التقرير والتحبير – الجزء الثاني
تأليف:
محمد بن محمد ابن أمير الحاج الحنبلي
ج / 2 ص -3- "بسم الله الرحمن الرحيم"
الفصل الخامس: في المفرد باعتبار استعماله
"هو" أي المفرد "باعتبار استعماله ينقسم إلى حقيقة ومجاز" ووجه حصره فيهما ظاهر من تعريفهما "فالحقيقة" فعيلة إما بمعنى فاعل من حق الشيء يحق بالضم والكسر إذا ثبت والتاء للتأنيث وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء بالتخفيف أحقه بالضم إذا أثبته فيكون المعنى الكلمة الثابتة أو المثبتة في مكانها الأصلي والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كالأكيلة عند الجمهور وللتأنيث عند السكاكي بناء على تقدير لفظ الحقيقة صفة مؤنث غير مذكور أي الكلمة ونوقش بأنه تكلف مستغنى عنه بما تقدم وهي اصطلاحا "اللفظ المستعمل فيما وضع له أو ما صدق عليه" أي أو في فرد من ماصدقات مفهوم اللفظ الموضوع له "في عرف به" أي بذلك العرف "ذلك الاستعمال" فخرج بالمستعمل المهمل والموضوع قبل الاستعمال فإنه لا يوصف بحقيقة ولا مجاز وبقوله فيما وضع له المجاز والغلط وسينص عليه وتأتي فائدة أو ما صدق عليه وبقوله في عرف به ذلك الاستعمال اللفظ الذي له وضعان لمعنيين مختلفين في عرفين إذا استعمل في كل منهما بغير الوضعي في العرف الذي به التخاطب فإنه فيه مجاز "وتنقسم" الحقيقة "بحسب ذلك" الوضع "إلى لغوية" بأن يكون لواضع اللغة "وشرعية" بأن يكون للشارع "كالصلاة" فإنها حقيقة لغوية في الدعاء لأن واضع اللغة وضعها له وحقيقة شرعية في العبادة المخصوصة لأن الشارع وضعها لها "وعرفية عامة" بأن يكون لأهل العرف العام "كالدابة" في ذوات الأربع أو الحوافر لأن أهل العرف العام وضعوها لها "وخاصة" بأن يكون لأهل العرف الخاص "كالرفع" للحركة المخصوصة فإن أهل العربية وضعوه لها "والقلب" كجعل المعلول علة وقلبه فإن الأصوليين وضعوه له "ويدخل" في الحقيقة اللفظ "المنقول ما وضع لمعنى باعتبار مناسبة لما كان له أولا" على ما فيه من تفصيل آت قريبا "والمرتجل" كما صرح به صدر الشريعة وهو المستعمل في وضعي لم يسبق بآخر "والأعم" المستعمل "في الأخص كرجل في زيد" قال المصنف رحمه الله تعالى: لأن الموضوع للأعم حقيقة في كل فرد من أفراده كإنسان في زيد لا يعرف القدماء غير هذا إلى أن حدث التفصيل بين أن يراد به خصوص الشخص يعني بجعل خصوص عوارضه المشخصة مرادا مع المعنى الأعم بلفظ الأعم فيكون مجازا وإلا فحقيقة وكأن هذه الإرادة قلما تخطر عند الإطلاق حتى ترك الأقدمون ذلك التفصيل بل المتبادر من مراد من يقول لزيد يا إنسان يا من يصدق عليه هذا اللفظ لا يلاحظ أكثر من ذلك وهذا فائدة أو ما صدق عليه "وزيادة أولا" بعد قوله فيما وضع له كما ذكر الآمدي ومن وافقه "تخل بعكسه لصدق الحقيقة على المشترك
ج / 2 ص -4- في المتأخر وضعه له" وهذه الزيادة تمنع صدق الحد عليه "وليس في اللفظ أنه" أي أولا "باعتبار وضع المجاز" ليخرج به المجاز على هذا التقدير كما ذكر الشيخ سراج الدين الهندي "على أنه لو فرض" وضع المجاز "جاز أولية وضع المجاز كاستعماله" أي كما يجوز أولية استعمال المجاز بالنسبة إلى كونه حقيقة بأن يوضع اللفظ لمعنى ثم يستعمل فيما بينه وبينه علاقة قبل أن يستعمل في المعنى الحقيقي كذلك يجوز أولية وضع المجاز فيه قبل وضعه لمعناه بأن يقول: وضعت هذا اللفظ لأستعمله فيما بينه وبين ما سأضعه له مناسبة اعتبرتها ذكره المصنف "وبلا تأويل" أي وزيادة السكاكي بلا تأويل بعد ذكر الوضع ليحترز به عن الاستعارة لعد الكلمة فيها مستعملة فيما هي موضوعة له لكن بالتأويل في الوضع وهو أن يستعار المعنى الموضوع له لغيره بطريق الادعاء مبالغة ثم يطلق عليه اللفظ فيكون مستعملا فيما هو موضوع له ادعاء لا تحقيقا وهي مجاز لغوي على الأصح "بلا حاجة" إليه في صحة الحد "إذ حقيقة الوضع لا تشمل الادعائي" كما سيتضح قريبا وأحسن ما اعتذر عنه في ذلك أنه أراد دفع الوهم لمكان الاختلاف في الاستعارة هل هي مجاز لغوي أو حقيقة لغوية ونظيره في دفع الوهم الاحتراز في حد الفاعل بقيد تقديم الفعل عليه عن المبتدأ في زيد قائم "والمجاز" في الأصل مفعل إما مصدر ميمي بمعنى اسم الفاعل من الجواز بمعنى العبور والتعدي كما اختاره السكاكي سميت به الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة الجزئية لأن المشتق منه جزء من المشتق أو اسم مكان منه سميت به الكلمة الجائزة أي المتعدية مكانها الأصلي أو الكلمة المجوز بها على معنى أنهم جازوا بها مكانها الأصلي كما ذكره الشيخ عبد القاهر فالتسمية من إطلاق المحل وإرادة الحال أو من جعلت كذا مجازا إلى حاجتي أي طريقا لها على أن معنى جاز المكان سلكه فإن المجاز طريق إلى تصور معناه كما ذكره صاحب التلخيص واصطلاحا "ما استعمل لغيره" أي لفظ مستعمل لغير ما وضع له وما صدق عليه ما وضع له "لمناسبة" بينه وبين ذلك الغير "اعتبر نوعها وينقسم" المجاز إلى لغوي وشرعي وعرفي عام وخاص "كالحقيقة" لأن استعمال اللفظ في المعنى الذي لم يوضع له إن كان لمناسبة لما وضع له لغة فهو مجاز لغوي وهكذا تقول في سائر الأقسام وبالجملة كل مجاز متفرع على معنى لو استعمل اللفظ فيه كان حقيقة فيكون المجاز تابعا للحقيقة في هذه الأقسام الأربعة "وتدخل الأعلام فيهما" أي في الحقيقة والمجاز فالمرتجل في الحقيقة وهو ظاهر والمنقول إن لم يكن معناه الثاني من أفراد المعنى الأول فهو حقيقة في الأول مجاز في الثاني من جهة الوضع الأول ومجاز في الأول حقيقة في الثاني من جهة الوضع الثاني وإن كان معناه الثاني من أفراد معناه الأول فإن كان إطلاقه عليه باعتبار أنه من أفراد الأول فهو حقيقة من جهة الوضع الأول مجاز من جهة الوضع الثاني وإن كان باعتبار أنه من أفراد الثاني فحقيقة من جهة الوضع الثاني مجاز من جهة الوضع الأول وممن نص على أن المجاز يدخل في الأعلام الغزالي وقال ابن لقمان الحنفي: ذهب عامتهم إلى أن الألقاب يدخل فيها الحقيقة والمجاز "وعلى من أخرجها" أي الأعلام منهما كالآمدي والإمام
ج / 2 ص -5- الرازي "تقييد الجنس" المأخوذ في تعريفهما بغير العلم واقتصر البيضاوي على أنها لا توصف بالمجاز بالذات لأنها لم تنقل لعلاقة وفيه نظر "وخرج عنهما" أي الحقيقة والمجاز "الغلط" كخذ هذا الفرس مشيرا إلى كتاب بيدك أما عن الحقيقة فلأنه لم يستعمل في الوضعي وأما عن المجاز فلأنه لم يستعمل في غير الوضعي لعلاقة اعتبر نوعها وقد يقال لأن الاستعمال يؤذن بالقصد إذ كان فعلا اختياريا ولا قصد في الغلط إلى ذلك المعنى بذلك اللفظ كما مشى عليه المصنف في تحشية هذا الموضع وهو متعقب بأنه غلط إذ ليس المراد بالغلط المخرج عنهما ما يكون سهوا من اللسان بل يكون خطأ في اللغة صادرا عن قصد فإن قيل حد المجاز غير جامع لخروج المجاز بالنقصان والزيادة كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] عنه أجيب بأن لفظ المجاز مقول بالاشتراك على ما نحن بصدده مما هو صفة اللفظ باعتبار استعماله في المعنى وعلى المجاز المورد الذي هو صفة الإعراب أو اللفظ باعتبار تغير حكم إعرابه والتعريف للأول ثم نقول "ومجاز الحذف حقيقة لأنه المذكور" كالقرية "باعتبار تغير إعرابه ولو أريد به" أي بالمذكور كالقرية اللفظ "المحذوف" كالأهل حتى كان لفظ القرية مستعملا في أهل القرية "كان" المذكور هو المجاز في معناه الوضعي "المحدود ومجاز الزيادة قيل ما لم يستعمل لمعنى ومقتضاه" أي هذا القول أنه "لا حقيقة ولا مجاز" لأن كلا منهما مستعمل لمعنى "ولما لم ينقص" مجاز الزيادة "عن التأكيد قيل لا زائد" في كلام العرب "والحق أنه" أي مجاز الزيادة "حقيقة لوضعه لمعنى التأكيد" في التركيب الخاص وإن عرف لغيره في غيره مثلا من للتبعيض وللابتداء فإذا وقعت قبل نكرة عامة كانت لتأكيد عمومه وضعا وقس قاله المصنف "لا مجاز لعدم العلاقة" التي هي شرط في المجاز "فكل ما استعمل زائدا مشترك" بين ما لم يقصد به معنى أصلا وهو المنفي عن الكلام الفصيح وبين ما لا يخل سقوطه بالمعنى الأصلي وهو لا يعرى عن التأكيد وهذا هو المدعى وجوده في الكلام الفصيح وحينئذ فكما قال "وزائدا باصطلاح" للنحويين وهو عطف على حقيقة.
"واعلم أن الوضع يكون لقاعدة كلية جزئيات موضوعها ألفاظ مخصوصة و" يكون "لمعنى خاص وهو" أي الوضع لمعنى خاص "الوضع الشخصي والأول" أي الوضع لقاعدة كلية إلخ الوضع "النوعي وينقسم" النوعي: "إلى ما يدل جزئي موضوع متعلقه" على المعنى "بنفسه" فالضمير في متعلقه وبنفسه راجع إلى ما ثم بنفسه متعلق ببدل "وهو" أي هذا القسم "وضع قواعد التركيب والتصاريف وبالقرينة" أي وإلى ما يدل جزئي موضوع متعلقه بالقرينة "وهو وضع المجاز كقول الواضع: كل مفرد بين مسماه وغيره مشترك اعتبرته" أي المفرد "أي استعملته في الغير باعتباره" أي المشترك "فلكل" من الناس أن يستعمل "ذلك" المفرد في ذلك الغير باعتبار المشترك بينهما "مع قرينة" تفيد ذلك "ولفظ الوضع حقيقة عرفية في كل من الأولين" الشخصي والنوعي الدال جزئي موضوع متعلقه بنفسه لتبادر كل منهما إلى الفهم من إطلاق لفظ الوضع "مجاز في الثالث" أي النوعي الدال جزئي موضع متعلقه بالقرينة "إذ لا
ج / 2 ص -6- يفهم بلا تقييده" أي الوضع بالمجاز كأن يقال وضع المجاز "فاندفع" بهذا التحقيق "ما قيل" على حد الحقيقة "إن أريد بالوضع الشخصي خرج من الحقيقة" كثير من الحقائق "كالمثنى والمصغر" والمنسوب وبالجملة كل ما يكون دلالته بحسب الهيئة دون المادة لأنها إنما هي موضوعة بالنوع لا بالشخص "أو" أريد به مطلق الوضع "الأعم" من الشخصي والنوعي "دخل المجاز" في تعريف الحقيقة لأنه موضوع بالنوع وإنما اندفع لأن المراد به ما يتبادر إلى الفهم من إطلاقه وهو تعيين اللفظ بإزاء المعنى بنفسه أي لا بضميمة قرينة إليه فتدخل الحقائق المذكورة ولا يدخل المجاز "وظهر اقتضاء المجاز وضعين" وضعا "للفظ" لمعنى بحيث إذا استعمل فيه يكون استعمالا له في معناه الوضعي وهو الحقيقة "و" وضعا "لمعنى نوع العلاقة" بين المعنى الحقيقي والمجازي وهي بكسر العين ما ينتقل الذهن بواسطته عن محل المجاز إلى الحقيقة لأنها في الأصل ما يعلق الشيء بغيره نحو علاقة السوط وعلاقة المجاز كذلك لأنها تعلقه بمحل الحقيقة بأن ينتقل الذهن بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة كما ذكرنا أما بفتح العين فهي علاقة الخصومة والحب وهو تعلق الخصم بخصمه والمحب بمحبوبه ذكره الطوفي هذا وذكر المحقق الشريف أن الخلاف في أن المعنى المجازي وضع اللفظ بإزائه أو لا لفظي منشؤه أن وضع اللفظ للمعنى فسر بوجهين: الأول تعيين اللفظ بنفسه للمعنى فعلى هذا لا وضع في المجاز أصلا لا شخصيا ولا نوعيا لأن الواضع لم يعين اللفظ للمعنى المجازي بل بالقرينة الشخصية أو النوعية فاستعماله فيه بالمناسبة لا بالوضع والثاني تعيين اللفظ بإزاء المعنى وعلى هذا ففي المجاز وضع نوعي قطعا إذ لا بد من العلاقة المعتبر نوعها عند الواضع وأما الوضع الشخصي فربما يثبت في بعض وهذا الخلاف جار على مذهبي وجوب النقل وعدمه فعلى الثاني استعمال المجاز بمجرد المناسبة المعتبرة نوعا والخلاف في أن هذا الاعتبار وضع أولا وعلى الأول استعماله بالمناسبة المعتبر نوعها مع الاستعمال الشخصي والنزاع فيما ذكر وليس الاستعمال مع القرينة مستلزما للوضع بالمعنيين حتى يتوهم تفرع الخلاف على المذهبين فمن قال بوجوب التعقل قال بالوضع ومن قال بعدمه قال بعدم الوضع أيضا ويمكن أن يقال: منشأ الخلاف أن الوضع هل هو تخصيص عين اللفظ بالمعنى فيكون تخصيصا متعلقا بعين اللفظ بالقياس إلى معناه وهو تخصيص اللفظ بالمعنى فينقسم إلى شخصي ونوعي فعلى الأول المجاز موضوع عند المشترطين النقل في الآحاد إذ قد علم بالاستعمال تخصيص عينه بإزاء المعنى وليس بموضوع عند غيرهم فالاختلاف معنوي راجع إلى وجوب النقل وعدمه وعلى الثاني هو موضوع على المذهبين ويرد على هذا أن نقل الاستعمال لا يدل على الوضع الشخصي وأيضا المشتقات كاسم الفاعل وغيره موضوعة لمعانيها الحقيقية بلا خلاف مع أن الظاهر أن وضعها نوعي.
"وهي" أي العلاقة "بالاستقراء" على تحرير المصنف خمسة "مشابهة صورية" بين محل الحقيقة والمجاز "كإنسان للمنقوش" أي كإطلاق لفظ إنسان على شكله المنقوش
ج / 2 ص -7- بجدار وغيره "أو" مشابهة بينهما "في معنى مشهور" أي صفة غير الشكل ظاهرة الثبوت لمحل الحقيقة لها به مزيد اختصاص وشهرة لينتقل الذهن عند إطلاق اللفظ من المعنى الحقيقي أعني الموصوف إلى تلك الصفة فيفهم المعنى الآخر أعني المجازي باعتبار ثبوت الصفة له "كالشجاعة للأسد" فإنها صفة ظاهرة له فإذا أطلق فهم منه الحيوان المفترس وانتقل الذهن منه إلى الشجاع وإذا نصبت قرينة منافية لإرادة المفترس كفي الحمام فهم أن المراد منه شجاع غير الأسد فصح إطلاقه على الرجل الشجاع للاشتراك في الشجاعة "بخلاف البخر" فإنه صفة خفية له فلا يصح إطلاقه على الرجل الأبخر للاشتراك في البخر. فهذا النوع بقسميه إحدى العلاقات وقد يعدان نوعين "ويخص" هذا النوع "بالاستعارة في عرف" أي لأهل علم البيان فهي اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي لعلاقة المشابهة وكثيرا ما تطلق على استعمال المشبه به في المشبه فالمشبه به مستعار منه والمشبه مستعار له ولفظ المشبه به مستعار لأنه بمنزلة اللباس المستعار من واحد فألبس غيره وما عدا هذا النوع من المجاز يسمى مجازا مرسلا وحكى القرافي أن منهم من قال: كل مجاز مستعار ولا مشاحة في الاصطلاح "والكون" عليه أي "كون المجازي سابقا بالحقيقي على اعتبار الحكم كآتوا اليتامى" فإن المعنى المجازي وهو اليتم سبق اعتبار حقيقته الحكم وهو الإيتاء وإن كان الحقيقي ثابتا حال التكلم فهو مجاز لانتفاء المعنى الحقيقي عنه حال وقوع النسبة عليه وهو الإيتاء فآتوا اليتامى في زمان ثبوت اليتم مجاز وإن وقع التكلم به حال ثبوت الحقيقي لليتامى لأنه ليس متصفا به حال وقوع النسبة عليه وهو إيتاء الأولياء وإنما كان كذلك لأنه لم يذكر إلا ليثبت الحكم في معناه والواقع أن الحكم لم يرد إثباته فيه حال المعنى الحقيقي الذي هو حال التكلم بل إذا صار إلى خلافه فكان النظر إلى المعنى المجازي في ذلك الوقت ومن هذا رأيت عبدا تريد معتوقا1 فإن معناه الحقيقي كان حاصلا قبل وقوع نسبة الرؤية إليه وقبل التكلم ذكره المصنف. رحمه الله تعالى فهذا النوع علاقة ثانية "والأول" أي كون الحقيقي "آيلا إليه" أي إلى المجازي "بعده" أي بعد اعتبار الحكم "وإن كان" الحاصل هو "الحقيقي حال التكلم" أي زمان إيقاع النسبة والتكلم كون الحقيقي المراد باللفظ آيلا إلى المجازي أي يصير إياه بعد وقوع النسبة إليه "كقتلت قتيلا وإنما لم يكن" هذا "حقيقة لأن المراد" قتلت "حيا" وإنه يصير قتيلا بعد القتل فكان مجازا باعتبار أوله بعد القتل إلى المعنى الحقيقي ثم ظاهر هذا أنه لا بد من الصيرورة إليه فلا يكتفى بمجرد توهمها وعليه اقتصر كثير وذكر بعضهم أنه يكتفى بتوهمها وإن لم يصر بالفعل كما أشار إليه بقوله "وكفى" في كونه مجاز الأول "توهمه"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معتوقاً كذا في النسخ معتوق بوزن مفعول وهو غير جائز كما في نص عليه أئمة اللغة لأن عتق الثلاثي لازم لا يبنى منه مفعول ويتعدى بالهمز فاسم المفعول منه معتق أفاده في المصباح. كتبه مصححه.
ج / 2 ص -8- أي الأول إليه "وإن لم يكن كعصرت خمرا فهريقت في الحال" وتعقبه المصنف بقوله "وكونه" أي الحقيقي الذي يئول إليه "له" أي للمعنى المجازي "بالقوة الاستعداد فيساوي" الاستعداد "الأول على التوهم" أي على الاكتفاء به إذ لا يلزم من مجرد الاستعداد للشيء حصوله. "وعلى اعتبار حقيقة الحصول لا" يساوي الاستعداد الأول بل يكون الاستعداد أعم من الأول "فهو" أي الاعتبار لتحقق الصيرورة إليه في الأول "أولى" ويجعل المكتفى فيه بالتوهم مجاز الاستعداد لأنه من العلاقات والأصل فيها عدم الاتحاد "ويصرف المثال" أي عصرت خمرا فهريقت في الحال "للاستعداد" لا للأول لوجود التوهم فيه دون تحقق الحصول فهما نوعان من العلاقات ثالثة ورابعة "والمجاورة" وهذه هي العلاقة الخامسة "ومنها" أي المجاورة "الجزئية للمنتفي عرفا بانتفائه" أي كون المسمى الحقيقي للاسم المطلق على غيره جزءا من ذلك الغير بحيث ينتفي ذلك الغير بانتفائه إما في نفس الأمر أو عرفا عاما إن كان التخاطب به أو خاصا إن كان التخاطب به فأبهمه المصنف ليتناول كليهما واقتصر عليه لأنه يعلم منه بطريق أولى صلاحية الجزئية للمنتفي في نفس الأمر بانتفائه للعلامة "كالرقبة" أي كإطلاقها على الذات كما في قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]. فإن الذات تنتفي بانتفاء الرقبة "لا الظفر" فإن الذات لا تنتفي بانتفائها فلا يصح إطلاقه عليها "بخلاف الكل في الجزء" أي إطلاق اسم الكل على الجزء فإنه لا يشترط فيه أن يكون الجزء بهذه المثابة قلت: وعلى هذا فلا يتم كون إطلاق اسم الكل على الجزء أقوى ; لأن الكل يستلزم الجزء من غير عكس كما ذكره البيضاوي "ومنه" أي إطلاق اسم الكل على الجزء "العام لفرده {الذين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}" بناء على أن المراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي كما ذكره ابن عبد البر عن طائفة من المفسرين وابن سعد في الطبقات وجزم به السهيلي قلت وقول الإسنوي وفيه نظر فإن العموم من باب الكلية لا من باب الكل والفرد منه من باب الجزئية لا من باب الجزء ا هـ. فيه نظر يعرف مما تقدم في أول مباحث العام "وقلبه" أي إطلاق فرد من العام على العام نحو "{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14]" فإن المراد كل نفس {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] أي رفقاء "والذهنية" أي ومن المجاورة المجاورة الجزئية الذهنية "كالمقيد على المطلق كالمشفر" بكسر الميم وهو شفة البعير "على الشفة مطلقا ولاجتماع الاعتبارين" وهما التشبيه وعدمه في اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد "صح" أن يكون إطلاق المشفر على شفة الإنسان "استعارة" إذا كان المراد تشبيهها بمشفر الإبل في الغلظ كما صح أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق المقيد على المطلق من غير قصد إلى التشبيه "وقلبه" أي إطلاق المطلق على المقيد. "والمراد أن يراد خصوص الشخص" كزيد "باسم المطلق" كرجل "وهو" أي والقول بأن هذا مجاز قول لبعض المتأخرين "مستحدث والغلط" فيه جاء "من ظن" أن يكون المراد بوقوع "الاستعمال فيما وضع له" وقوعه "في نفس المسمى" الكلي "لا أفراده" فيكون استعماله في فرد منها مرادا به خصوص عوارض
ج / 2 ص -9- الفرد المشخصة مع معناه الأعم استعمالا في غير ما وضع له فيكون مجازا وليس هذا الظن بمطابق للواقع إذ هذه الإرادة قلما تخطر عند الإطلاق "ويلزمهم أن أنا من متكلم خاص وهذا لمعين مجاز" لأن كلا منهما موضوع لمعنى كلي شامل لأفراده فاستعماله في جزئي منها استعمال في غير ما وضع له "وكثير" أي ومجازية كثير مما عدا هذين مما هو كلي وضعا جزئي استعمالا "والاتفاق على نفيه" أي نفي كون استعمال هذه في أفراد خاصة منها مجازا "فإنما هو" أي استعمال المطلق في فرد من أفراده "حقيقة كما ذكرنا أول البحث وكونهما" أي الحقيقي والمجازي "عرضين في محل كالحياة للعلم" فيسمى العلم حياة لهذه العلاقة. قلت: إلا أنه لو قال قائل: لو كانت العلاقة بينهما في صحة تسمية العلم حياة هذه لجاز العكس والظاهر عدمه لاحتاج إلى جواب "أو" كونهما عرضين "في محلين متشابهين" أي متقاربين "ككلام السلطان لكلام الوزير" وبالعكس "أو" كونهما "جسمين فيهما" أي في محلين متقاربين "كالراوية" وهي في الأصل اسم للبعير الذي يحمل المزادة "للمزادة" أي المزود الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر كذا في شرحي التلخيص وشرح المفتاح للتفتازاني والذي في شرحه للمحقق الشريف والمزادة ظرف الماء يستقي به على الدابة التي تسمى راوية قال أبو عبيد: لا تكون المزادة إلا من جلدين تفأم بجلد ثالث بينهما لتتسع وجمعها المزاد والمزايد وأما الظرف الذي يجعل فيه الزاد أي الطعام المتخذ للسفر فهو المزود وجمعه المزاود انتهى. والجملة من الصحاح وهو الصواب وعليه لا بالتزام ما قال أبو عبيد ما في منهاج البيضاوي كالراوية للقربة إذ هي ما يستقى فيه الماء كما في الصحاح "وكونهما" أي الحقيقي والمجازي "متلازمين ذهنا" بالمعنى الأعم "كالسبب للمسبب" نحو رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث "وقلبه" أي إطلاق اسم المسبب على السبب "وشرطه" أي شرط قلبه "عند الحنفية الاختصاص" أي اختصاص المسبب بالسبب "كإطلاق الموت على المرض" المهلك "والنبت على الغيث" قلت: ولقائل أن يقول: في هذين نظر فإن الموت ليس بمختص بالمرض لوقوعه بدونه كثيرا والنبت ليس بمختص بالغيث لوجوده بدون خصوص الغيث نعم هو مختص بالماء ولعله مطلقا هو المراد بالغيث من إطلاق المقيد على المطلق وإلا فالوجه والنبت على الماء "والملزوم على اللازم كنطقت الحال" مكان دلت فإن النطق ملزوم للدلالة وقلبه كشد الإزار لاعتزال النساء كما في قوله:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار
"أو" متلازمين "خارجا كالغائط على الفضلات" لأن الغائط وهو المكان المنخفض مما يقصد عادة لإزالتها "وهو" أي إطلاق الغائط عليها "المحل على الحال وقلبه" أي إطلاق الحال على المحل كقوله تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] أي الجنة التي تحل فيها الرحمة "وأدرج في" التجاور "الذهني أحد المتقابلين في الآخر" فإن بينهما مجاورة في الخيال ولا سيما بين الضدين حتى إن الذهن ينتقل من ملاحظة السواد مثلا إلى
ج / 2 ص -10- البياض "ومنع الإدراج المذكور بامتناع إطلاق الأب على الابن" مع أن بينهما تقابل التضايف ومجاورة من قبيل التلازم في الوجود ذهنا وخارجا "وإنما هو" أي إطلاق أحد المتقابلين على الآخر "من قبيل الاستعارة بتنزيل التضاد منزلة التناسب لتمليح" أي إتيان بما فيه ملاحة وظرافة "أو تهكم" أي سخرية واستهزاء "أو تفاؤل كالشجاع على الجبان" فإنه إن كان الغرض منه مجرد الملاحة لا السخرية فتمليح وإلا فتهكم فهو صالح لهما "والبصير على الأعمى". وهذا صالح للكل والفرق بينهما بحسب المقام "أو" متلازمين "لفظا" فيطلق اسم أحدهما بخصوصه على الآخر مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فأطلق السيئة على الجزاء مع أنه حسن لوقوعه في صحبتها وقد يقال: إنما سمي جزاؤها سيئة لأنه يسوء من ينزل به وحينئذ فهو ليس مثالا لما نحن فيه بل من مثله قوله:
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
أي خيطوا فذكرها بلفظ الطبخ لوقوعها في صحبة طبخ الطعام ونحوه "وما ذكر من الزيادة والنقصان من العلاقة" كما في منهاج البيضاوي "منتف" لما تقدم من أنه حقيقة "والمجاز في متعلقهما" بفتح اللام أي متعلق الزيادة والنقصان "مجاز" لانتفاء استعمال اللفظ في غير ما وضع له فيه والعلاقة المشابهة في التعدي من أمر أصلي إلى أمر غير أصلي "ويجمعها" أي العلاقات "قول فخر الإسلام اتصال" بينهما "صورة أو معنى" لأن كل موجود من الصور له صورة ومعنى لا ثالث لهما فلا يتصور الاتصال بوجه ثالث انتهى "زاد" فخر الإسلام "في الصوري" أي قال بعد قوله اتصال صورة "لا تدخله شبهة الاتحاد فاندفع" بهذا "لزوم إطلاق بعض الأعضاء على بعض" فإن اتصال بعضها ببعض يدخله شبهة الاتحاد باعتبار الصورة الاجتماعية لها حتى صح أن يقال على المجموع شخص واحد ونحوه "ولم يحققوا علاقة التغليب" حتى قال الشيخ سعد الدين التفتازاني: وأما بيان مجازية التغليب والعلاقة فيه وأنه من أي أنواعه فما لم أر أحدا حام حوله قال المصنف: "ولعلها في العمرين" أبي بكر وعمر رضي الله عنهما "المشابهة سيرة وخصوص المغلب للخفة" فإن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر "وهو" أي تغليب لفظ عمر على لفظ أبي بكر "عكس التشبيه" أصالة وهو إلحاق الشيء بما هو دونه في وجه الشبه فإن المشبه في الواقع عمر والمشبه به أبو بكر "وفي القمرين الإضاءة والخصوص" أي وتغليب خصوص لفظ القمر على لفظ الشمس وإن كان لفظ الشمس أخف "للتذكير" أي لتذكير القمر وتأنيث الشمس فإن المذكر أخف "معكوسا" أي عكس التشبيه أيضا فإن المشبه في الواقع القمر والمشبه به الشمس "وأما الخافقان فلا تغليب" فيه "على أنه للضدين وقد نقل" فقال ابن السكيت: الخافقان أفقا المشرق والمغرب لأن الليل والنهار يخفقان فيهما أي يضطربان وهو معنى ما قيل هما الهواءان المحيطان بجانبي الأرض جميعا. وقال الأصمعي: هما طرف السماء والأرض وأما من جعل الخافق حقيقة في المغرب من خفقت النجوم إذا غابت أو في المشرق لأنه تخفق منه الكواكب أي تلمع فقد غلب أحدهما على الآخر وأياما كان فيحتاج إلى علاقة فليتأمل فيها.
ج / 2 ص -11- "تنبيه يقال الحقيقة والمجاز على غير المفرد بالاشتراك العرفي فعلى الإسناد عند قوم" كصاحب التلخيص "وعلى الكلام على الأكثر" منهم الشيخ عبد القاهر والسكاكي "وهو" أي وصف الكلام بهما "أقرب" من وصف الإسناد بهما ويأتي وجهه قريبا وعليه قوله "فالحقيقة الجملة التي أسند فيها الفعل أو معناه" من المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والظرف "إلى ما" أي شيء "هو" أي الفعل أو معناه "له" أي لذلك الشيء كالفاعل فيما بني له والمفعول فيما بني له نحو ضرب زيد عمرا أو ضرب عمرو فإن الضاربية لزيد والمضروبية لعمرو بخلاف نهاره صائم فإن الصوم ليس للنهار فمعنى كونه له أن معناه قائم به ووصف له وحقه أن يسند إليه سواء كان مخلوقا لله تعالى أو لغيره وسواء صدر عنه باختياره كضرب أو لا كمات "عند المتكلم". وهو متعلق بله أي في اعتقاده بأن يفهم من ظاهر حاله أنه يعتقده بأن لا يكون هناك قرينة تدل على أنه لا يعتقد ما يفهم من ظاهر الكلام وحينئذ فكما يدخل في التعريف ما يطابق الاعتقاد طابق الواقع أو لا يدخل فيه أيضا ما لا يطابق الاعتقاد طابق الواقع أو لا كقولك جاء زيد معتقدا أنه لم يجئ إذا قصدت ترويجه بحسب الظاهر لغرض لك فيه فلا جرم أن اقتصر في المفتاح عليه وظهر أنه كما قال المصنف "ولا حاجة إلى في الظاهر" كما في التلخيص ليدخل فيه ما لا يطابق الاعتقاد لدخوله بدونه "لأن المعرف الحقيقة في نفسها ثم الحكم بوجودها" أي الحقيقة "بدليله" أي الوجود "غير ذلك" أي غير الحقيقة في نفسها نعم لا يدخل فيه ما ليس فيه المسند فعلا ولا في معناه نحو زيد إنسان مع أن ظاهر كلام عبد القاهر والسكاكي أنه حقيقة فيبطل عكسه ولا محيص إلا أن يلتزم أن مثله لا يسمى حقيقة كما لا يسمى مجازا أيضا كما ذهب إليه صاحب التلخيص. "والمجاز" الجملة التي أسند فيها الفعل أو معناه "إلى غيره" أي غير ما هو له عند المتكلم "لمشابهة الملابسة" بين الفعل أو معناه وبين غير ما هو له وعلى أنهما وصف الإسناد قوله "أو الإسناد كذلك" أي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم وإسناد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة "والأحسن فيهما مركب" نسب فيه أمر إلى ما هو له عند المتكلم أو إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة عند من يجعلهما وصفا للكلام "ونسبة" لأمر إلى ما هو له عند المتكلم أو إلى غير ما هو له عند المتكلم لمشابهة الملابسة عند من يجعلهما وصفا للنسبة "ليدخل" المركب "الإضافي إنبات الربيع" وشقاق بينهما ومكر الليل والنهار وغير ذلك لشمول النسبة النسبة التامة وغيرها بخلاف الإسناد بالمعنى المصطلح وهذه المركبات لا إسناد فيها بهذا المعنى. ثم إنما قال الأحسن لإمكان دفع إيراد خروج المركب الإضافي أو النسبة الإضافية بأن التعريف بالذات إنما هو للمركب الإسنادي وما سواه متفرع عليه أو بأن المراد بالإسناد مطلق النسبة هذا ولقائل أن يقول: كل من هذه التعاريف للمجاز غير مطرد لصدقه على ما يقوله المتكلم قاصدا به صدور الكذب عنه وإن جاز أن يكون ذلك صادقا مطابقا للواقع مع أنه ليس بمجاز لأنه ليس بمطابق لاعتقاده بل مخالف لما عنده إلا أنه بصدد ترويجه بما يمكنه فلا يرتكب فيه تأويلا أصلا
ج / 2 ص -12- فالوجه زيادة بضرب من التأويل كما ذكره السكاكي وغيره لئلا يصدق التعريف عليه "ويسميان" أي هذه الحقيقة وهذا المجاز "عقليين" لأن الحاكم بأنه ثابت في محله أو مجاوز عنه هو العقل لا الوضع. "ووجه الأقربية" أي كون قول الحقيقة والمجاز على الكلام أقرب من قولهما على الإسناد "استقرار أنه" أي الوصف بهما "للفظ والمركب" الكلي "موضوع للتركيبي" أي للمعنى التركيبي وضعا "نوعيا تدل أفراده" أي المركب الكلي من المركبات المعينة على معانيها التركيبية "بلا قرينة فهي" أي أفراده التي هي المركبات بإزاء معانيها المذكورة "حقائق" لاستعمالها فيها "فإذا استعمل" المركب "فيما" أي في المعني "بها" أي بالقرينة "فمجاز" أي فذلك المركب مجاز لاستعماله في معنى غير وضعي له بالقرينة فلا ينهض توجيه صاحب التلخيص اختيار كونهما وصفا للإسناد بأن الإسناد ينسب إلى العقل بلا واسطة والكلام ينسب إليه باعتبار أن الإسناد منسوب إلى العقل على توجيه اختيار كونهما وصفا للمركب "والأولان" أي الحقيقة والمجاز في المفرد "لغويين تعميما للغة في العرف" فيشملان العرفيين وإنما سميا بهما لأن صاحب وضع الحقيقة واضع اللغة واستعمالها في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها "وتوصف النسبة بهما" أي بالحقيقة والمجاز فيقال نسبة حقيقة ومجاز. "وتنسب" النسبة إليهما "لنسبتها" أي نسبة النسبة "إلى الحقيقة والمجاز" فيقال: نسبة حقيقية ونسبة مجازية "واستبعاده" أي المجاز العقلي "باتحاد جهة الإسناد" كما ذكره ابن الحاجب إذ ليس للإسناد جهتان جهة الحقيقة وجهة المجاز كالأسد والمجاز لا يتحقق إلا عند اختلاف الجهتين "بعيد إذ لا يمنع اتحاده" أي الإسناد "بحسب الوضع" اللغوي "انقسامه" أي الإسناد "عقلا إلى ما هو للمسند إليه" فيكون إليه حقيقة "وما ليس له" فيكون إليه مجازا وإنما ينافيه اتحاد جهته بحسب العقل وليس هذا كذلك فإن إسناد الفعل إلى ما هو متصف به محلا له في المبني للفاعل ومتعلقا له في المبني للمفعول ما يقتضيه العقل ويرتضيه وإلى غير ذلك مما يأباه إلا بتأويل "ثم". لا يمنع "وضع الاصطلاح" ذلك "والطرفان" أي المسند إليه والمسند والمضاف والمضاف إليه في المجاز العقلي "حقيقيان كأشاب الصغير البيت" أي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
يعني إذا علم أو ظن أن قائله قاله عن اعتقاد فإن كلا من الإشابة والإفناء والكر والمر مراد به حقيقته أما إذا علم أو ظن أنه قاله عن غير اعتقاد حمل على المجاز وإذا لم يعلم ولم يظن شيئا منهما تردد بين كونه مجازا صادقا وكونه حقيقة كاذبة وهو للصلتان العبدي.
"أو مجازان كأحياني اكتحالي بطلعتك". فإن المراد بالإحياء السرور وبالاكتحال الرؤية وكلاهما مجاز عنهما "أو أحدهما" وهو المسند إليه حقيقة والآخر وهو المسند مجاز نحو قول الجاهل أحيا الربيع الأرض فإن المراد بالربيع حقيقته وبإحيائه الأرض المعنى المجازي للإحياء وهو تهييج القوى النامية فيها وإحداث نضارتها بأنواع النبات إذ الإحياء
ج / 2 ص -13- حقيقة إعطاء الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية أو بالعكس نحو كسا البحر الفياض الكعبة فإن المراد بالبحر الفياض الشخص الجواد وهو مجازي له وبالكسوة المعنى الحقيقي المعروف. "وقد يرد" المجاز العقلي "إلى التجوز بالمسند فيما يصح نسبته" إلى المسند إليه "وإلى كون المسند إليه استعارة بالكناية كالسكاكي وليس" هذا القول "مغنيا" عن القول بكون الإسناد مجازيا "لأنها" أي الاستعارة بالكناية "إرادة المشبه به بلفظ المشبه بادعائه" أي المشبه "من أفراده" أي المشبه به فيدعي أن اسم المنية مثلا في مخالب المنية نشبت بفلان اسم للسبع مرادف له بارتكاب تأويل وهو أن المنية تدخل في جنس السباع لأجل المبالغة في التشبيه فالمراد بها السبع بادعاء السبعية لها كما صرح به السكاكي "فلم يخرج" الإسناد المذكور "عن كون الإسناد إلى غير من هو له" عند المتكلم فيكون مجازا عقليا. "وقد يعتبر" المجاز العقلي "في الهيئة التركيبية الدالة على التلبس الفاعلي ولا مجاز في المفردات" حينئذ وإنما المجاز العقلي في المركب من حيث أسند فيه الفعل إلى غير ما يقتضي العقل إسناده إليه تشبيها بالفاعل الحقيقي بأن شبه التلبس الغير الفاعلي بالتلبس الفاعلي فاستعمل فيه اللفظ الموضوع لإفادة التلبس الفاعلي "فهو" أي هذا المجاز "استعارة تمثيلية" وهي استعارة وصف إحدى صورتين منتزعتين من أمور لوصف الأخرى فمثلا إذا شبهت تردد المفتي في حكم بصورة تردد من قام ليذهب وقلت: أراك أيها المفتي تقدم رجلا وتؤخر أخرى لم يكن حينئذ في تقدم وتؤخر رجلا استعارة إذ لم يقع بهذا التجوز تصرف في هذه الألفاظ بل هي باقية على حقائقها التي كانت عليها قبل الاستعارة المتعلقة بمجموعها من حيث هو مجموع وإنما وقع التجوز في مجموع ذلك اللفظ المركب باعتبار انتزاع صورة منه وتشبيهها بصورة أخرى مثلها وادعاء دخول الأولى في جنس الأخرى روما للمبالغة في التشبيه فأطلق على الصورة المشبهة اللفظ المركب الدال على الصورة المشبه بها "ولم يقولوه" أي علماء البيان هذا "هنا وليس ببعيد" كما ذكره المحقق التفتازاني "فإنما هي" أي هذه الإرادات المجازية "اعتبارات" وتصرفات عقلية للمتكلم "قد يصح الكل في مادة وقد لا" يصح الكل فيها وإنما يصح في خصوصها بعضها "فلا حجر" فيها لأن المجاز يكفي فيه العلاقة المعتبر نوعها ولا يجبر الاستعمال والتركيب الواحد مما يمكن فيه اعتبار المناسبة من جهات متعددة فيمكن اعتبار التجوز فيه من كل جهة منها ومن ثمة اعتبر صاحب الكشاف المجاز في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] من أربعة أوجه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"لا خلاف أن" الأسماء "المستعملة لأهل الشرع من نحو الصلاة والزكاة" في غير معانيها اللغوية "حقائق شرعية يتبادر منها ما علم" لها من معانيها المذكورة "بلا قرينة" سواء كان ذلك لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي فيكون منقولا أو لا فيكون مبتدأ "بل" الخلاف "في أنها" أي الأسماء المستعملة لأهل الشرع في المعاني المذكورة حقيقة "عرفية للفقهاء" أي بسبب وضعهم إياها لتلك المعاني فهي في تخاطبهم تدل عليها بلا قرينة وأما الشارع فإنما
ج / 2 ص -14- استعملها فيها مجازا عن معانيها اللغوية بمعونة القرائن فلا تحمل عليها إلا بقرينة "أو" حقيقة شرعية "بوضع الشارع" حتى أنها في كلامه وكلامهم تدل عليها بلا قرينة "فالجمهور" الواقع "الثاني" أي أنها حقيقة شرعية "فعليه" أي الثاني "يحمل كلامه" أي الشارع. وكلام أهل الفقه والأصول ومن يخاطب باصطلاحهم أيضا إذا وقعت مجردة عن القرائن لأنه الظاهر منه ومنهم "والقاضي أبو بكر" الواقع "الأول" أي أنها حقيقة عرفية للمتشرعة لا للشارع "فعلى اللغوي" يحمل إذا وقعت في كلامه محتملة للغوي والشرعي "إلا بقرينة" توجب حمله على الشرعي لزعمه أنها مبقاة على حقائقها اللغوية على ما زعمه بعضهم وسيأتي ما يوافقه في الاستدلال كما ينبه المصنف عليه وأشار هنا إلى إنكاره بقوله "وفيه نظر لأن كونها" أي الصلاة مستعملة "للأفعال" المعلومة شرعا "في عهده صلى الله عليه وسلم لا يقبل التشكيك وأشهر" أي وإنه مجاز أشهر من الحقيقة في زمنه صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: إذ لا شك في اشتهاره في كلام الشارع في المعاني الخاصة قبل انقطاع الوحي فهي وإن كانت مجازات حين ابتداء استعمالها لكنها صارت فيها أشهر منها في المعاني اللغوية "وهم" أي القاضي والجمهور "يقدمونه" أي المجاز الأشهر من الحقيقة "على الحقيقة" فكيف يصح أن يحمل على اللغوي عند عدم القرينة إذا وقع في لفظه.
ثم قال المصنف: فإن قلت كيف يترتب الحمل على المعنى الحقيقي اللغوي على كونها مجازات في استعماله؟ قلت: لأنها إذا كانت مجازات لا يحكم بها إلا بقرينة فإذا لم يوجد معها في استعماله والفرض أن لا نقل لزم حملها على الحقيقة اللغوية وحكم بأن هذا مذهب القاضي لأنه لما قال: إنها ليست إلا حقائق في عرف أهل الشرع ومعلوم أنها مستعملة في كلام الشارع في المعاني الخاصة لزم كونها مجازا في استعماله فيها وأنكر كون قول القاضي إن الشارع استعملها في حقائقها اللغوية لاستبعاد أن يقول عالم إن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم: 31] معناه أقيموا الدعاء. ثم شرط فيه الأفعال التي هي الركوع والسجود فتكون خارجة عن الصلاة شرطا كالوضوء ولهذا لم ينقل هذا عنه في الأحكام والمحصول وحكم بعض المحققين بنفيه عنه وحينئذ فالاستدلال الآتي المتضمن كونها في المعاني اللغوية والزيادات شروط من التزام النافين عنه وأيضا "فما قيل" أي قول البيضاوي "الحق أنها مجازات" لغوية "اشتهرت يعني في لفظ الشارع" لا موضوعات مبتدأة ليس قولا آخر بل هو "مذهب القاضي" بعينه كما ذكره المحقق التفتازاني إذ لا شك في حصول الاشتهار بعد تجوز الشارع باللفظ "وقول فخر الإسلام" وفاقا لأخيه صدر الشريعة والقاضي أبي زيد وشمس الأئمة السرخسي "بأنها أي الصلاة اسم للدعاء سمى بها عبادة معلومة لما أنها" أي الصلاة "شرعت للذكر" أي لذكر الله تعالى بنعوت جلاله وصفات كماله قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. قيل: أي لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار الواردة في أركانها فالمصدر مضاف إلى المفعول وكل دعاء ذكر لأن الدعاء ذكر المدعو لطلب أمر منه فسميت العبادة المعلومة بها مجازا من إطلاق اسم الجزء على الكل "يريد مجازا لغويا هجرت
ج / 2 ص -15- حقائقها أي معانيها الحقيقية لغة فليس" قوله "مذهبا آخر" غير المذهبين المتقدمين "كالبديع" أي كما هو ظاهر كلام صاحب البديع بل هو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني كما صرح به بعض شارحي البزدوي بناء على أن كثرة استعمالها في هذه المعاني المجازية صيرتها كالحقائق لا أنها حقائق شرعية لها كما قاله الجمهور "لنا" على أنها حقيقة شرعية بوضع الشارع "القطع بفهم الصحابة قبل حدوث الاصطلاحات في زمنه صلى الله عليه وسلم" وهو ظرف لفهم الصحابة ومفعوله "ذلك" أي المعنى الشرعي لها "وهو" أي فهمهم ذلك "فرعه" أي فرع الوضع لها "نعم لا بد أولا من نصب قرينة النقل" دفعا لتبادر اللغوي "فمدار التوجيه على أنه إذا لزم تقدير قرينة غير اللغوي فهل الأولى تقديرها قرينة تعريف النقل أو المجاز. والأوجه الأول" أي تقدير قرينة غير اللغوي قرينة تعريف النقل كما هو قول الجمهور "إذ علم استمراره" أي الشارع "على قصده" أي الشرعي "من اللفظ أبدا إلا لدليل" فإن استمراره على ذلك أمارة نسخ إرادة الأول وهو معنى النقل "والاستدلال" للمختار كما في مختصر ابن الحاجب والبديع "بالقطع بأنها" أي الصلاة في الشرع موضوعة "للركعات وهو" أي والقطع بأنها لها في الشرع هو "الحقيقة" الشرعية "لا يفيد" إثبات المختار "لجواز" كونها مجازا فيها ثم "طروه" أي القطع بذلك "بالشهرة" أي بشهرتها فيها شرعا "أو بوضع أهل الشرع" إياها لها "قالوا" أي القاضي وموافقوه أولا "إذا أمكن عدم النقل تعين وأمكن" عدم النقل "باعتبارها" باقية "في اللغوية والزيادات" التي جاءت من قبل الشرع عليها "شروط اعتبار المعنى شرعا. وهذا" الدليل جار "على غير ما حررنا عنه" أي القاضي من أنها مجاز أشهر من الحقيقة اللغوية "مخترع باختراع أنه" أي القاضي "قائل بأنها" مستعملة "في حقائقها اللغوية" وتقدم النظر فيه قلت: لكن ذكر الأبهري أن للقاضي قولين: أحدهما ما حرره المصنف والآخر هذا وقال: قال الإمام وأما القاضي فاستمر على لجاج ظاهر فقال: الصلاة الدعاء والمسمى بها في الشرع هو الدعاء لكن إنما تعتبر عند وقوع أفعال وأحوال وطرد ذلك في الألفاظ التي فيها الكلام فإذا صح هذا عن القاضي فالعهدة عليه "وأجيب باستلزامه" أي هذا القول "عدم السقوط" للصلاة المفروضة عن المكلف "بلا دعاء لافتراضه" أي الدعاء "بالذات و" باستلزامه "السقوط" لها عن ذمته "بفعل الشرط" الذي هو الزيادة على اللغوي فقط "مطردا" أي دائما "في الأخرس المنفرد" لصحة صلاته مع انتفاء المشروط الذي هو اللغوي وكلاهما ممنوع إلا أن السبكي قال: ولك منع كون الأخرس ليس بداع إذ الدعاء هو الطلب القائم بالنفس وذلك يوجد من الأخرس وبأن الدعاء ليس ملازما للصلاة ا هـ وفيه تأمل "ثم لا يتأتى" هذا التوجيه "في بعضها" أي الأسماء الشرعية كالزكاة فإنها لغة النماء والزيادة وشرعا تمليك قدر مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص بنية مخصوصة "قالوا" أي القاضي وموافقوه ثانيا "لو نقلها" أي الشارع الأسماء عن معانيها اللغوية إلى غيرها "فهمها" أي المعاني المنقولة "لهم" أي للصحابة لأنهم مكلفون بما تضمنتها والفهم شرط التكليف "ولو وقع" التفهيم "نقل" إلينا لأننا مكلفون به أيضا "ولزم تواتره" أي النقل "عادة" لتوفر الدواعي عليه ولم يوجد وإلا لما وقع الخلاف في
ج / 2 ص -16- النقل "والجواب القطع بفهمهم" أي الصحابة المعاني الشرعية منها "كما ذكرنا" صدر الاستدلال "وفهمنا" أي والقطع بفهمنا تلك المعاني أيضا منها "وبعد حصول المقصود لا يلزم تعيين طريقه ولو التزمناه" أي تعيين طريقه "جاز" أن يكون التفهيم "بالترديد" أي بمعونة التكرار "بالقرائن" أي معها "كالأطفال" يتعلمون اللغات من غير تصريح لهم بوضع اللفظ للمعنى بل إذا ردد اللفظ وكرر يحفظونه ويفهمون معناه بالقرينة "أو" جاز أن يكون "أصله" أي التفهيم "بإخباره" أي الشارع "ثم استغنى عن إخبارهم" أي الصحابة "لمن يليهم أنه أخبرهم لحصول القصد" بدونه للشهرة الموجبة لتبادرها منها عند الإطلاق "قالوا" أي القاضي وموافقوه ثالثا "لو نقلت" الأسماء عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية "كانت" الأسماء المنقولة إليها "غير عربية لأنهم" أي العرب "لم يضعوها ويلزم أن لا يكون القرآن عربيا" لاشتماله عليها وما بعضه عربي دون بعض لا يكون كله عربيا واللازم باطل لقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] "أجيب" بالمنع والقول "بأنها عربية إذ وضع الشارع لها ينزلها مجازات لغوية ويكفي في العربية" أي في كون الألفاظ عربية "كون اللفظ منها" أي من الألفاظ العربية "والاستعمال على شرطها" أي الألفاظ العربية في الاستعمال وإن لم يضعوا عين ذلك اللفظ لذلك المعنى "ولو سلم" أنه لا يكفي ذلك في كونها عربية "لم يخل" كونها عربية "بعربيته" أي القرآن "إما لكون الضمير" في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] "له" أي للقرآن "وهو" أي القرآن "مما يصدق الاسم" أي اسمه "على بعضه" أي بعض مسماه "ككله كالعسل" فإنه كما يصدق العسل على القليل منه والكثير يصدق القرآن على جزء منه وعلى جميعه حتى لو حلف لا يقرأ القرآن فقرأ جزءا منه حنث لمشاركة الجزء الكل في الاتفاق في الحقيقة فيصح أن يطلق القرآن ويراد به بعضه ولا ريب في كونه عربيا "بخلاف المائة والرغيف" مما لا يشارك الجزء الكل في الحقيقة فإنه لا يصدق فيه الاسم على كل من الكل والجزء حقيقة فلا يطلق الاسم ويراد به الجزء حقيقة "أو" لكون الضمير "للسورة" باعتبار المنزل أو المذكور أو القرآن ولا يخفى أن مآل هذين في المعنى واحد لا فرق بينهما سوى أن على هذا الضمير لبعض معين هو السورة وعلى الأول الضمير لبعض غير معين أعم من أن يكون السورة أو غيرها وأن القرآن كما يطلق مرادا به المفهوم الكلي الصادق على كل فرد منه وعلى جميع أفراده فيأتي فيه ما ذكرنا يطلق ويراد به المجموع الشخصي فلا يتأتى فيه ذلك غير أنه لا يتعين إرادته في كلام إطلاق ليندفع به كل من التوجيهين المذكورين هذا وابن الحاجب إنما أجاب أولا بأن الضمير للسورة ثم تنزل إلى أنه ولو سلم أنه للقرآن فلا يخرج عن كونه عربيا بوقوع هذه الألفاظ فيه إذ يصح إطلاق اسم العربي على ما غالبه عربي مجازا كشعر فيه فارسي وعربي أكثر منه وإطلاق العربي على القرآن لا يستلزم كونه حقيقة فيه غايته كما قال بعض المحققين أن يقال الأصل في الإطلاق الحقيقة لكن المجاز قد يرتكب للدليل وهو موجود هنا وهو ما ذكرنا من الدليل على كونها حقائق شرعية.
"واعلم أن المعتزلة سموا قسما من" الحقائق "الشرعية" حقيقة "دينية وهو ما دل على
ج / 2 ص -17- الصفات المعتبرة في الدين وعدمه اتفاقا كالإيمان والكفر والمؤمن" والكافر "بخلاف الأفعال" أي ما هي من فروع الدين أو ما يتعلق بالجوارح فإن فيها خلافا "كالصلاة والمصلي ولا مشاحة ووجه المناسبة أن الإيمان" على قولهم "الدين لأنه" أي الدين اسم "لمجموع التصديق الخاص" القلبي بكل ما علم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من عند الله ضرورة "مع المأمورات والمنهيات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] بعد ذكر الأعمال" أي قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] فذلك إشارة إلى المذكور من العبادات المدلول عليها بقوله تعالى: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] على أنها للعموم لأن يعبدوا في تأويل المصدر المضاف إلى الضمير لكونه منصوبا بأن المصدرية المقدرة بعد لام كي والمصدر المضاف إلى المعرفة يفيد العموم فيكون يعبدوا في معنى عباداتهم وتذكير اسم الإشارة لاعتبار لفظ أن يعبدوا وعلى هذا يكون قوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] من عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام كما في قوله {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] وقد تعلق الأمر الذي هو للوجوب بها فيكون معنى قوله {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] جميع العبادات الواجبة دين الملة المستقيمة "والاتفاق على اعتبار التصديق في مسماه" أي الدين بخلاف الأفعال "فناسب تمييز الاسم الموضوع له" أي للتصديق الخاص "شرعا بالدينية وهذه" المناسبة "على رأيهم" أي المعتزلة "في اعتبار الأعمال جزء مفهومه" أي الإيمان "وعلى" رأي "الخوارج" المناسبة في هذه التسمية "أظهر" منها على رأي المعتزلة لجعل المعتزلة مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وجعل الخوارج مرتكبها كافرا "ولا يلزم من نفي ذلك" أي كون الأعمال جزء مفهوم الإيمان كما هو قول أصحابنا "نفيها" أي الحقيقة الدينية لأنه لا ينتفي ما يصلح مناسبة لوضع الاصطلاح "إذ يكفي أنها" أي الدينية "اسم لأصل الدين وأساسه أعني التصديق فظهر أن الكلام في ذلك" أي في إثبات نفي أنها منه "مع أنه" أي الكلام في ذلك "يخرج إلى فن آخر" أي علم الكلام "ولا يتوقف عليه" أي على ذلك "مطلوب أصولي بل اصطلاحي وفي غرض سهل وهو إثبات مناسبة تسمية اصطلاحية لا يفيد نفيها فعلى المحقق تركه" وفي هذا تعريض بابن الحاجب حيث تعرض له.
"تتمة كما يقدم الشرعي في لسانه". أي خطاب الشارع "على ما سلف" أي اللغوي "كذا العرفي في لسانهم" أي أهل العرف خاصا كان أو عاما يقدم على اللغوي أيضا لأنه الظاهر منهم "فلو حلف لا يأكل بيضا كان" البيض "ذا القشر" ففي المبسوط فهو على بيض الطير من الدجاج والإوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك فيه إلا أن ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شيء فإن بيض الدود لا يدخل فيه فيحمل على ما ينطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاج ونحوها "فيدخل النعام" أي بيضه بل كما قال في الكشف فهذا يدل على أنه يحنث بم سوى الدجاج والإوز كبيض النعام والحمام وسائر الطيور لكن قال صاحب المبسوط في أصوله يتناول يمينه بيض الدجاج والإوز خاصة لاستعمال ذلك عند الأكل عرفا ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك ووافقه
ج / 2 ص -18- فخر الإسلام وغيره وحيث كان الموجب للاختصاص اختصاص التعارف بذلك فيدور ذلك معه ولا شك أنه مما يختلف فلا ريب في اختلاف الجواب باختلافه "أو" لا يأكل "طبيخا فما طبخ من اللحم في الماء ومرقه" أي فيمينه عليهما للعرف فيحنث بكل منهما كما يحنث بهما ولا يحنث بما طبخ قلية يابسة من اللحم إلى غير ذلك نعم في الخلاصة يحنث بالأرز إذا طبخ بودك لأنه يسمى طبيخا إلا بما يطبخ بزيت أو سمن وإذا كان المدار تعارف تسميته طبيخا ففي عرفنا يسمى ما يطبخ بهما طبيخا ولا سيما في عرف القرويين فينبغي أن يحنث بأكله أيضا "أو" لا يأكل "رأسا فما يكبس" في التنانير في عرف الحالف ويباع فيه من الرءوس مشويا "بقرا وغنما" عند أبي حنيفة آخرا لأن كلا منهما لا غير كان المتعارف في زمنه آخرا وإبلا أيضا عنده أولا لأنه أيضا كان متعارفا لأهل الكوفة أولا ثم تركوه دونهما "ولو تعورف الغنم فقط تعين" كون الرأس رأسها كما هو محل قولهما إن يمينه على رءوس الغنم خاصة لمشاهدتهما اقتصار أهل بغداد وغيرهم عليها فالخلاف خلاف زمان لا برهان "أو" لا يأكل "شواء خص اللحم" فلا يحنث بالمشوي من البيض والباذنجان والجزر وغيرها لأن التعارف مختص به "وقول فخر الإسلام" في توجيه ترك الحقيقة بالعرف "لأن الكلام موضوع لاستعمال الناس وحاجتهم فيصير المجاز باستعمالهم كالحقيقة يحمل على ذلك المحمل" الماضي قريبا وهو أنه مجاز لغوي مهجور الحقيقة.
مسألة
"لا شك أن الموضوع قبل الاستعمال ليس حقيقة ولا مجازا لانتفاء جنسهما" وهو المستعمل "ولا" شك أيضا "في عدم استلزام الحقيقة مجازا" إذ غير ممتنع أن يستعمل اللفظ في معناه الوضعي ولا يستعمل في غيره "واختلف في قلبه" أي استلزام المجاز الحقيقة "والأصح نفيه" أي نفي قلبه "ويكفي فيه" أي في نفي استلزامه إياها "تجويز التجوز به" أي باللفظ لما يناسبه "بعد الوضع قبل الاستعمال" له في المعنى الموضوع له "لكنهم استدلوا بوقوعه" أي المجاز ولا حقيقة "بنحو شابت لمة الليل" إذا ظهرت فيه تباشير الصبح فإن هذا مجاز لا حقيقة له "ودفع" هذا الاستدلال دفعا إلزاميا "بأنه مشترك الإلزام" أي كما يمكن أن يلزم به الملزم يمكن أن يلزم به النافي "لاستلزامه" أي المجاز "وضعا" إذ الوضع للمجاز ثابت اتفاقا وقطعا وهذا الدليل ينفيه بأن يقال لو استلزم المجاز الوضع لوجب أن يكون هذا المركب موضوعا لمعنى متحقق "والاتفاق أن المركب لم يوضع شخصيا والكلام فيه" أي في الوضع الشخصي للمركب فلا يكون هذا الدليل صحيحا بجميع مقدماته "وأيضا إن اعتبر المجاز فيه" أي في شابت لمة الليل "في المفرد" أي في شابت حيث أريد بالشيب هنا حدوث بياض الصبح في آخر سواد الليل أو في لمة بأن أريد بها سواد آخر الليل وهو الغلس "منعنا عدم حقيقة شابت أو لمة" لاستعمالهما في المعنى الحقيقي لهما من بياض الشعر والشعر المجاوز لشحمة الأذن في غير هذا المركب "أو" اعتبر المجاز فيه "في نسبتهما" أي النسبة الإسنادية للشيب إلى
ج / 2 ص -19- اللمة والنسبة الإضافية للمة إلى الليل "فليس" المجاز فيهما "النزاع" لأنه مجاز عقلي والنزاع إنما هو في غيره "وأما منع الثاني" أي المجاز في النسبة "لاتحاد جهة الإسناد" كما قدمنا تقريره في تنبيه يقال الحقيقة والمجاز على غير المفرد "فغير واقع لما تقدم" هناك وأوضحناه فليراجع "وأيضا الرحمن لمن له رقة القلب ولم يطلق" إطلاقا "صحيحا إلا عليه تعالى" والله منزه عن الوصف بها "فلزم" كون إطلاقه على الله تعالى "مجازا بلا حقيقة" قال السبكي: وهذا بناء على أن أسماء الله صفات لا أعلام أما إن جعلناها أعلاما فالعلم لا حقيقة ولا مجاز ا هـ قلت وقد عرفت أن هذا إنما هو مذهب بعضهم كالرازي والآمدي وأن التحقيق خلافه وعليه فكون إطلاق الرحمن على الله مجازا وإن قلنا: إنه من الأعلام عليه تعالى كما هو الأوجه نظرا إلى أن معنى الرحمة في الأصل رقة القلب ظاهر "بخلاف قولهم" أي بني حنيفة في مسيلمة الكذاب "رحمن اليمامة" وقول شاعرهم:
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فإنه لم يطلق عليه إطلاقا صحيحا بل هو مردود ولمخالفته اللغة أوقعهم فيها لجاجهم في الكفر وأيضا كما قال المصنف "ولأنهم لم يريدوا به" أي بلفظ رحمن في إطلاقه على مسيلمة المعنى "الحقيقي من رقة القلب" بل أرادوا أن يثبتوا له ما يختص بالإله تعالى بعد أن أثبتوا له ما يختص بالأنبياء وهي النبوة وقال السبكي: جوابه عندي أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام وإنما استعملوه معرفا بالإضافة في رحمن اليمامة ومنكرا في لا زلت رحمانا ودعوانا إنما هي في المعرف بالألف واللام ا هـ وفيه نظر يظهر بالتأمل "قالوا" أي الملزمون "لو لم يستلزم" المجاز الحقيقة "انتفت فائدة الوضع" لأن فائدته إفادة المعاني المركبة فإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فتنتفي فائدته "وليس" هذا "بشيء" تقوم به الحجة "لأن التجوز" باللفظ "فائدة لا تستدعي غير الوضع" له لمعنى غير المتجوز فيه فلا يستدعي لزوم الاستعمال فيه فلا يستدعي الحقيقة والله سبحانه أعلم.
مسألة
"المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث خلافا للإسفراييني في الأول" أي في اللغة وحكى السبكي النفي لوقوعه مطلقا عنه وعن الفارسي والإسنوي عنه وعن جماعة "لأنه" أي المجاز "قد يفضي إلى الإخلال بغرض الوضع" وهو فهم المعنى المجازي المراد باللفظ "لخفاء القرينة" الدالة عليه فيقضي بالمعنى الحقيقي لتبادره وعدم ظهور غيره "وهو" أي خلافه في وقوعه "بعيد على بعض المميزين فضلا عنه" أي عن الأستاذ أبي إسحاق "لأن القطع به" أي بوقوعه "أثبت من أن يورد له مثال" لكثرته في اللغة والكتاب والسنة "ويلزمه" أي هذا الدليل "نفي الإجمال مطلقا" لأنه من حيث هو مخل بفهم عين المراد منه وهو أيضا باطل فلا جرم أن قال السبكي: الأستاذ لا ينكر استعمال الأسد للشجاع وأمثاله بل يشترط في ذلك
ج / 2 ص -20- القرينة ويسميه حينئذ حقيقة وينكر تسميته مجازا وانظر كيف علل باختلال الفهم ومع القرينة لا اختلال فالخلاف لفظي كما صرح به إلكيا "وللظاهرية في الثاني" أي القرآن وكذا في الثالث وهو الحديث إلا أنهم غير مطبقين على إنكار وقوعه فيهما وإنما ذهب إليه أبو بكر بن داود الأصفهاني الظاهري في طائفة منهم وابن القاص من قدماء الشافعية على أن المصرح بإنكاره في كتاب ابن داود وإنما هو مجاز الاستعارة وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز استعمال مجاز إلا أن يكون ورد في كتاب وسنة "لأنه" أي المجاز "كذب لصدق نقيضه" أي المجاز فإنه ينفي فيصح إذ يصح أن يقال في الرجل البليد حمار ليس الرجل البليد حمارا وكل ما يصح نفيه فهو كذب فالمجاز كذب "فيصدقان" أي النقيضان من الصدق والكذب والكذب محال في حق الله تعالى ثم في حق رسوله وصدق النقيضين باطل مطلقا قطعا "قلنا جهة الصدق مختلفة" فمتعلق الإثبات المعنى المجازي ومتعلق النفي المعنى الحقيقي فلا كذب ولا صدق للنقيضين إنما ذلك لو اتحد متعلقهما "وتحقيق صدق المجاز صدق التشبيه ونحوه من العلاقة" للمجاز بحسب مواقعه وتنوع علاقته فصدق المجاز الذي هو زيد أسد بصدق كونه شبيها به في الشجاعة وعلى هذا القياس "وحينئذ" أي وحين كان الأمر على هذا "هو" أي المجاز "أبلغ" من الحقيقة على ما في هذا الإطلاق من بحث يأتي في مسألة إذا لزم مشتركا إلخ "وقولهم" أي الظاهرية "يلزم" على تقدير وقوع المجاز في كلام الله تعالى "وصفه تعالى بالمتجوز" لأن من قام به فعل اشتق له منه اسم فاعل واللازم باطل لامتناع إطلاقه عليه تعالى اتفاقا فالملزوم مثله "قلنا إن" لزم وصفه به "لغة منعناه بطلان اللازم" لأنه لا مانع منه لغة "أو" لزم وصفه به "شرعا منعنا الملازمة" لأن ذلك إذا لم يمنع منه مانع وهنا مانع منه لأن المتجوز يوهم أنه يتسمح ويتوسع فيما لا ينبغي من الأفعال والأقوال وما يوهم نقصا لا يجوز إطلاقه على الله تعالى اتفاقا ولنا {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] فإن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كزيد كرم بمعنى ذو كرم أو على تجوز بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورها بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار وبالملائكة والأنبياء أو مدبرها من قولهم للريس الفائق في التدبير: نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور أو موجدها فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم والله سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه إلى غير ذلك ومكروا "{وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]" لأن المكر في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة فلا يسند إلى الله تعالى وإنما أسند هنا إليه على سبيل المقابلة والازدواج "{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]" لأن الاستهزاء السخرية والاستخفاف وهو لا ينسب إليه تعالى وإنما أسند إليه هنا مشاكلة أو استعارة لما ينزله بهم من الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء أو الغرض منه إلى غير ذلك مما يعرف في موضعه {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] بمثل ما اعتد عليكم وجزائ سيئة "جزاء سيئة {سَيِّئَةٌ
ج / 2 ص -21- مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ومعلوم أن ليس جزاء الاعتداء اعتداء إذ ليس فيه تعد عن حكم الشرع بل هو عدل وحق ولا جزاء السيئة سيئة لأنه لم ينه عنه شرعا والسيئة ما نهي عنه شرعا بل هو حسن فهما من إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر بجامع المجاورة في التخيل أو من المشاكلة "وكثير" إلى أن بلغ في الكثرة حدا يفيد الجزم بوجوده ولا يفيد المانعين تجشم دفع ذلك في صور معدودة منها المثل المتقدمة فإنه قد قيل لا تجوز في شيء منها فالنور معناه الظاهر في نفسه المظهر لغيره لا العرض الذي شأنه هذا فيكون إطلاقه على الله حقيقة وقال الإمام الرازي: المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه والاستهزاء إظهار الإكرام وإخفاء الإهانة فيجوز صدورهما من الله حقيقة لحكمة وقوله {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] لا يدل على أن كل استهزاء حقيقة الجهل والاعتداء إيقاع الفعل المؤلم أو هتك حرمة الشيء وحينئذ فمعنى الآية كما هتكوا حرمة شيء أي حرمة كانت من الحرم أو الشهر الحرام أو النفس أو المال أو العرض فاهتكوا حرمة له كذلك كما يدل عليه سياق الآية {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] والسيئة ما يسوء من ينزل به "وأما {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فقيل": القرية فيه "حقيقة" وأمر بنو يعقوب عليهم السلام أباهم أن يسألها "فتجيبه" بناء على أن الله تعالى قادر على إنطاقها لا سيما والزمان زمان النبوة وخرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال نبي وضعف بأن هذا وإن كان ممكنا إنما يقع لنبي عند التحدي وإظهار المعجزات ولم يكن ذلك كما هو ظاهر السياق "وقدمناه" أي لفظ القرية "حقيقة مع حذف الأهل" ويشهد له تخصيصهم القرية بالتي كنا فيها وهي مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها فإنه يدل على أن المراد أهلها من الأحياء المدركين لما جرى بينهم وبين يوسف لا نفس القرية لأن جميع الجمادات متساوية في عدم الإدراك وفي أنها لو أجابت لكان جوابها دالا على صدقهم وهذا أيضا مما يدل على ضعف ما قبله "و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ليس من محل النزاع" وهو مجاز العلاقة لأن هذا من مجاز الزيادة "ألا يرى إلى تعليلهم" أي الظاهرية بأنه كذب وهو لا يصدق على مجاز الزيادة فالاستدلال به في غير محل النزاع "وقد أجيب" أيضا من قبلهم بغير هذا فأجيب "تارة بأنه" أي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لنفي الشبيه "حقيقة" فالكاف فيه مستعملة في مفهومها الوضعي وهو الشبيه "والمثل يقال لنفسه" أي لنفس الشيء وذاته فيقال "لا ينبغي لمثلك" كذا أي لك {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي بنفس ما آمنتم به وهو القرآن أو دين الإسلام كما هو أحد الأقوال في الآية فالمعنى ليس كذاته شيء "وتمامه" أي هذا الجواب "باشتراك مثل" بين النفس والشبيه إذ لا ريب في إطلاق مثل على المماثل وهو غير نفسه فإن كان في الآخر حقيقة ثبت الاشتراك "وإلا" أي وإن لم يكن في الآخر حقيقة بل كان مجازا "ثبت نقيض مطلوبهم" أي الظاهرية وهو وجود المجاز في القرآن "وهو" أي الاشتراك "ممنوع" لأن الأصل عدمه والمجاز أولى منه "وتارة" بأن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] "حقيقة" في نفي التشبيه على أن الكاف بمعنى مثل وكل منها ومنه غير زائد ثم هو "إما لنفي مثل مثله" أي
ج / 2 ص -22- الله تعالى "ويلزمه" أي نفي مثل مثله تعالى "نفي مثله وإلا" لو لم يلزمه نفي مثله "تناقض لأنه" تعالى "مثل مثله" فلا يصح نفي مثل المثل لكنه صحيح فنفي مثله صحيح وإيضاحه أن الظاهر المتبادر من هذه العبارة ثبوت المثل فإنك إذا قلت: ليس شيء مثل مثل زيد تبادر منه إلى الفهم أن لزيد مثلا وقد نفيت عنه أنه يماثله شيء ولا شك أنه إذا ثبت له تعالى مثل كان هو مثلا لمثله فيندرج تحت النفي الوارد عليه فيلزم نفيه تعالى مع إثبات مثله والمراد نفي المثل مع ثبوت ذاته وهما متناقضان ثم الحاصل أن ثبوت مثله تعالى مستلزم لثبوت مثل مثله فنفي اللازم وجعل دليلا على نفي الملزوم "وللزوم التناقض" على تقدير أن لا يلزمه نفي مثله "انتفى ظهوره" أي نفي مثل مثله "في إثبات مثله وبه" أي بلزوم التناقض "يندفع دفعه" أي هذا الجواب ودافعه ابن الحاجب "باقتضائه" أي هذا الجواب "إثبات المثل في مقام نفيه" أي المثل "وظهوره" أي المثل "فيه" أي في إثبات مثله "وجعل هذا" الدفع الذي لابن الحاجب "مرتبا على الجواب الأول سهوا" قال المصنف: وقع في حواشي الشيخ سعد الدين الاقتصار على نقل الجواب الأول للظاهرية وهو أن الكاف بمعنى الذات ثم رتب عليه اعتراض ابن الحاجب المذكور فأشار المصنف إلى أن هذا سهو ا هـ قلت: لأن كون المعنى ليس كذاته شيء لا يقتضي إثبات المثل في مقام نفيه غير أن قول المصنف وهو أن الكاف بمعنى الذات سهو والصواب وهو أن المثل بمعنى الذات فسبحان من لا يسهو "وإما لنفي شبه المثل فينتفي المثل بأولى كمثلك لا يبخل ولا شك أن اقتضاء شبه صفته انتفاء البخل أولى منه" أي من اقتضاء شبه صفته انتفاء البخل "اقتضاء صفته" انتفاء البخل لأن المشبه به في ذلك أقوى فيكون المعنى من كان على صفة المثل وشبهه فهو منفي فكيف المثل حقيقة فيفيد الكلام نفي التشبيه والتشريك من غير تناقض إلا أن المصنف تعقب هذا بقوله "لكن ليس منه ما نحن فيه من نفي مثل المثل" لينتفي المثل "وإلا لم يصح نفي مثل مثل لثابت له مثل واحد لكنه صحيح فإذا قيل ليس مثل مثل زيد أحدا اقتضى" هذا القول "ثبوت مثل لزيد وصرف" هذا القول أيضا "لزوم التناقض" اللازم من لزوم نفي مثله لنفي مثل مثله "إلى نفي مثل" آخر "غير زيد" وحينئذ لا تناقض لأنه كما قال "فلم يتحد محل النفي والإثبات وهو" أي هذا الصرف "أظهر من صرفه" أي هذا القول التناقض "السابق عن ظهوره" أي المثل "في إثبات المثل" إلى نفي ذاته وإثباته "لأسبقية هذا" إلى الفهم "من التركيب فالوجه" في دفع أنه لنفي مثل مثله اللازم منه نفي مثله "ذلك الدفع" أي دفع ابن الحاجب وقد يقرر لزوم نفي المثل من نفي مثل المثل في الآية الكريمة بأن مثل المثل إنما هو ذاته تعالى مع وصف أنه مثل المثل لأن مثله تعالى لا يكون له مثل إلا ذاته تعالى وحينئذ يلزم من نفي مثل مثله نفي مثله بطريق برهاني وهو أن نفي مثل مثله إما بانتفاء ذاته أو بانتفاء الوصف والأول ممتنع لذاته متقرر في العقول قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فتعين أن يكون بانتفاء الوصف وانتفاء الوصف إنما يتصور عند انتفاء المثل في العقل والخارج لأنه لو تحقق مثله عقلا أو خارجا لزم أن يثبت وصف أنه مثل مثله ثم غير خاف أن المراد بالمثل
ج / 2 ص -23- هنا المثل المتوهم وليس لمتوهمه أن يعتقد أنه مطابق للواقع لأنه شرك بل الله بخلافه لا مثله وقد يقال مثل في الآية بمعنى الصفة العجيبة الشأن التي لا عهد بمثلها والمعنى ليس كصفته العجيبة الشأن شيء وإنه لصدق فهي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهو حسن لا كلفة فيه والله سبحانه أعلم.
مسألة
"اختلف في كون المجاز نقليا فقيل في آحاده وقيل في نوع العلاقة وهو الأظهر" فحاصل المذاهب لا يشترط نقل الآحاد ولا نقل نوع العلاقة يشترط نقل الآحاد يشترط نقل نوع العلاقة فقط والمذهب الأول يفهم من قوله اختلف في كون إلخ فإنه يفيد أن قائلا قال: ليس نقليا وآخر قال: نقل ثم اختلفوا فقيل: نقل الآحاد وقيل: بل نقل نوع العلاقة كالسببية والمسببية كذا ذكر المصنف "فالشارط" للنقل في نوع العلاقة يقول معناه "أن يقول" الواضع "ما بينه وبين آخر اتصال كذا إلخ" أي أجزت أن يستعمل فيه من غير احتياج إلى نقل آحاده فإذا علمنا أنهم أطلقوا اسم اللازم على الملزوم ويكفينا هذا في إطلاق كل لازم على ملزومه ولا يتوقف على سماعه منهم في عين كل صورة من جزئياته والشارط للنقل في الآحاد يشترط سماعه منهم في عين كل صورة "والمطلق" للجواز من غير اشتراط نقل في الآحاد ولا في النوع يقول "الشرط" في صحة التجوز أن يكون "بعد وضع التجوز اتصال" بين المتجوز به والمتجوز عنه "في ظاهر" من الأوصاف المختصة بالمتجوز عنه فحيث وجد لم يتوقف على غيره "وعلى النقل" أي القول باشتراطه آحادا أو نوعا "لا بد من العلم بوضع نوعها" وإلا كان استعمال اللفظ في ذلك المعنى وضعا جديدا أو غير معتد به "واستدل" للمطلق أنه "على التقديرين" أي تقدير شرط نقل الآحاد وتقدير شرط نقل الأنواع "لو شرط" أحدهما "توقف أهل العربية" في إحداث آحاد المجازات على التقدير الأول وأنواعها على التقدير الثاني "ولا يتوقفون أي في الآحاد وإحداث أنواعها" أي العلاقة بل يعدون ذلك من كمال البلاغة ومن ثمة لم يدونوا المجازات تدوينهم الحقائق "وهو" أي هذا الدليل "منتهض في الأول" أي في عدم اشتراط النقل في الآحاد "ممنوع التالي" والوجه فيما يظهر أن يقال ممنوع استثناء نقيض التالي وهو عدم التوقف "في الثاني" أي عدم اشتراط النقل في الأنواع "وعلى الآحاد" أي واستدل على عدم اشتراط النقل في الآحاد "لو شرط" النقل فيها "لم يلزم البحث عن العلاقة" لأن النقل بدونها مستقل بتصحيحه حينئذ فلا معنى للنظر فيها لكنه لازم بإطباق أهل العربية فلا يشترط النقل في الآحاد "ودفع إن أريد نفي التالي" وهو لزوم البحث عن العلاقة "في غير الواضع منعناه" أي نفي التالي "بل يكفيه" أي غير الواضع "نقله" الآحاد "وبحثه" عن العلاقة "للكمال" وهو الاطلاع على الحكمة الباعثة على ترك الحقيقة إلى المجاز وتعرف جهة حسنه "أو" أريد نفي التالي "فيه" أي في الواضع "منعنا الملازمة" فإن الواضع محتاج إلى معرفة المناسبة بين المعنى الحقيقي والمجازي المسوغة للتجوز عنه إليه وأيضا كما قال المصنف "وغير النزاع" لأن النزاع في غير الواضع لا في الواضع "قالوا" أي الشارطون
ج / 2 ص -24- للنقل في الآحاد: "لو لم يشترط" النقل فيها "جاز نخلة لطويل غير إنسان" للمشابهة في الطول كما جازت للإنسان الطويل "وشبكة للصيد" للمجاورة بينهما "وابن لأبيه" إطلاقا للمسبب على السبب "وقلبه" أي أب لابنه إطلاقا للسبب على المسبب "وهذا" الدليل "للأول" أي القائل بأن الخلاف في نقل الآحاد "والجواب وجوب تقدير المانع" في هذه الصور وما جرى مجراها "للقطع بأنهم لا يتوقفون" عن استعمال مجازات لم يسمع أعيانها بعد أن كانت من مظاهر العلاقة المعتبرة نوعا وتخلف الصحة عن المقتضى في بعض الصور لمانع مخصوص بها لا يقدح في الاقتضاء لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضى وبهذا التقدير يتم مقصودنا ولا يلزمنا تعيين المانع ثم الحاصل أن عدم استعماله مع العلاقة حكم بوجود مانع هناك إجمالا ما لم يعلم فيه ذلك فإن علم أو ظن وجود مانع فيه لم يستعمل وإلا جاز استعماله لأن الأصل عدم المانع على أن صدر الشريعة ذهب إلى أنه إنما لم يجز نخلة لطويل غير إنسان لانتفاء المشابهة فيما له مزيد اختصاص بالنخلة بناء على أن جوازها لإنسان طويل ليس لمجرد الطول بل مع فروع وأغصان في أعاليها وطراوة وتمايل فيها.
"المعرفات" للمجاز
"يعرف المجاز بتصريحهم" أي أهل اللغة "باسمه" كهذا اللفظ مجاز في كذا "أو حده" كهذا اللفظ مستعمل في غير وضع أول على وجه يصح "أو بعض لوازمه" كاستعماله في كذا يتوقف على علاقة "وبصحة نفي ما" أي معنى "لم يعرف" معنى حقيقيا "له" أي اللفظ "في الواقع" كقولك للبليد ليس بحمار وإنما قال في الواقع لصحة سلب الإنسان لغة وعرفا عن الفاقد بعض صفات الإنسانية المعتد بها كالبليد وغيره بناء على اعتبارات خطابية "قيل" أي قال ابن الحاجب: "وعكسه" وهو عدم صحة نفي ما لم يعرف حقيقيا له في الواقع "دليل الحقيقة" ولذا لا يصح أن يقال للبليد ليس بإنسان "واعترض" أي قال المحقق التفتازاني ويشكل هذا "بالمستعمل" أي بالمجاز "في الجزء واللازم" المحمول "من قولنا عند نفي خواص الإنسانية" عن زيد "ما زيد بإنسان أي كاتب أو ناطق لا يصح النفي ولا حقيقة" قال المصنف "والحق الصحة" أي صحة النفي "فيهما" أي في الجزء واللازم فيكون مجازا "قيل" أي قال القاضي عضد الدين: "وأن يعرف له معنيان حقيقي ومجازي ويتردد في المراد" منهما في مورد "فصحة نفي الحقيقي" عن المورد "دليله" أي كون اللفظ مجازا في ذلك قال المصنف: "وليس بشيء لأن الحكم بالصحة" أي بصحة نفي الحقيقي عنه "يحيل الصورة لأنه" أي الحكم بالصحة "فرع عدم التردد وإن أريد" أن صحة نفي الحقيقي بالأخرة دليله "لظهور القرينة" المفيدة للمجازية "بالآخرة فقصور إذ حاصله إذا دلت القرينة على أن اللفظ مجاز فهو مجاز ومعلوم وجوب العمل بالدليل وبأن يتبادر غيره" أي ويعرف المجاز بتبادر غير المعنى المستعمل فيه إلى الفهم "لولا القرينة" فيكون في المعنى المستعمل فيه مجازا "وقلبه" وهو أن لا يتبادر غير المستعمل فيه لولا القرينة الدالة على أن المراد غيره على ما ذكره القاضي عضد الدين وهو أعم من أن يتبادر هو أولا "علامة الحقيقة" يعني فهذه مطردة منعكسة إذ تبادر
ج / 2 ص -25- الغير علامة المجاز وعدمه علامة الحقيقة "وإيراد المشترك" على علامة الحقيقة "إذ لا يتبادر المعين وهو" أي المشترك "حقيقة فيه" أي في المعين "مبني على انعكاس العلامة وهو" أي انعكاسها "منتف" لأن شرطها الاطراد لا الانعكاس "وإصلاحه" أي إيراد المشترك "تبادر غيره" أي غير المعين "وهو المبهم إلا بقرينة" تعين المعين "ودفعه" أي الإيراد بعد الإصلاح "بأن في معنى التبادر" أي مأخوذ في معناه من قولنا أن لا يتبادر غيره "أنه" أي الغير "مراد وهو" أي تبادر الغير على أنه مراد "منتف بالمبهم واندفع ما إذا قرر" الإيراد على علامة الحقيقة "بما إذا استعمل" المشترك "في مجازي فإنه لا يتبادر غيره" أي غير المجازي المستعمل فيه لتردد بين معانيه "فبقيت علامة الحقيقة في المجاز" وهو باطل اندفاعا بينا "بأن علامة الحقيقة تبادر المعنى لولا القرينة وهو" أي تبادره لولا القرينة هو "المراد بعدم تبادر غيره" لولا القرينة كما سلف "فلا ورود لهذا إذ ليس يتبادر المجازي" من لفظ المشترك حتى يكون حقيقة "ثم هو" أي هذا التقرير "يناقص مناضلة المقرر" أي القاضي عضد الدين "فيما سلف" أي في مسألة عموم المشترك "على أن المشترك ظاهر في كل معين ضربة عند عدم قرينة معين وبعدم اطراده" أي ويعرف المجاز بعدم اطراد اللفظ في مدلوله من غير مانع لغوي أو شرعي عن الاطراد "بأن استعمل" اللفظ في محل "باعتبار وامتنع" استعماله "في آخر معه" أي مع ذلك الاعتبار "كاسأل القرية دون البساط" فإن لفظ اسأل استعمل في محل هو نسبة السؤال إلى القرية بسبب تعلق السؤال بأهلها ولم يستعمل في محل آخر هو نسبة السؤال إلى البساط وإن وجد فيه تعلق السؤال بالأهل وعلى هذا فليس هذا مما الكلام فيه كما ينبه المصنف عليه ولا يقال: لعل المراد أن القرية أطلقت على أهلها بعلاقة الحلول وقد وجدت في البساط ولم يطلق على أهله لأنا نقول: لو كان المراد هذا لم يكن من مثل عدم الاطراد لأنه لم يستعمل ذلك اللفظ في محل آخر مع وجود ذلك المعنى فيه بل إنما لم يستعمل نظيره في محل آخر مع وجود ذلك المعنى "ولا تنعكس" هذه العلامة أي ليس الاطراد دليل الحقيقة فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع "وأورد" على هذا "السخي والفاضل امتنعا فيه تعالى مع المناط" أي وجود مناط إطلاقهما وهو الجود والعلم في حقه تعالى "والقارورة في الدن" أي لا يسمى قارورة مع وجود المناط لتسميتها بها فيه وهو كونه مقرا للمائع "وأجيب بأن عدمه" أي التجوز في هذه "لغة عرف تقييدها بكونه" أي الجود "ممن شأنه أن يبخل و" العلم ممن شأنه أن "يجهل وبالزجاجية" أي وبكون ما هو مقر للمائع من الزجاج فانتفى مناط التجوز المذكور فيها لشمول جوده تعالى وكمال علمه سبحانه وعدم الزجاجية في الدن "ويجيء مثله" أي هذا الجواب "في الكل" أي في كل ما استعمل باعتبار وامتنع في آخر معه "إذ لا بد من خصوصية" لذلك المحل المستعمل ذلك فيه "فتجعل" الخصوصية "جزءا" من المقتضي فيكون الانتفاء فيما تخلف فيه لانتفاء المقتضي "وبجمعه على خلاف ما عرف لمسماه" أي إذا كان للاسم جمع باعتبار معناه الحقيقي وقد استعمل بمعنى آخر ولم يعلم أنه حقيقة فيه أو مجاز غير أن جمعه بذلك المعنى مخالف لجمعه باعتبار المعنى الحقيقي كان اختلاف جمعه باعتبارهما
ج / 2 ص -26- دليلا على أنه مجاز في ذلك الذي لم يعلم حقيقيته ومجازيته كلفظ الأمر فإن جمعه باعتبار معناه الحقيقي وهو القول الدال على طلب الفعل استعلاء على أوامر وقد استعمل بمعنى الفعل ووقع التردد في كونه حقيقة فيه فوجد أنه يجمع بهذا المعنى على أمور دون أوامر فدل على أنه مجاز فيه "دفعا للاشتراك" اللفظي لأنه خير منه "وهذا في التحقيق يفيد أن لا أثر لاختلاف الجمع" يعني أن المؤثر في الحكم بالمجازية دفع الاشتراك وهو لا ينفي كون اختلاف الجمع معرفا "ولا تنعكس" هذه العلامة إذ ليس كل مجاز يخالف جمعه جمع الحقيقة فإن الأسد بمعنى الشجاع والحمار بمعنى البليد يجمعان على أسد وحمر كما يجمعان عليهما بالمعنى الحقيقي ولا حاجة إلى قوله "كالتي قبلها" لتصريحه به ثمة "وبالتزام تقييده" أي ويعرف المجاز بهذا بأن يستعمل اللفظ في معنى مطلقا ثم يستعمل في آخر مقيدا لزوما بشيء من لوازمه كجناح الذل ونار الحرب ونور الإيمان فإن جناحا ونارا ونورا مستعملة في معانيها المشهورة بلا قيد وفي هذه بهذه القيود فكان لزوم تقييدها بها دليلا على كونها مجازات في هذه وحقائق في المعاني المشهورة وإنما كان الأمر هكذا لأنه ألف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظا في مسماه أطلقوه إطلاقا وإذا استعملوه بإزاء غيره قرنوا به قرينة لأن الغرض من وضع اللفظ للمعنى أن يكتفي به في الدلالة عليه والأصل أن يكون ذلك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال فإذا وجدناهم لا يستعملون اللفظ في معنى إلا مقيدا بقيد هو قرينة دالة عليه علمنا أنه مجاز فيه ولا عكس إذ قد يستعمل المجاز غير مقيد اعتمادا على القرائن الحالية أو المقالية غير التقييد وإنما اعتبر اللزوم فيه احترازا عن المشترك إذ ربما يقيد كرأيت عينا جارية لكن لا يلزم فيه ذلك "وبتوقف إطلاقه" أي ويعرف المجاز بتوقف إطلاق اللفظ مرادا به ذلك "على" ذكر "متعلقه" حال كون ذلك اللفظ "مقابلا للحقيقة" أي للفظ مرادا به المعنى الحقيقي أي بهذا الشرط لأن الأحوال شروط فيكون اللفظ حقيقة فيما لم يتوقف مجازا فيما توقف ففي العبارة تعقيد نحو قوله تعالى "{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]" فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الحق يتوقف على استعماله في المعنى المتصور من الخلق فيكون بالنسبة إلى الحق مجازا وإلى الخلق حقيقة وهذا بناء "على أنه" أي المجاز "مكر المفرد وإلا" إن كان المجاز في النسبة "فليس" هو "المقصود كالتمثيل لعدم الاطراد باسأل القرية" فإن المجاز فيه في النسبة لا في المفرد الذي هو مجرد السؤال وأنه لو كان في القرية لا يكون من أمثلة عدم الاطراد وإنما قلنا: المجاز في النسبة غير مقصود بالتمثيل هنا "فإن الكلام في" المجاز "اللغوي لا العقلي" والمجاز في النسبة عقلي والله سبحانه أعلم.
مسألة
"إذا لزم" كون اللفظ "مشتركا" بين معنيين "وإلا" لو لم يكن مشتركا بينهما لكان "مجازا" في أحدهما للعلم بأنه وضع لمعنى ثم استعمل في آخر ولم يعلم أنه موضوع له حتى دار بين لزوم كونه حقيقة فيه أيضا فيكون مشتركا أو غير موضوع له فيكون مجازا "لزم المجاز" أي
ج / 2 ص -27- كونه مجازا فيما لم يوضع له "لأنه" أي كونه مجازا فيه "لا يخل بالحكم" بما هو المراد منه "إذ هو" أي الحكم "عند عدمها" أي القرينة الدالة على أن المراد المجازي "بالحقيقي ومعها" أي القرينة الدالة على أن المراد المجازي "بالمجازي أما المشترك فلا" يحكم بأن المراد به معنى معين من معنييه "إلا معها" أي القرينة المعينة له قال المصنف: "ولا يخفى عدم المطابقة" فإن عدم الحكم بأن المراد به معنى معين من معنييه عند عدم قرينته لا يوجب الخلل بالحكم أما على قول من لا يرى المشترك عاما استغراقيا في مفاهيمه أو يراه والمعنيان مما لا يمكن اجتماعهما فظاهر لانتفائه حينئذ حتى يظهر المراد منه ولا سيما إن كان مجملا اللهم إلا أن يجعل التوقف عين الخلل كما ذكره الكرماني وفيه نظر وأما على قول من يراه عاما فيها وكانت مما يمكن اجتماعها فلحمله على جميعها لظهورها فيه عنده "وقولهم" أي المرجحين للحمل على الاشتراك "يحتاج" المشترك "إلى قرينتين" بحسب معنييه "بخلاف المجاز" فإنه إنما يحتاج إلى واحدة فبعد أنه إنما يتمشى على عدم تعميمه في مفاهيمه "ليس بشيء" مقتض لترجيحه على المجاز لتسلط المنع على احتياج الاشتراك إلى قرينتين في كل استعمال إذ الفرض أن المراد واحد فيكفي قرينته وأما اقتضاء المعنى الآخر قرينة أخرى فإنما هو في استعمال آخر "بل كل" من المشترك والمجاز "في المادة" الاستعمالية "يحتاج" في إفادة ما هو المراد به "إلى قرينة وتعددها" أي القرينة في المشترك "لتعدده" أي المعنى المراد منه "على البدل كتعددها" أي القرينة في اللفظ الواحد المجاز "لتعدد" المعاني "المجازيات كذلك" أي على البدل فهما سيان في هذا القدر من الاحتياج وإنما يختلفان من حيث إن قرينة المشترك لتعيين الدلالة وقرينة المجاز لنفس الدلالة فكما لا يقال في اللفظ المستعمل في كل من معنييه المجازيين في حالتين إنه محتاج إلى قرينتين في إفادة كل منهما فقط لا يقال ذلك في المشترك أيضا.
ثم أشار إلى توجيه عساه أن يحمل عليه قولهم تصحيحا له بقدر الإمكان فقال: "ولعل مرادهم لزوم الاحتياج" إلى قرينتين "دائما على تقدير الاشتراك دون المجاز" إحداهما "لتعيين المراد" به والأخرى كما قال "ونفي الآخر" أي لنفي أن يكون المعنى الآخر هو المراد ولا كذلك المجاز فإنه إنما يحتاج إلى قرينة صارفة عن الحقيقي إليه لا غير، غايتها أنها تتكرر بتكرر المعاني المجازية ثم تعقبه بقوله "وهذا" أي احتياج المشترك إلى قرينتين "على معممه في حالة عدم التعميم" لمانع من التعميم لتدل إحداهما على المعنى المراد والأخرى على عدم التعميم "والمجاز كذلك على الجمع" أي يلزم كونه محتاجا إلى قرينتين إحداهما لإرادة المراد به والأخرى لنفي الحقيقي على قول من يجيز الجمع بين الحقيقي والمجازي بلفظ واحد في حالة واحدة فلا يترجح المجاز على الاشتراك على هذا التقدير نعم يترجح على قول المانع منه لأن على قوله إذا دلت القرينة على أن المجاز مراد كفى إذ لا يمكن أن يراد مع الحقيقي أيضا "وأبلغ" أي ولأن المجاز أبلغ "وإطلاقه" أي أن المجاز دائما أبلغ "بلا موجب لأنه" أي كونه أبلغ "من البلاغة" ما يشعر به كلام القاضي عضد الدين وهو ظاهر
ج / 2 ص -28- حكاية السكاكي له عن أهل البلاغة "ممنوع" وكيف لا "وصرح بأبلغية الحقيقة" من المجاز "في مقام الإجمال" مطلقا لداع دعا إليه من إبهام على السامع كلي عين أو غير ذلك أو أولا ثم التفصيل ثانيا لأن ذكر الشيء مجملا ثم مفصلا أوقع في النفس "فإن المشترك هو المطابق لمقتضى الحال بخلاف المجاز" فإن اللفظ مع عدم القرينة يحمل على الحقيقة ومعها على المجاز فلا إجمال "وبمعنى تأكيد إثبات المعنى" عطف على قوله من البلاغة أي ولأنه من المبالغة كما ذكره غير واحد بمعنى كونه أكمل وأقوى في الدلالة على ما أريد به من الحقيقة على ما أريد بها "كذلك" أي ممنوع أيضا "للقطع بمساواة رأيت أسدا ورجلا هو والأسد سواء" في الشجاعة فإن المساواة المفهومة منه ومن رأيت أسدا لا يتصور فيها زيادة ولا نقصان "نعم هو" أي المجاز "كذلك" أي يفيد التأكيد في "رجلا كالأسد" بالنسبة إلى رأيت شجاعا "وكونه" أي المجاز "كدعوى الشيء ببينة" أي فيه تأكيد للدلالة وتقويتها "بناء على أن الانتقال إلى المجازي" من الحقيقي يكون "دائما من الملزوم" إلى اللازم كالانتقال من الغيث الذي هو ملزوم النبت إلى النبت كما التزمه السكاكي فإن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم "ولزومه" أي الانتقال في المجاز دائما من الملزوم إلى اللازم "تكلف" حيث يراد باللزوم الانتقال في الجملة سواء كان هناك لزوم عقلي حقيقي أو عادي أو اعتقادي أو ادعائي مع أن