهوم الموافقة "والأقل احتمالا" على الأكثر احتمالا "كالمشترك لاثنين على ما" أي المشترك "لأكثر" لبعد الأول عن الاضطراب وقرب استعماله في المقصود بالنسبة إلى الثاني. "والمجاز الأقرب" إلى الحقيقة على ما هو أبعد منه إليها "وفي كتب الشافعية" يرجح المجاز على مجاز آخر "بأقربية المصحح" أي العلاقة إلى الحقيقة مع اتحاد الجهة "كالسبب الأقرب" في المسبب "على" السبب "الأبعد" منه في المسبب "وقربه" أي وبقرب المصحح إلى الحقيقة في ذلك المجاز "دون" المصحح "الآخر" في المجاز الآخر "كالسبب" أي كإطلاق اسم السبب "على المسبب على عكسه" أي إطلاق اسم المسبب على السبب ولما عللوا هذا بأن السبب مستلزم لمسببه ولا عكس ومعناه أن المسبب لا يستلزم سببا معينا لجواز ثبوته بسبب آخر بخلاف السبب فإن كل سبب يستلزم المسبب المعين قال المصنف "وينبغي تعارضهما" أي ما سمي باسم سببه وما سمي باسم مسببه "في" السبب "المتحد" لمسبب؛ لأن كلا منهما يستلزم الآخر بعينه ولا يترجح أحدهما إلا بغير هذا "وما" أي المجاز الذي "جامعه" أي علاقته "أشهر" يترجح على مجاز ليست علاقته كذلك "و" المجاز "الأشهر" استعمالا "مطلقا" أي في اللغة أو في الشرع أو في العرف على غيره لكونه أقرب إلى الحقيقة. "والمفهوم والاحتمال الشرعيان"
ج / 3 ص -24-
يترجحان على المفهوم والاحتمال اللذين ليسا بشرعيين "بخلاف" اللفظ "المستعمل" للشارع "في" معناه "اللغوي معه" أي استعماله له "في" المعنى "الشرعي" فإنه يقدم المعنى اللغوي على الشرعي عند تعارضهما ممكنين في إطلاق "وفيه" أي هذا "نظر"؛ لأن استعماله له في معناه اللغوي لا يوجب كونه حقيقة شرعية فيه واستعماله له في غير معناه اللغوي يوجب نقله إليه وأنه حقيقة شرعية فيه فتقديم اللغوي عليه حينئذ تقديم للمجاز عنده على الحقيقة من غير قرينة صارفة عنها إليه وذلك غير جائز ولا يعرى عن بحث إذ ليس ببعيد أن يقال لم لا يكون استعمال الشارع اللفظ في معناه اللغوي حقيقة شرعية كما هو حقيقة لغوية؛ لأن الأصل عدم النقل وفي المعنى الذي ليس بلغوي مجاز شرعي؛ لأن الأصل عدم الاشتراك وحينئذ فتقديم اللغوي عليه تقديم للحقيقة على المجاز حيث لا صارف عنها إليه وهو الجادة وأيضا هو عمل بما هو من لسان الشرع مع التقرير وهو أولى من العمل بما هو من لسانه مع التغيير "كأقربية المصحح وقربه وأشهريته" أي كما أن في ترجيح كل من هذه على ما يقابله نظرا "بل وأقربية نفس المجازي" أي بل في ترجيح هذا على مجاز ليس كذلك نظر أيضا كما سيعلم "وأولوية" المجاز الذي هو من نفي "الصحة" للذات "في "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وتقدم مخرج هذا في المسألة الرابعة من المسائل التي بذيل المجمل على المجاز الذي هو من نفي الكمال فيه "لذلك" أي لأن نفي الصحة المجاز الأقرب إلى نفي الذات وأولوية مبتدأ خبره "ممنوع؛ لأن النفي على النسبة لا" على "طرفها" الأول "و" طرفها "الثاني محذوف فما قدر" أي فهو ما قدر خبرا للظرف الأول وإذا كان الأمر على هذا "كان كل الألفاظ" الملفوظ منها والمقدر في التركيب المذكور "حقائق" لاستعمالها في معانيها الوضعية "غير أن خصوصه" أي المقدر إنما يتعين "بالدليل" المعين له كما في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كونا خاصا وهو كاملة "ووجهه" أي النظر في تقديم ما اشتمل على أقربية المصحح إلخ "أن الرجحان" إنما هو "بما يزيد قوة دلالة على المراد أو" بما يزيد قوة دلالة على "الثبوت" وهذه المذكورات ليس فيها ذلك "والحقيقي لم يرد" أي والفرض أن المعنى الحقيقي لم يرد من إطلاق اللفظ "فهو" أي الحقيقي الذي ليس بمراد من اللفظ "كغيره" من المعاني التي ليست بمرادة منه "وتعين المجاز في كل" أي والحال أن تعين المعنى المجازي للفظ في كل استعمال له فيه إنما هو "بالدليل" المعين له "فاستويا" أي المجازيان "فيه" أي في اللفظ، وإيضاح هذا أنه كما قال المصنف إذا ذكر لفظ وصرف الدليل عن إرادة معناه الحقيقي إلى ما يصحح أن يتجوز به فيه فقد تعين بالدليل خصوص المراد به فإذا لزم لفظ مثله آخر فيما يضاد الأول كان حاصله إفادة الدليل ثبوت إفادة ضدين بلفظين فكون أحد المفادين من المعنى المجازي بينه وبين معناه الحقيقي بعد وقرب في ذاته أو مصححه أو شهرة مصححه لا أثر له إذ بعد العلم يكون الحقيقي لم يرد صار كغيره في سائر المعاني التي لم ترد فقرب المراد منه وبعده كقربه من بعض المعاني المغايرة له التي لم ترد، وبعده من بعض آخر لا يزيد بالقرب إليه قوة دلالته
ج / 3 ص -25-
على خصوص ذلك معنى المراد ولا بالبعد منه تضعف دلالته عليه وكيف؟ ولا تثبت إرادة كل من المعنيين إلا بدليل أوجب تعين إرادته بعينه فصار كل كأنه الآخر هذا؛ لأن الفرض أنه معنى مجازي فلا بد في تعين إرادته باللفظ من دليل على ذلك وكما قام الدليل أن هذا المعنى المجازي القريب من حقيقته مراد من هذا اللفظ قام على أن ذلك المعنى المجازي البعيد من حقيقته مراد من ذلك اللفظ فلا مقتضى لضعف دلالة أحدهما على مراده دون الآخر "نعم لو احتملت دلالته دون الآخر" أي لو أن القرينة الموجبة لإرادة أحدهما في إيجابها له تردد واحتمال كان ضعف الدلالة لذلك إذا كانت قرينة الآخر في مراده ليست كذلك فيقدم ما ليس في دلالته ضعف على ما فيها ضعف "وذلك" أي تقديم الذي ليس في دلالته احتمال على ما في دلالته احتمال "شيء آخر" غير نفس القرب من الحقيقي الغير المراد وبعده منه فهو ترجيح باعتبار ثبوت الاحتمال في إرادة ذلك وعدمه في إرادة الآخر فيرجع إلى ما فيه احتمال مع ما ليس فيه احتمال وترجيح ما ليس فيه على ما فيه "وما أكدت دلالته" بأن تعددت جهاتها أو كانت مؤكدة ترجح على ما ليس كذلك؛ لأنه أغلب على الظن. "والمطابقة" تترجح على التضمن والالتزام؛ لأنها أضبط "والنكرة في" سياق "الشرط" تترجح "عليها" أي على النكرة "في" سياق "النفي وغيرها" أي على غير النكرة كالجمع المحلى والمضاف "لقوة دلالتها" أي النكرة في سياق الشرط "بإفادة التعليل" عليها إذا كانت في سياق النفي وعلى غيرها مما ذكر؛ لأن الشرط كالعلة والحكم المعلل أولى "والتقييد" للنكرة "بغير المركبة" أي المبنية على الفتح لكون " لا " فيها لنفي الجنس لكونها نصا في الاستغراق لا يحتمل الخصوص كما ذكر التفتازاني وغيره "تقدم". البحث الثاني من مباحث العام "ما ينفيه" فيستوي الحال بين أن تكون مركبة أو لا. "وكذا الجمع المحلى والموصول" يترجح كل منهما "على" اسم الجنس "المعرف" باللام لكثرة استعماله في المعهود فتصير دلالته على العموم ضعيفة على أن الموصول مع صلته يفيد التعليل كما تفيده النكرة في الشرط ولهذا قال، وكذا "والعام" يترجح "على الخاص في الاحتياط" أي فيما إذا كان الاحتياط في العمل بالعام كما لو كان العام محرما والخاص مبيحا؛ لأن العمل حينئذ أقرب إلى تحصيل المصلحة ودرء المفسدة "وإلا" لو لم يكن الاحتياط في العمل بالعام "جمع" بينهما بالعمل بالخاص في محله وبالعام فيما سواه "كما تقدم" في فصل التعارض "والشافعية" يترجح عندهم "الخاص دائما" على العام؛ لأنه غير مبطل للعام بخلاف العمل بالعام فإنه مبطل للخاص ولأنه أقوى دلالة على ما يتضمنه من دلالة العام عليه لإجمال تخصيصه منه إذ أكثر العمومات مخصصة وأكثر الظواهر الخاصة مقررة على حالها غير مؤولة. "وما" أي العام الذي "لزمه تخصيص" يترجح "على خاص ملزوم التأويل"؛ لأن تخصيص العام أكثر من تأويل الخاص كما ذكرنا آنفا "والتحريم" يترجح "على غيره" من الوجوب والندب والإباحة والكراهة كما مشى عليه الآمدي وابن الحاجب وعبر عنه المصنف بقوله "في المشهور احتياطا" ظنا من قائله أن ذلك الفعل إن كان حراما كان في ارتكابه ضرر وإن كان غير
ج / 3 ص -26-
حرام لا ضرر في تركه، ومعلوم أن هذا بعد أن يكون المراد بالكراهة الكراهة التنزيهية لا يتم في الواجب فإن في تركه ضررا كما سنذكر وقد يقال إن التحريم لدفع مفسدة والندب والوجوب والإباحة لتحصيل مصلحة، واعتناء الشرع بدفع المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح بدليل أنه يجب دفع كل مفسدة ولا يجب جلب كل مصلحة والكراهة وإن كانت لدفع مفسدة إلا أن في العمل بها تجويزا للفعل وفيه إبطال المحرم بخلاف العكس فكان التحريم أولى، هذا والذي عليه الإمام وأتباعه كالبيضاوي تساوي المحرم والموجب فيلزم تقديم الموجب حيث كان المحرم مقدما على المبيح؛ لأن المساوي للمقدم على شيء مقدم على ذلك الشيء ثم في شرح الإسنوي والمراد بالإباحة هنا جواز الفعل والترك ليدخل فيه المكروه والمندوب والمباح المصطلح عليه، وعلل البيضاوي وغيره تقديم المحرم على المبيح بالاحتياط فإنه يقتضي الأخذ بالتحريم؛ لأن ذلك الفعل إن كان حراما كان ارتكابه ضررا وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه ولا بأس بهذا وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال" لكن هذا متعقب بأنه لا يعرف مرفوعا كما قال الزركشي بل قال الحافظ العراقي ولم أجد له أصلا انتهى. نعم رواه عبد الرزاق والبيهقي في سننه عن جابر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود موقوفا، والشعبي عن ابن مسعود منقطع ثم له معارض ففي سنن ابن ماجه الدارقطني عن ابن عمر رفعه "لا يحرم الحرام الحلال" وفي سنده إسحاق الفروي أخرج له البخاري وذكره ابن حبان في الثقات. وقال النسائي ليس بثقة ووهاه أبو داود جدا. وقال الدارقطني لا يترك وقال أيضا ضعيف قال شيخنا والمعتمد فيه ما قال أبو حاتم صدوق ولكن ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة ثم على هذا الذي ذكره البيضاوي مشى المصنف كما هو آت وقال أيضا "وإذا ثبت أنه" أي النبي صلى الله عليه وسلم "كان يحب ما خفف على أمته" وإذا هنا للماضي كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] لثبوته وعدم خفائه على المصنف ومن ثمة جزم به في آخر مسألة في هذا الكتاب وهو في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها لكن بلفظ عنهم وفي لفظ ما يخفف عنهم وفي الصحيحين عنها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثما". وفي حديث المعراج فيهما أيضا "فمررت بموسى فقال بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم وليلة قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وليلة وإني - والله - قد جربت الناس وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجعت" الحديث وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم "إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة" وفيهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير وصلى فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال "ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن
ج / 3 ص -27-
يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به" إلى غير ذلك، وإذا، قد ثبت ثبوتا مستفيضا شائعا لا مرد له حبه التخفيف عن أمته. "اتجه قلبه" أي ترجيح غير التحريم لكن قد عرفت أن غير التحريم يشمل الأقسام الأربعة الباقية ثم غير خاف أن هذا إن تم في الإباحة والندب والكرهة لا يتم في الوجوب إذ ليس في ترجيحه على التحريم تخفيف؛ لأن المحرم يتضمن استحقاق العقاب على الفعل، والموجب يتضمن استحقاق العقاب على الترك فتعذر الاحتياط فلا جرم إن جزم بالتساوي بينهما الأستاذ أبو منصور وقال لا يقدم أحدهما على الآخر بل بدليل ومشى عليه من قدمناهم على أن ابن الحاجب وإن ذكر ترجيح الإباحة على الحظر قولا فقد قال التفتازاني لم يذهب أحد إليه إلا أن الآمدي قال يمكن ترجيح الإباحة وحاصله ما أشار إليه عضد الدين بقوله لئلا تفوت مصلحة إرادة المكلف ولأنه لو قدم لكان أيضا الواضح وهو الجواز الأصلي وتعقبه الأبهري بأن الوجهين ضعيفان أما الأول فلأن تصور المكلف واعتقاده أن في الفعل مصلحة ربما لا يكون مطابقا للواقع فيكون خطأ ولما كانت شرعية الأحكام تابعة لمصالح العباد وكان الحظر بناء على مصلحة في الترك أو مفسدة في الفعل كان أولى، وأما الثاني فلأنه يلزم من تقديم الإباحة أي العمل بها كثرة التغيير من ارتفاع الإباحة الأصلية بالحظر ثم ارتفاع الحظر بالإباحة الشرعية بخلافه إذا كان العمل بالحظر والأصل عدمها انتهى. وفي هذه الجملة ما فيها فقد اختار القاضي عبد الوهاب في الملخص ترجيح المقتضي للإباحة على الم