عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
خطْبَة الْكتاببِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيمالْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على أشرف الْمُرْسلين سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأمين وعَلى آله الطيبين الطاهرين وَأَصْحَابه نُجُوم الدّينوَبعد1 - فَهَذَا مُخْتَصر من كتاب المؤمل للرَّدّ إِلَى الْأَمر الأول تصنيف الإِمَام الْعَلامَة مُحي السّنة شهَاب الدّين أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِأبي شامة قدس الله روحه قَالَأما بعد2 - فَإِن الْعلم قد درست أَعْلَامه وَقل فِي هَذَا الزَّمَان إتقانه وإحكامه وَأدّى بِهِ الاهمال إِلَى أَن عدم احترامه وَقل إجلاله وإعظامه وَكَاد يجهل حَلَاله وَحَرَامههَذَا مَعَ حث الشَّارِع عَلَيْهِ وَوصف الْعلمَاء القائمين بخشيتهم إِيَّاه وَرَفعه درجاتهم وضمه لَهُم مَعَ اللائكة فِي شهاداتهمقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء}وَقَالَ تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم}وَقَالَ تَعَالَى {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات الْكَثِيرَة ولأحاديث المستنيرة3 - وَقد كَانَ من مضى من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين قَائِمين بنشر عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي جَمِيع الْآفَاق وهم فِي ذَلِك متفاضلونفَمنهمْ الْمُحكم لأمر الْكتابوَمِنْهُم الْقَائِم بِأَمْر السّنةوَمِنْهُم الممعن فِي استنباط الْأَحْكَاموَقل من اجْتمع فِيهِ الْقيام بِجَمِيعِ ذَلِك(1/27)فصل فِي مَنَاقِب الإِمَام الشَّافِعِي4 - وَكَانَ من أجعهم وأقومهم بِهِ إمامنا أَبُو عبد الله الْقرشِي المطلبي الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ جمع النّسَب الطَّاهِر وَالْعلم الباهر وَكَثْرَة المآثر وَجل المفاخر كَانَ فِيهِ من المناقب والفضائل مَا فرق فِي كثير من الْأَئِمَّة الأفاضل وَيشْهد لَهُ بذلك من كل فِئَة سادة أفاضل5 - قَالَ الْمُزنِيّ سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول حفظت الْقُرْآن وَأَنا ابْن سبع سِنِين وحفظت الْمُوَطَّأ وَأَنا ابْن عشر6 - وَقَالَ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى كَانَ الشَّافِعِي إِذا أَخذ فِي التَّفْسِير كَأَنَّهُ شهد التَّنْزِيل7 - وَقَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن بنت الشَّافِعِي سَمِعت أبي وَعمي يَقُولَانِ كَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِذا جَاءَهُ شَيْء من التَّفْسِير والفتيا يسئل عَنْهَا الْتفت إِلَى الشَّافِعِي وَقَالَ يَقُول سلوا هَذَا الْغُلَام8 - وَقَالَ لَهُ شَيْخه مُسلم بن خَالِد وَهُوَ مفتي مَكَّة يَا أَبَا عبد الله أفت فقد آن لَك أَن تُفْتِي وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة(1/28)9 - وَقَالَ الرّبيع كَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة وَكَانَ يحي اللَّيْل إِلَى أَن مَاتَ10 - وَقَالَ أَبُو نعيم الْحَافِظ سَمِعت أَحْمد بن مُحَمَّد بنت الشَّافِعِي يَقُول كَانَت الْحلقَة فِي الْفتيا بِمَكَّة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام لِابْنِ عَبَّاس وَبعده لعطاء بن أبي رَبَاح وَبعده لعبد الْملك بن جريج وَبعده لمُسلم بن خَالِد وَبعده لسَعِيد بن سَالموَبعده لمُحَمد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَهُوَ شَاب11 - قَالَ ابْن مهْدي سَمِعت مَالِكًا يَقُول مَا يأتيني قُرَيْش أفهم من هَذَا الْفَتى يَعْنِي الشَّافِعِي12 - قَالَ أَبُو عبيد بن سَلام مَا رَأَيْت قطّ أَعقل وَلَا أورع وَلَا أفْصح من(1/29)الشَّافِعِي13 - قَالَ هِلَال بن الْعَلَاء الرقي أَصْحَاب الحَدِيث عِيَال على الشَّافِعِي فتح لَهُم الأقفال14 - قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه لَقِيَنِي أَحْمد بن حَنْبَل بِمَكَّة فَقَالَ تعال أريك رجلا لم تَرَ عَيْنَاك مثله فَأرَانِي الشَّافِعِيقَالَ فتناظرنا فِي الحَدِيث فَلم أر أعلم مِنْهُثمَّ تناظرنا فِي الْفِقْه فَلم أر أفقه مِنْهُثمَّ تناظرنا فِي الْقُرْآن فَلم أر أَقرَأ مِنْهُثمَّ تناظرنا فِي اللُّغَة فَوَجَدته بَيت اللُّغَة وَمَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثله قطّ قَالَ فَلَمَّا فارقناه أَخْبرنِي جمَاعَة من أهل الْفَهم بِالْقُرْآنِ أَنه كَانَ أعلم النَّاس فِي زَمَانه وَأَنه كَانَ قد أُوتِيَ فهما فِي الْقُرْآن15 - قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل كَانَ الْفُقَهَاء والمحدثون صيادلة فجَاء الشَّافِعِي طَبِيبا صيدلانيا مَا رَأَتْ الْعُيُون مِثَاله16 - وَقَالَ يرْوى فِي الحَدِيث إِن الله يقيض للنَّاس فِي رَأس كل مائَة سنة من يعلمهُمْ السّنَن وينفي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَذِب فَنَظَرْنَا فَإِذا فِي(1/30)رَأس الْمِائَة عمر بن عبد الْعَزِيز وَفِي رَأس الْمِائَتَيْنِ الشَّافِعِي17 - وَقَالَ إِذا سُئِلت عَن مَسْأَلَة لَا أعرف فِيهَا خَبرا قلت فِيهَا بقول الشَّافِعِي لِأَنَّهُ إِمَام عَالم من قُرَيْشوَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ عَالم قُرَيْش يمْلَأ الأَرْض علما18 - وَقَالَ كَلَام الشَّافِعِي فِي اللُّغَة حجَّة19 - وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْمَازِني الشَّافِعِي عندنَا حجَّة فِي النَّحْو20 - وَقَالَ أَبُو ثَوْر إِبْرَاهِيم بن خَالِد كَانَ الشَّافِعِي من معادن الْفِقْه(1/31)وجهابذة الْأَلْفَاظ ونقاد الْمعَانِي21 - قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد بن صباح الزَّعْفَرَانِي كَانَ أَصْحَاب الحَدِيث رقودا حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِي فأيقظهم فتيقظواومناقبه كَثِيرَة قد ألفت فِيهَا المؤلفات العديدةفصل فِي صفة أهل الْعلم22 - قَالَ عبد الله بن مَسْعُود لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الحَدِيث وَلَكِن الْعلم خشيَة الله23 - قَالَ مَالك بن أنس لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الرِّوَايَة وَلكنه نور يَجعله الله فِي قلب من يَشَاء من خلقه24 - وَفِي رِوَايَة الْعلم وَالْحكمَة نور يهدي بِهِ الله من يَشَاء وَلَيْسَ بِكَثْرَة الْمسَائِل(1/32)25 - قَالَ الْأَوْزَاعِيّ كَانَ هَذَا الْعلم كَرِيمًا يتلقاه الرجل بَينهم فَلَمَّا كتب ذهب نوره وَصَارَ إِلَى غير أَهله26 - وَفِي رِوَايَة كَانَ هَذَا الْعلم سنيا شريفا إِذْ كَانَ النَّاس يتلقونه بَينهم الخ27 - قَالَ إِذا أَرَادَ الله بِقوم شرا فتح عَلَيْهِم الجدل ومنعهم الْعَمَل28 - وَقَالَ مَالك لَيْسَ الجدل من الدّين فِي شَيْء29 - وَقَالَ أَيْضا المراء فِي الْعلم يقسي الْقُلُوب وَيُورث الضغائن30 - وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ عَن أبي أُمَامَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل ثمَّ تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه الْآيَة {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون}قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح31 - قَالَ بل كَانَ الْعلمَاء من السّلف الصَّالح أهل نسك وَعبادَة وورع وزهادة أرضوا الله تَعَالَى بعلمهم وصانوا الْعلم فصانهم وتدرعوا من الْأَعْمَال الصَّالِحَة بِمَا زانهم وَلم يشنهم الْحِرْص على الدُّنْيَا وخدمة أَهلهَا بل أَقبلُوا على طَاعَة(1/33)الله الَّتِي خلقُوا لأَجلهَا32 - فَأُولَئِك هم الَّذين عناهم الشَّافِعِي بقوله مَا أحد أولى بخلقه من الْفُقَهَاء وَفِي رِوَايَة إِن لم يكن الْفُقَهَاء الْعَامِلُونَ أَوْلِيَاء الله فَمَا لله ولي33 - قَالَ ابْن عَبَّاس لَو أَن الْعلمَاء أخذُوا الْعلم بِحقِّهِ لأحبهم الله وَالْمَلَائِكَة والصالحون من عباده ولهابهم النَّاس لفضل الْعلم وشرفه34 - قَالَ وهب بن مُنَبّه إِن الْفُقَهَاء فِيمَا خلا حملُوا الْعلم فَأحْسنُوا حمله فاحتاجت إِلَيْهِم الْمُلُوك وَأهل الدُّنْيَا وَرَغبُوا فِي عَمَلهم فَلَمَّا كَانَ بِأُجْرَة فَشَتْ عُلَمَاء فحملوا الْعلم فَلم يحسنوا حمله فطرحوا علمهمْ على الْمُلُوك وَأهل الدُّنْيَا فاهتضموهم واحتقروهم35 - وَقَالَ أَيْضا كَانَ الْعلمَاء قبلنَا قد استغنوا بعلمهم عَن دنيا غَيرهم فَكَانُوا لَا يلتفتون إِلَى دنياهم وَكَانَ أهل الدُّنْيَا يبذلون دنياهم فِي علمهمْ فَأصْبح أهل الْعلم منا الْيَوْم يبذلون لأهل الدُّنْيَا علمهمْ رَغْبَة فِي دنياهم وَأصْبح أهل الدُّنْيَا قد زهدوا فِي علمهمْ لما رَأَوْا من سوء مَوْضِعه عِنْدهم36 - اللَّهُمَّ فجنبنا طَريقَة قوم لم يقومُوا بِحَق الْعلم وَأَرَادُوا بِهِ الدُّنْيَا وأعرضوا عَمَّا لَهُم بِهِ فِي الْآخِرَة من الدرجَة الْعليا فَلم يهنئوا بحلاوته وَلم يتمتعوا بنضارته بل خلقت عِنْدهم ديباجته ورثت حَاله37 - وَعرف مِقْدَاره جمَاعَة من السَّادة فعظموه وبجلوه ووقروه واستغنوا بِهِ ورأوه بعد الْمعرفَة أفضل مَا أعطي الْبشر واحتقروا فِي جنبه كل مفتخر وتلو {فَمَا آتَانِي الله خير مِمَّا آتَاكُم}(1/34)38 - وَكَيف لَا يكون الْأَمر كَذَلِك وَالْعلم حَيَاة وَالْجهل موت فبينهما كَمَا بَين الْحَيَاة وَالْمَوْت وَلَقَد أحسن من قَالَوَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهلهوأجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور ... وَإِن امْرَءًا لم يحيى بِالْعلمِ ميتوَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النشور نشور39 - وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن عبد الله بن عمر من قَرَأَ الْقُرْآن فَكَأَنَّمَا أدرجت النُّبُوَّة بَين جَنْبَيْهِ إِلَّا أَنه لَا يُوحى إِلَيْهِ وَمن قَرَأَ الْقُرْآن فَرَأى أَن أحدا من الْخلق أعطي أفضل مِمَّا أعطي فقد حقر مَا عظم الله وَعظم مَا حقر اللهفصل فِي قبض الْعلمَاء وفشو الْجَهْل40 - وَصَحَّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا41 - وَمَا أعظم حَظّ من بذل نَفسه وجهدها فِي تَحْصِيل الْعلم حفظا على النَّاس لما بقى فِي أَيْديهم مِنْهُ42 - فَإِنَّهُ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة قد غلب على أَهلهَا الكسل والملل وَحب الدُّنْيَا وَقد قنع الْحَرِيص مِنْهُم من عُلُوم الْقُرْآن بِحِفْظ سوره وَنقل بعض قراءاته وغفل عَن علم تَفْسِيره ومعانيه واستنباط أَحْكَامه الشَّرِيفَة من مَعَانِيهوَاقْتصر من علم الحَدِيث على سَماع من بعض الْكتب على شُيُوخ أَكْثَرهم(1/35)أَجْهَل مِنْهُ بِعلم الرِّوَايَة فضلا عَن الدِّرَايَةوَمِنْهُم من قنع بزبالة أذهان الرِّجَال وكناسة أفكارهم وبالنقل عَن أهل مذْهبهوَقد سُئِلَ بعض العارفين عَن معنى الْمَذْهَب فَأجَاب أَن مَعْنَاهُ دين مبدل قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ}44 - أَلا وَمَعَ هَذَا يخيل إِلَيْهِ أَنه من رُؤُوس الْعلمَاء وَهُوَ عِنْد الله وَعند عُلَمَاء الدّين من أَجْهَل الْجُهَّال بل بِمَنْزِلَة قسيس النَّصَارَى أَو حبر الْيَهُود لِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَا كفرُوا إِلَّا بابداعهم فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع45 - وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ) الحَدِيثفصل فِي حَالَة السّلف الصَّالح فِي تدافع الْفَتْوَى عِنْد حُدُوث الْحَادِثَة46 - وَالْعلم بِالْأَحْكَامِ واستنباطها كَانَ أَولا حَاصِلا للصحابة رَضِي الله عَنْهُم فَمن بعدهمْ فَكَانُوا إِذا نزلت بهم النَّازِلَة بحثوا عَن حكم الله تَعَالَى فِيهَا من كتاب الله وَسنة نبيه وَكَانُوا يتدافعون الْفَتْوَى وَيَوَد كل مِنْهُم لَو كَفاهُ إِيَّاهَا غَيره(1/36)فصل فِي السُّؤَال عَن الْحَادِثَة وَالْكَلَام فِيهَا قبل وُقُوعهَا47 - وَكَانَ جمَاعَة مِنْهُم يكْرهُونَ الْكَلَام فِي مَسْأَلَة لم تقع وَيَقُولُونَ للسَّائِل عَنْهَا أَكَانَ ذَلِك فَإِن قَالَ لَا قَالُوا دَعه حَتَّى يَقع ثمَّ نجتهد فِيهِ48 - كل ذَلِك يَفْعَلُونَهُ خوفًا من الهجوم على مَا لَا علم لَهُم بِهِ واشتغالا بِمَا هُوَ الأهم من الْعِبَادَة وَالْجهَاد فَإِذا وَقعت الْمَسْأَلَة لم يكن بُد من النّظر فِيهَا49 - وَقَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ وَقد كره بعض السّلف للعوام الْمَسْأَلَة عَمَّا لم يكن وَلم يمض كتاب وَلَا سنةوكرهوا للمسئول الِاجْتِهَاد فِيهِ قبل أَن يَقع لِأَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا أُبِيح للضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة قبل الْوَاقِعَة فَلَا يغنيهم مَا مضى من الِاجْتِهَادوَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه(1/37)50 - وَعَن طَاوُوس قَالَ قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ على الْمِنْبَر أحرج الله على كل امْرِئ مُسلم سَأَلَ عَن شَيْء لم يكن فَإِنَّهُ قد بَين مَا هُوَ كَائِن51 - وَفِي رِوَايَة لَا يحل لكم أَن تسألوا عَمَّا لم يكن فَإِن الله تبَارك وَتَعَالَى قد قضى فِيمَا هُوَ كَائِن52 - قلت هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ}53 - وَعَن عبد الرَّحْمَن بن شُرَيْح أَن عمر بن الْخطاب كَانَ يَقُول إيَّاكُمْ وَهَذِه العضل فَإِنَّهَا إِذا نزلت بعث الله لَهَا من يقيمها ويفسرها54 - قلت إِنَّمَا يضْطَر إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الْحُكَّام وَلم يَأْتِ الِاجْتِهَاد لغير الْحُكَّام لحَدِيث معَاذ (إِن لم أجد فِي كتاب الله تَعَالَى فبسنة رَسُول(1/38)الله وَإِن لم أجد فِي سنة رَسُول الله أجتهد برأيي) لِأَنَّهُ كَانَ حَاكما55 - وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَقْْضِي بَيْنكُم برأيي فِيمَا لم ينزل عَليّ فِيهِ شَيْء) وَهُوَ حَاكم56 - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} وَكَانَا حاكمين57 - فالاجتهاد بِمَنْزِلَة الْميتَة قَالَ الثَّعْلَبِيّ وَالشَّافِعِيّ وَلَا يحل تناولهما إِلَّا عِنْد المخمصةوَالَّذِي لَيْسَ بحاكم ويجتهد بِرَأْيهِ فَمثله كَمثل رجل قعد فِي بَيته وَيَقُول إِنَّمَا جَازَ أكل الْميتَة لفُلَان وَيجوز أكلهَا لي أَيْضا58 - فَكَذَلِك لَا يجوز لأحد أَن يحْتَج بقول الْمُجْتَهد لِأَن الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب فَإِذا كَانَ شَيْء يحْتَمل أَن يكون صَوَابا وَخطأ فَتَركه أولى مثل الشُّبُهَات من الطَّعَام تَركه لَهَا أولى من تنَاوله59 - وَعَن الصَّلْت بن رشد قَالَ سَأَلت طاوسا عَن شَيْء فَانْتَهرنِي فَقَالَ أَكَانَ هَذَا قلت نعم قَالَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قلت الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ قَالَ إِن أَصْحَابنَا حدثونا عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ يَا أَيهَا النَّاس لَا تعجلوا بالبلاء قبل نُزُوله فَيذْهب بكم هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِن لم تعجلوا قبل نُزُوله لم يَنْفَكّ الْمُسلمُونَ أَن يكون فيهم من إِذا سُئِلَ سدد60 - وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تستعجلوا بالبلية قبل نُزُولهَا فَإِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك لَا يزَال مِنْكُم من يوفق ويسدد وَإِنَّكُمْ إِن استعجلتم بهَا قبل نُزُولهَا تفرقتم(1/39)61 - وَكَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن الْفَتْوَى يَقُول إذهب إِلَى هَذَا الْأَمِير الَّذِي تقلد أُمُور النَّاس ووضعها فِي عُنُقه إِشَارَة إِلَى أَن الْفَتْوَى والقضايا وَالْأَحْكَام من تَوَابِع الْولَايَة والسلطنة62 - قلت بِهَذَا السَّبَب أخذُوا سنَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَزَادُوا عَلَيْهِم حَتَّى صَارُوا اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة وَحكم عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم من أَصْحَاب النَّار كَمَا شهد للعشرة أَنهم من أَصْحَاب الْجنَّة63 - وَقَالَ مَسْرُوق سَأَلت أبي بن كَعْب عَن شَيْء قَالَ أَكَانَ بعد قلت لَا قَالَ فاصبر حَتَّى يكون فَإِن كَانَ اجتهدنا لَك رَأينَا64 - وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى أدْركْت مائَة وَعشْرين من الْأَنْصَار من أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنْهُم أحد يحدث بِحَدِيث إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاه وَلَا(1/40)يستفتى عَن شَيْء إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاه وَفِي رِوَايَة يسْأَل أحدهم الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَّا هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأولفصل فِي التنفير من القَوْل بِالرَّأْيِ65 - ثمَّ بعد الصَّحَابَة أَرَادَ الله أَن يصدق نبيه فِي قَوْله تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة أعظمها فرقة على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور برأيهم فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده عَن جُبَير بن نفير عَن عَوْف بن مَالك عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم66 - فكثرت الوقائع والنوازل فِي التَّابِعين وَمن بعدهمْ واجتهدوا بآرائهم لمن اضْطر وَمن لم يضْطَر ووصلت إِلَى من بعدهمْ من الْفُقَهَاء ففرعوا عَلَيْهَا وقاسوا واجتهدوا فِي إِلْحَاق غَيرهَا بهَا فتضاعفت مسَائِل الْفِقْه وشككهم إِبْلِيس ووسوس فِي صُدُورهمْ67 - وَاخْتلفُوا اخْتِلَافا كثيرا من غير تَقْلِيد فقد نهى إمامنا الشَّافِعِي عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره كَمَا سَنذكرُهُ فِي فصل68 - وَكَانَت تِلْكَ الْأَزْمِنَة مَمْلُوءَة بالمجتهدين فَكل صنف على مَا رأى وَتعقب بَعضهم بَعْضًا مستمدين من الْأَصْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة وترجيح الرَّاجِح من أَقْوَال السّلف الْمُخْتَلفَة بِغَيْر هوى وَلم يزل الْأَمر على مَا وصفت إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة69 - ثمَّ اشتهرت الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وهجر غَيرهَا فقصرت همم أتباعهم إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فقلدوا بَعْدَمَا كَانَ التَّقْلِيد لغير الرُّسُل حَرَامًا بل صَارَت أَقْوَال أئمتهم عِنْدهم بِمَنْزِلَة الْأَصْلَيْنِ وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله}(1/41)70 - فَعدم المجتهدون وَغلب المقلدون وَكثر التعصب وَكفر بالرسول حَيْثُ قَالَ يبْعَث الله فِي كل مائَة سنة من يَنْفِي تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين71 - وحجروا على رب الْعَالمين مثل الْيَهُود أَن لَا يبْعَث بعد أئمتهم وليا مُجْتَهدا حَتَّى آل بهم التعصب إِلَى أَن أحدهم إِذا أورد عَلَيْهِ شَيْء من الْكتاب وَالسّنة الثَّابِتَة على خِلَافه يجْتَهد فِي دَفعه بِكُل سَبِيل من التآويل الْبَعِيدَة نصْرَة لمذهبه وَلقَوْله وَلَو وصل ذَلِك إِلَى إِمَامه الَّذِي يقلده لقابله ذَلِك الإِمَام بالتعظيم وَصَارَ إِلَيْهِ وتبرأ من رَأْيه مستعيذا بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَحمد الله على ذَلِك72 - ثمَّ تفاقم الْأَمر حَتَّى صَار كثير مِنْهُم لَا يرَوْنَ الِاشْتِغَال بعلوم الْقُرْآن والْحَدِيث ويرون أَن مَا هم عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْمُوَاظبَة عَلَيْهِ فبدلوا بالطيب خبيثا(1/42)وبالحق بَاطِلا {اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى فَمَا ربحت تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مهتدين}فصل فِي كَلَام الْعلمَاء فِي الرَّأْي وَالْقِيَاس73 - ثمَّ نبغ قوم آخَرُونَ صَارَت عقيدتهم فِي الِاشْتِغَال بعلوم الْأَصْلَيْنِ يرَوْنَ أَن الأولى مِنْهُ الِاقْتِصَار على نكت خلافية وضعوها وأشكال منطقية ألفوها74 - وَقد قَالَ عمر بن الْخطاب اتهموا الرَّأْي على الدّين75 - وَقَالَ سهل بن حنيف اتَّقوا الرَّأْي فِي دينكُمْ76 - وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود يحدث قوم يقيسون الْأَمر برأيهم فيهدم الْإِسْلَام ويثلم77 - مَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بِالرَّأْيِ وَلَا قَالَت النَّصَارَى وَلَا أَن الله هُوَ الْمَسِيح بن مَرْيَم وَلَا اتخذ الله ولدا أَلا بِالرَّأْيِ وَكَذَلِكَ كل من عبد شَيْئا من دون الله إِنَّمَا عَبده بِرَأْيهِ فَانْظُر إِلَى قَول السامري {وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي}78 - وَقَالَ عبد الله بن عمر لَا يزَال النَّاس على الطَّرِيق مَا اتبعُوا الْأَثر(1/43)79 - روى الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عمر إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا80 - وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ عَلَيْك بآثار من سلف وَإِن رفضك النَّاس وَإِيَّاك ورأي الرِّجَال وَإِن زخرفوه لَك بالْقَوْل81 - وَقَالَ أَيْضا إِذا بلغك عَن رَسُول الله حَدِيثا فإياك أَن تَقول بِغَيْرِهِ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مبلغا عَن الله تبَارك وَتَعَالَى82 - وَقَالَ أَيْضا الْعلم مَا جَاءَ عَن أَصْحَاب مُحَمَّد وَمَا لم يَجِيء عَن أَصْحَاب مُحَمَّد فَلَيْسَ بِعلم يَعْنِي مَا لم يَجِيء أَصله مِنْهُم83 - قَالَ الشّعبِيّ إِذا جَاءَك الْخَبَر عَن أَصْحَاب مُحَمَّد فضعه على رَأسك وَإِذا جَاءَك عَن التَّابِعين فَاضْرب بِهِ أقفيتهم84 - وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ الْعلم كُله بالآثار85 - وَقَالَ ابْن مبارك ليكن الَّذِي تعتمد عَلَيْهِ الْأَثر وَخذ من الرَّأْي مَا يُفَسر لَك الحَدِيث86 - وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل سَأَلت الشَّافِعِي عَن الْقيَاس فَقَالَ عِنْد(1/44)الضرورات وَكَانَ أحسن أَمر الشَّافِعِي عِنْدِي أَنه إِذا سمع الْخَبَر لم يكن عِنْده قَالَ بِهِ وَترك قَوْله87 - وَقَالَ الشّعبِيّ الْقيَاس كالميتة إِذا احتجت إِلَيْهَا فشأنك بهَا88 - قلت مَا احسن قَول الْقَائِلتجنب ركُوب الرَّأْي فَالرَّأْي رِيبَةعَلَيْك بآثار النَّبِي مُحَمَّد ... فَمن يركب الآراء يعم عَن الْهدىوَمن يتبع الْآثَار يهدي ويحمد89 - وَقَول بعض المغاربةلَا ترغبن عَن الحَدِيث وَأَهلهفَالرَّأْي ليل والْحَدِيث نَهَار90 - وَقَول الْقَائِلانْظُر بِعَين الْهدى إِن كنت ذَا نظرفَإِنَّمَا الْعلم مَبْنِيّ على الْأَثر ... لَا ترْضى غير رَسُول الله مُتبعامَا دمت تقدر فِي حكم على خبرفصل فِي وجوب الرُّجُوع إِلَى الْكتاب وَالسّنة91 - وَلم يخْتَلف الْمُفَسِّرُونَ فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من كتبهمْ فِي أَن قَوْله تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} تَقْدِيره إِلَى قَول الله وَقَول الرَّسُول92 - فَيجب رد جَمِيع مَا اخْتلف فِيهِ إِلَى ذَلِك فَمَا كَانَ أقرب إِلَيْهِ اعْتمد صِحَّته(1/45)وَأخذ بِهِ93 - وَلذَلِك قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ردوا الجهالات إِلَى السّنة وَفِي رِوَايَة يرد النَّاس من الجهالات إِلَى النَّاس94 - وَهَذِه كَانَت طَريقَة الْعلمَاء الْأَعْلَام أَئِمَّة الدّين وَهِي طَريقَة إمامنا أبي عبد الله الشَّافِعِي95 - وَلِهَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَلمَا من أحد وضع الْكتاب حَتَّى ظهر خطأه أتبع للسّنة من الشَّافِعِي96 - ثمَّ ان الشَّافِعِي رَحمَه الله احتاط لنَفسِهِ وَعلم أَن الْبشر لَا يَخْلُو من السَّهْو والغفلة وَعدم الِاحْتِيَاط فصح عَنهُ من غير وَجه أَنه أَمر إِذا وجد قَوْله على مُخَالفَة الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ أَن يتْرك قَوْله وَيُؤْخَذ بِالْحَدِيثِ97 - أَنبأَنَا الْفَاضِل أَبُو الْقَاسِم عَمَّن أخبرهُ الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن(1/46)الْبَيْهَقِيّ أَنبأَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب قَالَ سَمِعت الرّبيع بن سُلَيْمَان يَقُول سَمِعت الشَّافِعِي يَقُولإِذا وجدْتُم فِي كتابي خلاف سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقولُوا بسنته ودعوا مَا قلت98 - وَقَالَ صَاحب الشَّافِعِي الْمُزنِيّ فِي أول مُخْتَصره اختصرت هَذَا الْكتاب من علم مُحَمَّد بن ادريس الشَّافِعِي رَحمَه الله وَمن معنى قَوْله لأقربه على من أَرَادَهُ مَعَ اعلاميه نَهْيه عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره لينْظر فِيهِ لدينِهِ ويحتاط فِيهِ لنَفسِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقأَي مَعَ إعلامي من أَرَادَ علم الشَّافِعِي نهى الشَّافِعِي عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره99 - قَالَ الْمَاوَرْدِيّ صَاحب الْحَاوِي قَوْله ويحتاط لنَفسِهِ أَي كَطَلَب السّلف الصَّالح يتبعُون الصَّوَاب حَيْثُ كَانَ ويجتهدون فِي طلبه وَينْهَوْنَ عَن التَّقْلِيدفصل فِي الرُّجُوع إِلَى كتب السّنة وتمييز الطّيب من الْخَبيث من الْأَحَادِيث100 - ثمَّ إِن المصنفين من أَصْحَابنَا المتصفين بِالصِّفَاتِ الْمُتَقَدّمَة من الاتكال(1/47)على نُصُوص إمَامهمْ معتمدون عَلَيْهَا اعْتِمَاد الْأَئِمَّة قبلهم على الْأَصْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة قد وَقع فِي مصنفاتهم خلل كثير من وَجْهَيْن عظيمين101 - الأول إِنَّهُم يَخْتَلِفُونَ كثيرا فِيمَا يلقونه من نُصُوص الشَّافِعِي وَفِيمَا يصححونه مِنْهَا وَصَارَت لَهُم طرق مُخْتَلفَة خراسانية وعراقيةفترى هَؤُلَاءِ ينقلون عَن إمَامهمْ خلاف مَا يَنْقُلهُ هَؤُلَاءِ والمرجع فِي هَذَا كُله إِلَى إِمَام وَاحِد وَكتبه مدونة مروية مَوْجُودَة أَفلا كَانُوا يرجعُونَ إِلَيْهَا وينقون تصانيفهم من كَثْرَة اخْتلَافهمْ عَلَيْهَاوأجود تصانيف أَصْحَابنَا من الْكتب فِيمَا يتَعَلَّق بنصوص الشَّافِعِي كتاب التَّقْرِيب أثنى عَلَيْهِ أخبر الْمُتَأَخِّرين بنصوص الشَّافِعِي وَهُوَ الإِمَام الْحَافِظ ابو بكر الْبَيْهَقِيّ10 - (الْوَجْه الثَّانِي) مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والْآثَار المروية من كَثْرَة استدلالهم بالأحاديث الضعيفة على مَا يذهبون إِلَيْهِ نصْرَة لقَولهم وينقصون من أَلْفَاظ الحَدِيث وَتارَة يزِيدُونَ فِيهِوَمَا أَكْثَره فِي كتب أبي الْمَعَالِي وَصَاحبه أبي حَامِد نَحْواذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ وترادا(1/48)103 - وَمن العجيب مَا ذكره صَاحب الْمُهَذّب فِي أول بَاب إِزَالَة النَّجَاسَة قَالَوَأما الْغَائِط فَهُوَ نجس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار إِنَّمَا تغسل ثَوْبك من الْغَائِط وَالْبَوْل والمني وَالدَّم والقيءثمَّ ذكر طَهَارَة مني الْآدَمِيّ وَلم يتَعَرَّض للجواب عَن هَذَا الحَدِيث الَّذِي هُوَ حجَّة خَصمه وَلم يكن لَهُ حَاجَة إِلَى ذكره أصلا فَإِن الْغَائِط لَا ضَرُورَة إِلَى الِاسْتِدْلَال على نَجَاسَته بِهَذَا الحَدِيث الضَّعِيف المنتهض حجَّة عَلَيْهِ فِي أَمر آخر104 - وَمن قَبِيح مَا يَأْتِي بِهِ بَعضهم أَن يحْتَج بِخَبَر ضَعِيف وَهُوَ دَلِيل خَصمه عَلَيْهِ فيوردونه معرضين عَمَّا كَانُوا ضَعَّفُوهُوَفِي كتاب الْحَاوِي والشامل وَغَيرهمَا شَيْء كثير من هَذَا(1/49)وهم مقلدون لامامهم الشَّافِعِي فَهَلا اتبعُوا طَرِيقَته فِي ترك الِاحْتِجَاج بالضعيف وعقبه على من احْتج بِهِ وتبيين ضعفه105 - ثمَّ إِن مذْهبه ترك الِاحْتِجَاج بالمراسيل إِلَّا بِشُرُوطوَلَو ذكر سَنَد الحَدِيث وَعرفت عَدَالَة رِجَاله إِلَى التَّابِعِيّ وَسقط من السَّنَد ذكر الصَّحَابِيّ كَانَ مُرْسلاويوردون هَؤُلَاءِ المصنفون هَذِه الْأَحَادِيث محتجين بهَا بِلَا إِسْنَاد أصلا فَيَقُولُونَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويظنون أَن ذَلِك حجَّة(1/50)وإمامهم يرى أَنه لَو سقط من السَّنَد الصَّحَابِيّ وَحده لم يكن حجَّة وَكَذَا لَو سقط غير الصَّحَابِيّ من السَّنَد106 - فليتهم إِذا عجزوا عَن أَسَانِيد الْأَحَادِيث وَمَعْرِفَة رجالها عزوها إِلَى الْكتب الَّتِي أخذوها مِنْهَاوَلَكنهُمْ لم يَأْخُذُوا تِلْكَ الْأَحَادِيث إِلَّا من كتب من سبقهمْ من مشايخهم مِمَّن هُوَ على مثل حَالهم فبعضهم يَأْخُذهُ من بعض فَيَقَع التَّغْيِير وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِيمَا صَحَّ أَصله ويختلط الصَّحِيح بالسقيم وَهَذَا كُله غير مُسْتَقِيمفصل فِي بَيَان أَن الْأَحْكَام تثبت بالأدلة من دواوين السّنة الْمُعْتَبرَة107 - بل الْوَاجِب فِي الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام وَبَيَان الْحَلَال وَالْحرَام أَن من يسْتَدلّ بِحَدِيث يذكر مُسْتَنده وَيتَكَلَّم عَلَيْهِ بِمَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِهِ أَو يعزوه إِلَى كتاب مَشْهُور من كتب أهل الحَدِيث الْمُعْتَبرَة فَيرجع من يطْلب صِحَة الحَدِيث وسقمه إِلَى ذَلِك الْكتاب وَينظر فِي سَنَده وَمَا قَالَ ذَلِك المُصَنّف أَو غَيره فِيهِ108 - وَقد يسر الله تَعَالَى وَله الْحَمد الْوُقُوف على مَا يثبت من الْأَحَادِيث وتجنب مَا ضعف مِنْهَا بِمَا جمعه عُلَمَاء الحَدِيث فِي كتبهمْ من الْجَوَامِع وَالْمَسَانِيد(1/51)109 - فالجوامع هِيَ الْمرتبَة على الْأَبْوَاب من الْفِقْه والرقاق والمناقب وَغير ذَلِك110 - فَمِنْهَا مَا اشْترط فِيهِ الصِّحَّة إِذْ لَا يذكر فِيهِ إِلَّا حَدِيث صَحِيح على مَا اشْتَرَطَهُ مُصَنفه ككتابي البُخَارِيّ وَمُسلموَمَا الْحق بهما واستدرك عَلَيْهِمَا111 - وكصحيح إِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة وَكتاب أبي عِيسَى الترميذي وَهُوَ كتاب جليل مُبين فِيهِ الحَدِيث الصَّحِيح وَالْحسن والغريب والضعيف(1/52)وَفِيه عَن الْأَئِمَّة فقه كثير112 - ثمَّ سنَن أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَمن بعدهمْ سنَن أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ والتقاسيم لأبي حَاتِم بن حبَان وَغَيرهمَا113 - ثمَّ مَا رتبه وَجمعه الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى من الْأَوْسَط وَالصَّغِير الَّتِي اتى بهَا على تَرْتِيب مُخْتَصر الْمُزنِيّ وقربها إِلَى الْفُقَهَاء بِجهْدِهِ114 - فَلَا عذر لَهُم وَلَا سِيمَا الشَّافِعِيَّة مِنْهُم فِي تجنب الِاشْتِغَال بِهَذِهِ الْكتب النفيسة المصنفة فِي شروحها وغريبها بل أفنوا زمانهم وعمرهم بِالنّظرِ فِي أَقْوَال من سبقهمْ من الْمُتَأَخِّرين وَتركُوا النّظر فِي نُصُوص نَبِيّهم الْمَعْصُوم وآثار أَصْحَابه الَّذين شهدُوا الْوَحْي وعاينوا الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفهموا مُرَاد النَّبِي فِيمَا خاطبهم بقرائن الْأَحْوَال إِذْ الْخَبَر لَيْسَ كالمعاينةفَلَا جرم لَو حرم هَؤُلَاءِ رُتْبَة الِاجْتِهَاد وبقوا مقلدين(1/53)عذر الْعلمَاء فِي الصَّدْر الأول لَا يُوجد الْآن لتوفر كتب الحَدِيث115 - وَقد كَانَ الْعلمَاء فِي الصَّدْر الأول معذورين فِي ترك مَا لم يقفوا عَلَيْهِ من الحَدِيث لِأَن الْأَحَادِيث لم تكن حِينَئِذٍ بَينهم مدونة إِنَّمَا كَانَت تتلقى من أَفْوَاه الرِّجَال وهم متفرقون فِي الْبِلَاد116 - وَلَو كَانَ الشَّافِعِي وجد فِي زَمَانه كتابا فِي أَحْكَام السّنَن أكبر من الْمُوَطَّأ لحفظه مُضَافا إِلَى مَا تَلقاهُ من أَفْوَاه مشايخهفَلهَذَا كَانَ الشَّافِعِي بالعراق يَقُول لِأَحْمَد بن حَنْبَل أعلموني بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح أصر عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة إِذا صَحَّ عنْدكُمْ الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقولُوا لي حَتَّى أذهب إِلَيْهِ117 - ثمَّ جمع الْحفاظ الْأَحَادِيث المحتج بهَا فِي الْكتب ونوعوها وقسموها وسهلوا الطَّرِيق إِلَيْهَا فبوبوها وترجموها وبينوا ضعف كثير مِنْهَا وَصِحَّته وَتَكَلَّمُوا فِي عَدَالَة الرِّجَال وجرح الْمَجْرُوح مِنْهُم وَفِي علل الْأَحَادِيث وَلم يدعوا للمشتغل شَيْئا يتعلل بِهِوفسروا الْقُرْآن والْحَدِيث وَتَكَلَّمُوا على غريبها وفقهها وكل مَا يتَعَلَّق بهَا فِي مصنفات عديدة جليلة فالآلات متهيئة لطَالب صَادِق وَلِذِي همة وذكاء وفطنة(1/54)118 - وأئمة الحَدِيث هم المعتبرون الْقدْوَة فِي فنهم فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَيْهِم فِي ذَلِك وَعرض آراء الْفُقَهَاء على السّنَن والْآثَار الصَّحِيحَة فَمَا ساعده الْأَثر فَهُوَ الْمُعْتَبر وَإِلَّا فَلَا نبطل الْخَبَر بِالرَّأْيِ وَلَا نضعفه إِن كَانَ على خلاف وُجُوه الضعْف من علل الحَدِيث الْمَعْرُوفَة عِنْد أَهله أَو بِإِجْمَاع الكافة على خِلَافه119 - فقد يظْهر ضعف الحَدِيث وَقد يخفى وَأقرب مَا يُؤمر بِهِ فِي ذَلِك أَنَّك إِذا رَأَيْت حَدِيثا خَارِجا عَن دواوين الْإِسْلَام كالموطأ ومسند أَحْمد والصحيحين وَسنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَنَحْوهَا مِمَّا تقدم ذكره وَمِمَّا لم نذكرهُ فَانْظُر فِيهِ فَإِن كَانَ لَهُ نَظِير فِي الصِّحَاح والحسان قرب أمره وَإِن رَأَيْته يباين الْأُصُول وارتبت بِهِ فَتَأمل رجال إِسْنَاده وَاعْتبر أَحْوَالهم من الْكتب المصنفة فِي ذَلِك120 - وأصعب الْأَحْوَال أَن يكون رجال الْإِسْنَاد كلهم ثِقَات وَيكون متن الحَدِيث مَوْضُوعا عَلَيْهِم أَو مقلوبا أَو قد جرى فِيهِ تَدْلِيس وَلَا يعرف هَذَا إِلَّا النقاد من عُلَمَاء الحَدِيث فَإِن كنت من أَهله فبه وَإِلَّا فاسأل عَنهُ أَهله121 - قَالَ الْأَوْزَاعِيّ كُنَّا نسْمع الحَدِيث فنعرضه على أَصْحَابنَا كَمَا نعرض الدِّرْهَم الزيف فَمَا عرفُوا مِنْهُ أخذناه وَمَا أَنْكَرُوا تَرَكْنَاهُ122 - فالتوصل إِلَى الِاجْتِهَاد بعد جمع السّنَن فِي الْكتب الْمُعْتَمدَة إِذا رزق الْإِنْسَان الْحِفْظ والفهم وَمَعْرِفَة اللِّسَان أسهل مِنْهُ قبل ذَلِك لَوْلَا قلَّة همم الْمُتَأَخِّرين وَعدم المعتبرينوَمن أكبر أَسبَاب تعصبهم تقيدهم بِرِفْق الْوُقُوف وجمود أَكثر المتصدرين مِنْهُم على مَا هُوَ الْمَعْرُوف الَّذِي هُوَ مُنكر مألوف(1/55)فِي نُصُوص الْأَئِمَّة فِي الرُّجُوع إِلَى الْكتاب وَالسّنة والنهى عَن تقليدهم123 - فَإِذا ظهر هَذَا وتقرر تبين أَن التعصب لمَذْهَب الإِمَام الْمُقَلّد لَيْسَ هُوَ بِاتِّبَاع أَقْوَاله كلهَا كَيْفَمَا كَانَت بل الْجمع بَينهَا وَبَين مَا ثَبت من الْأَخْبَار والْآثَاروَالْأَمر عِنْد المقلدين أَو أَكْثَرهم بِخِلَاف هَذَا إِنَّمَا هم يؤولونه تَنْزِيلا على نَص إمَامهمْ124 - ثمَّ الشافعيون كَانُوا أولى بِمَا ذَكرْنَاهُ لنَصّ إمَامهمْ على ترك قَوْله إِذا ظفر بِحَدِيث ثَابت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على خِلَافهفالتعصب لَهُ على الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ امْتِثَال أمره فِي ذَلِك وسلوك طَرِيقَته فِي قبُول الْأَخْبَار والبحث عَنْهَا والتفقه فِيهَا(1/56)نُصُوص الإِمَام الشَّافِعِي فِي اتِّبَاع السّنة125 - وَقد نقلت مَا روى عَنهُ فِي تَرْجَمته فِي تَارِيخ دمشققَالَ الرّبيع قَالَ الشَّافِعِي قد أَعطيتك جملَة تغنيك إِن شَاءَ الله تَعَالَى لَا تدع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا أبدا إِلَّا أَن يَأْتِي عَن رَسُول الله سنة صَحَّ الْخَبَر فِيهَا عِنْد أهل النَّقْل بِخِلَاف مَا قلت فتعمل بِمَا قلت لَك فِي الْأَحَادِيث إِذا اخْتلفت126 - وَفِي رِوَايَة إِذا وجدْتُم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة خلاف قولي فَخُذُوا السّنة ودعوا قولي فَإِنِّي أَقُول بهَا127 - وَفِي رِوَايَة إِذا وجدْتُم فِي كتابي خلاف سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقولُوا بهَا ودعوا مَا قلت128 - وَفِي رِوَايَة كل مَسْأَلَة تَكَلَّمت فِيهَا بِخِلَاف السّنة فَأَنا رَاجع عَنْهَا فِي حَياتِي وَبعد مماتي129 - قَالَ وَسمعت الشَّافِعِي يَقُول وروى حَدِيثا قَالَ لَهُ رجل تَأْخُذ بِهَذَا يَا أَبَا عبد الله فَقَالَ وَمَتى رويت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا صَحِيحا فَلم آخذ بِهِ فأشهدكم أَن عَقْلِي قد ذهب وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى رَأسه(1/57)130 - وَفِي رِوَايَة روى حَدِيثا فَقَالَ لَهُ قَائِل أتأخذ بِهِ فَقَالَ لَهُ أَترَانِي مُشْركًا أَو ترى فِي وسطي زنارا أَو تراني خَارِجا من كَنِيسَة نعم آخذ بِهِ آخذ بِهِ آخذ بِهِ وَذَلِكَ الْفَرْض على كل مُسلم131 - وَقَالَ حَرْمَلَة قَالَ الشَّافِعِي كل مَا قلت وَكَانَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف قولي مِمَّا يَصح فَحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى فَلَا تقلدوني132 - وَفِي كتاب ابْن أبي حَاتِم عَن أبي ثَوْر قَالَ سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول كل حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ قولي وَإِن لم تسمعوه مني133 - وَفِيه عَن الْحُسَيْن الْكَرَابِيسِي قَالَ قَالَ لنا الشَّافِعِي إِن أصبْتُم الْحجَّة فِي الطَّرِيق مطروحة فاحكوها عني فَإِنِّي الْقَائِل بهَا134 - وَقَالَ الرّبيع سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول مَا من أحد إِلَّا وَتذهب عَلَيْهِ سنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعزب عَنهُ فمهما قلت من قَول أَو أصلت من أصل فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف مَا قلت فَالْقَوْل مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ قوليقَالَ وَجعل يردد هَذَا الْكَلَام135 - قَالَ وَقَالَ الشَّافِعِي من تبع سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وافقته وَمن غلط(1/58)فَتَركهَا خالفته صَاحِبي اللَّازِم الَّذِي لَا أفارقه الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم136 - قَالَ الزَّعْفَرَانِي كُنَّا لَو قيل لنا سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا هَذَا مَأْخُوذ وَهَذَا غير مَأْخُوذ حَتَّى قدم علينا الشَّافِعِي فَقَالَ مَا هَذَا إِذا صَحَّ الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مَأْخُوذ بِهِ لَا يتْرك لقَوْل غَيره قَالَ فنبهنا لشَيْء لم نعرفه يَعْنِي نبهنا لهَذَا الْمَعْنى137 - قَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم كُنَّا عِنْد الْبُوَيْطِيّ فَذكرت حَدِيث عمار فِي التَّيَمُّم فَأخذ السكين وحته من كِتَابه وَجعله ضَرْبَة وَقَالَ هَكَذَا أوصانا صاحبنا إِذا صَحَّ عنْدكُمْ الْخَبَر فَهُوَ قولي138 - قلت وَهَذَا من الْبُوَيْطِيّ فعل حسن مُوَافق للسّنة وَلما أَمر بِهِ إِمَامه139 - وَأما الَّذين يظهرون التعصب لأقوال الشَّافِعِي كَيْفَمَا كَانَت وَإِن جَاءَت سنة بِخِلَافِهَا فليسوا بمتعصبين فِي الْحَقِيقَة لأَنهم لم يمتثلوا مَا أَمر بِهِ إمَامهمْ بل دأبهم وديدنهم إِذا ورد عَلَيْهِم الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي هُوَ مَذْهَب إمَامهمْ الَّذِي لَو وقف عَلَيْهِ لقَالَ بِهِ أَن يحتالوا فِي دَفعه بِمَا لَا يَنْفَعهُمْ لما نقل لَهُم عَن إمَامهمْ من قَول قد أَمر بِتَرْكِهِ عِنْد وجدان مَا يُخَالِفهُ من السّنة هَذَا مَعَ كَونهم عاصين بذلك(1/59)لمخالفتهم ظَاهر كتاب الله وَسنة رَسُوله140 - وَالْعجب أَن مِنْهُم من يستجيز مُخَالفَة نَص الشَّافِعِي لنَصّ لَهُ آخر فِي مَسْأَلَة أُخْرَى بِخِلَافِهِ ثمَّ لَا يرَوْنَ مُخَالفَته لأجل نَص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أذن لَهُم الشَّافِعِي فِي هَذَا141 - قَالَ الْبُوَيْطِيّ سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول لقد ألفت هَذِه الْكتب وَلم آل جهدا وَلَا بُد أَن يُوجد فِيهَا الْخَطَأ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَمَا وجدْتُم فِي كتبي هَذِه مِمَّا يُخَالف الْكتاب وَالسّنة فقد رجعت عَنهُ142 - وَفِي رِوَايَة إِنِّي ألفت هَذِه الْكتب مُجْتَهدا بِنَحْوِ مَا قبلهوَفِي آخِره فَاشْهَدُوا عَليّ أَنِّي رَاجع عَن قولي إِلَى حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كنت قد بليت فِي قَبْرِينُصُوص الإِمَام مَالك فِي اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة143 - وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الحزامى حَدثنَا معن بن عِيسَى الْقَزاز(1/60)قَالَ سَمِعت مَالك بن أنس يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي فَكل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ وَمَا لم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوهوَذَلِكَ الظَّن بِجَمِيعِ الْأَئِمَّةنُصُوص الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة144 - وَقد كره الإِمَام أَحْمد أَن يكْتب فَتَاوِيهِ وَكَانَ يَقُول لَا تكْتبُوا عني شَيْئا وَلَا تقلدوني وَلَا تقلدوا فلَانا وَفُلَانًا وخذوا من حَيْثُ أخذُوا(1/61)145 - وَقَالَ بَعضهم لَا تقلدوا دينكُمْ الرِّجَال إِن آمنُوا آمنتم وَإِن كفرُوا كَفرْتُمْ146 - وَكَانَ أَحْمد لَا يُفْتِي فِي طَلَاق السَّكْرَان شَيْئا وَكَانَ يَقُول إِن أحللناه بقول هَذَا حرمناه بقول هَذَانُصُوص الإِمَام أبي حنيفَة فِي اتِّبَاع السّنة وتأسيس مذْهبه147 - وَقَالَ نعيم بن حَمَّاد سَمِعت أَبَا عصمَة يَقُول سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلى الرَّأْس وَالْعين وَمَا جَاءَ عَن أَصْحَابه اخترنا وَمَا كَانَ غير ذَلِك فَنحْن رجال وهم رجال148 - وروى مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ أقلد من كَانَ من(1/62)الْقُضَاة من الصَّحَابَة كَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي والعبادلة الثَّلَاثَة وَلَا أستجيز خلافهم برأيي إِلَّا ثَلَاثَة نفر149 - وَفِي رِوَايَة أقلد جَمِيع الصَّحَابَة وَلَا أستجيز خلافهم بِرَأْي إِلَّا ثَلَاثَة نفر أنس بن مَالك وَأَبُو هُرَيْرَة وَسمرَة بن جُنْدُبفَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أما أنس فاختلط فِي آخر عمره وَكَانَ يُفْتِي من عقله وَأَنا لَا أقلد عقلهوَأما أَبُو هُرَيْرَة فَكَانَ يروي كل مَا سمع من غير أَن يتَأَمَّل فِي الْمَعْنى وَمن غير أَن يعرف النَّاسِخ والمنسوخ150 - وَقَالَ ابْن الْمُبَارك سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول إِذا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلى الرَّأْس وَإِذا جَاءَ عَن أَصْحَابه نَخْتَار من قَوْلهم وَإِذا جَاءَ عَن التَّابِعين زاحمناهم151 - وَفِي رِوَايَة قَالَ آخذ بِكِتَاب الله فَإِن لم أجد فبسنة رَسُول الله فَإِن لم أجد فِي كتاب الله وَسنة رَسُول الله آخذ بقول أَصْحَابه ثمَّ آخذ بقول من شِئْت مِنْهُم وأدع قَول من شِئْت مِنْهُم وَلَا أخرج عَن قَوْلهم إِلَى قَول غَيرهمفَأَما إِذا انْتهى الْأَمر إِلَى إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَعَطَاء وَسَعِيد بن الْمسيب وعد رجَالًا من التَّابِعين فقوم اجتهدوا وَأَنا أجتهد كَمَا اجتهدوا152 - قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ لما بلغه ذَلِك عَن أبي حنيفَة(1/63)نتهم رَأينَا لرأيهم وَكَأَنَّهُ سوى بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي أَنهم إِذا اجْتَمعُوا فِي مسالة على قَوْلَيْنِ مثلا لم يجز لنا إِحْدَاث قَول ثَالِث وَجوز أَبُو حنيفَة ذَلِكوَأما مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة فَلَا كَلَام فِي أَنه لَا تجوز مُخَالفَته153 - فقد وضح ذَلِك من أَقْوَال الْأَئِمَّة إِنَّه مَتى جَاءَ حَدِيث ثَابت صَحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَاجِب الْمصير إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر مَا لم يُعَارضهُ دَلِيل آخر وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يسع أحد غَيره قَالَ الله عز وَجل {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}فنفى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَان عَمَّن لم يحكم رَسُوله فِيمَا وَقع التَّنَازُع فِيهِ وَلم يستسلم لقضائه154 - وَقَالَ عز وَجل {وَإِن تطيعوه تهتدوا}فضمن الْهِدَايَة سُبْحَانَهُ فِي طَاعَة رَسُوله وَلم يضمنهَا فِي طَاعَة غَيرهوَقَالَ تَعَالَى {وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما}(1/64)155 - وأوعد على مُخَالفَته قَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم}156 - وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا}نُصُوص بعض الْأَئِمَّة الآخرين فِي اتِّبَاع السّنة157 - قَالَ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ لَيْسَ من أحد إِلَّا يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/65)وروى أَيْضا عَن مُجَاهِد بِإِسْنَاد آخر158 - وروى مَعْنَاهُ عَن الشّعبِيّ159 - وَكَذَلِكَ روى شُعْبَة عَن الحكم بن عتيبة160 - وروى عَن مَالك بن أنس أَنه قَالَ إِلَّا صَاحب هَذَا الْقَبْر وَأَشَارَ إِلَى قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/66)فصل فِي عناية الشَّافِعِيَّة بمختصر الْمُزنِيّ وَالثنَاء عَلَيْهِ161 - كَانَ الْعلمَاء من قدماء أَصْحَابنَا يعتنون بمختصر الْمُزنِيّ وبسببه سهل تَصْحِيح مَذْهَب الشَّافِعِي على طلابه فِي ذَلِك الزَّمَان وسَمعه عِنْد الْمُزنِيّ خلق عَظِيم من الغرباء ورحل إِلَيْهِ بِسَبَبِهِ وامتلأت بنسخه الْبلدَانِ حَتَّى أَنه بَلغنِي أَن الْمَرْأَة جهزت للدخول على زَوجهَا حمل فِي جهازها مصحف ونسخة مُخْتَصر الْمُزنِيّ162 - ويروى عَن الْمُزنِيّ أَنه قَالَ بقيت فِي تصنيف هَذَا الْمُخْتَصر سِتّ عشرَة سنة وَمَا صليت لله فَرِيضَة وَلَا نَافِلَة إِلَّا سَأَلت الله الْبركَة لمن تعلمه وَنظر فِيهِ163 - وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس ابْن سُرَيج يَقُول فِي الْمُخْتَصرلصيق فُؤَادِي مذ ثَلَاثِينَ حجَّةوصيقل ذهني والمفرج عَن همي ... عَزِيز على مثلي اضاعة مثلهلما فِيهِ من نسج بديع وَمن نظم164 - وعَلى ترتيبه وضعت الْكتب المطولة فِي مَذْهَب الشَّافِعِيتَرْجِيح الْبَيْهَقِيّ مَذْهَب الشَّافِعِي وَسَببه165 - قَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ قابلت بِتَوْفِيق الله أَقْوَال كل أحد الْأَئِمَّة بمبلغ علمي من كتاب الله ثمَّ مَا جمعت من السّنَن والْآثَار فِي الْفَرَائِض والنوافل والحلال وَالْحرَام وَالْحُدُود وَالْأَحْكَام فَوجدت الشَّافِعِي أَكْثَرهم اتبَاعا وَأَقْوَاهُمْ احتجاجا وأصحهم قِيَاسا وأوضحهم إرشادا وَذَلِكَ فِيمَا صنف من الْكتب الْقَدِيمَة والجديدة فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع بأبين بَيَان وأفصح لِسَان(1/67)كَلَام نَفِيس فِي ترك التَّقْلِيد الْأَعْمَى وَاتِّبَاع من شهِدت لَهُ الشَّرِيعَة بالعصمة166 - ثمَّ اشْتهر فِي آخر الزَّمَان على مَذْهَب الشَّافِعِي تصانيف الشَّيْخَيْنِ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأبي حَامِد الْغَزالِيّ فأكب النَّاس على الِاشْتِغَال بهَا وَكثر المتعصبون لَهما حَتَّى صَار المتبحر الْمُرْتَفع عِنْد نَفسه يرى أَن نصوصهما كنصوص الْكتاب وَالسّنة لَا يرى الْخُرُوج عَنْهَا وَإِن أخبر بنصوص غَيرهمَا من أَئِمَّة مذْهبه بِخِلَاف ذَلِك لم يلْتَفت إِلَيْهَا167 - وَقد يَقع فِي بعض مصنفاتهما مَا قد خَالف الْمُؤلف فِيهِ صَرِيح حَدِيث صَحِيح أَو سَاق حَدِيثا على خلاف لَفظه أَو نقل إِجْمَاعًا أَو حكما عَن مَذْهَب بعض الْأَئِمَّة وَلَيْسَ كَذَلِكفَإِن ذكر لذَلِك المتعصب الصَّوَاب فِي مثل ذَلِك نَادَى وَصَاح وزمجر وأخفى الْعَدَاوَة وَكَانَ سَبيله أَن يفرح بوصوله إِلَى مَا لم يكن يعرفهُ وَلَكِن أعماه التَّقْلِيد أصمه عَن سَماع الْعلم الْمُفِيدبعض شُبُهَات المقلدين وَالرَّدّ عَلَيْهَا168 - وَيَقُول المتحذلق مِنْهُم المتصدر فِي منصب لَا يسْتَحقّهُ أما كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة يعْرفُونَ هَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الْوَارِد على خلاف نصهم فَيرد حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل هَذَا الهذيان الَّذِي لَو فكر فِيهِ أسكته عَنهُ لِأَن خَصمه فِي مثل هَذَا هُوَ الله وَرَسُوله لِأَن الله تَعَالَى افْترض علينا طَاعَة رَسُوله فقد وصلنا إِلَى حَدِيثه فَلَا نرده إِلَى قَول أحد169 - ثمَّ إِن فِي ذَلِك إبطالا لمذهبه وهدما لأصله الَّذِي مهده إِمَامه وأسسهوَذَلِكَ أَن الشَّافِعِي إِنَّمَا تعصب على من كَانَ قبله من الْأَئِمَّة بِمثل ذَلِك من دلالات الْكتاب وَالسّنة مِمَّا ظَنّه خَفِي على من سبقه(1/68)وَكَانَ من الْمُمكن أَن يُقَال لَهُ أما كَانَ أُولَئِكَ يعْرفُونَ هَذَا وَأُولَئِكَ المتقدمون أولى بذلك من الْمُتَأَخِّرين فَلَو سمع مثل هَذَا الهذيان لبطلت الْمذَاهب170 - بل يَنْبَغِي للطَّالِب أَن يكون ابدا فِي طلب ازدياد علم مَا لم يُعلمهُ من أَي شخص كَانَفالحكمة ضَالَّة الْمُؤمن أَيْنَمَا وجدهَا أَخذهَاوَعَلِيهِ الانصاف وَترك التَّقْلِيد وَاتِّبَاع الدَّلِيل فَكل أحد يُخطئ ويصيب إِلَّا من شهِدت لَهُ الشَّرِيعَة بالعصمة وَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلمذكر رُجُوع الصَّحَابَة عَن آرائهم إِلَى أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم171 - قَالَ الشَّافِعِي فِي كتاب اخْتِلَاف الحَدِيث حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سَالم بن عبد الله بن عمر وَرُبمَا قَالَ عَن أَبِيه وَرُبمَا لم يقلهُ أَن عمر بن الْخطاب نهى عَن التَّطَيُّب قبل زِيَارَة الْبَيْت وَبعد الْجَمْرَةقَالَ سَالم فَقَالَت عَائِشَة طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي هَاتين لإحرامه قبل أَن يحرم ولحله قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِقَالَ سَالم وَسنة رَسُول الله أَحَق أَن تتبعقَالَ الشَّافِعِي فَترك سَالم قَول جده عمر فِي إِمَامَته وَقبل قَول عَائِشَة وَسنة(1/69)رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق وَذَلِكَ الَّذِي يجب عَلَيْهِ172 - وَمَا زَالَ أكَابِر الصَّحَابَة مثل أبي بكر الصّديق وَمن بعده يخفى عَلَيْهِم شَيْء من السّنة كميراث الْجدّة وتوريث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا وَوضع الْيَدَيْنِ على الرُّكْبَتَيْنِ فِي الصَّلَاةخَفِي الأول على أبي بكروَالثَّانِي على عمروَالثَّالِث على ابْن مَسْعُودحَتَّى نبههم على ذَلِك غَيرهم وَلذَلِك أَمْثِلَة كَثِيرَة(1/70)ذكر معرفَة المقلدين بمراتب أئمتهم وجهلهم بمراتب السّلف الصَّالح173 - وَمن الْعجب أَن كثيرا مِنْهُم إِذا ورد على مَذْهَبهم أثر عَن بعض أكَابِر الصَّحَابَة يَقُول مبادرا بِلَا حَيَاء وَلَا حشمة مَذْهَب الشَّافِعِي الْجَدِيد أَن قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة وَيرد قَول أبي بكر وَعمر وَلَا يرد قَول أبي إِسْحَاق وَالْغَزالِيّوَمَعَ هَذَا يرَوْنَ مصنفات أبي إِسْحَاق وَغَيره مشحونة بتخطئة الْمُزنِيّ وَغَيره من الأكابر فِي مَا خالفوا فِيهِ مَذْهَبهم فَلَا تراهم يُنكرُونَ شَيْئا من هَذَافَإِن اتّفق أَنهم سمعُوا أحدا يَقُول أَخطَأ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي كَذَا بِدَلِيل كَذَا وَكَذَا انزعجوا وغضبوا ويرون أَنه ارْتكب كَبِيرا من الْإِثْم فَإِن كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرُوا فَالْأَمْر الَّذِي ارْتَكَبهُ أَبُو إِسْحَاق أعظم فَمَا بالهم لَا يُنكرُونَ ذَلِك وَلَا يغضبون مِنْهُ لَوْلَا قلَّة معرفتهم وَكَثْرَة جهلهم بمراتب السّلففصل فِي أَن مَذْهَب الشَّافِعِي أشبه الْمذَاهب بِالدَّلِيلِ إِذا عمل بقوله فِي الرُّجُوع إِلَى السّنة174 - قد تقدم أَن الشَّافِعِي بنى مذْهبه بناءا محكما وَذَلِكَ أَنه كَانَ اعْتِمَاده على كتاب الله وَسنة رَسُوله وَالنَّظَر الصَّحِيح من الِاجْتِهَاد الرَّاجِع إِلَى الْكتاب وَالسّنة وترجيح أشبه الْمذَاهب إِلَى الْكتاب وَالسّنةوَهَذَا هُوَ الأَصْل الصَّحِيح الْقوي الَّذِي يتم الْبناء عَلَيْهِ إِلَّا أَنه قد يعرض لَهُ مَا يعرض لغيره من الْبشر مِمَّن لَيْسَ بمعصوم من الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان فأحالنا تَصْرِيح قَوْله على أَن مَا يَصح من أَقْوَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مذْهبهفَلم يتْرك لعائب عَيْبا وَلَا لمنتقد من حساده انتقادا فَرضِي الله عَنهُ وَلِهَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء لَوْلَا الشَّافِعِي لغير أَصْحَاب الرَّأْي مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/71)فصل فِي نصح أهل الْعلم وَبَيَان الْعُلُوم النافعة والضارة175 - هَذِه الْفُصُول الَّتِي ذَكرنَاهَا حَسَنَة كَثِيرَة الْفَوَائِد مَجْمُوعَة من عدَّة مصنفات يَنْبَغِي لكل من يعتني بِالْعلمِ النّظر فِيهَا والاطلاع عَلَيْهَا176 - وَقد رَأَيْت أَن أختمها بفصل هُوَ أهمها وأجلها وأعمها نفعا وأولاها ذكرا وَهُوَ مَا اعتنى ببيانه الإِمَام أَبُو حَامِد رَحمَه الله فِي كتاب الْإِحْيَاء من نصح أهل الْعلم وَبَيَان الْعُلُوم النافعة والتحذير من الْعُلُوم الضارة177 - حَيْثُ قَالَ فأدلة الطَّرِيق هم الْعلمَاء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَقد شغر مِنْهُم الزَّمَان وَلم يبْق إِلَّا المترسمون وَقد استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان واستغواهم الطغيان وَأصْبح كل وَاحِد بعاجل حَظه مشغوفا فَصَارَ يرى الْمَعْرُوف مُنْكرا وَالْمُنكر مَعْرُوفا حَتَّى ظلّ علم الدّين مندرسا ومنار الْهدى فِي أقطار الأَرْض منطمسا(1/72)وَلَقَد خيلوا إِلَى الْخلق أَنه لَا علم إِلَّا فَتْوَى حُكُومَة يَسْتَعِين بهَا الْقُضَاة على فصل الْخِصَام عِنْد تهاوش الطغامأَو جدل يتذرع بِهِ طَالب المباهاة إِلَى الْغَلَبَة والإفحامأَو سجع مزخرف يتَوَصَّل بِهِ الْوَاعِظ إِلَى اسْتِدْرَاج الْعَوامإِذْ لم يرَوا مَا سوى هَذِه الثَّلَاثَة مصيدة لِلْحَرَامِ وشبكة للحطامفَأَما علم طَرِيق الْآخِرَة وَمَا درج عَلَيْهِ السّلف الصَّالح مِمَّا سَمَّاهُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابه فقها وَحِكْمَة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا فقد أصبح بَين الْخلق نسيا منسيا178 - ثمَّ أثنى على علم الْمُعَامَلَة وَقَالَ هُوَ علم أَحْوَال الْقلب كالصبر وَالشُّكْر وَالْخَوْف والرجاء والرضى والزهد وَالتَّقوى والقناعة والسخاء وَحسن الْخلق والصدق وَالْإِخْلَاص وَمَا يذم كالغل والحقد والحسد والغش وَالْكبر والرياء وَالْبخل والتزين لِلْخلقِ والمداهنة والخيانة وَطول الأمل وَالْقَسْوَة وَقلة الْحيَاء وَقلة الرَّحْمَة فَهَذِهِ وأمثالها من صِفَات الْقلب مغارس الْفَوَاحِش والأخلاق المحمودة منبع الطَّاعَات179 - إِلَى أَن قَالَ وَلَا يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يغتر بقول سُفْيَان تعلمنا الْعلم لغير الله فأبا أَن يكون إِلَّا لله وَكَانَ علمهمْ الْكتاب وَالسّنةوَإِن الْعلمَاء يتعلمون لغير الله لِأَن مَا يشتغلون بِهِ غير مأمورين بِهِ وَانْظُر إِلَى أَعمار الْأَكْثَرين مِنْهُم واعتبروهم فَإِنَّهُم مَاتُوا وهم هلكى على طلب الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة180 - وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ دع الراغبين فِي صحبتك والتعلم مِنْك فَلَيْسَ لَك مِنْهُم مَال وَلَا جمال إخْوَان الْعَلَانِيَة أَعدَاء السِّرّ إِذا لقوك تملقوا لَك وَإِذا غبت عَنْهُم سلقوك وَمن أَتَاك مِنْهُم كَانَ عَلَيْك رقيبا وَإِذا خرج كَانَ(1/73)عَلَيْك خَطِيبًا أهل نفاق ونميمة وغل وحقد وخديعةوَلَا تغتر باجتماعهم عَلَيْك فَمَا غرضهم الْعلم بل الجاه وَالْمَال وَأَن يتخذوك سلما إِلَى أوطارهم وَحِمَارًا إِلَى حاجاتهم إِن قصرت فِي غَرَض من أغراضهم كَانُوا أَشد الْأَعْدَاء عَلَيْك ثمَّ يعدون ترددهم إِلَيْك دَالَّة عَلَيْك ويرونه حَقًا وَاجِبا عَلَيْك ويعرضون لَك أَن تبذل عرضك وَدينك وجاهك لَهُم فتعادي عدوهم وَتَنصر قريبهم وخادمهم ووليهم وتنتهض لَهُم سَفِيها وَقد كنت فَقِيها وَتَكون لَهُم تَابعا خسيسا بعد أَن كنت متبوعا رَئِيسا وَلذَلِك قيل اعتزال الْعَامَّة مُرُوءَة تَامَّة181 - وَقد رَأَيْت أَن أختمه من عِبَارَات أهل الْمعرفَة وَالتَّقوى العاملين بِالْعلمِ الَّذِي يُورث الْجوف والهيبة والخشوع والزهد فِي الدُّنْيَا182 - روينَا عَن عبد الله بن خبيق الْأَنْطَاكِي وَهُوَ أحد السَّادة الْعباد قَالَ سَأَلت يُوسُف بن أَسْبَاط هَل مَعَ حُذَيْفَة المرعشي علم قَالَ مَعَه الْعلم الْأَكْبَر خوف الله183 - ذكر فِي مجْلِس أَحْمد بن حَنْبَل أَمر مَعْرُوف الْكَرْخِي فَقَالَ بعض من حضر هُوَ قَلِيل الْعلم فَقَالَ أَحْمد أمسك عافاك الله وَهل يُرَاد من الْعلم إِلَّا مَا وصل إِلَيْهِ مَعْرُوف(1/74)184 - وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل ذهب أبي وَيحيى بن معِين إِلَى مَعْرُوف فَقَالَ ابْن معِين إيش معنى سَجْدَتي السَّهْو فِي الصَّلَاة فَقَالَ مَعْرُوف شرعتا عُقُوبَة للقلب إِذا سَهَا وَهُوَ بَين يَدي الله فَقَالَ لَهُ أبي هَذَا من علمك هَذَا فِي كتبك أَو كتب أَصْحَابك185 - وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد أَتَدْرُونَ مَا فرض الصَّلَاة قطع العلائق وَجمع الْهم والحضور بَين يَدي الله تَعَالَى قيل لَهُ كَيفَ تدخل فِي الصَّلَاة قَالَ بإلقاء سمع وشهود قلب وَحُضُور عقل وَجمع هم وَصِحَّة تيقظ وَحسن إقبال وتدبر فِي ترتيل186 - وَقَالَ أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ دخلت دمشق على كتبة الحَدِيث فمررت بِحَلقَة قَاسم الجوعي فَرَأَيْت نَفرا جُلُوسًا حوله وَهُوَ يتَكَلَّم عَلَيْهِم فهالني مظهرهم فتقدمت إِلَيْهِم فَسَمعته يَقُول اغتنموا من أهل زمانكم خمْسا إِن حضرتم لم تعرفوا وَإِن غبتم لم تفقدوا وَإِن شهدتم لم تشاوروا وَإِن قُلْتُمْ شَيْئا لم يقبل قَوْلكُم وَإِن عملتم شَيْئا لم تعطوا بِهِوأوصيكم بِخمْس أَيْضا إِن ظلمتم لَا تظلموا وَإِن مدحتم لَا تفرحوا وَإِن ذممتم لَا تجزعوا وَإِن كَذبْتُمْ فَلَا تغضبوا وَإِن خانوكم لَا تخونوا قَالَ فَجعلت هَذَا فائدتي من دمشق(1/75)187 - قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فَهَذَا وَأَمْثَاله هُوَ ثَمَرَة علم الْعلمَاء الَّذين يُرِيدُونَ الله تَعَالَى بِطَلَب الْعلم النافعجعلنَا الله مِنْهُم بمنه وفضله وَكَرمه ووفقنا للسلوك فِي مناهجهم برحمته وإحسانه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مَوْلَانَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ آمين(1/76)