المستصفى من علم الأصول – الجزء الثاني
تأليف:
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي
القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول
ويشتمل هذا القطب على:
صدر
ومقدمة
وثلاثة فنون
صدر القطب الثالث:
اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع
والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة إما لفظ وإما فعل وإما سكوت وتقرير
ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت، لأن الكلام فيهما أوجز
واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا
فهذه ثلاثة فنون: المنظوم والمفهوم والمعقول
ج / 2 ص -7-
الفن الأول في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع
ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام:
القسم الأول: في المجمل والمبين
القسم الثاني: في الظاهر والمؤول
القسم الثالث: في الأمر والنهي
القسم الرابع: في العام والخاص
فهذا صدر هذا القطب
أما المقدمة
فتشتمل على سبعة فصول
الفصل الأول: في مبدأ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف ؟
الفصل الثاني: في أن اللغة هل تثبت قياسا
الفصل الثالث: في الأسماء العرفية
ج / 2 ص -8-
الفصل الرابع: في الأسماء الشرعية
الفصل الخامس: في اللفظ المفيد وغير المفيد
الفصل السادس: في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة
الفصل السابع: في المجاز والحقيقة
الفصل الأول في مبدأ اللغات
وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق
وقال قوم :إنها توقيفية إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح
وقال قوم :القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح
والمختار :أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع .
أما الجواز العقلي :فشامل للمذاهب الثلاثة والكل في حيز الإمكان .
أما التوقيف :فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك
ج / 2 ص -9-
وأما الاصطلاح :فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي لا يمكن الإنسان أن يصل إليها فيبتدىء واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة
وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا .
أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ولا مجال لبرهان العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة فالخوض فيه إذا فصول لا أصل له
فإن قيل: قال الله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة: من الآية31] وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف فيدل على الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه
ج / 2 ص -10-
قلنا: وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات :
أحدها :أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى .
الثاني:أن الأسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره
الثالث:أن الأسماء صيغة عموم فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات وتخصيص قوله تعالى {كُلَّهَا} كتخصيص قوله تعالى {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: من الآية23] وقوله تعالى{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ }[الاحقاف: من الآية25] {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة: من الآية120] إذ يخرج عنه ذاته وصفاته
الرابع: أنه ربما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن والغالب أن أكثرها حادثة بعده
الفصل الثاني في أن الأسماء اللغوية هل تثبت قاسا
وقد اختلفوا فيه فقال بعضهم سموا الخمر من العنب خمرا لأنها تخمر العقل فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه قياسا عليه حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر لعينها" وسمي الزاني زانيا لأنه مولج فرجه
ج / 2 ص -11-
في فرج محرم فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم الزاني حتى يدخل في عموم قوله تعالى{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}[النور: من الآية2] وسمي السارق سارقا لأنه أخذ مال الغير في خفية وهذه العلة موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا حتى يدخل تحت عموم قوله تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } [المائدة: من الآية38]
وهذا غير مرضي عندنا لأن العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس وإن سكتوا عن الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره فلم نتهكم عليهم ونقول لغتهم هذا وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته والثوب المتلون بذلك اللون بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم لأنهم ما وضعوا الأدهم والكميت للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه
فإذا كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقيف فلا سبيل
ج / 2 ص -12-
إلى إثباته ووضعه بالقياس
وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس القياس
فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس أصلا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية
اعلم أن الأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية
ج / 2 ص -13-
والاسم يسمى عرفيا باعتبارين :
أحدهما :أن يوضع الاسم لمعنى عام ثم يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته كاختصاص اسم الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عام قال الله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا }[البقرة: من الآية31] وقال تعالى{خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3]وقال عز وجل : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: من الآية78]
الاعتبار الثاني :أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا بل فيما هو مجاز فيه كالغائط المطمئن من الأرض والعذرة البناء الذي يستتر به وتقضى الحاجة من ورائه فصار أصل الوضع منسيا والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال وذلك بالوضع الأول
فالأسامي اللغوية :إما وضعية وإما عرفية .
أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه لأدواتهم فلا يجوز أن يسمى عرفيا لأن مبادىء اللغات والوضع الأصلي كلها كانت
ج / 2 ص -14-
كذلك فيلزم أن يكون جميع الأسامي اللغوية عرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية
قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء الأسماء لغوية ودينية وشرعية أما اللغوية فظاهرة وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين كلفظ الإيمان والكفر والفسق وأما الشرعية فكالصلاة والصوم والحج والزكاة
واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين :
الأول: أن هذه الألفاظ يشتمل عليها القرآن والقرآن نزل بلغة العرب قال الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف: من الآية2] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ابراهيم: من الآية4] إبراه ولو قال أطعموا العلماء وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم وإن كان اللفظ المنقول عربيا فكذلك إذا نقل اللفظ عن موضوعه إلى غير موضوعه أو جعل عبارة عن بعض موضوعه أو متناولا لموضوعه وغير موضوعه فكل ذلك ليس من لسان العرب
الثاني: أن الشارع لو فعل ذلك للزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل
ج / 2 ص -15-
تلك الأسامي فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم يفهموا إلا موضوعها ولو ورد فيه توقيف لكان متواترا فإن الحجة لا تقوم بالآحاد احتجوا بقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }[البقرة: من الآية143] وأراد به الصلاة نحو بيت المقدس وقال صلى الله عليه وسلم "نهيت عن قتل المصلين" وأراد به المؤمنين وهو خلاف اللغة
قلنا :أراد بالإيمان التصديق بالصلاة والقبلة وأراد بالمصلين المصدقين بالصلاة وسمي التصديق بالصلاة صلاة على سبيل التجوز وعادة العرب تسمية الشيء بما يتعلق به نوعا من التعلق والتجوز من نفس اللغة
احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "وتسمية الإماطة إيمانا خلاف الوضع
قلنا: هذا من أخبار الآحاد فلا يثبت به مثل هذه القاعدة وإن ثبتت فهي دلالة الإيمان فيتجوز بتسميته أيمانا
واحتجوا بأن الشرع وضع عبادات لم تكن معهودة فافتقرت إلى أسام وكان استعارتها من اللغة أقرب من نقلها من لغة أخرى أو إبداع أسام لها
ج / 2 ص -16-
قلنا: لا نسلم أنه حدث في الشريعة عبادة لم يكن لها اسم في اللغة
فإن قيل :فالصلاة في اللغة ليست عبارة عن الركوع والسجود ولا الحج عبارة عن الطواف والسعي
قلنا: عنه جوابان :
الأول :أنه ليست الصلاة في الشرع أيضا عبارة عنه بل الصلاة عبارة عن الدعاء كما في اللغة والحج عبارة عن القصد والصوم عبارة عن الإمساك والزكاة عبارة عن النمو لكن الشرع شرط في أجزاء هذه الأمور أمورا أخر تنضم إليها فشرط في الاعتداد بالدعاء الواجب انضمام الركوع والسجود إليه وفي قصد البيت أن ينضم إليه الوقوف والطواف والاسم غير متناول له لكنه شرط الاعتداد بما ينطلق عليه الاسم فالشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع
الثاني:أنه يمكن أن يقال سميت جميع الأفعال صلاة لكونها متبعا بها فعل الإمام فإن التالي للسابق في الخيل يسمى مصليا لكونه متبعا هذا كلام القاضي رحمه الله .
والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسامي ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية كما ظنه قوم ولكن عرف اللغة تصرف في الأسامي من وجهين :
أحدهما:التخصيص ببعض المسميات كما في الدابة فتصرف الشرع في الحج والصوم والإيمان من هذا الجنس إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب
ج / 2 ص -17-
والثاني في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به الشيء ويتصل به كتسميتهم الخمر محرمة والمحرم شربها والأم محرمة والمحرم وطؤها فتصرفه في الصلاة كذلك لأن الركوع والسجود شرطه الشرع في تمام الصلاة فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع إذ إنكار كون الركوع والسجود ركن الصلاة ومن نفسها بعيد فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف الاستعمال للشرع أهون من إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة وهو كالمهم المحتاج إليه إذ ما يصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة ولا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف فيه
وأما ما استدل به من أن القرآن عربي فهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية ولا يسلب اسم العربي عن القرآن فإنه لو اشتمل على مثل هذه الكلمات بالعجمية لكان لا يخرجه عن كونه عربيا أيضا كما ذكرناه في القطب الأول من الكتاب
وأما قوله إنه كان يجب عليه التوقيف على تصرفه فهذا أيضا إنما يجب إذا لم يفهم مقصوده من هذه الألفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد أخرى فإذا فهم هذا فقد حصل الغرض فهذا أقرب عندنا بما ذكره القاضي رحمه الله
ج / 2 ص -18-
الفصل الخامس في الكلام المفيد
اعلم أن الأمور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى ما لا يدل
فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته وهو الأدلة العقلية وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب وإلى ما يدل بالوضع
وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت كالإشارة والرمز
والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد والمفيد كقولك زيد قائم وزيد خرج راكبا وغير المفيد كقولك زيد لا وعمرو في فإن هذا لا يحصل منه معنى وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة .
وقد اختلف في تسمية هذا كلاما فمنهم من قال هو كمقلوب رجل وزيد لجر وديز فإن هذا لا يسمى كلاما ومنهم من سماه كلاما لأن آحاده وضعت للإفادة
واعلم :أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام اسم وفعل وحرف كما في علم النحو وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند أحدهما إلى الآخر نحو زيد أخوك والله ربك أو اسم أسند إلى فعل نحو قولك ضرب زيد وقام عمرو وأما الاسم والحرف كقولك زيد من وعمرو في
ج / 2 ص -19-
فلا يفيد حتى تقول من مضر وفي الدار وكذلك قولك ضرب قام لا يفيد إذ لم يتخلله اسم وكذلك قولك من في قد على
واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالإفادة من كل وجه وإلى ما لا يستقل بالإفادة إلا بقرينة وإلى ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه
مثال الأول :قوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [الاسراء: من الآية32] {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[النساء: من الآية29] وذلك يسمى نصا لظهوره والنص في السير هو الظهور فيه ومنه منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه
والنص ضربان :ضرب هو نص بلفظه ومنظومه كما ذكرناه وضرب هو نص بفحواه ومفهومه نحو قوله تعالى{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}]الاسراء: من الآية23] {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: من الآية77] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[الزلزلة:7] {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75] فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه من نفس الذرة والفتيل والتأفيف ومن قال إن هذا معلوم بالقياس فإن أراد به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق وإن أراد به أن يحتاج فيه إلى تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط
وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237] وقوله {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة: من الآية228] وكل لفظ مشترك
ج / 2 ص -20-
ومبهم وكقوله :رأيت أسدا وحمارا وثورا إذا أراد شجاعا وبليدا فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة
وأما الذي يستقل من وجه دون وجه فكقوله تعالى{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] وكقوله تعالى:{ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: من الآية29] فإن الإيتاء ويوم الحصاد معلوم ومقدار ما يؤتى غير معلوم والقتال وأهل الكتاب معلوم وقدر الجزية مجهول
فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله :إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما أو يترجح أحد احتمالاته على الآخر فيسمى بالإضافة إلى الاحتمال الأرجح ظاهرا وبالإضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا .
فاللفظ المفيد إذا :ما نص أو ظاهر أو مجمل
الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب
اعلم أن الكلام إما أن يسمعه نبي أو ملك من الله تعالى أو يسمعه نبي أو ولي من ملك أو تسمعه الأمة من النبي
فإن سمعه ملك أو نبي من الله تعالى فلا يكون حرفا ولا صوتا ولا لغة موضوعة حتى يعرف معناه بسبب تقدم المعرفة بالمواضعة لكن يعرف المراد منه بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة أمور بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه وبمراده من كلامه فهذه ثلاثة أمور لا بد
ج / 2 ص -21-
وأن تكون معلومة والقدرة الأزلية ليست قاصرة عن اضطرار الملك والنبي إلى العلم بذلك ولا متكلم إلا وهو محتاج إلى نصب علامة لتعريف ما في ضميره إلا الله تعالى فإنه قادر على اختراع علم ضروري به من غير نصب علامة
وكما أن كلامه ليس من جنس كلام البشر فسمعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سمع الأصوات ولذلك يعسر علينا تفهم كيفية سماع موسى كلام الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمة تفهم كيفية إدراك البصير للألوان والأشكال
أما سماع النبي من الملك فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله فيكون المسموع الأصوات الحادثة التي هي فعل الملك دون نفس الكلام ولا يكون هذا إسماعا لكلام الله بغير واسطة وإن كان يطلق عليه اسم سماع كلام الله تعالى كما يقال فلان سمع شعر المتنبي وكلامه وإن سمعه من غيره وسمع صوت غيره وكما قال تعالى{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [التوبة: من الآية6]
وكذلك سماع الأمة من الرسول صلى الله عليه وسلم كسماع الرسول من الملك ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة
ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة
وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ والقرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
ج / 2 ص -22-
حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141]والحق هو العشر وإما إحالة على دليل العقل كقوله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]وقوله عليه السلام: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا
وكل ما ليس عبارة موضوعة في اللغة فتتعين فيه القرائن وعند منكري صيغة العموم والأمر يتعين تعريف الأمر والاستغراق بالقرائن فإن قوله تعالى{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ }[التوبة: من الآية5] وإن أكده بقوله كلهم وجميعهم فيحتمل الخصوص عندهم كقوله تعالى{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الاحقاف: من الآية25] {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }[النمل: من الآية23] فإنه أريد به البعض وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى
الفصل السابع في الحقيقة والمجاز
اعلم أن اسم الحقيقة مشترك إذ قد يراد به ذات الشيء وحده ويراد به حقيقة الكلام ولكن إذا استعمل في الألفاظ أريد به ما استعمل في موضوعه
ج / 2 ص -23-
والمجاز: ما استعمله العرب في غير موضوعه
وهو ثلاثة أنواع:
الأول: ما استعير للشيء بسببه المشابهة في خاصية مشهورة كقولهم للشجاع أسد وللبليد حمار فلو سمي الأبخر أسدا لم يجز لأن البخر ليس مشهورا في حق الأسد
الثاني: الزيادة كقوله تعالى{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: من الآية11]فإن الكاف وضعت للإفادة فإذا استعملت على وجه لا يفيد كان على خلاف الوضع
الثالث: النقصان الذي لا يبطل التفهيم كقوله عز وجل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ }[يوسف: من الآية82] والمعنى واسأل أهل القرية وهذا النقصان اعتادته العرب فهو توسع وتجوز وقد يعرف المجاز بإحدى علامات أربع الأولى أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره إذ قولنا عالم لما عني به ذو علم صدق على كل ذي علم وقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}يصح
ج / 2 ص -24-
في بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية ولا يقال سل البساط والكوز وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل
الثانية: أن يعرف بامتناع الاشتقاق عليه إذ الأمر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر والشأن هو المراد بقوله تعالى { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود: من الآية97]وبقوله تعالى{ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}[هود: من الآية40]
الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما إذ الأمر الحقيقي يجمع على أوامر وإذا أريد به الشأن يجمع على أمور
ج / 2 ص -25-
الرابعة: أن الحقيقي إذا كان له تعلق بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أريد بها الصفة كان لها مقدور وإن أريد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب إذ يقال انظر إلى قدرة الله تعالى أي إلى عجائب مقدوراته لم يكن له متعلق إذ النبات لا مقدور له
واعلم أن كل مجاز فله حقيقة وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز بل ضربان من الأسماء لا يدخلهما المجاز :
الأول: أسماء الأعلام نحو زيد وعمرو لأنها أسام وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق في الصفات نعم الموضوع للصفات قد يجعل علما فيكون مجازا كالأسود بن الحرث إذ لا يراد به الدلالة على الصفة مع أنه وضع له فهو مجاز أما إذا قال قرأت المزني وسيبويه وهو يريد كتابيهما فليس ذلك إلا كقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: من الآية82] فهو على طريق حذف اسم الكتاب معناه قرأت كتاب المزني فيكون في الكلام مجاز بالمعنى الثالث المذكور للمجاز
الثاني: الأسماء التي لا أعم منها ولا أبعد كالمعلوم والمجهول والمدلول
ج / 2 ص -26-
والمذكور إذ لا شيء إلا وهو حقيقة فيه فكيف يكون مجازا عن شيء
هذا تمام المقدمة
ولنشتغل بالمقاصد وهي كيفية اقتباس الأحكام من الصيغ والألفاظ المنطوق بها وهي أربعة أقسام
[القسم الاول : في المجمل والمبين]
[القسم الثاني : في الظاهر والمؤول ]
[القسم الثالث: في الأمر والنهي]
[القسم الرابع : في العام والخاص]
ج / 2 ص -27-
القسم الأول :من الفن الأول من مقاصد القطب الثالث في المجمل والمبين
اعلم أن اللفظ إما أن يتعين معناه بحيث لا يحتمل غيره فيسمى مبينا ونصا وإما أن يتردد بين معنيين فصاعدا من غير ترجيح فيسمى مجملا وإما أن يظهر في أحدهما ولا يظهر في الثاني فيسمى ظاهرا
والمجمل: هو اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال وينكشف ذلك بمسائل :
مسألة:[ كيفية معرفة المجمل؟]
قوله تعالى :{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: من الآية23]و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ }[المائدة: من الآية3]ليس بمجمل
وقال قوم :من القدرية هو مجمل لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين وليس يدري ما ذلك الفعل فيحرم من الميتة مسها أو أكلها أو النظر إليها أو بيعها والانتفاع بها؟ فهو مجمل والأم يحرم منها النظر أو المضاجعة أو الوطء ؟ فلا يدري أيه ولا بد من تقدير فعل وتلك الأفعال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض
وهذا فاسد إذ عرف الاستعمال كالوضع ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية وقدمنا بيانها ومن أنس بتعارف أهل اللغة واطلع على عرفهم علم أنهم لا يستريبون في أن من قال حرمت عليك الطعام والشراب أنه يريد الأكل دون النظر والمس وإذا قال حرمت عليك هذا الثوب أنه يريد اللبس وإذا قال حرمت عليك النساء أنه يريد الوقاع وهذا صريح عندهم مقطوع به فكيف يكون مجملا ؟
ج / 2 ص -28-
والصريح تارة يكون بعرف الاستعمال وتارة بالوضع وكل ذلك واحد في نفي الأجمال
وقال قوم: هو من قبيل المحذوف كقوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: من الآية82] أي أهل القرية يوسف وكذلك قوله تعالى{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: من الآية1]أي أكل البهيمة أحل لكم صيد البحر المائدة وهذا إن أراد به إلحاقه بالمجمل فهو خطأ وإن أراد به حصول الفهم به مع كونه محذوفا فهو صحيح وإن أراد به إلحاقه بالمجاز فيلزمه تسمية الأسماء العربية مجازا
مسألة: رفع الخطأ والنسيان:
قوله صلى الله عليه وسلم : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" يقتضي بالوضع نفي نفس الخطأ والنسيان وليس كذلك وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف فالمراد به رفع حكمه لا على الإطلاق بل الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا اللفظ فقد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل لغيره رفعت عنك الخطأ والنسيان إذ يفهم منه رفع حكمه لا على الإطلاق وهو المؤاخذة بالذم والعقوبة فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح فيه وليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيره ولا هو مجمل بين المؤاخذة التي ترجع إلى الذم ناجزا أو إلى العقاب آجلا وبين الغرم والقضاء لأنه لا صيغة لعمومه حتى يجعل عاما في كل حكم كما لم يجعل قوله تعالى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: من الآية23]عاما في كل فعل مع أنه لا بد من إضمار فعل فالحكم هاهنا لا بد من إضماره لإضافة الرفع إليه كالفعل ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال وهو الذم والعقاب هاهنا والوطء ثم
ج / 2 ص -29-
فإن قيل: فالضمان أيضا عقاب فليرتفع
قلنا: الضمان قد يجب امتحانا ليثاب عليه لا للانتقام ولذلك يجب على الصبي والمجنون وعلى العاقلة بسبب الغير ويجب حيث يجب الإتلاف كالمضطر في المخمصة وقد يجب عقابا كما يجب على المعتمد لقتل الصيد{ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: من الآية95] وإن وجب على المخطىء بالقتل امتحانا
فغاية ما يلزم أن يقال ينتفي به كل ضمان هو بطريق العقاب لأنه مؤاخذة وانتقام بخلاف ما هو بطريق الجبران والامتحان
والمقصود أن من ظن أن هذا اللفظ خاص أو عام لجميع أحكام الخطأ أو مجمل متردد فقد غلط فيه
فإن قيل: فلو ورد في موضع لا عرف فيه يدرك به خصوص معناه فهل يجعل نفيا لأثره بالكلية حتى يقوم مقام العموم أو يجعل مجملا ؟
قلنا: هو مجمل يحتمل نفي الأثر مطلقا ونفي آحاد الآثار ويصلح أن يراد به الجميع ولا يترجح أحد الاحتمالات
وهذا عند من لا يقول بصيغة العموم ظاهر أما من يقول بها فيتبع فيه الصيغة ولا صيغة للمضمرات وهذا قد أضمر فيه الأثر فعلى ماذا يعول في التعميم ؟
فإن قيل: هو نفي فيقتضي وضعه نفي الأثر والمؤثر جميعا فإن تعذر نفي
ج / 2 ص -30-
المؤثر بقرينة الحس فالتعذر مقصور عليه فيبقى الأثر منفيا
قلنا: ليس قوله لا صيام ولا عمل ولا خطأ ولا نسيان أو رفع الخطأ والنسيان عاما في نفي المؤثر والأثر حتى إذا تعذر في المؤثر بقي في الأثر بل هو لنفي المؤثر فقط والأثر ينتفي ضرورة بانتفاء المؤثر لا بحكم عموم اللفظ وشموله له فإذا تعذر حمله على المؤثر صار مجازا إما عن جميع الآثار أو عن بعض الآثار ولا تترجح الجملة على البعض ولا أحد الأبعاض على غيره.
مسألة :نفي الكمال أو الصحة في اللفظ الشرعي في:
قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة إلا بطهور" "ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" "ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي" "ولا نكاح إلا بشهود" و "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" و "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فإن هذا نفي لما ليس منفيا بصورته فإن صورة النكاح والصوم والصلاة موجودة كالخطأ والنسيان
وقالت المعتزلة: هو مجمل لتردده بين نفي الصورة والحكم .
وهو أيضا فاسد بل فساده في هذه الصورة أظهر فإن الخطأ والنسيان ليس اسما شرعيا والصلاة والصوم والوضوء والنكاح ألفاظ تصرف الشرع فيها فهي شرعية وعرف الشرع في تنزيل الأسامي الشرعية على مقاصده كعرف اللغة على ما قدمنا وجه تصرف الشرع في هذه الألفاظ فلا يشك في أن الشرع ليس يقصد بكلامه نفي الصورة فيكون خلفا بل يريد نفي الوضوء والصوم والنكاح الشرعي فعرف الشرع يزيل هذا الاحتمال فكأنه صرح بنفي نفس الصلاة الشرعية والنكاح الشرعي
ج / 2 ص -31-
فإن قيل :فيحتمل نفي الصحة ونفي الكمال أي لا صلاة كاملة ولا صوم فاضلا ولا نكاح مؤكدا ثابتا فهل هو محتمل بينهما ؟
قلنا ذهب القاضي إلى أنه مردد بين نفي الكمال والصحة إذ لا بد من إضمار الصحة أو الكمال وليس أحدهما بأولى من الآخر
والمختار أنه ظاهر في نفي الصحة محتمل لنفي الكمال على سبيل التأويل لأن الوضوء والصوم صارا عبارة عن الشرعي وقوله لا صيام صريح في نفي الصوم ومهما حصل الصوم الشرعي وإن لم يكن فاضلا كاملا كان ذلك على خلاف مقتضى النفي
فإن قيل فقوله صلى الله عليه وسلم :"لا عمل إلا بنية" من قبيل قوله: "لا صلاة" أو من قبيل قوله "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان؟"
قلنا. الخطأ والنسيان ليسا من الأسماء الشرعية والصوم والصلاة من الأسماء الشرعية وأما العمل فليس للشرع فيه تصرف وكيفما كان فقوله صلى الله عليه وسلم :"لا عمل إلا بنية" وقوله "إنما الأعمال بالنيات" يقتضي عرف الاستعمال نفي جدواه وفائدته كما يقتضي عرف الشرع نفي الصحة في الصوم والصلاة فليس هذا من المجملات بل من المألوف في عرف الاستعمال قولهم لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله ولا طاعة إلا له ولا عمل إلا ما نفع وأجدى وكل ذلك نفي لما لا ينتفي وهو صدق لأن المراد منه نفي مقاصده
دقيقة: القاضي رحمه الله إنما لزمه جعل اللفظ مجملا بالإضافة إلى الصحة والكمال من حيث أنه نفى الأسماء الشرعية وأنكر أن يكون للشرع فيها عرف يخالف الوضع فلزمه إضمار شيء في قوله عليه السلام لا صيام أي لا صيام مجزئا صحيحا أو :لا صيام فاضلا كاملا ولم يكن أحد
ج / 2 ص -32-
الإضمارين بأولى من الآخر وأما نحن إذا اعترفنا بعرف الشرع في هذه الألفاظ صار هذا النفي راجعا إلى نفس الصوم كقوله لا رجل في البلد فإنه يرجع إلى نفي الرجل ولا ينصرف إلى الكمال إلا بقرينة الاحتمال
مسألة: معنى المجمل:
إذا أمكن حمل لفظ الشارع على ما يفيد معنيين وحمله على ما يفيد معنى واحدا وهو مردد بينهما فهو مجمل
وقال بعض الأصوليين: يترجح حمله على ما يفيد معنيين كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد يتعين حمله على المفيد لأن المعنى الثاني مما قصر اللفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر فحمله على الوجه المفيد بالإضافة إليه أولى
وهذا فاسد لأن حمله على غير المفيد يجعل الكلام عبثا ولغوا يجل عنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما المفيد لمعنى واحد فليس بلغو وكلماته التي أفادت معنى واحدا لعلها أغلب وأكثر مما يفيد معنيين فلا معنى لهذا الترجيح
مسألة: الأحكام المتعددة في اللفظ
ما أمكن حمله على حكم متعدد فليس بأولى مما يحمل اللفظ فيه على التقرير على الحكم الأصلي والحكم العقلي والاسم اللغوي لأن كل واحد محتمل وليس حمل الكلام عليه ردا له إلى العبث
وقال قوم:حمله على الحكم الشرعي الذي هو فائدة خاصة بالشرع أولى وهو ضعيف إذ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالحكم
ج / 2 ص -33-
العقلي ولا بالاسم اللغوي ولا بالحكم الأصلي فهذا ترجيح بالتحكم
مثاله قوله صلى الله عليه وسلم" الاثنان فما فوقهما جماعة" فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه يسمى جماعة ويحتمل أن يكون المراد به انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها
ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم "الطواف بالبيت صلاة" إذ يحتمل أن يكون المراد به الافتقار إلى الطهارة أي هو كالصلاة حكما ويحتمل أن فيه دعاء كما في الصلاة ويحتمل أنه يسمى صلاة شرعا وإن كان لا يسمى في اللغة صلاة فهو مجمل بين هذه الجهات ولا ترجيح
مسألة: دوران الاسم بين المعنى اللغوي والشرعي
إذا دار الاسم بين معناه اللغوي ومعناه الشرعي كالصوم والصلاة قال القاضي هو مجمل لأن الرسول عليه السلام يناطق العرب بلغتهم كما يناطقهم بعرف شرعه ولعل هذا منه تفريع على مذهب من يثبت الأسامي الشرعية وإلا فهو منكر للأسامي الشرعية
وهذا فيه نظر لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع لبيان الأحكام الشرعية وإن كان أيضا كثيرا ما يطلق على الوضع اللغوي كقوله صلى الله عليه وسلم "دعي الصلاة أيام أقرائك" ومن باع حرا أو من باع خمرا فحكمه كذا وإن كانت الصلاة في حالة الحيض وبيع الخمر والحر لا
ج / 2 ص -34-
يتصور إلا بموجب الوضع فأما الشرعي فلا
ومثال هذه المسألة قوله صلى الله عليه وسلم حيث لم يقدم إليه غداء إني إذا أصوم فإنه إن حمل على الصوم الشرعي دل على جواز النية نهارا وإن حمل على الإمساك لم يدل وقوله صلى الله عليه وسلم "لا تصوموا يوم النحر" إن حمل على الإمساك الشرعي دل على انعقاده إذ لولا إمكانه لما قيل له لا تفعل إذ لا يقال للأعمى لا تبصر وإن حمل على الصوم الحسي لم ينشأ منه دليل على الانعقاد
وقد قال الشافعي: لو حلف أن لا يبيع الخمر لا يحنث ببيعه لأن البيع الشرعي لا يتصور فيه وقال المزني يحنث لأن القرينة تدل على أنه أراد البيع اللغوي
والمختار عندنا: أن ما ورد في الأثبات والأمر فهو للمعنى الشرعي وما ورد في النهي كقوله دعي الصلاة فهو مجمل
مسألة : تعارض الحقيقة والمجاز أيهما يقدم ؟ :
إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ للحقيقة إلى أن يدل الدليل أنه أراد المجاز ولا يكون مجملا كقوله رأيت اليوم حمارا واستقبلني في الطريق أسد فلا يحمل على البليد والشجاع إلا بقرينة زائدة فإن لم تظهر فاللفظ للبهيمة والسبع ولو جعلنا كل لفظ أمكن أن يتجوز به مجملا تعذرت الاستفادة من أكثر الألفاظ فإن المجاز إنما يصار إليه لعارض وهذا في مجاز لم يغلب بالعرف بحيث صار الوضع كالمتروك مثل الغائط والعذرة فإنه لو قال رأيت اليوم عذرة أو غائطا لم يفهم منه المطمئن من
ج / 2 ص -35-
الأرض وفناء الدار لأنه صار كالمتروك بعرف الاستعمال والمعنى العرفي كالمعنى الوضعي في تردد اللفظ بينهما وليس المجاز كالحقيقي لكن المجاز إذا صار عرفيا كان الحكم للعرف
خاتمة جامعة
إعلم أن الإجمال تارة يكون في لفظ مفرد وتارة يكون في لفظ مركب وتارة في نظم الكلام والتصريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء
أما اللفظ المفرد فقد يصلح لمعان مختلفة كالعين للشمس والذهب والعضو الباصر والميزان وقد يصلح لمتضادين كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان وقد يصلح لمتشابهين بوجه ما كالنور للعقل ونور الشمس وقد يصلح لمتماثلين كالجسم للسماء والأرض والرجل لزيد وعمرو وقد يكون موضوعا لهما من غير تقديم وتأخير وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك الأرض أم البشر فإن الأم وضع اسما للوالدة أولا وكذلك اسم المنافق والكافر والفاسق والصوم والصلاة فإنه نقل في الشرع إلى معان ولم يترك المعنى الوضعي أيضا
أما الاشتراك مع التركيب فكقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:237] فإن جميع هذه الألفاظ مرددة بين الزوج والولي
وأما الذي بحسب التصريف: فكالمختار للفاعل والمفعول
وأما الذي بحسب نسق الكلام فكقولك: كل ما علمه الحكيم فهو كما علمه
فإن قولك: فهو كما علمه متردد بين أن يرجع إلى كل ما وبين أن يرجع إلى الحكم حتى يقول والحكيم يعلم الحجر فهو إذا كالحجر
ج / 2 ص -36-
وقد يكون بحسب الوقف والابتداء فإن الوقف على السموات في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } [الأنعام:3] له معنى يخالف الوقف على الأرض والابتداء بقوله { سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ }[الأنعام:3] وقوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}[آل عمران: من الآية7] من غير وقف يخالف الوقف على قوله {إِلاَّ اللَّهُ} وذلك لتردد الواو بين العطف والابتداء
ولذلك قد يصدق قولك الخمسة زوج وفرد أي هو اثنان وثلاثة ويصدق قولك الإنسان حيوان وجسم لأنه حيوان وجسم أيضا ولا يصدق قولك الإنسان حيوان وجسم ولا قولك الخمسة زوج وفرد لأن الإنسان ليس بحيوان وجسم وليست الخمسة زوجا وفرد أيضا وذلك لأن الواو يحتمل جمع الأجزاء وجمع الصفات وكذلك تقول زيد طبيب بصير يصدق وإن كان جاهلا ضعيف المعرفة بالطب ولكن بصير بالخياطة فيتردد البصير بين أن يراد به البصير في الطب أو يراد وصف زائد في نفسه
فهذه أمثلة مواضع الإحمال
ج / 2 ص -37-
وقد تم القول في المجمل
وفي مقابلته المبين فلنتكلم في البيان وحكمه وحده
القول في البيان والمبين
إعلم أنه جرت عادة الأصوليين برسم كتاب في البيان وليس النظر فيه مما يستوجب أن يسمى كتابا فالخطب فيه يسير والأمر فيه قريب ورأيت أولى المواضع به أن يذكر عقيب المجمل فإنه المفتقر إلى البيان والنظر فيه حد البيان وجواز تأخيره والتدريج في إظهاره وفي طريق ثبوته فهذه أربعة أمور نرسم في كل واحد منها مسألة
مسألة: في حد البيان:
إعلم أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام وإنما يحصل الإعلام بدليل والدليل محصل للعلم فهاهنا ثلاثة أمور إعلام ودليل به الإعلام وعلم يحصل من الدليل
فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف فقال في حده أنه إخراج الشيء من حيز الأشكال إلى حيز التجلي
ومنهم من جعله عبارة عما به تحصل المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة أعني الأمور التي ليست ضرورية وهو الدليل فقال في حده أنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه وهو اختيار القاضي
ومنهم من جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبين الشيء فكأن البيان عنده والتبيين واحد
ولا حجر في إطلاق إسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إلا
ج / 2 ص -38-
أن الأقرب إلى اللغة وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي إذ يقال لمن دل غيره على الشيء بينه له وهذا بيان منك لكنه لم يتبين وقال تعالى{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } [آل عمران: من الآية138 ] وأراد به القرآن
وعلى هذا فبيان الشيء قد يكون بعبارات وضعت بالاصطلاح فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة
وقد يكون بالفعل والإشارة والرمز إذا لكل دليل ومبين ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول فيقال له بيان حسن أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد
وإعلم أنه ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به ويجوز أن يختلف الناس في تبين ذلك وتعرفه
وليس من شرطه أن يكون بيانا لمشكل لأن النصوص المعربة عن الأمور ابتداء بيان وإن لم يتقدم فيها إشكال وبهذا يبطل قول من حده بأنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي فذلك ضرب من البيان وهو بيان المجمل فقط
وإعلم أن كل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره حيث يكون دليلا وتنبيهه بفحوى الكلام على علة الحكم كل ذلك بيان لأن جميع ذلك دليل وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل قطعا دليل وبيان وهو كالنص نعم كل ما لا يفيد علما ولا ظنا ظاهرا فهو مجمل وليس ببيان بل هو محتاج إلى البيان
ج / 2 ص -39-
والعموم يفيد ظن الاستغراق عند القائلين به لكنه يحتاج إلى البيان ليصير الظن علما فيتحقق الاستغراق أو يتبين خلافه فيتحقق الخصوص وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه أنه أريد به بيان الشرع لأن الفعل لا صيغة له
مسألة في تأخير البيان
لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال
أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر وإليه ذهب أبو إسحق المروزي وأبو بكر الصيرفي
وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا يجوز تأخير بيان المجمل إذ لا يحصل من المجمل جهل وأما العام فإنه يوهم العموم فإذا أريد به الخصوص فلا ينبغي أن يتأخر بيانه مثل قوله { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}[التوبة: من الآية5]فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب وأدى ذلك إلى قتل من لا يجوز قتله والمجمل مثل قوله تعالى{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }[الأنعام: من الآية141] يجوز تأخير بيانه لأن الحق مجمل لا يسبق إلى الفهم منه شيء وهو كما لو قال حج في هذه السنة كما سأفصله أو أقتل فلانا غدا بآلة سأعينها من سيف أو سكين
وفرق طوائف بين الأمر والنهي وبين الوعد والوعيد فلم يجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد
ويدل على جواز التأخير مسالك :
الأول: أنه لو كان ممتنعا لكان الاستحالته في ذاته أو لإفضائه إلى مجال،
ج / 2 ص -40-
وكل ذلك يعرف بضرورة أو نظر وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز
وهذا دليل يستعمله القاضي في مسائل كثيرة
وفيه نظر لأنه لا يورث العلم ببطلان الإحالة ولا بثبوت الجواز إذ يمكن أن يكون وراء من ذكره وفصله دليل على الإحالة لم يخطر له فلا يمكن أن يكون دليلا لا على الإحالة ولا على الجواز فعدم العلم العلم بدليل الجواز لا يثبت الإحالة وكذلك عدم العلم بدليل الإحالة لا يثبت الجواز بل عدم العلم بدليل الإحالة لا يكون علما لعدم الإحالة فلعل عليه دليلا ولم نعرفه بل لو عرفنا انتفاء دليل الإحالة لم يثبت الجواز بل لعله محال وليس عليه دليل يعرفه آدمي فمن أين يجب أن يكون كل جائز ومحال في مقدور الآدمي معرفته ؟
الثاني :أنه إنما يحتاج إلى البيان للامتثال وإمكانه ولأجله يحتاج إلى القدرة والآلة ثم جاز تأخير القدرة وخلق الآلة فكذلك البيان
وهذا أيضا ذكره القاضي وفيه نظر لأنه إنما ينفع لو اعترف الخصم بأنه يحيله لتعذر الامتثال ولعله يحيله لما من تجهيل أو لكونه لغوا بلا فائدة أو لسبب آخر وليس في تسليمه تعليل القدرة والآلة بتأتي الامتثال ما يلزمه تعليل غير به
الثالث :الاستدلال على جوازه بوقوعه في القرآن والسنة قال الله تعالى{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]وثم للتأخير وقال تعالى{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: من الآية1]{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً }[البقرة: من الآية67] وإنما أراد بقرة معينة ولم يفصل إلا بعد السؤال وقال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
ج / 2 ص -41-
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [لأنفال: من الآية41]الآية وإنما أراد بذي القربى بني هاشم وبنى المطلب دون بني أمية وكل من عدا بني هاشم فلما منع بني أمية وبني نوفل وسئل عن ذلك قال أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه وقال في قصة نوح{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }[هود: من الآية46] بين بعد أن توهم أنه من أهله
وأما السنن فبيان المراد بقوله وأقيموا الصلاة بصلاة جبريل في يومين بين الوقتين وقوله عليه السلام ليس في الخضروات صدقة ثم قال بعد ذلك ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقال في أربعين شاة شاة وخذوا عني مناسككم كله ورد متأخرا عن قوله{وَآتُوا الزَّكَاةَ}[النساء: من الآية77] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ }[آل عمران: من الآية97] وقال{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [التوبة: من الآية41] وهو عام ثم ورد بعده {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } [التوبة: من الآية91] إذآ النور وكذلك جميع الأعذار
وكذلك أمر النكاح والبيع والأرث ورد أولا أصلها ثم بين النبي بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن لا يحل وما يصح بيعه وما لا يصح وكذلك كل عام ورد في الشرع فإنما ورد دليل خصوصه بعده
وهذا مسلك لا سبيل إلى إنكاره وإن تطرق الاحتمال إلى أحد هذه
ج / 2 ص -42-
الاستشهادات بتقدير اقتران البيان فلا يتطرق إلى الجميع
الرابع :أنه يجوز تأخير النسخ بالاتفاق بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط أن لا يرد نسخ وهذا أيضا واقع
فهذه الأدلة واقعة دالة على جواز تأخير البيان عن كل ما يحتاج إلى البيان من عام ومجمل ومجاز وفعل متردد وشرط مطلق غير مقيد وهو أيضا دليل على من جوز في الأمر دون الوعيد وعلى من قال بعكس ذلك
وللمخالف أربع شبه:
الأولى :قالوا إن جوزتم خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالزنجية فقد ركبتم بعيدا وتعسفتم وإن منعتم فما الفرق بينه وبين مخاطبة العربي بلفظ مجمل لا يفهم معناه ولكن يسمع لفظه ويلزم منه جواز خطابه بلغة هو واضعها وحده إلى أن يبين
والجواب من وجهين :
أحدهما وهو الأولى أنهم لم قالوا قوله {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ]الأنعام: من الآية141[كالكلام بلغة لا تفهم مع أنه يفهم أصل الإيجاب ويعزم على أدائه وينتظر بيانه وقت الحصاد فالتسوية بينهما تعسف وظلم
الجواب الثاني: أنا نجوز للنبي عليه السلام أن يخاطب جميع أهل الأرض من الزنج والترك بالقرآن ويشعرهم أنه يشتمل على أوامر يعرفهم بها المترجم وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود ؟فأمر العجم على تقدير البيان أقرب نعم لا يحصل ذلك خطابا بل إنما يسمى خطابا إذا فهمه المخاطب والمخاطب في مسألتنا فهم أصل الأمر بالزكاة وجهل قدر الحق الواجب عند الحصاد وكذلك قوله تعالى{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ]البقرة:237[مفهوم وتردده بين الزوج والولي معلوم والتعيين منتظر
فإن قيل: فليجز خطاب المجنون والصبي
ج / 2 ص -43-
قلنا: أما من لا يفهم فلا يسمى مخاطبا ويسمى مأمورا كالمعدوم على تقدير الوجود الصبي مأمور على تقدير البلوغ أعني من علم الله أنه سيبلغ أما الذي يفهم ويعلم الله ببلوغه فلا نحيل أن يقال له إذا بلغت فأنت مأمور بالصلاة والزكاة والصبا لا ينافي مثل هذا الخطاب وإنما ينافي خطابا يعرضه للعقاب في الصبا
الثانية: قولهم الخطاب يراد لفائدة وما لا فائدة فيه فيكون وجوده كعدمه ولا يجوز أن يقول أبجد هوز ويريد به وجوب الصلاة والصوم ثم يبينه من بعد لأنه لغو من الكلام وكذلك المجمل الذي لا يفيد
قلنا: إنما يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لأن قوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ]الأنعام: من الآية141[يعرف منه وجوب الإيتاء ووقته وأنه حق في المال فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له ولو عزم على تركه عصى وكذلك مطلق الأمر إذا ورد ولم يتبين أنه للإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين وكذلك { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ]البقرة:23 [يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي فلا يخلو عن أصل الفائدة وإنما يخلو عن كمالها وذلك غير مستنكر بل هو واقع في الشريعة والعادة بخلاف قوله أبجد هوز فإن ذلك لا فائدة له أصلا
الثالثة: أنه لا خلاف في أنه لو قال في خمس من الإبل شاة وأراد خمسا من الأفراس لا يجوز ذلك وإن كان بشرط البيان بعده لأنه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد فكذلك قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}]التوبة: من الآية5[ يوهم قتل كل مشرك وهو خلاف المراد فهو تجهيل في الحال ولو أراد بالعشرة سبعة كان ذلك تجهيلا وإن كان ذلك جائزا إن اتصل الاستثناء به بأن يقول عشرة إلا ثلاثة وكذلك العموم للاستغراق في الوضع إنما يراد به الخصوص بشرط قرينة متصلة مبينة فأما إرادة الخصوص دون القرينة فهو تغيير للوضع
ج / 2 ص -44-
وهذا حجة من فرق بين العام والمجمل
والجواب أن العموم لو كان نصا في الاستغراق لكان كما ذكرتموه وليس كذلك بل هو مجمل عند أكثر المتكلمين متردد بين الاستغراق والخصوص وهو ظاهر عند أكثر الفقهاء في الاستغراق وإرادة الخصوص به من كلام العرب فإن الرجل قد يعبر بلفظ العموم عن كل ما تمثل في ذهنه وحضر في فكره فيقول مثلا ليس للقاتل من الميراث شيء فإذا قيل له فالجلاد والقاتل قصاصا لم يرث فيقول ما أردت هذا ولم يخطر لي بالبال ويقول للبنت النصف من الميراث فيقال فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئا فيقول ما خطر ببالي هذا وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة ويقول الأب إذا انفرد يرث المال أجمع فيقال والأب الكافر أو الرقيق لا يرث فيقول إنما خطر ببالي الأب غير الرقيق والكافر فهذا من كلام العرب وإذا أراد السبعة بالعشرة فليس من كلام العرب فإذا اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله بل ينبغي أن يعتقد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر وينتظر أن ينبه على الخصوص أيضا
الرابعة: أنه إن جاز تأخير البيان إلى مدة مخصوصة طويلة كانت أو قصيرة فهو تحكم وإن جاز إلى غير نهاية فربما يخترم النبي قبل البيان فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل متمسكا بعموم ما أريد به الخصوص
ج / 2 ص -45-
قلنا النبي عليه السلام لا يؤخر البيان إلا إذا جوز له التأخير أو أوجب وعين له وقت البيان وعرف أنه يبقى إلى ذلك الوقت فإن اخترم قبل البيان بسبب من الأسباب فيبقى العبد مكلفا بالعموم عند من يرى العموم ظاهرا ولا يلزمه حكم ما لم يبلغه كما لو اخترم قبل النسخ لما أمر بنسخه فإنه يبقى مكلفا به دائما فإن أحالوا اخترامه قبل تبليغ النسخ فيما أنزل عليه النسخ فيه فيستحيل أيضا اخترامه قبل بيان الخصوص فيما أريد به الخصوص ولا فرق
مسألة هل يجوز منع التدرج في البيان ؟
ذهب بعض المجوزين لتأخير البيان في العموم إلى منع التدريج في البيان فقالوا إذا ذكر إخراج شيء من العموم فينبغي أن يذكر جميع ما يخرج وإلا أوهم ذلك استعمال العموم في الباقي
وهذا أيضا غلط بل من توهم ذلك فهو المخطىء فإنه كما كان يجوز الخصوص فإنه ينبغي أن يبقى مجوزا له في الباقي وإن أخرج البعض إذ ليس في إخراج البعض تصريح بحسم سبيل لشيء آخر كيف وقد نزل قوله تعالى{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ]آل عمران: من الآية97[ فسئل النبي عليه السلام عن الاستطاعة فقال الزاد والراحلة ولم يتعرض لأمن الطريق والسلامة وطلب الخفارة وذلك يجوز أن يتبين بدليل آخر بعده وقال تعالى{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}]المائدة: من الآية38[ثم ذكر النصاب بعده ثم ذكر الحرز بعد ذلك وكذلك كان يخرج شيئا شيئا من العموم على قدر وقوع الوقائع وكذلك يخرج من قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}]التوبة: من الآية5[أهل الذمة مرة والعسيف مرة والمرأة مرة أخرى وكذلك على
ج / 2 ص -46-
التدريج ولا إحالة في شيء من ذلك
فإن قيل :فإذا كان كذلك فمتى يجب على المجتهد الحكم بالعموم ولا يزال منتظرا لدليل بعده؟
قلنا: سيأتي ذلك في كتاب العموم والخصوص إن شاء الله
مسألة: هل يصح تخصيص المتواتر بخبر الآحاد ؟:
لا يشترط أن يكون طريق البيان للمجمل والتخصيص للعموم كطريق المجمل والعموم حتى يجوز بيان مجمل القرآن وعمومه وما ثبت بالتواتر بخبر الواحد خلافا لأهل العراق فإنهم لم يجوزوا التخصيص في عموم القرآن والمتواتر بخبر الواحد وأما المجمل فيما تعم به البلوى كأوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها ومقدار واجب الزكاة وجنسها فإنهم قالوا لا يجوز أن يبين إلا بطريق قاطع وأما ما لا تعم به البلوى كقطع يد السارق وما يجب على الأئمة من الحد وذكر أحكام المكاتب والمدبر فيجوز أن يبين بخبر الواحد وهذا يتعلق طرف منه بطريق التخصيص وسيأتي في القسم الرابع وطرف يتعلق بما تعم به البلوى وقد ذكرناه في كتاب الأخبار
ج / 2 ص -47-
القسم الثاني من الفن الأول في الظاهر والمؤول
إعلم أنا بينا أن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا والنص هو الذي لا يحتمل التأويل والظاهر هو الذي يحتمله فهذا القدر قد عرفته على الجملة وبقي عليك الآن أن تعرف الاختلاف في إطلاق لفظ النص وأن تعرف حده وحد الظاهر وشرط التأويل المقبول
فنقول: النص إسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه :
الأول: ما أطلقه الشافعي رحمه الله فإنه سمى الظاهر نصا وهو منطبق على اللغة ولا مانع منه في الشرع والنص في اللغة بمعنى الظهور تقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد فرجة نص
فعلى هذا حده حد الظاهر: هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص
الثاني: وهو الأشهر :ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الأربعة وسائر الأعداد ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير وغيره فكل ما كانت
ج / 2 ص -48-
دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في طرفي الإثبات والنفي أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص
ويجوز أن يكون اللفظ الواحد :نصا ظاهرا مجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد
الثالث: التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا
فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل ولا حجر في إطلاق اسم النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد
هذا هو القول في النص والظاهر
أما القول في التأويل فيستدعي تمهيد أصل وضرب أمثلة
أما التمهيد: فهو أن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصار على البعض فكأنه رد له إلى المجاز إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد فإن قرب كفى في إثباته دليل قريب وإن لم يكن بالغا في القوة وإن كان بعيدا افتقر إلى دليل قوي يجبر بعده حتى يكون ركوب ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظن من مخالفة ذلك الدليل وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه
ورب تأويل لا ينقدح إلا بتقدير قرينة وإن لم تنقل القرينة كقوله عليه السلام :"إنما الربا في النسيئة" فإنه يحمل على مختلفي الجنس ولا ينقدح هذا
ج / 2 ص -49-
التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ولكن يجوز تقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص وقوله عليه السلام لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء نص في إثبات ربا الفضل وقوله إنما الربا في النسيئة حصر للربا في النسيئة ونفي لربا الفضل فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص ولهذا المعنى كان الاحتمال البعيد كالقريب في العقليات فإن دليل العقل لا تمكن مخالفته بوجه ما والاحتمال البعيد يمكن أني يكون مرادا باللفظ بوجه ما
فلا يجوز التمسك في العقليات إلا بالنص بالوضع الثاني وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط إلا أنا نضرب أمثلة فيما يرتضي من التأويل وما لا يرتضي ونرسم في كل مثال مسألة ونذكر لأجل المثال عشر مسائل خمسة في تأويل العموم وخمسة في تخصيص العموم
مسألة فساد التأويل بقرائن
التأويل وإن كان محتملا فقد تجتمع قرائن تدل على فساده وأحاد تلك القرائن لا تدفعه لكن يخرج بمجموعها عن أن يكون منقدحا غالبا
مثاله قوله عليه السلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة :أمسك أربعا وفارق سائرهن وقوله عليه السلام لفيروز الديلمي حين أسلم على أختين أمسك إحداهما وفارق الأخرى فإن ظاهر هذا يدل على دوام النكاح فقال أبو حنيفة أراد به ابتداء النكاح أي أمسك أربعا فأنكحهن وفارق سائرهن أي انقطع عنهن ولا تنكحهن ولا شك أن ظاهر لفظ
ج / 2 ص -50-
الإمساك الاستصحاب والاستدامة وما ذكره أيضا محتمل ويعتضد أحتماله بالقياس إلا أن جملة من القرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى في النفس من التأويل
أولها: أنا نعلم أن الحاضرين من الصحابة لم يسبق إلى إفهامهم من هذه الكلمة إلا الاستدامة في النكاح وهو السابق إلى أفهامنا فإنا لو سمعناه في زماننا لكان هو السابق إلى أفهامنا
الثاني: أنه قابل لفظ الإمساك بلفظ المفارقة وفوضه إلى اختياره فليكن الإمساك والمفارقة إليه وعندهم الفراق واقع والنكاح لا يصح إلا برضا المرأة
الثالث: أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه فإنه كان لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وما أحوج جديد العهد بالإسلام إلى أن يعرف شروط النكاح
الرابع: أنه لا يتوقع في اطراد العادة انسلاكهن في ربقة الرضا على حسب مراده بل ربما كان يمتنع جميعهن فكيف أطلق الأمر مع هذا الإمكان ؟
الخامس: أن قوله أمسك أمر وظاهره الإيجاب فكيف أوجب عليه ما لم يجب ولعله أراد أن لا ينكح أصلا
السادس: أنه ربما أراد أن لا ينكحهن بعد أن قضى منهن وطرا فكيف حصره فيهن ؟بل كان ينبغي أن يقول إنكح أربعا ممن شئت من نساء العالم
ج / 2 ص -51-
من الأجنبيات فإنهن عندكم كسائر نساء العالم فهذا وأمثاله من القرائن ينبغي أن يلتفت إليها في تقرير التأويل ورده وآحادها لا يبطل الاحتمال لكن المجموع يشكك في صحة القياس المخالف للظاهر ويصير اتباع الظاهر بسببها أقوى في النفس من اتباع القياس
والإنصاف أن ذلك يختلف بتنوع أحوال المجتهدين وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة مع هذه القرائن وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين
مسألة التأويل في حديث غيلان الثقفي
من تأويلاتهم في هذه المسألة أن الواقعة ربما وقعت في ابتداء الإسلام قبل الحصر في عدد النساء فكان على وفق الشرع وإنما الباطل من أنكحة الكفار ما يخالف الشرع كما لو جمع في صفقة واحدة بين عشر بعد نزول الحصر
فنقول: إذا سلم هذا أمكن القياس عليه لأن قياسهم يقتضي اندفاع جميع هذه الأنكحة كما لو نكح أجنبيتين ثم حدث بينهما أخوة برضاع اندفاع النكاح ولم يتخير
ومع هذا فنقول :هذا بناء تأويل على احتمال من غير نقل ولم يثبت عندنا رفع حجر في ابتداء الإسلام ويشهد له أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة زيادة على أربعة وهم الناكحون ولو كان جائزا لفارقوا عند نزول الحصر ولأوشك أن ينقل ذلك وقوله تعالى{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }]النساء: من الآية23[أراد به زمان الجاهلية هذا ما ورد في التفسير
فإن قيل :فلو صح رفع حجر في الابتداء هل كان هذا الاحتمال مقبولا ؟
قلنا قال بعض أصحابنا الأصوليين لا يقبل لأن الحديث استقل حجة فلا يدفع بمجرد الاحتمال ما لم ينقل وقوع نكاح غيلان قبل نزول الحجر وهذا ضعيف لأن الحديث لا يستقل حجة ما لم ينقل تأخر نكاحه عن نزول
ج / 2 ص -52-
الحصر لأنه إن تقدم فليس بحجة وإن تأخر فهو حجة فليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر ولا تقوم الحجة باحتمال يعارضه غيره
مسألة: هل يرفع التأويل النص؟ :
قال :بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل
ومثاله تأويل أبي حنيفة في مسألة الأبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام في أربعين شاة شاة فقال أبو حنيفة الشاة غير واجبة وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان قال فهذا باطل لأن اللفظ نص في وجوب شاة وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعا للنص فإن قوله { وَآتُوا الزَّكَاةَ }]النساء: من الآية77[للإيجاب وقوله عليه السلام "في أربعين شاة شاة" بيان للواجب وإسقاط وجوب الشاة رفع للنص
وهذا غير مرضي عندنا فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجبها وإن كان الوجوب يتأدى بخصلة أخرى فهذا توسيع للوجوب واللفظ نعى في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه ولعله ظاهر في التعيين محتمل للتوسيع والتخيير وهو كقوله وليستنج بثلاثة أحجار فإن إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء لكن الحجر يجوز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينه وبين ما في معناه نعم إنما ينكر الشافعي هذا التأويل لا من حيث أنه نص لا يحتمل لكن من وجهين
أحدهما: أن دليل الخصم أن المقصود سد الخلة
ومسلم أن سد الخلة مقصود لكن غير مسلم أنه كل المقصود فلعله قصد مع ذلك التعبد بإشراك الفقير في جنس مال الغني فالجمع بين الظاهر وبين التعبد ومقصود سد الخلة أغلب على الظن في العبادات لأن العبادات مبناها
ج / 2 ص -53-
على الاحتياط من تجريد النظر إلى مجرد سد الخلة
الثاني: أن التعليل بسد الخلة مستنبط من قوله في أربعين شاة شاة وهو استنباط يعود على أصل النص بالإبطال أو على الظاهر بالرفع وظاهره وجوب الشاة على التعيين فإبراز معنى لا يوافق الحكم السابق إلى الفهم من اللفظ لا معنى له لأن العلة ما يوافق الحكم والحكم لا معنى له إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يدل على تعيين الشاة وهذا التعليل يدفع هذا الظاهر
وهذا أيضا عندنا في محل الاجتهاد فإن معنى سد الخلة ما يسبق إلى الفهم من إيجاب الزكاة للفقراء وتعيين الشاة يحتمل أن يكون للتعبد كما ذكر الشافعي رحمه الله ويحتمل أن لا يكون متعينا لكن الباعث على تعيينه شيئان :
أحدهما: أن الأيسر على الملاك والأسهل في العبادات كما عين ذكر الحجر في الاستنجاء لأنه أكثر في تلك البلاد وأسهل وكما يقول المفتي وجبت عليه كفارة اليمين تصدق بعشرة أمداد من البر لأنه يرى ذلك أسهل عليه من العتق ويعلم من عادته أنه لو خير بينهما لاختار الإطعام على الإعتاق ليسره فيكون ذلك باعثا على تخصيصه بالذكر
والثاني: أن الشاة معيار لمقدار الواجب فلا بد من ذكرها إذ القيمة تعرف بها وهي تعرف بنفسها فهي أصل على التحقيق ولو فسر النبي عليه الصلاة والسلام كلامه بذلك لم يكن متناقضا ولكان حكما بأن البدل يجري في الزكاة فهذا كله في محل الاجتهاد وإنما تشمئز عنه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم منه
فليس يبطل الشافعي رحمه الله هذا الانتفاء الاحتمال لكن لقصور الدليل الذي يعضده ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة ولأنه ذكر الشاة في
ج / 2 ص -54-
خمس من الإبل وليس من جنسه حتى يكون للتسهيل ثم في الجبران يردهم بين شاة وعشرة دراهم ولم يردهم إلى قيمة الشاة وفي خمس من الإبل لم يردهم
فهذه قرائن تدل على التعبد والباب باب التعبد والاحتياط فيه أولى
مسألة: تأويل آية مصارف الزكاة
يقرب مما ذكرنا تأويل الآية في مسألة أصناف الزكاة فقال قوم قوله تعالى{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }]التوبة: من الآية60[الآية نص في التشريك فالصرف إلى واحد إبطال له
وليس كذلك عندنا بل هو عطف على قوله تعالى{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ]التوبة:58[إلى قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }]التوبة: من الآية60[يعني أن طمعهم في الزكاة مع خلوهم عن شرط الاستحقاق باطل ثم عدد شروط الاستحقاق ليبين مصرف الزكاة ومن يجوز صرف الزكاة إليه فهذا محتمل فإن منعه فللقصور في دليل التأويل لا لانتفاء الاحتمال فهذا وأمثاله ينبغي أن يسمى نصا بالوضع الأول أو الثالث أما بالوضع الثاني فلا
مسألة هل المعتبر العدد أم الجنس
قال قوم :قوله تعالى{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}]المجادلة: من الآية4[نص في وجوب رعاية العدد ومنع الصرف إلى مسكين واحد في ستين يوما وقطعوا ببطلان تأويله
وهو عندنا من جنس ما تقدم فإنه إن أبطل لقصور الاحتمال وكون الآية
ج / 2 ص -55-
نصا بالوضع الثاني فهو غير مرضي فإنه يجوز أن يكون ذكر المساكين لبيان مقدار الواجب ومعناه فإطعام طعام ستين مسكينا وليس هذا ممتنعا في توسع لسان العرب نعم دليله تجريد النظر إلى سد الخلة
والشافعي: يقول لا يبعد أن يقصد الشرع ذلك لإحياء ستين مهجة تبركا بدعائهم وتحصنا عن حلول العذاب بهم ولا يخلو جمع من المسلمين عن ولي من الأولياء يغتنم دعاؤه ولا دليل على بطلان هذا المقصود فتصير الآية نصا بالوضع الأول والثالث لا بالوضع الثاني
هذه أمثلة التأويل
ولنذكر أمثلة التخصيص فإن العموم إن جعلنا ظاهرا في الاستغراق لم يكن في التخصيص إلا إزالة ظاهر فلأجل ذلك عجلنا ذكر هذا القدر وإلا فبيانه في القسم الرابع المرسوم لبيان العموم أليق
مسألة :أقسام العموم
إعلم أن العموم عند من يرى التمسك به ينقسم إلى قوي يبعد عن قبول التخصيص إلا بدليل قاطع أو كالقاطع وهو الذي يحوج إلى تقدير قرينة حتى تنقدح إرادة الخصوص به وإلى ضعيف ربما يشك في ظهوره ويقتنع في تخصيصه بدليل ضعيف وإلى متوسط
مثال القوي منه : قوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث" وقد حمله الخصم على الأمة فنبا عن قبوله قوله "فلها المهر بما استحل من فرجها" فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى الحمل على المكاتبة
وهذا تعسف ظاهر لأن العموم قوي والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء وليس من كلام العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ وقياس النكاح على المال وقياس الإناث على الذكور ليس قرينة مقترنة باللفظ حتى يصلح لتنزيله على صورة نادرة
ودليل ظهور قصد التعمم بهذا اللفظ أمور :
ج / 2 ص -56-
الأول: أنه صدر الكلام بأي وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم
الثاني: أنه أكده بما فقال أيما وهي من المؤكدات المستقلة بإفادة العموم أيضا
الثالث: أنه قال فنكاحها باطل رتب الحكم على الشرط في معرض الجزاء وذلك أيضا يؤكد قصد العموم
ونحن نعلم أن العربي الفصيح لو اقتراح عليه بأن يأتي بصيغة عامة دالة على قصد العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة ونحن نعلم قطعا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة وأنا لو سمعنا واحدا منا يقول لغيره أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما لا يفهم منه المكاتبة ولو قال أردت المكاتبة نسب إلى الألغاز والهزء ولو قال أيما أهاب دبغ فقد طهر ثم قال أردت به الكلب أو الثعلب على الخصوص لنسب إلى اللكنة والجهل باللغة
ثم لو أخرج الكلب أو الثعلب أو المكاتبة وقال ما خطر ذلك ببالي لم يستنكر فما لا يخطر بالبال أو بالأخطار وجاز أن يشذ عن ذكر اللافظ وذهنه حتى جاز إخراجه عن اللفظ كيف يجوز قصر اللفظ عليه ؟!
بل نقول :من ذهب إلى إنكار صيغ العموم وجعلها مجملة فلا ينكر منع التخصيص إذا دلت القرائن عليه فالمريض إذا قال لغلامه لا تدخل علي الناس فأدخل عليه جماعة من الثقلاء وزعم أني أخرجت هذا من عموم لفظ الناس فإنه ليس نصا في الاستغراق استوجب التعزيز
فلنتخذ هذه المسألة مثالا لمنع التخصيص بالنوادر
ج / 2 ص -57-
مسألة:
مثال عن العام القوي يقرب من هذا قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم عتق عليه إذ قبله بعض أصحاب الشافعي وخصصه بالأب
وهذا بعيد لأن الأب يختص بخاصية تتقاضى تلك الخاصية التنصيص عليه فيما يوجب الاحترام والعدول عن لفظه الخاص إلى لفظ يعم قريب من الألغاز والألباس ولا يليق بمنصب الشارع عليه السلام إلا إذا اقترن به قرينة معرفة ولا سبيل إلى وضع القرائن من غير ضرورة وليس قياس الشافعي في تخصيص النفقة بالبعضية بالغا في القوة مبلغا ينبغي أن يخترع تقدير القرائن بسببه فلو صح هذا اللفظ لعمل الشافعي رحمه الله بموجبه فإن من كان من عادته إكرام أبيه فقال من عادتي إكرام الناس كان ذلك خلفا من الكلام ولكن قال الشافعي الحديث موقوف على الحسن بن عمارة
مسألة
مثال عن العام الضعيف ما ذكرناه مثال العموم القوي أما مثال العموم الضعيف فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وفيما سقي ينضح أو دالية نصف العشر فقد ذهب بعض القائلين بصيغ العموم إلى أن هذا لا يحتج به في إيجاب العشر ونصف العشر في جميع ما سقته السماء ولا في جميع ما سقي بنضح لأن المقصود منه الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر حتى يتعلق بعمومه
وهذا فيه نظر عندنا إذ لا يبعد أن يكون كل واحد مقصودا وهو إيجاب العشر في جميع ما سقته السماء وإيجاب نصفه في جميع ما سقي بنضح واللفظ عام في صيغته فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم لكن يكفي في
ج / 2 ص -58-
التخصيص أدنى دليل
لكنه لو لم يرد إلا بهذا اللفظ ولم يرد دليل مخصص لوجب التعميم في الطرفين على مذهب من يرى صيغ العموم حجة
مسألة تأويل آية الأنفال قال الله تعالى {َاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى }]لأنفال: من الآية41[فقال أبو حنيفة: تعتبر الحاجة مع القرابة ثم جوز حرمان ذوي القربى فقال أصحاب الشافعي رحمه الله هذا تخصيص باطل لا يحتمله اللفظ لأنه أضاف المال إليهم بلام التمليك وعرف كل جهة بصفة وعرف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة وأبو حنيفة ألغى القرابة المذكورة واعتبر الحاجة المتروكة وهو مناقضة للفظ لا تأويل
وهذا عندنا في مجال الاجتهاد وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ ذوي القربى بالمحتاجين منهم كما فعله الشافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم في سياق هذه الآية
فإن قيل: لفظ اليتم ينبىء عن الحاجة
قيل فلم لا يحمل عليه قوله لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر ؟
فإن قيل :قرينة إعطاء المال هي التي تنبه على اعتبار الحاجة مع اليتم
فله هو أن يقول واقتران ذوي القربى باليتامى والمساكين قرينة أيضا وإنما دعا إلى ذكر القرابة كونهم محرومين عن الزكاة حتى يعلم أنهم ليسوا محرومين عن هذا المال وهذا تخصيص لو دل عليه دليل فلا بد من قبوله فليس ينبو عنه اللفظ نبوة حديث النكاح بلا ولي عن المكاتبة
مسألة: تأويل نية الصيام
قوله عليه السلام "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" حمله أبو حنيفة على القضاء والنذر
فقال:أصحابنا :قوله لا صيام نفي عام لا يسبق منه إلى الفهم إلا الصوم الأصلي الشرعي وهو الفرض والتطوع ثم التطوع غير مراد فلا يبقى إلا
ج / 2 ص -59-
الفرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان وأما القضاء والنذر فيجب بأسباب عارضة ولا يتذكر بذكر الصوم مطلقا ولا يخطر بالبال بل يجري مجرى النوادر كالمكاتبة في مسألة النكاح بلا ولي
وهذا فيه نظر إذ ليس ندور القضاء والنذر كندور المكاتبة وإن كان الفرض أسبق منه إلى الفهم فيحتاج مثل هذا التخصيص إلى دليل قوي فليس يظهر بطلانه كظهور بطلان التخصيص بالمكاتبة
وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قريب والقصر على النادر ممتنع وبينهما درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تدخل تحت الحصر ولكل مسألة ذوق ويجب أن تفرد بنص خاص ويليق ذلك بالفروع ولم نذكر هذا القدر إلا لوقوع الأنس بجنس التصرف فيه والله أعلم
هذا تمام النظر في المجمل والمبين والظاهر والمؤول وهو نظر يتعلق بالألفاظ كلها والقسمان الباقيان نظر أخص فإنه نظر في الأمر والنهي خاصة وفي العموم والخصوص خاصة فلذلك قدمنا النظر في الأعم على النظر في الأخص
ج / 2 ص -60-
القسم الثالث في الأمر والنهي
فنبدأ بالأمر فنقول أولا :في حده وحقيقته
وثانيا في صيغته
وثالثا في مقتضاه من الفور والتراخي أو الوجوب أو الندب
وفي التكرار والاتحاد وإثباته
النظر الأول في حده وحقيقته
وهو قسم من أقسام الكلام: إذ بينا أن الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار فالأمر أحد أقسامه
وحد الأمر :أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به
والنهي :هو القول المقتضي ترك الفعل وقيل
في حد الأمر أنه طلب الفعل واقتضاؤه على غير وجه المسألة وممن هو دون الآمر في الدرجة احترازا عن قوله اللهم اغفر لي وعن سؤال العبد من سيده والولد من والده
ولا حاجة إلى هذا الاحتراز بل يتصور من العبد والولد أمر السيد والوالد وإن لم تجب عليهما الطاعة فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى والعرب قد تقول فلان أمر أباه والعبد أمر سيده ومن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه فيرون
ج / 2 ص -61-
ذلك أمرا وإن لم يستحسنوه وكذلك قوله اغفر لي فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره فيكون آمرا ويكون عاصيا بأمره
فإن قيل: قولكم الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور أردتم به القول باللسان أو كلام النفس ؟
قلنا: الناس فيه فريقان: الفريق الأول :هم المثبتون لكلام النفس وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ودليلا عليه وهو قائم بالنفس وهو أمر بذاته وجنسه ويتعلق بالمأمور به وهو كالقدرة فإنها قدرة لذاتها وتتعلق بمتعلقها ولا يختلف في الشاهد والغائب في نوعه وحده وينقسم إلى قديم ومحدث كالقدرة ويدل عليه تارة بالإشارة والرمز والفعل وتارة بالألفاظ فإن سميت الإشارة المعرفة أمرا فمجاز لأنه دليل على الأمر لا أنه نفس الأمر
وأما الألفاظ فمثل قوله أمرتك فاقتضى طاعته
وهو ينقسم إلى إيجاب وندب
ويدل على معنى الندب بقوله ندبتك ورغبتك فافعل فإنه خير لك وعلى معنى الوجوب بقوله أوجبت عليك أو فرضت أو حتمت فافعل فإن تركت فأنت معاقب وما يجري مجراه
وهذه الألفاظ الدالة على معنى الأمر تسمى أمرا وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس وبين اللفظ الدال فيكون حقيقة فيهما أو يكون حقيقة
ج / 2 ص -62-
في المعنى القائم بالنفس وقوله إفعل يسمى أمرا مجازا كما تسمى الإشارة المعرفة أمرا مجازا ومثل هذا الخلاف جاز في اسم الكلام أنه مشترك بين ما في النفس وبين اللفظ أو هو مجاز في اللفظ
الفريق الثاني: هم المنكرون لكلام النفس وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف وتحزبوا على ثلاث مراتب: الحزب الأول: قالوا لا معنى للأمر إلا حرف وصوت وهو مثل قوله إفعل أو ما يفيد معناه وإليه ذهب البلخي من المعتزلة وزعم أن قوله إفعل أمر لذاته وجنسه وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا
فقيل له هذه الصيغة قد تصدر للتهديد كقوله{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت: من الآية40] وقد تصدر للإباحة كقوله{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }[المائدة: من الآية2] فقال ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس وهو مناكرة للحس فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف
الحزب الثاني وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون إن قوله أفعل ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته بل لصيغته وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد والإباحة وغيره وزعموا أنه لو صدر من النائم والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة
وهذا بعارضه قوله من قال أنه لغير الأمر إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر لأنه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل ولا بنظر ولا بنقل متواتر من أهل اللغة فيجب التوقف
ج / 2 ص -63-
فيه فعند ذلك اعترف
الحزب الثالث من محققي المعتزلة أنه ليس أمر الصيغة وذاته ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة بل يصير أمرا بثلاث إرادات إرادة المأمور به وإرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر دون الإباحة والتهديد
وقال بعضهم: تكفي إرادة واحدة وهي إرادة المأمور
وهذا فاسد من أوجه:
الأول أنه يلزم أن يكون قوله تعالى {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}]الحجر:46[وقوله {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}]الحاقة:24[أمرا لأهل الجنة ولا يمكن تحقيق الأمر إلا بوعد ووعيد فتكون الدار الآخرة دار تكليف ومحنة وهو خلاف الاجماع
وقد ركب ابن الجبائي هذا وقال إن الله مريد دخولهم الجنة وكاره امتناعهم إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم وهذا ظلم والله سبحانه يكره الظلم
فإن قيل: قد وجدت إرادة الصيغة وإرادة المأمور به لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الأمر
قلنا :وهل للأمر معنى وراء الصيغة حتى تراه الدلالة عليه أم لا فإن كان له معنى فما هو وهل له حقيقة سوى ما يقول بالنفس من اقتضاء الطاعة وإن لم يكن سوى الصيغة فلا معنى لاعتبار هذه الإرادة الثالثة
الوجه الثاني: أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه إفعل مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه وهو محال بالاتفاق فإن الأمر هو المقتضى وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل بل المقتضي دواعيه وأغراضه ولهذا لو قال لنفسه إفعل وسكت وجد هاهنا إرادة الصيغة وإرادة المأمور به وليس بأمر فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق
ج / 2 ص -64-
بغيره وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة ؟فيه كلام سبق
فإن قيل: وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به؟
فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده إسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي والإسراج أعني طلبه والميل إليه لارتباط غرضه به فإن ثبت أن الأمر يرجع إلى هذه الإرادة لزم إقتران الأمر والإرادة في حق الله تعالى حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة إذ الكائنات كلها مرادة أو ينكر وقوعها بإرادة الله فيقال إنها على خلاف إرادته وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته وهي الطاعات وذلك أيضا منكر فما المخلص من هذه الورطة ؟
قلنا: هذه الضرورة التي دعت الأصحاب إلى تمييز الأمر عن الإرادة فقالوا قد يأمر السيد عبده بما لا يريده كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك أسرج الدابة وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر وإهلاك للسيد فيعلم أنه لا يريده وهو آمرا إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ولما تمهد عذره عند السلطان وكيف لا يكون آمرا وقد منهم العبد والسلطان والحاضرون منه الأمر فدل أنه قد يأمر بما لا يريده
هذا منتهى كلامهم وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين والقول فيه يطول ويخرج عن خصوص مقصود الأصول
ج / 2 ص -65-
النظر الثاني في الصيغة
وقد حكى بعض الأصوليين خلافا في أن الأمر هل له صيغة وهذه الترجمة خطأ فإن قول الشارع أمرتكم بكذا وأنتم مأمورون بكذا أو قول الصحابي أمرت بكذا كل ذلك صيغ دالة على الأمر وإذا قال أوجبت عليكم أو فرضت عليكم أو أمرتكم بكذا وأنتم معاقبون على تركه