عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ(تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً)المؤلف: عبد الكريم بن علي بن محمد النملةعدد الأجزاء: 5
ثانيهما: على فرض أن المطالبة بالدليل تعتبر دليلاً، فإنا قد أثبتناأدلة من إجماع الصحابة، وأهل اللغة، واستعمالاتهم على أن تلكالصيغ تفيد العموم بمجردها.الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ لكم أن الآحاد لا يحتج به على إثباتالقواعد الأصولية، بل خبر الواحد يثبت تلك القواعد بشرط: أنتكون تلك القواعد وسيلة إلى العمل، قياسا على العمل بالآحاد فيالفروع.فنتج: أن هذه الصيغ قد ثبتت بالآحاد؛ لأنها وسيلة إلى العمل.الدليل الثاني: أن الأدلة متعارضة، والاحتمالات متقاومة،والجزم بواحد ترجيح بلا مرجح، ولو قدرنا أن يكون هناك مرجح،لكن لا نزاع أن هذا المرجح ليس بقاطع؛ حيث إنه يحتمل الخطأ،فوجب التوقف.جوابه:أنا لا نُسَلِّمُ أن الأدلة المثبتة للخصوص في قوة الأدلة المثبتةللعموم، بل إن أدلة القائلين: إن تلك الصيغ حقيقة في العموم أقوىمن أدلة المذاهب الأخرى - كما سبق بيانه - وإذا كان الأمر كذلكفإن كونها للعموم أرجح، والعمل بالراجح واجب، وحينئذٍ لاداعي لهذا التوقف.المذهب الخامس: أن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم فيالأمر والنهي - فقط - ولا يعلم هل هي حقيقة أو مجاز في الأخبار.وهو مذهب لبعض العلماء.دليل هذا المذهب:أن الأوامر والنواهي تكليف بعمل، فلو لم نعرف المراد بها لاقتضى(4/1483)تكليف ما لا يطاق، فوجب حمل تلك الصيغ والألفاظ على أنهاحقيقة في العموم.بخلاف الخبر من الوعد والوعيد، وغير ذلك، فإنه لا يقتضيوجوب شيء يحتاج أن يعمل به.جوابه:أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل إن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموممطلقا، سواء كانت أمراً أو نهيما أو خبراً، ولا فرق بين الأوامروالنواهي والأخبار.ودلَّ على عدم التفريق بينهما ما يلي من الوجوه:الأول: أن الحال فيهما واحدة؛ حيث إنه يخاطب بالخبر لفائدةكالأمر، فالمكلف مطالب بالعلم بمراد الشارع منهما.الثاني: أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى إثباتالآخر، فالممتنع من أحد الأمرين يلزمه الامتناع من الآخر بدليل: أنأهل اللغة يستعملون الأمرين على وجه واحد.الثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كانوا يرجعون فيأوامر اللَّه تعالى ونواهيه، وأخباره إلى ظاهر الخطاب، ولا يفرقونبينها.بيان نوع الخلاف:ابخلاف - هنا - معنوي، وهو ظاهر، فأصحاب المذهب الأول -وهم الجمهور - يحملون أي صيغة من الصيغ السابقة على العمومبدون أي قرينة، ولا يحملونها على الخصوص إلا بقرينة، ويعملونعلى هذا بدون توقف، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار.(4/1484)أما أصحاب المذهب الثاني والرابع فهم لا يحملون تلك الصيغعلى العموم ولا على الخصوص، ولا يعملون بشيء منهما حتى تردقرينة ترجح أحد الأمرين، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار.أما أصحاب المذهب الثالث: فهم يحملون أيَّ صيغة من الصيغعلى أنها حقيقة في الخصوص بدون قرينة، ولا يحملونها علىالعموم إلا بقرينة ويعملون على ذلك بدون توقف، ولا يفرقون فيذلك بين الأوامر والنواهي والأخبار.أما أصحاب المذهب الخامس: فإنهم يفرقون: فإن كانت الصيغةوردت في سياق أمر أو نهي، فإنهم يحملونها على العموم، وإنوردت في سياق الإخبار، فإنهم يض وقفون.وطبق على ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ،فأصحاب المذهب الأول يقولون: إنه عام لجميع الناس دون استثناء.وأصحاب المذهب الثالث يقولون: إنه خاص لبعض الناس، ولايحمل على جميع الناس إلا بقرينة.وأصحاب المذهب الثاني والرارج: لا يحملونه على العموم ولاعلى الخصوص حتى تأتي قرينة ترءجح أحدهما.وأصحاب المذهب الخامس يقولون: إنه عام؛ لأنه أمر، وهكذا.(4/1485)المطلب السادس في صيغ العمومبعد أن عرفنا أن للعموم صيغة في اللغة خاصة، موضوعة له، تدلعلى العموم حقيقة: نريد أن نبين في هذا المطلب تلك الصيغ، فأقول:هي كما يلي:الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام.الصيغة الثانية: أدوات الشرط.الصيغة الثالثة: " كل " و " جميع ".الصيغة الرابعة: الجمع المعرف بـ " أل ".الصيغة الخامسة: الجمع المعرف بالإضافة.الصيغة السادسة: " واو " الجماعة.الصيغة السابعة: " النكرة في سياق النفي ".الصيغة الثامنة: المفرد المحلى بـ " أل ".الصيغة التاسعة: المفرد المعرف بالإضافة.الصيغة العاشرة: الاسم الموصول.الصيغة الحادية عشرة: " سائر " المشتق من سور المدينة.(4/1487)وإليك بيان تلك الصيغ، مع الاستدلال على كل واحدة منها، وبيانالمتفق عليه والمختلف فيه منها.وقد ذكر بعضهم: أن الصيغ أكثر من هذا، ولكن كل ما ذكروهيرجع إلى ما ذكرناه، فأقول:(4/1488)الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام، وهي أنواغ:النوع الأول: " من " المستعملة للعقلاء كقولك: " من عندك منالطلاب؟ ".النوع الثاني: " ما " المستعملة لغير العقلاء كقولك: " ما عندكمن البهائم؟ ".النوع الثالث: " أي " المستعملة للعقلاء كقولك: " أي العلماءقابلت؟ "، والمسنعملة لغير العقلاء كقولك: " أي الدوابركبت؟ ".النوع الرابع: " متى " الزمانية كقولك: " متى تزورني؟ ".النوع الخامس: " أين " المكانية كقولك: " أين تذهب؛ ".النوع السادس: " أيان " الزمانية كقوله تعالى: (يسألونك عنالساعة أيان مرساها) ، وغير ذلك.دليل إفادة هذه الصيغة للعموم:دل على أن أدوات الاستفهام تفيد العموم: أن تلك الألفاظوالصيغ إما أن تكون للعموم فقط، أو للخصوص فقط، أو لهمامعاً بالاشتراك اللفظي، أو لا تكون لكل واحد منهما، والكل باطلإلا الأول.بيان ذلك:أنه لا يصح أن تكون موضوعة للخصوص فقط، إذ لو كانتموضوعة له: لما حسن من المجيب أن يجيب بلفظ كل أو جميع؛لأن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال، لكن لا نزاع في ذلك،(4/1489)فإذا قال: " من عندك؟ " يمكن للمجيب أن يقول: " عندي جميعأو كل الطلاب "، فلو كانت للخصوص لما صح ذلك.ولا يصح أن تكون موضوعة للخصوص والعموم بالاشتراكاللفظي؛ لأنه يكون مجملاً، والمجمل لا يمكن أن يجاب عنهبجواب معين إلا بعد عدة استفهامات عن الأقسام الممكنة، فمثلاً إذاقال: " من عندك؟ "، فإذا كانت " من " مشتركة بين الخصوصوالعموم، فإن المجيب - لا بد أن يقول له: " أتسألني عن الرجالأم عن النساء؟ "، فإذا قال: أسألك عن الرجال، فلا بد أنتقول: أتسألني عن رجال العرب أو عن رجال العجم؟ ، فإذا قال:أسألك عن رجال العرب، فلا بد أن تقول: أتسألني عن رجالربيعة، أو مضر؟وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع أحياء العربوقبائلهم، ثم يأتي على جميع أصنافها من العلماء، والجهال،والشيوخ، والكهول، والبيض، والسود، وغير ذلك.فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات، لكنها غيرواجبة؛ لأمرين:أولهما: أنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان كذلك: كانتالتقسيمات الممكنة غير متناهية، والسؤال عنها على سبيل التفصيلمحال.ثانيهما: أنا علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان: أنهميستقبحون مثل هذه الاستفهامات، فبطل كون تلك الصيغ موضوعةللعموم والخصوص بالاشتراك اللفظي.ولا يصح أن لا تكون تلك الصيغ موضموعة للعموم(4/1490)ولا للخصوص بالاتفاق؛ لأن هذا يؤدي إلى أنه يوجد في الكتابوالسّنَّة ألفاظ لا تفيد شيئاً، وهذا غير ممكن.فلما بطلت الأقسام الثلاثة: لم يبق إلا الأول - وهو أنهاموضوعة للعموم - وهو الصحيح.***الصيغة الثانية: أدوات الشرط، وهي أنواع:النوع الأول: " من " المستعملة للعقلاء كقوله تعالى: (ومنيتوكل على اللَّه فهو حسبه) .النوع الثاني: " ما " المستعملة لغير العقلاء كقوله تعالى:(ما عندكم ينفد) .النوع الثالث: " أي " المستعملة للعقلاء كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل "،والمستعملة لغير العقلاء كقولك:"أي بهيمة رأيتها فاشترها "،و" أي " عامة فيما تضاف إليه منالأشخاص، والأزمان، والأمكنة، والأطوال.النوع الرابع: " أين " المكانية كقوله تعالى:(أينما تكونوا يدرككم الموت) .النوع الخامس: " متى " الزمانية كقولك: " متى تجلس أجلس ".ونحو ذلك.الأدلة على إفادة تلك الصيغة للعموم:دل على أن أدوات الشرط تفيد العموم ما يلي من الأدلة:الدليل الأول: صحة الاستثناء مما دخلت عليه أداة الشرط، فيصحأن يقول: " من دخل داري فأكرمه إلا زيداً "، والاستثناء يخرج منالكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن " من " الشرطية للعموم.(4/1491)الدليل الثاني: إجماع الفقهاء وأهل اللسان على ترتب الأحكامالعامة إذا عبر بلفظ من هذه الألفاظ الشرطية، فمثلاً لو قال: " مندخل من عبيدي هذه الدار فهو حر "، فإن الفقهاء وأهل اللسان قدأجمعوا على أنه يعتق كل عبد له دخل الدار، ولهذا يجوز لكل منسمع هذا ورأى دخول العبد الدار أن يستخدمه، ويستأجره،ويشتري منه ويبيع عليه، دون إجازة مولاه.الدليل الثالث: توجيه الاعتراض والذم إلى من خالف الأمر العامبها، وسقوطه عمن جرى على موجب العموم، فمثلاً لو قالالسيد لعبده: " من دخل داري فأكرمه "، فإن أكرم جميع الداخلينفإنه يستحق المدح والثواب، وإن أكرم بعض الداخلين فقط دونالبعض الآخر، فإنه يستحق الاعتراض من السيد، وذمه وعقوبته فلوجاء عقلاء أهل اللغة وهو يعاقبه فقالوا: لماذا تفعل به هذا؛ فقاللهم: إني قد أمرته بأمر عام، فلم ينفذ ذلك الأمر العام، فهنايوافقونه على هذا الذم، وهذا يدل على أن أداة الشرط تفيد العموم.الصيغة الثالثة: " كل "، و " جميع ":مثل قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ،وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) .والفرق بين " كل " و " جميع ":أن " كل " تقتضي الاستغراق والعموم مطلقا، سواء أضيفت إلىنكرة نحو قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) .أو أضيفت إلى معرفة وهي جمع كقولك: " كل الرجال ".(4/1492)أو أضيفت إلى معرفة وهي مفرد كقولك: " كل غزال جميل ".ولذلك كانت " كل " أصرح صيغ العموم؛ لشمولها العاقلوغيره، والمذكر والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع، وسواء ذكرالمضاف إليه كما سبق، أو حذف المضاف إليه نحو قوله تعالى:(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) .أما " جميع " فهي مثل " كل " إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفةفقط، فتقول: " جميع الرجال "، ولا تقول: " جميع رجل "،أما " كل " فيجوز ذلك.الأدلة على إفادة هذه الصيغة للعموم:دل على أنهما يفيدان العموم: ما يلي من الأدلة:الدليل الأول: أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير والغوص فيالاستغراق، فإنهم يفزعون إلى استعمال لفظ " كل "، و " جميع "ولو لم يفيدا العموم لما فزعوا إليهما وتركوا غيرهما.الدليل الثاني: أنه لما سمع عثمان بن مظعون قول لبيد:... ... ... ... ... وكل نعيم لا محالة زائلقال له: " كذبت نعيم الجنة لا يزول "، فلولا أن " كل " تفيدالعموم لما صح هذا التكذيب، وقد سبق هذا.الدليل الثالث: لو قال السيد: " أعتقت كل - أو جميع -عبيدي وإمائي "، ومات في الحال، ولم يعلم منه أمر آخر سوىهذه العبارة: فإن الفقهاء قد أجمعوا على أن جميع عبيده وإمائه قدعتقوا، ولهذا يجوز أن يتصرف معهم بأي نوع من أنواع التصرفبدون الرجوع إلى الورثة.الدليل الرابع: أن لفظ " كل " و " بعض " موضوع أحدهما(4/1493)للعموم، والآخر موضوع للخصوص، و "كل " مقابل للبعض، واتفقعلى أن لفظ " بعض " للخصوص، فيكون لفظ " كل " للعموم.الدليل الخامس: سقوط الاعتراض عن المطيع بالأمر بهما،وتوجيهه على العاصي، بيانه:أن السيد لو قال لعبده: " أكرم كل من دخل داري "، فإن أكرمجميع الداخلين، فإنه يسقط الاعتراض عنه، ويستحق المدح، فلوقال السيد لعبده: " أنت أفنيت دراهمي بإكرامك جميع الداخلينوإنما قصدت من عبارتي: إكرام العلماء فقط "، فيقول العبد- مدافعاً عن نفسه -: " أنت ما أمرتني بإكرام العلماء، وإنما أمرتنيبإكرام جميع الداخلين "، فعقلاء أهل اللغة يوافقون العبد علىتصرفه، ويخالفون السيد، فلو لم تكن " كل " مفيدة للعموم لماصح ذلك.وكذلك لو أن العبد أعطى كل الداخلين إلا واحداً، فقال لهالسيد: لماذا لم تعطه؛ فقال العبد: لأنه جاهل - مثلاً - فإن العبديستوجب التأديب من قبل السيد، ومن قبل عقلاء أهل اللغة، لأنهلم يمتثل الأمر على العموم، ولو لم تكن " كل " تفيد العموم لماصح ذلك.***الصيغة الرابعة: الجمع المعرف بـ " أل " مثل: " الرجال "و" المسلمين " و " الناس ":إن كان هناك معهود، فإنه ينصرف إلى المعهود مثل قولهم:"جمع الأمير الصاغة "، وإن لم يكن هناك معهود، فقد اختلفالعلماء هل يفيد العموم أو لا؛ على مذهبين:(4/1494)المذهب الأول: أنه يفيد العموم.وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، للأدلة التالية:الدليل الأول: أنه لما قال بعض الأنصار: " منا أمير ومنكم أمير "قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه -: إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول:" الأئمة من قريش "، فسلم الأنصار ذلك وانسحبوا، ولو لم يدلالجمع المعرف بـ " أل " - وهو هنا " الأئمة " على العموم لما صحت تلكالدلالة، ولما انسحب الأنصار - ولما وافقه بقية الصحابة على ذلك،وقد سبق.الدليل الثاني: أنه لما عزم أبو بكر على قتال مانعي الزكاة، قالله عمر: أليس قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "،فهنا قد احتج عليه بعموم لفظ " الناس "، ولم ينكرعليه أبو بكر ولا أحد من الصحابة إفادته للعموم، بل عدل أبو بكرإلى الاستثناء، فقال: أليس قد قال: " إلا بحقها "، وأن الزكاةمن حقها.الدليل الثالث: أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي العموم، كقولهتعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ، فلو لم يفد العموم لماجاز تأكيده بـ كل، وبـ أجمع.الدليل الرابع: صحة الاستثناء من الجمع المعرف بـ " أل " فتقول.:"أكرم الرجال إلا زيداً"، ولو لم يكن مفيداً العموبم لما صح الاستثناءمنه.الدليل الخامس: الجمع المعرف أعلى في الكثرة من الجمع المنكر؛لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف، ولا ينعكس: فيجوز أن تقول:(4/1495)" رجال من الرجال "، ولا يجوز أن تقول: " الرجال من رجال "،ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع.المذهب الثاني: أن الجمع المعرف بـ " أل " لا يفيد العموم، بل هويحتمل العموم والخصوص، وهو مذهب قد حكي عن أبي هاشمالمعتزلي.أدلة هذا المذهب:الدليل الأول: أن " أل " يحتمل أن تكون استغراقية، ويحتمل أنتكون عهدية، والاحتمالان متساويان، فيكون الجمع المعرف بألمشتركا بين العموم والخصوص.جوابه:يجاب عنه بجوابين:الجواب الأول: أن " أل " للتعريف، فينصرف إلى ما يعرفهالسامع، فإن كان هناك عهد، فالسامع به أعرف، فيصرفه إليه،وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض؛ لأنالكل واحد، والبعض كثير مختلف، فيكون الجمع المعرف بـ ألمنصرفا إلى الكل.الجواب الثاني: إنما يقال ذلك: إذا كان لا يتبادر من الجمعالمعرف بـ " أل " أي معنى من المعنيين، وهذا غير صحيح هنا؛ لأنه يتبادرمن الجمع المعرف بـ " أل " الاستغراق، فيكون يقتضيه حقيقة، ولا يحملعلى العهد إلا بقرينة.الدليل الثاني: أنه يقال: " جمع الأمير العلماء "، فإنه معلوم:أنه ما جمع جميع العلماء الذين على وجه الأرض، والأصل في(4/1496)الكلام الحقيقة، فتكون هذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق،فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق.جوابه:أن هذا القول صحيح، ولكنه مخصص بالعرف، فهو جمعالعلماء الذين يمكنه جمعهم عرفا، كما يقال: " من دخل داريأكرمته "، فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص.الدليل الثالث: أنه لو كان الجمع المعرف بـ " أل " يفيد العموم: للزمأن يكون قولنا: " رأيت كل الناس " خطأ؛ لأنه تكرار للفظينيؤديان معنى واحداً وهما: " كل "، و " الناس "، حيث يفيدانالعموم.وللزم أن يكون قولنا: " رأيت بعض الناس " خطأ؛ لأنهتناقض، حيث إن لفظ " بعض " مناقض للفظ: " الناس ".جوابه:لا نسلم أن الأول يكون تكراراً، بل يكون تأكيداً.ولا نسلم أن الثاني يكون نقضا، بل يكون تخصيصا.بيان نوع الخلاف:الخلاف هنا معنوي وهو ظاهر، فإنه على المذهب الأول يكونلفظ " الرجال "، أو " المؤمنون " مفيداً للعموم بدون قرائن، أماعلى المذهب الثاني فإنه لا يفيد العموم إلا بقرينة.فلو حلف ليصومن الأيام، فإنه بناء على المذهب الأول: يحمل(4/1497)على جميع أيام العمر، وبناء "على المذهب الثاني: لا يحمل علىشيء حتى تأتي قرينة تبين المراد، وهكذا.***الصيغة الخامسة: الجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم:دلَّ على ذلك ما يلي:الدليل الأول: صحة الاستثناء، فيجوز أن تقول: " أكرم طلابالكلية إلا زيداً ".الدليل الثاني: لو قال: " أعتقت عبيدي وإمائي "، و " طلقتنسائي "، فإنه يعم جميع العبيد، والإماء، والنساء بإجماع العلماء.الدليل الثالث: سقوط الاعتراض عن المطيع بالأمر بهذه الصيغةوتوجهه على العاصي.وكل هذه الأدلة قد سبق بيانها.***الصيغة السادسة: " واو " الجمع تفيد العموم، فإذا أمر جمعابصيغة الجمع فإنه يكون للعموم:يدل على ذلك: أن السيد لو قال لعبيده: " قوموا "، فإن قامواجميعا، فإنهم يستحقون المدح، وإن قام بعضهم، دون بعض،فإن الذين قاموا يستحقون المدح، أما الذين لم يقوموا فإنهميستحقون الذم والتأديب.فاستحقاق هؤلاء للمدح، وهؤلاء للذم دليل على أن الصيغةللعموم.(4/1498)أثر هذه الصيغة:أنه لو قال - مثلاً - لوكلائه: " أعطوا زيداً مما في أيديكمعشرة"، فإن كل واحد مأمور بإعطاءه شيئاً، ويفهم أيضا من كلامه:أن كل واحد مأمور بإعطاءه عشرة غير ما يعطيه صاحبه.***الصيغة السابعة: النكرة في سياق النفي هل تفيد العموم؟مثاله: " لا أحد في الدار "، أو " ما قام أحد " ونحو ذلك.اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما يلي من الأدلة:الدليل الأول: صحة الاستثناء من هذه النكرة، فيجوز أن تقول:" لا رجل في الدار إلا زيداً "، و " ما قام أحد إلا زيداً "،والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام.الدليل الثاني: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي تعم لما كانقول الموحد: " لا إله إلا اللَّه " نفيا لجميع الآلهة سوى اللَّه تعالى.الدليل الثالث: أن " لا " في قولهم: " لا رجل في الدار "مسماة بـ " لا الجنس "، وإنما ينتفي الجنس بانتفاء كل فرد من أفراده،وذلك يدل على أنه يفيد الاستغراق.المذهب الثاني: أن النكرة في سياق النفي لا تفيد العموم إلابشرط أن تكون النكرة مسبوقة بـ " من " الجارة، سواء كانت ظاهرةكقوله تعالى: (وما من إله إلا الله) ، أو مقدرة كقوله: (لا إله إلا الله) ، والتقدير: ما من إله يعبد بحق إلا اللَّه.(4/1499)وهو مذهب بعض النحاة كأبي البقاء العكبري، وبعض اللغويين.دليل هذا المذهب:أن النكرة في سياق النفي إذا خلت من حرف " من " تكون غيرصريحة في إفادتها للعموم؛ حيث يجوز الزيادة عليها فتقول مثلاً:" ما عندي رجل بل رجلان "، وهذا لا يؤدي إلى التناقض؛ حيثإنه قصد: أن ما عنده رجل واحد، بل عنده رجلان، لذلك لا تعم.أما إذا قال: " ما عندي من رجل "، فإنه يعم؛ لامتناع إثباتالزيادة عليه، فلا يمكنه أن يقول: " ما عندي من رجل بل رجلان "صمان قاله: وقع تناقض، ولا فرق بين الصورتين إلا إثبات " منْ "وعدمها، فدل على أن " من " هي المؤثرة في العموم.جوابه:يجاب عن هذا بجواب إجمالي، وتفصيلي:أما الجواب الإجمالي فهو أن يقال: إن هذا مخالف لإجماعالعلماء في الفقه والعقيدة.أما مخالفته لما أجمع عليه العلماء في الفقه، فهو أن العلماء قدأجمعوا على أن الشخص لو حلف وقال: " والله لا آكل رغيفا "فإنه يحنث إذا أكل رغيفين، وتجب عليه كفارة يمين، فلو كان قولكمصحيحا: لما حنث؛ حيث إنه يؤول - على زعمكم - بأنه حلف أنلا ياكل رغيفا واحداً، ولم يحلف على أنه لا ياكل رغيفين.أما مخالضه لما أجمعت عليه الأُمَّة في العقيدة فبيانه أن يقال:لو كان يجوز أن يقال: " ما عندي رجل بل رجلان " لجاز أنيقال في قوله تعالى: (ولم تكن له صاحبة) بل صاحبتان.(4/1500)ولجاز أن يقال في قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ، بليظلم اثنين، لأنه ورد فيها كلها نكرة، ولم يتوفر فيها شرطكم،وهو: كونها مسبوقة بـ مِن، لذلك ما تقتضي العموم على زعمكم،وهذا ظاهر البطلان، بل يؤدي إلى الكفر.أما الجواب التفصيلي فهو أن يقال: إن النكرة إذا أطلقت - أي:لم تقيد بأي قرينة - فإنها تكون مستعملة فيما وضعت له حقيقة،وهو العموم مثل قولنا: "ما عندي رجل "، و " لا رجل في الدار".أما إذا لم تطلق بل قيدت بقرينة، فإنها تكون لما اقتضته هذهالقرينة، فتكون لغير ما وضعت له، وهو المجاز، أي: الخصوصمثل قوله: " ما عندي رجل بل رجلان "، فقوله: " بل رجلان "قرينة لفظية صرفت اللفظ، وهي: النكرة في سياق النفي من كونهامفيدة للعموم إلى أنها للخصوص، فإذا زالت هذه القرينة، فإنالصيغة وهي: النكرة في سياق النفي تعود لما وضعت له أصلاً،وهو: العموم، قياساً على أسماء الحقائق، فلو قال مثلاً: " رأيتأسداً "، فإن السامع يحمل لفظ " الأسد " على ما وضع له حقيقةوهو: الحيوان المفترس، فإذا قال المتكلم: " رأيت أسداً يخطب "فإن السامع يحمل لفظ " الأسد " على غير ما وضع له، وهو:الرجل الشجاع بسبب تلك القرينة، وهي لفظ " يخطب "، فلوزالت القرينة، فإن السامع يحمل لفظ " الألممد " على الحقيقة،وهو الحيوان المفترس.كذلك هنا: فإن لفظ " بل رجلان " إذا وجد لم تفد النكرة فيسياق النفي العموم، وصارت للخصوص، وإذا عدم هذا اللفظأفادت النكرة في سياق النفي العموم.(4/1501)اعتراض على هذا الجواب:قال قائل - معترضاً -: إن كلامكم يدل على أن " من " الجارة لاتأثير لها في العموم، ووجودها في بعض الآيات، كقوله تعالى:(مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) لا فائدة منه، مما يؤدي إلى أن نقول: إنهناك حروفاً في القرآن قد وردت عبثا.جوابه:نحن لا نقول: إن لفظ: " من " لا فائدة لها، بل لها فائدةوهي: أنها مؤكدة للعموم، أي: أن النكرة في سياق النفي المسبوقةبـ " من " اَكد من النكرة في سياق النفي التي لم تسبق بـ " من "،وفائدة التوكيد في الكلام: رفع اللبس، وإزالة الاتساع في الفهم.بيان نوع الخلاف:الخلاف هنا معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:ما سبق من أنه إذا قال: " والله لا آكل رغيفاً "، فإنه بناء علىالمذهب الأول يحنث إذا أكل رغيفاً فأكثر، وبناء على المذهب الثانيفإنه لا يحنث إذا اكل رغيفين.***الصيغة الثامنة: المفرد المحلى بـ " أل " هل يفيد العموم؛لقد اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أنه يفيد العموم.وهو مذهب كثير من العلماء وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:الدليل الأول: صحة الاستثناء من المفرد المحلى بال، وقد وردذلك في القرآن كقوله تعالى: (إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا) .(4/1502)فاستثنى اللَّه تعالى هذا الجم الغفير - وهم المؤمنون - منلفظ " الإنسان "، وهو مفرد محلى بـ أل، فلو لم يكن المفرد المحلىبـ أل مفيداً للعموم لما جاز الاستثناء منه.الدليل الثاني: أنه يؤكد بما يؤكد به العموم، وقد ورد ذلك فيقوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) ، فلفظ"الطعام " مفرد محلى بـ " أل "، وأكد بلفظ " كل "، فلو لم يكن المفردالمحلى بـ " أل " مفيداً للعموم لما جاز تاكيده بما يؤكد به العموم.الدليل الثالث: أنه ينعت بما ينعت به العموم، وورد ذلك بقولهتعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) ، فهناقد نعت لفظ " الطفل " وهو مفرد محلى بـ " أل " بالجمع، وهو قوله:(الذين) ، فلو لم يكن المفرد المحلى بـ " أل " مفيداً للعموم: لما جازذلك.المذهب الثاني: أن المفرد المحلى بـ " أل " لا يفيد العموم.وهو مذهب كثير من العلماء كفخر الدين الرازي، وأكثر أتباعه،وأبي هاشم.أدلة هذا المذهب:الدليل الأول: أنه لو كان المفرد المحلى بـ " أل " يفيد العموم للزم أنهإذا قال: " لبست الثوب "، أو " شربت الماء " أنه لا يصدق إلا إذالبس جميع ثياب العالم، وشرب جميع مياه الدنيا، وهذا لا يمكن،فدل على أن المفرد المحلى بـ " أل " لا يفيد العموم.جوابه:إن هذه الأقوال مفيدة للعموم، لكنها مخصصة بالعرف، ودليل(4/1503)العقل، وهما مخصصان للعموم، فهو لم يلبس إلا الثوب المتعارفعليه أن يلبس، ولم يشرب إلا الماء الذي يرويه عرفا.الدليل الثاني: أن المفرد المحلى بـ " أل " لا ينعت بما ينعت به الجمع،فلا يقال: " جاءني الطالب الفضلاء "، فلو كان مفيداً للعموم لجازذلك.جوابه:أنا أثبتنا أن المفرد المحلى بـ " أل " ينعت بما ينعت به الجمع، وهذا ثبتعن طريق النقل من كتاب الله، ومن كلام العرب:أما الكتاب، فقد قال تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا علىعورات النساء) .أما كلام العرب فقد قالوا: " أهلك الناس الدينار الصفر والدرهمالبيض "، فهنا قد نعت المفرد المحلى بـ " أل " وهو: " الدينار "،و"الدرهم " بالجمع، وهو " الصفر "، و " البيض "، ولم يقولوا:" أهلك الناس الدينار الأصفر والدرهم الأبيض " مما يدل على أنالمفرد المحلى بـ " أل " يفيد العموم، أما ما ذكرتموه فهو من إنشاءكم لايقوى على معارضة ما ذكرناه.بيان نوع الخلاف:هذا الخلاف معنوي؛ حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها:1 - أنه لو قالت المرأة: " قد أذنت للعاقد بهذا البلد أن يزوجني "فإنه على المذهب الأول: يجوز لكل عاقد أن يزوجها، أما علىالمذهب الثاني: فلا يجوز.2 - أنه لو قال: " إذا قدم الحاج فأنت طالق ".، فعلى المذهب(4/1504)الأول: أنها لا تطلق إلا إذا قدم جميع حجاج هذه البلدة، فلو ماتأحد حجاج هذه البلدة، أو لم يرجع فإنها لا تطلق.أما على المذهب الثاني: فإنها تطلق إذا قدم واحد من الحجاج.3 - إذا نوى التيمم بتيممه الصلاة وأطلق، ولم ينو فرضاً ولانفلاً - وقلنا: إن التيمم يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث - فهل يتناولهذا التيمم الفرض والنفل؛ فبناء على المذهب الأول: أنه يتناولالأمرين، وبناء على المذهب الثاني: فإنه يتناول النفل فقط.الصيغة التاسعة: المفرد المعرف بالإضافة يفيد العموم:وهذا دلَّ عليه: صحة الاستثناء، فتقول مثلاً: " أكرم عالم هذهالمدينة إلا زيداً "، والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام.أثر هذه الصيغة:1 - إذا قال: " زوجتي طالق وعبدي حر "، ولم ينو معيناً: فإنجميع زوجاته طوالق، وجميع عبيدء أحرار؛ استدلالاً بهذه القاعدة.2 - إذا قال: " وقفت هذه الدار على ولدي "، فإنه يتناولجميع أولاده الذكور والإناث؛ بناء على هذه القاعدة.***الصيغة العاشرة: الاسم الموصول، سواء كان مفرداً كالذي،والتي، أو مثنى كاللذين، أو جمعاً كاللذين، واللاتي، واللائييفيد العموم:دل على ذلك ما يلي:الدليل الأول: صحة الاستثناء فتقول: "أكرم الذي نجح إلا زيداً".(4/1505)الدليل الثاني: سقوط الاعتراض من السيد لعبده إذا أمر بأمر فيهاسم موصول، وامتثل العبد أمر السيد، وتوجهه إذا لم يمتثل.وهذا إذا قال للعبد: " أكرم الذي يدخل الدار ".وقد سبق بيان ذلك مراراً.***الصيغة الحادية عشرة: " سائر ":وهي المشتقة من سور المدينة، أي: الشامل.أما " سائر " التي بمعنى الباقي فليست من صيغ العموم، ومنهقوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان الثقفي لما أسلم وتحته عشر من النسوة -: " اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن " أي: باقيهن.ويدل على أن " سائر " من صيغ العموم ما يلي:الدليل الأول: استعمال فصحاء العرب لها على أنها تفيد العمومكقول أبي العلاء المعري:أشرب العالمون حبك طبعا ... فهو فرض في سائر الأديانوقال:فظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤاداالدليل الثاني: صحة الاستثناء، وقد ورد ذلك في قول ذي الرمة:معرسا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذاك منجذب.فسائر هنا بمعنى: جميع، بدليل أنه استثني منه.(4/1506)المطلب السابع الجمع المنكر هل يفيد العموم إذا لم يقع في سياق النفي؟لقد اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أنه لا يفيد العموم، وهو مذهب أكثر العلماء،وهو الحق عندي؛ لأن الجمع المنكر صالح لكل مرتبة من مراتبالجماعة التي تبتدي من الثلاثة إلى العشرة، فيصح أن تقول:"رجال ثلاثة وأربعة وخمسة"، وهذا كله جائز، لكن لا تشير بذلكإلى أقل من ثلاثة، إذن الثلاثة لا بد منها، فثبت أنها تفيد الثلاثةفقط؛ لأنه أقل الجمع، ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.المذهب الثاني: أنه يفيد العموم.وهو مذهب الجبائي.دليل هذا المذهب:أن المرتبة المستغرقة لهذه المراتب إحدى مراتب الجمع المنكر،فيحمل عليها؛ لأنه أحوط، فإن ما عداها داخل فيها، أما هي فلاتدخل في غيرها، وما دام الجمع المنكر يصح حمله على المرتبةالمستغرقة لجميع المراتب كان عاما؛ لأنه يصدق عليه تعريف العام،وهو: أنه لفظ استغرق جميع ما يصلح له.جوابه:لا نسلم أن الأحوط هو حمل الجمع المنكر على المرتبة المستغرقة،(4/1507)بل هذا ممنوع؛ لجواز أن يكون الأحوط هو حمله على أقل مراتبه،خصوصاً إذا وقع الجمع في جانب الأمر؛ لأن ذلك فيه براءة الذمةبخلاف حمله على المرتبة المستغرقة، فإن ذلك يكون شغل الذمة بمالم يقم الدليل على شغلها به، والأصل أن الذمة بريئة منالتكاليف.بيان نوع الخلاف:الخلاف معنوي، وهو ظاهر، فلو قال السيد لعبده: " أكرمعلماء "، فإنه بناء على المذهب الأول: يكرم العبد ثلاثة فقط وتبرأذمته، وبناء على المذهب الثاني: فإنه لا تبرأ ذمة العبد إلا بعد أنيكرم جميع العلماء.(4/1508)المطلب الثامن هل نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواةبينهما من كل الوجوه؟فمثلاً إذا قلنا: " لا يستوي زيد وعمر "، فهل هذا يقتضي نفيالمساواة في جميع الوجوه: في الكرم والعلم، والخلق، وغير ذلكأو هو: يقتضي نفي المساواة من بعض الوجوه - فقط - كالكرم،أو نحو ذلك؟اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أن نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواةبينهما من كل الوجوه التي يمكن نفيها عنهما.وهو مذهب جمهور العلماء.وهو الحق عندي؛ لأن هذا من قبيل النكرة في سياق النفي،والنكرة في سياق النفي من صيغ العموم - كما سبق - وهي تفيدالعموم من جميع الوجوه.المذهب الثاني: أن نفي المساواة بين الشيئين لا يقتضي نفي المساواةبينهما من كل الوجوه، بل من بعضها - فقط -.وهو مذهب بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والبيضاوي،وكثير من الحنفية.دليل هذا انذهب:أن نفي المساواة بين الشيئين يحتمل احتمالين هما:(4/1509)الاحتمال الأول: نفي المساواة بينهما من كل الوجوه.الاحتمال الثاني: نفي المساواة بينهما من بعض الوجوه.ومعلوم أن المقسم - وهو نفي المساواة - أعم من القسمين،وبذلك يكون نفي المساواة أعم، وكل واحد من القسمين أخص،والأعم لا يدل على الأخص من حيث خصوصه، فلا يكون نفيالمساواة عاماً في نفيها من كل الوجوه.جوابه:نسلم أن الأعم لا يدل على الأخص في جانب الإثبات؛ لأنثبوت الأعم لا يعتبر ثبوتاً للأخص، فمثلاً: لو قال شخص:"رأيت حيواناً " لا يدل على أنه رأى إنسانا.أما في جانب النفي فلا نسلم ما ذكرتموه، فإن الأعم يدل علىالأخص، لأن المراد بالنفي هو: نفي الماهية، والماهية لا تنتفي إلابانتفاء جميع أفرادها، فلو بقي فرد من أفرادها لتحققت الماهية فيه،وحينئذٍ لايتحقق ما قصد من اللفظ.بيان نوع الخلاف:الخلاف هنا معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها:إذا قتل المسلمُ الكافر الذمي فهل يقتل المسلم به؟اختلف في ذلك على قولين -:القول الأول: إن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي؛ لقوله تعالى:(لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) ، ونفي الاستواءيقتضي نفيه من جميع الوجوه، فلو قتل المسلم بالكافر: لحصل(4/1510)بينهما استواء في القصاص، والذمي غير مساو للمسلم، بل هو أقلمنه في العصمة.القول الثاني: أن المسلم يقتل بالكافر الذمي، واستدلوا بآثار،منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلما بذمي وقال:" أنا أحق من وفى بذمته ".ولما قيل لهم: إن هذا ينافي نص الآية التي نفت المساواة بينهما،وهذا النفي عام للدنيا والآخرة.قالوا: إن المراد بنفي المساواة في الآية، هو: نفي المساواة منوجه واحد وهو: نفيها في الفوز بالجنة بدليل قوله:(أصحاب الجنة هم الفائزون) .فعند أصحاب القول الثاني: إن المساواة متحققة بين المسلموالكافر الذمي في الدنيا، فالذمي دمه معصوم كالمسلم، فمن قتلهقتل به، ولو كان مسلما.(4/1511)المطلب التاسع الفعل المتعدي إلى مفعول هل له عمومبالنسبة إلى مفعولاته أو لا؟المسألة مفروضة فيما إذا كان الفعل متعديا، ولم يذكر مفعوله،ووقع الفعل في سياق النفي كقوله: " والله لا آكل "، أو وقع فيسياق الشرط كقوله: " إن أكلت فأنتِ طالق "، فهل يكون هذاعاما في جميع المأكولات أو لا؟اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أنه يكون عاماً في جميع المأكولات، وإذا كانكذلك فإنه يقبل التخصيص؛ حيث إنه: إن نوى المتكلم مأكولاًمعيناً، فإنه لا يحنث بأكل غيره.وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الحق، للأدلة التالية:الدليل الأول: أن الفعل من باب النكرة، والنكرة إذا وقعت فيسياق النفي فإنها تعم، كذلك الفعل إذا وقع في سياق الشرط فإنهيعم، وقد سبق أنهما - أي: أن النكرة في سياق النفي،والشروط - من صيغ العموم، إذن الفعل في سياق النفي، والشرطعام، ومتى ثبت عمومه فإنه يقبل التخصيص.الدليل الثاني: أن الفعل المنفي في قوله: " والله لا آكل " يقصدمنه نفي الماهية، والماهية - كما قلنا سابقاً - لا تنتفي إلا بانتفاءجميع أفرادها، حيث إنه لو بقي فرد لتحققت الماهية فيه، فيكوناللفظ - على هذا - عام، والعام يقبل التخصيص.(4/1512)المذهب الثاني: أنه لا يكون عاما في جميع المأكولات، وإذا كانكذلك فإنه لا يقبل التخصيص، وهو مذهب كثير من الحنفية.دليل هذا المذهب:قياس الفعل المتعدي في مفعوله على الزمان والمكان، بيان ذلك:أنه لو عم الفعل المتعدي في مفعوله: للزم من ذلك: أن يعمكذلك في الزمان والمكان؛ قياساً على ذلك، والجامع: أن كلًّا منهذه الأمور يعتبر لازماً من لوازم الفعل، فالفعل المتعدي لا يتحققإلا بمفعول، وهو كذلك لا يتحقق إلا في زمان ومكان، لكن الفعلالمتعدىِ لا يعم بالنسبة للزمان، ولا المكان، فلذلك لا يقبلالتخصيص فيها، فكذلك ما نحن فيه.جوابه:يجاب عنه بجوابين:الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عدم عموم الفعل في الزمان والمكان؛بل هو عام فيهما، وإذا كان كذلك فإنه يقبل التخصيص، فمن قاللزوجته: " إن كلمت زيداً فأنت طالق "، ثم قال: " قصدتالتكليم شهراً "، فإنه يقبل منه ذلك، ونقل هذا عن الإمام الشافعيوهذا صريح في عموم الزمان وقبوله التخصيص، والمكان مثله.الجواب الثاني: أن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق،ووجه الفرق: أن ذكر الفعل المتعدي يعتبر ذكراً للمفعول به، فكأنهموجود في اللفظ، فإذا قال: " والله لا آكل "، فإن الأكل قد ذكرفي اللفظ، فيوصف بالعموم، ويرد عليه التخصيص، أما ذكرالفعل فلا يعتبر ذكراً لزمانه ولا لمكانه، فلا يكون كل منهما مذكوراًفي اللفظ، فلا يوصفان بالعموم، ولذا لا يقبل التخصيص.-(4/1513)بيان نوع الخلاف:الخلاف معنوي، قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها:1 - لو قال: " والله لا أضرب " ونوى الضرب بالعصا مثلاً،فإنه لا يحنث بالضرب بالسوط أو غيره؛ لأن كلامه عام وخصصهبالنية، وهذا بناء على المذهب الأول.أما بناء على المذهب الثاني، فإنه يحنث بالضرب بأي آلة؛ لأنكلامه لا يعم؛ لذلك لا تقبل التخصيص.2 - لو قال: " إن أكلت فأنت طالق "، ونوى أكلاً معيناكالتفاح، فإنها لا تطلق إذا أكلت البرتقال، أو غير التفاح؛ لأنكلامه عام، وخصصه بالنية؛ لأن العام يقبل التخصيص، هذا بناءعلى المذهب الأول.أما على المذهب الثاني: فإنها تطلق باكل أي أكل؛ لأن كلامه لايعم، لذلك لا يقبل التخصيص.(4/1514)المطلب العاشر دلالة العام هل هي ظثية أو قطعية؟لقد قلنا: إن للعموم صيغاً مستعملة فيه تدل عليه، وهي تلكالصيغ التي ذكرناها، لكن هل إفادتها للعموم ظنية، أو قطعية؛أي: هل تلك الألفاظ والصيغ تدل على العموم مع احتمال أنالمقصود بها الخصوص، أو أنها تدل على العموم مع عدم احتمالالخصوص؟اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أن دلالة العام ظنية، أي: أن تلك الصيغوالألفاظ تدل على العموم والخصوص، لكن دلالتها على العمومأرجح من دلالتها على الخصوص.وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن هذه الصيغتستعمل للعموم كما سبق الاستدلال عليه - ومع ذلك فقد كثرإطلاقها وإرادة الخصوص كثرة لا تحصى حتى اشتهر قولهم: " ما منعام إلا وقد خصِّص " إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ،واستعمال تلك الألفاظ والصيغ في الخصوص كثيراً تجعل دلالتها علىالعموم ظنية؛ لأن احتمال إرادة الخصوص بها وارد وثابت بدليل،وهو ما سبق.المذهب الثاني: أن دلالة العام قطعية، أي: أن تلك الصيغوالألفاظ تدل على العموم دلالة قطعية، فلا يحتمل الخصوص.وهو مذهب أكثر. الحنفية.(4/1515)دليل هذا المذهب:أن تلك الصيغ وضعت للعموم، دون الخصوص، فلا يفهم منهاعند إطلاقها إلا ما وضعت له - وهو العموم -، واحتمالالخصوص منها احتمال عقلي مجرد عن الدليل، والاحتمال المجردعن الدليل لا ينافي قطعية الدلالة.جوابه:لا نسلم أن احتمال الخصوص منها احتمال عقلي مجرد عن الدليلبل إرادة الخصوص منها هو احتمال ناشى عن دليل - وهو: كثرةاستعمالها في الخصوص حتى قيل: ما من عام إلا وقد خصص،والاحتمال الناشئ عن دليل ينافي القطعية بالمدلول.بيان نوع الخلاف:الخلاف معنوي، له أثره؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول:فإن القياس وخبر الواحد يقويان على تخصيص العام؛ لأن دلالتهعند هؤلاء ظنية، ودلالة خبر الواحد والقياس ظنية، والظني يقوىعلى تخصيص الظني.أما بناء على المذهب الثاني: فإن القياس وخبر الواحد لا يقويانعلى تخصيص العام؛ لأن دلالته عند هؤلاء قطعية، ودلالة القياسوخبر الواحد ظنية، والظني لا يقوى على تخصيص القطعي.وانبنى على ذلك بعض الفروع التي سيأتي ذكرها في المخصصاتإن شاء اللَّه.(4/1516)المطلب الحادي عشر أقل الجمع ما هو؟لتحرير محل النزاع في هذه المسألة لا بد أن أذكر ما يلي:أولاً: ليس محل النزاع في هذه المسألة في معنى لفظ " الجمع "المركب من " ج، م، ع "، وذلك لأن موضوع هذا اللفظ يقتضيضم شيء إلى شيء، وهذا منطبق على الاثنين والثلاثة، وما زادبلا خلاف.ثانيا: وليس محل لخلاف في لفظ " الجماعة " في غير صلاة،فإن أقله ثلاثة بلا خلاف.ثالثاً: وليس محل الخلاف في تعبير الاثنين عن نفسيهما، أوالواحد عن نفسه بضمير الجمع، سواء كان ضمير المتكلم متصلاًكقوله: "فعلنا"، أو منفصلاً كقوله: " نحن ".رابعاً: وليس محل الخاث ف مدلول مثل قوله تعالى:(فقد صغت قلوبكما) ، وقول اسقائل: " ضربت رؤوس الرجلين "،و"وطئت بطونهما "، وذلك لأن التعبير عن عضوين من جسدينبلفظ الجمع يقصد منه التخفيف، فإنه لو قيل: " قلباكما " لثقلاجتماع ما يدل على التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة مرتين.خامسا: وليس محل التخفيف هو الجمع المعرف بـ " أل " كالرجال،فإنه للاستغراق.إذن ما هو محل النزاع؟(4/1517)محل النزاع هو: جمع القلة المنكر، وهي التي تكون على وزنأربعة أمور هي كما يلي:1 - أفعلة كأرغفة2 - أفعل كأرجل.3 - أفعال كأثواب4 - فِعْلَة كصبية.وكذلك جمع المذكر السالم المنكر كمسلمين، وجمع المؤنثالسالم كـ " مسلمات ".وكذلك جمع الكثرة المنكر كرجال.وكذلك " واو الجمع " مثل الواو في قوله: " خرجوا ".فاختلف العلماء في أقل الجمع هل هو ثلاثة أو اثنان أو واحد علىمذاهب هي كما يلي:المذهب الأول: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ويطلق على الاثنينوالواحد مجازاً.وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:الدليل الأول: ما روي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنهدخل على عثمان - رضي اللَّه عنه - فقال له: إن الأخوين لا يردانالأم إلى السدس، إنما قال تعالى: (فإن كان له أخوة فلأمه السدس) ، والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة، فقال عثمان:"لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى فيالأمصار ".وجه الدلاله: أن ابن عباس - وهو من أرباب اللسان وأهل اللغةوالفصاحة والبلاغة، وترجمان القرآن وحبر الأمة - قد بيَّن أن أقلالجمع ثلاثة في اللغة، وعثمان - وهو أيضاً من أهل اللسان واللغة -(4/1518)قد وافقه على ذلك، فلم ينكر عليه ذلك، وإنما اعتذر عنه بأنه تركمقتضى اللسان في هذه المسألة الفرعية - وهي مسألة حجب الأم منالثلث إلى السدس - بسبب وجود قرينة صرفت اللفظ من كونهلثلاثة إلى كونه يحمل على اثنين، وهذه القرينة والدليل هو:إجماع من قبله على خلافه، فلما عدل عن ذلك بالإجماع دلَّ علىصحة ما قاله ابن عباس من أن الأخوين ليسا بأخوة في لغة العرب،فدل على أن الجمع لا يطلق على الاثنين حقيقة، فدل على أن أقلالجمع ثلاثة حقيقة.ما اعترض به على هذا الدليل:الاعتراض الأول: أن هذا الأثو ضعيف من حيث سنده؛ لأنه منرواية شعبة بن دينار، وهذا قد تكلم فيه أئمة الحديث، والحديثالضعيف لا يمكن أن يستدل به على إثبات قاعدة أصولية ككون أقلالجمع ثلاثة.جوابه:لا نسلم ضعف هذا الأثر؛ حيث إن الحاكم قد صحَّحه في"المستدرك "، فقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "،وقد وافقه الذهبي على ذلك في " تعليقه على المستدرك "، ونقلالذهبي في " ميزان الاعتدال " أن أحمد بن حنبل قال في شعبة هذا:إنه ما به بأس.الاعتراض الثاني: على فرض صحة هذا الأثر، فإنه معارض بماأخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "، والحاكم في " المستدرك " عنخارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يقول. " الإخوة في كلامالعرب أخوان فصاعداً ".(4/1519)جوابه:يجاب عنه بأجوبة:الجواب الأول: أن هذا الأثر المنقول عن زيد بن ثابت قد ورد فيسنده عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهذا الرجل قد تكلم فيه بعضأئمة الحديث، فقال الإمام أحمد بن حنبل: " إنه مضطرب الحديث "وقال يحيى بن معين: " ابن أبي الزناد لا يحتج بحديثه "، وهذاالكلام في هذا الرجل قد ضعَّف من هذا الأثر مما جعله لا يقوىعلى معارضة الأثر الوارد عن ابن عباس وعثمان.الجواب الثاني: على فرض صحة ما نقل عن زيد ومعارضته لمانقل عن ابن عباس وعثمان، فإنا نرجح الأثر المروي عن عثمان وابنعباس؛ وذلك نظراً لكثرة وعظم مرتبة ابن عباس وعثمان - رضيالله عن الجميع - وعلمهما الواسع في الشريعة واللغة.الجواب الثالث: سلمنا صحة نسبة الأثر إلى زيد: فإنه يمكنالجمع بينه وبين الأثر المروي عن ابن عباس وعثمان بطرق، أحسنها:أن الأثر المروي عن عثمان وابن عباس يحمل على إطلاق اللغةبصورة عامة، فإنها تقتضي أن أقل الجمع ثلاثة في جميع أبوابالفقه، أما كلام زيد فإنه يحمل على أن الجمع يطلق علي الاثنين فيهذه المسألة فقط، وهي: " حجب الأم من الثلث إلى السدسبالأخوين "، وهناك أجوبة أخرى وطرق للجمع قد ذكرتها في كتابي" أقل الجمع عند الأصوليين "، فارجع إليه.الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"الراكب شيطان، والراكبان شيطانان والثلاثة ركب ".وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بين التثنية والجمع، وجعل(4/1520)للاثنين اصطلاحاً خاصا دون الجمع، فعلم أن التثنية ليست بجمعحقيقة.الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"الشيطان يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم ".وجه الدلالة: نفس السابق.الدليل الرابع: أن الثلاثة تنعت بالجمع، والجمع ينعت بالثلاثةفيقال: " ثلاثة رجال "، و " رجال ثلاثة "، لكن التثنية لا تنعتبالجمع، ولا ينعت الجمع بالتثنية، فلا يقال " اثنان رجال "،ولا يقال: " رجال اثنان "، فلو كان الاثنان أقل الجمع: لجاز نعتأحدهما بالآخر، لكن ذلك لا يجوز، فلا يكون الاثنان جمعا.الدليل الخامس: أن العرب جعلت مراتب الأعداد ثلاثة أقسام:" الواحد "، ثم " التثنية "، ثم " الجمع "، فقالوا: " رجل "،و" رجلان "، و " رجال ".فلو كان الجمع يطلق على الاثنين حقيقة: لكانت مراتب الأعدادمنحصرة في ضربين هما: " الواحد "، و " الجمع "، وهذا مما لايجوز؛ لأنه خلاف ما استقر عليه وضع لغة العرب.الدليل السادس: أن أهل اللغة قد فرَّقوا بين التثنية والجمع فيالضمير المتصل، فقالوا في التثنية: " فعلا "، و " افعلا "، وقالوافي الجمع: " فعلوا "، و " افعلوا "، فلو كان الجمع يطلق علىالتثنية: لما فرقوا بينهما، ولقالوا لكل منهما: " فعلوا " أو " افعلوا"ولكنهم لم يقولوا ذلك مما يدل على أن التثنية ليست بجمع، فينتج:أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة.الدليل السابع: أن أهل اللغة قد فرقوا بين التثنية والجمع في(4/1521)الضمير المنفصل، فقالوا في الجمع: " هم فعلوا "، وقالوا فيالتثنية: " هما فعلا "، فلو كانت التثنية جمعا لما فرقوا بينهما فيذلك، ولقالوا: " هم فعلوا " للجمع والتثنية.الدليل الثامن: أن أهل اللغة قد فرَّقوا بين التثنية والجمع بالتأكيد،فقالوا في الجمع: " جاء الزيدون أنفسهم "، وقالوا في التثنية:"جاء الزيدان أنفسهما "، فلو كان الجمع يطلق على التثنية وأن الاثنينأقل الجمع: لجاز تأكيد أحدهما بالآخر.الدليل التاسع: أن ما فوق الاثنين هو المتبادر إلى الفهم من صيغةالجمع، والتبادر إلى الفهم من علامات الحقيقة، بخلاف عددالاثنين، فإنه لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الجمع، وهذا يدلعلى، أن الجمع يكون حقيقة في الزائد على الاثنين، وهو: الثلاثةفما فوقها، فيكون أقل الجمع ثلاثة.المذهب الثاني: أن أقل الجمع اثنان حقيقة، ويطلق على الواحدمجازاً.وهو مذهب القاضي الباقلاني، والباجي، وابن الماجشون،وداود الظاهري، وابنه محمد، وأبي إسحاق الإسفراييني، وهواختيار علي بن عيسى النحوي، ونفطويه، والخليل بن أحمد.أدلة هذا المذهب:الدليل الأول: قوله تعالى: (فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون) .وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أطلق ضمير الجمع وهو الواردبقوله: " معكم "، والمراد: موسى وهارون - عليهما السلام -(4/1522)وهما اثنان، والمراد بالإطلاق الحقيقة، فلو لم يكن الاثنان جمعا لماأطلق عليهما ضمير الجمع وأرجعه إليهما.جوابه:إن الضمير الوارد في قوله: (معكم) لم يرجع إلى اثنين - كمازعمتم -، بل هو راجع إلى ثلاثة وهم: موسى، وهارون،وفرعون، والمقصود بالمعية هنا: هي: معية العلم، أي: أن اللَّه لماأمر موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون، فلما وصلوا إليه فهو معهمبالعلم لما يقولون - أي: مع موسى وهارون والذي ذهبوا إليه،وهو فرعون.الدليل الثاني: قوله تعالى: (عسى اللَّه أن يأتيني بهم جميعا) .وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أطلق ضمير الجمع، وهو الواردفي قوله: (بهم) ، وأرجعه إلى اثنين، وهما: " يوسف "وشقيقه " بنيامين ".فلو لم يكن الاثنان جمعا: لما جمع الضمير، ولقال: " بهما"،ولكنه سبحانه لم يقل ذلك، بل قال: " بهم " مما يدل على أنالتثنية جمع، فيكون أقل الجمع اثنين.جوابه:إن الضمير في قوله: " بهم " لم يرجع إلى اثنين - كما زعمتم -بل رجع إلى ثلاثة، وهم: " يوسف "، و " بنيامين "، وأخيهمالأكبر: " شمعون " القائل: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فيكون على وجهة.الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ)(4/1523)وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد استعمل لفظ " الجمع " في قوله:(إِذْ تَسَوَّرُوا) في الاثنين وهما الملكان، وهما الخصمان، بدليلقوله: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) ، فلو لم يكن الاثنانجمعا لما أرجع ضمير الجمع في (تَسَوَّرُوا) إليهما، فيكون أقلالجمع اثنين.جوابه:إن الضمير في قوله: (تَسَوَّرُوا) لم يرجع إلى اثنين، بلرجع إلى أكثر، حيث إنه يجوز أنه حضر مع جبريل وميكائيلجماعة من الملائكة، ورد الضمير بلفظ الجمع إلى الجميع، فقال:(إِذْ تَسَوَّرُوا) .الدليل الرابع: قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوافأصلحوا بينهما) .وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد رد ضمير الجمع في قوله:(اقتتلوا) إلى التثنية، وهما: (الطائفتان) ، فدل على أن التثنيةجمع، فيكون أقل الجمع اثنين.جوابه:إن هذه الآية لا تصلح للاستدلال بها على أن أقل الجمع اثنان؛لأن المراد بالطائفة - هنا - الجمع، وليس المفرد، يؤيد ذلك سبب.نزول هذه الآية، حيث قال سعيد بن جبير: إن الأوس والخزرج كانبينهم على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قتال بالسيف والنعال ونحوه، فأنزل اللَّه هذه الآية فيهم، وقال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية، وقيل في سبب نزولها غير ذلك، وكل ما ذكر(4/1524)من سبب يدل دلالة واضحة على أن المراد بالطائفة هنا هو جمعوليس مفرداً.الدليل الخامس: قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد جمع الضمير في قوله:(لِحُكْمِهِمْ) مع أن المراد به اثنان هما: " سليمان "، و " داود " ممايدل على أن صيغة الجمع تتناول الاثنين حقيقة، فيكون أقل الجمعاثنين.جوابه:إن ضمير الجمع الوارد في قوله: (لِحُكْمِهِمْ) لم يرجع إلىاثنين، بل هو راجع إلى أربعة وهم: الحاكمان وهما: " داوود "،و" سليمان "، والمحكوم له وهو صاحب الزرع، والمحكوم عليهوهو صاحب الغنم.اعتراض على هذا الجواب:قال قائل - معترضا -: سلمنا أن الحكم يضاف إلى الحاكم،لكن لا نُسَلِّمُ أن الحكم يضاف إلى المحكوم عليه أو له.جوابه:يجوز في لغة العرب نسبة الحكم إلى المحكوم عليه أوله عن طريقالمجاز، يقال للذي له قضية في محكمة: " هل صدر حكمه؟ "فمثل هذا الإطلاق يجوز لغة، ولا مانع منه، وهو محكوم له أوعليه، والقرآن نزل بلغة العرب.وهناك ستة أجوبة عن الاستدلال بهذه الآية قد ذكرتها في كتابي:(4/1525)" أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه "، فارجع إليه إنشئت.الدليل السادس: قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) .وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد عبر عن الإخوة بالأخوين،وهذا يدل على أن التثنية جمع، فلو لم تكن التثنية جمعا لما قالذلك، فيدل على أن أقل الجمع اثنان.جوابه:المراد بلفظ " الأخوين " هنا: الطائفتان، أو القبليتان، أوالجماعتان؛ لأن اسم الأخوين يقع على ذلك، قال الشاعر:فألحق بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندق إخوانفسمى القبيلتين أخوين.الدليل السابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"الاثنان فما فوقهما جماعة ".وجه الدلالة: أن هذا نص في أن أقل الجمع اثنان؛ حيث إنالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الاثنين جماعة، والرسول - عز وجل - من أهل اللغة، بل أبلغهم وأفصحهم، فلو نقل هذا عن واحد من الأعراب لكان حُجة، فعن صاحب الشرع أوْلى.جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين:الجواب الأول: أن هذا الحديث ضعيف؛ حيث روي هذا الحديثمن طرق كثيرة كلها ضعيفة، وقد بيَّنت هذه الطرق في كتابي " أقلالجمع عند الأصوليين "، وإليك بعضا من ذلك:أن في سنده: " الربيع بن بدر " قال عنه النسائي: " متروك(4/1526)الحديث "، وقال يحى بن معين: " ليس بشيء "، وقال ابن أبيحاتم الرازي: " الربيع بن بدر لا يشتغل به، ولا بروايته، فإنهضعيف الحديث "، وقال ابن كثير في " تحفة الطالب ": " الربيعاتفق أئمة الجرح والتعديل على جرحه ".وقيل غير ذلك.وإذا كان كذلك فلا يصلح للاستدلال به على إثبات قاعدة أصوليةوهي: أن أقل الجمع اثنان.الجواب الثاني: على فرض صحة هذا الحديث فإنه لا يدل على أنأقل الجمع اثنان مطلقا، بل يحمل على أن المراد حصول فضيلةالصلاة جماعة من حيث الحكم الشرعي، لا من حيث اللفظاللغوي؛ لأن الشارع إنما يبين الأحكام التي بعث لبيانها لا اللغاتالتي عرفت من غيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشرعيات.وبهذا يكون هذا الحديث - إن صح - دليلاً لنا، لا لهم؛ حيثإنه لو كان الاثنان جمعا حقيقة: لما احتاج إلى البيان؛ لأنه يعرفذلك من اللغة ما يعرفه.المذهب الثالث: أن أقل الجمع واحد حقيقة.وهو مذهب أبي حامد الإسفراييني، ونسبه بعضهم إلى إمامالحرمين، ولكن هذه النسبة ليست صحيحة كما بينت ذلك في كتابي" أقل الجمع عند الأصوليين ".أدلة هذا المذهب:الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .(4/1527)وجه الدلالة: أنه سبحانه وحده منزل الذكر، فإذا ثبتت العبارةبلفظ الجمع عن الواحد لم يستنكر حمل معلوم المخصص علىالواحد حقيقة.جوابه:إن هذا ليس في محل النزاع؛ حيث قلنا: إن الواحد الذي يُعبِّرعن نفسه بلفظ الجمع، فإنه تعبير صحيح، لكن جاء عن طريقالمجاز.الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) .وجه الدلالة: هو نفسه ما سبق.جوابه:هو نفس الجواب السابق.الدليل الثالث: أن إطلاق لفظ الجمع على الواحد قد ورد فيكلام العرب، فمثلاً: إذا برزت امرأة لرجل واحد حَسُنَ من زوجهاأن يقول - في توبيخها -: " أتتبرجين للرجال يا لكعاء "، وهو لمير إلا رجلاً واحداً.جوابه:إنه لا يعني بلفظ " الرجال " رجلاً واحداً، بل استعمل لفظالجمع، وهو " الرجال " بدلاً من لفظ " الواحد "، لأن غرضالزوج لم يتعلق بذلك الرجل الواحد، بل تعلق غرضه بجنسالرجال لظنه أنها ما تبرجت لواحد إلا وقد تبرجت لغيره، فتبرجهالواحد سبب للإطلاق.(4/1528)المذهب الرابع: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ويطلق على الاثنينمجازاً، ولا يطلق على الواحهد لا حقيقة ولا مجازاً.دليل هذا المذهب:أولاً: استدل أصحاب هذا المذهب على أن أقل الجمع ثلاثةجقيقة بأدلة أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور -.ثانيا: واستدلوا على أنه يطلق على الاثنين مجازاً بما استدل بهأصحات المذهب الأول؛ حيث إنهم يطلقون الجمع على الثلاثة،ولا يمنعون من إطلاقه على الاثنين مجازاً.ثالثاً: استدلوا على أن الجمع لا يطلق على الواحد مجازاً بقولهم:إن المجاز لا بد فيه من قرينة وعلاقة، ولا علاقة بين المعنى الحقيقي- وهو الثلاثة - والمعنى المجازي - وهو الواحد - فلا يصح إطلاقالجمع عليه مجازاً.جوابه:إن الجمع يطلق على الواحد مجازاً، كما في الواحد ينزل نفسهمنزلة الجمع كقوله: " نحن فعلنا "، وهذا معروف أنه مجاز - كماقلنا ذلك في المذهب الثالث -.والعلاقة بين المعنى الحقيقي وهو: الجمع، والمعنى المجازي وهو:الواحد موجودة، وهي اليتعدد الصادق بالتعدد الواقعي كما فيالجمع، والتعدد التقديري كما في الواحد الذي يقوم بما تقوم بهالجماعة.المذهب الخامس: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ولا يطلق علىالاثنين حقيقة ولا مجازاً.(4/1529)أدلة هذا المذهب:أولاً: استدل أصحاب هذا المذهب على أن أقل الجمع ثلاثةحقيقة بما استدل به أصحاب المذهب الأول، وهم الجمهور.ثانياً: واستدلوا على أن الجمع لا يطلق على الاثنين لا حقيقة،ولا مجازاً بالأدلة التالية:الدليل الأول: أنه لا علاقة بين الاثنين والجمع، وعند فقد العلاقةيمتنع المجاز، وذلك لأن المجاز لا بد فيه من العلاقة.جوابه:أن الجمع يطلق على الاثنين بطريق المجاز، والعلاقة بين الاثنينوالجمع موجودة وهي: التعدد الواقعي؛ حيث إن الاثنين فيهماتعدد، والجمع فيه تعدد كذلك.الدليل الثاني: أنه لو صح إطلاق الجمع على الاثنين، ولومجازاً: لصح نعت التثنية بالجمع وبالعكس، لكن لا يجوز أنيقال: " جاءني رجلان عالمون "، ولا " جاء رجال عالمان ".جوابه:إن العرب كانت تراعي صورة اللفظ محافظة للتماثل بين الصفةوالموصوف، فلهذا لم يجوزوا نعت المثنى بالجمع ولا العكس.وقد التزم بعضهم النعت مع الاختلاف مجازاً.بيان نوع الخلاف:الخلاف هنا معنوي، قد أثر في بعض المسائل الفقهية، ومنها:1 - لو حلف وقال: " والله لا أكلم بني آدم ".(4/1530)فإنه لا يحنث إلا إذا كلم ثلاثة؛ بناء على المذهب الأول وهو:أن أقل الجمع ثلاثة.وقيل: يحنث إذا كلم اثنين، بناء على المذهب الثاني وهو: أنأقل الجمع اثنان.ويلزم على المذهب الثالث - وهو: أن أقل الجمع واحد: أنهيحنث إذا كلم واحداً.2 - الصلاة على الميت.قيل: لا بد أن يصلي عليه ثلاثة؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.وقيل: يكفي أن يصلي عليه اثنان؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان.وقيل: يكفي أن يصلي عليه واحد؛ بناء على أن أقل الجمع واحد.3 - لو قال الزوج: " إن تزوجت نساء فأمرأتى طالق ": لمتطلق إلا إذا تزوج ثلاث نسوة؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.ويلزم على المذهب الثاني - وهو: أن أقل الجمع اثنان -: إنامرأته تطلق إذا تزوج امرأتين.ويلزم على المذهب الثالث - وهو؛ أن أقل الجمع واحد -: إنامرأته تطلق إذا تزوج امرأة واحدة.4 - إذا نذر صوم أيام - ولم يبين مقصده - فإنه يلزمه ثلاثة أيام؛بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.ويلزمه يومان؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان.ويلزمه يوم واحد؛ بناء على أن أقل الجمع واحد.(4/1531)5 - لو قال لزوجته: " أنت طالق طلقات " - ولم يبين مقصده -فإنه يلزمه ثلاث طلقات، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة.ويلزمه طلقتان، بناء على أن أقل الجمع اثنان.ويلزمه طلقة واحدة؛ بناء على أن أقل الجمع واحد.وقد أفردت هذه المسألة بمصنف مستقل - لما رأيت أهميتها لطالبالعلم - سميته: " أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه " قدتوسعت بذكر المذاهب، وأدلتهم، والمناقشة، وأثر الخلاف الفقهيوالأصولي، فارجع إليه إن شئت فهو مطبوع بمجلد.(4/1532)المطلب الثاني عشر هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟إذا ورد لفظ عام على سبب خاص - واللفظ مستقل بنفسه دونسببه - فهل يسقط السبب عموم اللفظ أو لا؟فمثلاً إذا حدثت حادثة فوردت في حكمها آية أو حديث بلفظ عاممن الألفاظ، والصيغ السابقة الذكر، فهل يكون هذا الحكم خاصا،نظراً إلى سببه، أو عاماً نظراً إلى لفظه؛ أي: إن كان الجواب عاماوالسؤال خاصا، فهل خصوص السبب يخصص العام، أو لا؟اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.أي: أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يختص به، بليكون عاماً لمن تسبَّب في نزول الحكم ولغيره.وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي منالأدلة:الدليل الأول: أن الحجة في لفظ الشارع:فإن أورد الشارع الحكم وهو مشتمل على صيغة من صيغ العموم- السابقة الذكر -: جعلنا الحكم عاماً سواء نزل ذلك الحكمبسبب، أو بغير سبب، وإن أورد الشارع الحكم بلفظ خاص:خصصنا ذلك الحكم.(4/1533)فالمعتبر هو اللفظ، وقد أجمع العلماء على ذلك في بعض الصور.فمثلاً لو كان لرجل أربع نساء فقلن له: " طلفنا جميعاً "، فقالهو: فلانة طالق، فإنه لا تطلق إلا واحدة، وهي المعينة، فلمينظر إلى السؤال العام، بل نظرنا إلى لفظ الزوج.كذلك لو قالت واحدة منهن: " طلقني "، فقال: " كل نسائيطوالق "، فهنا: جميع نسائه يطلقن؛ حيث نظرنا إلى لفظ الزوج،ولم ينظر إلى سبب هذا القول.الدليل الثاني: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على تعميمالأحكام الواردة على أسباب خاصة، بيان ذلك:أن أكثر العمومات - قد وردت على أسباب خاصة، فمثلاً:آيات الظهار نزلت في شأن أوس بن الصامت وزوجته، وآياتاللعان نزلت في شأن عويمر العجلاني وزوجته، وقيل: إنها نزلتفي هلال بن أمية وزوجته، وآية السرقة قد نزلت في سرقة رداءصفوان بن أمية، وآية القذف نزلت في شأن عائشة - رضي اللَّه عنالجميع - والأمثلة كثيرة.والصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد عمموا أحكام هذه الآيات منغير نكير، فدل على أن الأحكام لا تخصص بأسبابها، ولو كانتمخصصة بأسبابها: لكان إجماع الصحابة على التعميم خلافالدليل، وهذا لم يقل به أحد.الدليل الثالث: أن المقتضي للعمل بالعموم موجود، وهو اللفظالعام الذي يشمل السبب وغيره وضعا، والمانع له غير موجود؛حيث لا يوجد بين السبب والعام تنافي؛ نظراً لإمكان العمل بالعام(4/1534)في السبب وفي غيره، ومتى وجد المقتضي وانتفى المانع وجب العملبالعام على عمومه؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض.المذهب الثاني: أن العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ.أي: أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص يختص به.أي: أن خصوص السبب يخصص العام، ويجعله مراداً به هذاالسبب بخصوصه، فلا يعمل بالعام على عمومه.وهو مذهب الإمام مالك في رواية عنه، واختاره بعض الشافعيةكالمزني، والدقاق، والقفال، وحكي عن الإمام الشافعي، وحكيعن أبي ثور.أدلة هذا المذهب:الدليل الأول: أنه لو كان الخطاب الوارد على سبب عاما: لجازإخراج السبب عن العموم بالاجتهاد، كما في غيره من الصورالداخلة تحت العموم ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل، وهوخلاف الإجماع.فمثلاً: نزلت آية اللعان بسبب قصة عويمر العجلاني، وهي بلفظعام، فإن حكم اللعان يختص بعويمر؛ لأنه لو لم يختص حكماللعان به - وهو سبب نزوله - لجاز إخراج السبب - أي: إخراجعويمر - بالتخصيص كأي فرد من أفراد العموم، ولكنه لا يجوزإخراجه؛ لأن الآيات نزلت بشأنه أصلاً، وما دام أنه لا يخرج بأيحال، بينما غيره من الأفراد يجوز إخراجه، فثبت أن اللفظ مختصبسببه وهو عويمر.جوابه:إنا لما قلنا: إن الحكم الوارد بلفظ عام على سبب خاص يجب(4/1535)تعميمه لما ورد بشأنه ولغيره، فإن هذا لا يلزم منه: جواز إخراجالسبب - وهو ما ورد الحكم بشأنه كعويمر في آيات اللعان - وذلكلأنه لا خلاف في أن كلام الشارع في آيات اللعان - مثلاً - هو بيانلحكم ما وقع لعويمر، ولكن هل هذه الآيات الواردة في اللعان بيانلعويمر خاصة، أو بيان له ولغيره مما شابه ذلك؛ هذا هو محلالنزاع.فعندنا: أن اللفظ الوارد في حكم اللعان يعم عويمر ويعم غيره،لكن الفرق بينه وبين غيره: أن اللفظ تناوله تناولاً قطعيا، وتناولغيره تناولاً ظنيا، لذلك قلنا - هناك -: إن دلالة العام ظنية، ومادام أن الخطاب في حق عويمر قطعي، فلا يمكن أن يخصص أويخرج بحال، أما غيره فيجوز خصيصه بدليل معتبر.الدليل الثاني: أن الراوي حرص على نقل سبب نزول الحكم ولافائدة من حرصه على نقل السبب إلا لأن الحكم مختص به، فلو كانالحكم عاما: لكان نقل السبب وعدم نقله سواء في عدم الفائدة.جوابه:لا نسلم ما قلتموه، بل إن لنقل الراوي للسبب فائدتان هما:الفائدة الأولى: امتناع إخراج السبب - وهو عويمر مثلاً - منآيات اللعان بحكم التخصيص بالاجتهاد، وذلك لأنه تناوله قطعا- فذكره للسبب ينبه على ذلك - وقد سبق بيان ذلك.الفائدة الثانية: معرفة أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث،وهذا يتضمن فوائد، منها:أولاً: معرفة سير الصحابة وما جرى بينهم، لنقتدي بالحسن من(4/1536)الوقائع التي وقعت في عصرهم، والتأسي بصبرهم على ما ألم بهممن مصائب.ثانياً: معرفة معاني النصوص الشرعية من الكتاب والسنَّة، فإنالعارف بسبب نزول هذه الآية أعلم بمراد الشارع من غير العارف.ثالثا: معرفة مقاصد الشارع في كل آية أو حديث.رابعا: التوسع في علم الشريعة؛ حيث إن العالم بأسباب نزولالآيات أقدر على استنباط الأحكام منها من غيره.الدليل الثالث: أنه لو لم يكن للسبب تأثير في الحكم لما أخرالشارع بيان الحكم إلى حالة وقوع تلك الواقعة.أي: أن الشارع قد أنزل حكم الظهار - مثلاً - بعد وقوع حادثةأوس بن الصامت وزوجته مباشرة، وهذا يدل على أن حكم الظهارمختص بأوس وامرأته؛ إذ لو كان الحكم عاماً لأوس وزوجتهوغيرهما لأنزل حكم الظهار قبل وقوع تلك الواقعة، أو أخره عنوقوع الحادثة، ولكن لم يفعل ذلك، فثبت أن نزول الحكم بهذاالوقت بالذات يدل على اختصاصه بالحادثة التي وقعت فيه.جوابه:يجاب عنه بأجوبة:الجواب الأول: أن قولكم - في هذا الدليل - تحكم على اللهتعالى، وليس لنا التحكم عليه، وسؤاله: لمَ فعل كذا؛ ولِمَ لميفعل كذا؛ وما فائدة نزول هذا في هذا الوقتَ؛ إلى آخر الأسئلةالتي لو سمح بمثلها لأدى إلى الكفر والظلال، فلا يجوز طلبالفائدة لأفعال اللَّه تعالى، فهو معلوم أنه لا يفعل شيئاً إلا وفيه فوائد(4/1537)ومصالح: فقد يدركها بعض العلماء، أو يدرك بعضها، وقد لايدركها فتكون تعبدية، فله سبحانه أن ينشئ التكليف في أي وقتشاء؛ لعلمه سبحانه أن مصلحة العباد والبلاد تقتضي ذلك، قالتعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) .الجواب الثاني: أن قولكم: " إنه ما أخر بيان الحكم إلى وقوعالواقعة إلا لأن الحكم مختص بهذه الواقعة " يلزم منه: أن يختصالرجم بماعز، واللعان بعويمر وزوجته، أو هلال وزوجته، والسرقةبمن نزلت فيهم؛ لأن اللَّه أخر بيان تلك الأحكام إلى وقوع وقائعهم،وذلك كله خلاف إجماع الصحابة، فيكون ظاهر البطلان.الجواب الثالث: على فرض أن سؤالكم صحيح: فإنا نقول - فيالجواب عن ذلك -: إن اللَّه علم أن مصلحة العباد والبلاد تقتضي نزولاَيات اللعان - مثلاً - في هذا الوقت، فأراد إيقاع واقعة لينزل الحكمبشأنها، فأحدث واقعة عويمر مع زوجته، فأنزل آيات اللعان،لتكون حكما له ولغيره ممن شابهه.اعتراض على ذلك:قال قائل - معترضا - لِمَ أحدث حادثة لأجل إنزال حكم اللعان،ولِمَ لم ينزله ابتداء كغيره؟جوابه:إن اللَّه أحدث بعض الحوادث، وأنزل بشأنها أحكاما شرعية،لأمرين:أولهما: أن إنزال الحكم والجواب بعد حدوث الحادثة أوقع فيالنفوس من إنزال الحكم ابتداء.(4/1538)ثانيهما: ليعلم الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بشيء من عنده، بل إن كل ما جاء به من القرآن والسُّنَّة هو من عند اللَّه وحده، قالتعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، ولذلككان يتوقف عن جواب بعض الأسئلة حتى ينزل به وحي.الدليل الرأبع: أن الحكم جواب، والواقعة والحادثة سؤال، ومنشرط الجواب: أن يكون مطابقا للسؤال لا يزيد عنه ولا ينقص، فلوكان الجواب عاماً والسؤال خاصا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال،والأصل المطابقة؛ لكون الزيادة عديمة التأثير فيما يتعلق به غرضالسائل.جوابه:إن أردتم بمطابقة الجواب للسؤال: الكشف عنه، وبيان حكمه،وأن يكون متناولاً له: فهذا نسلمه لكم، وقد وجد وحصل.أما إن أردتم بمطابقة الجواب للسؤال: أن يكون مطابقا له تمامالمطابة: بدون زيادة بعض البيانات لغير ما سئل عنه: فلا نسلم؛وذلك لأنه قد ثبت في الشريعة أن الشارع يسأل عن شيء فيجيب عنهوعن غيره، كما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الوضوء بماء البحر قال:" هو الطهور ماؤه الحل ميتته "،فهنا قد تعرض لحل الميتة، ولم يكن مسؤولاً عنها.بيان نوع الخلاف:قد يبدو أن الخلاف - هنا - لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبينعلى أن أحكام اللعان، والظهار، والسرقة، والرجم، وغيرها ممانزلت بسبب حوادث خاصة: هي عامة لمن نزلت بسببهم،ولغيرهم، لكن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قالوا:(4/1539)أخذنا هذا العموم عن طريق اللفظ العام: ولم يلتفتوا إلى كونه نزلبسبب أو بغير سبب، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: إنتلك الأحكام لا شك أنها عامة، لكن لم نأخذ عمومها عن طريقاللفظ العام الوارد في النص؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه،ولكن أخذنا ذلك العموم عن طريق القياس، أي: قياس الحوادثالمشابهة على ما حدث لعويمر، وهلال، وأوس.كذلك لو نظرنا إلى الدلالة، فقد اتفق أصحاب المذهبين على أنهاظنية؛ لأن دلالة العام ظنية، ودلالة القياس ظنية.ولكن الحق: أن الخلاف معنوي؛ لأن أصحاب المذهب الأولقصدوا أن تلك الأحكام قد ثبتت للحوادث المشابهة لما حدث لعويمروأوس، وهلال عن طريق النص واللفظ.أما أصحاب المذهب الثاني فقد قصدوا: أن تلك الأحكام قدثبتت للحوادث المشابهة لعويمر وأوس عن طريق القياس.والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياسمن وجهين هما:أولهما: أن الحكم الثابت عن طريق عموم النص أقوى من الحكمالثابت عن طريق القياس.ثانيهما: أن الحكم الثابت عن طريق النص ينسخ، ويُنسخ به،أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ، ولا ينسخ به - كماسبق بيانه -.(4/1540)المطلب الثالث عشر حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم؟إذا حكى الصحابي ما شاهده من الحوادث بلفظ عام كقوله:"نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة،وأمر بوضع الجوائح، وقضى بالشفعة للجار،فهل يؤخذ بعموم قوله أو لا؟اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى، أو قضى، أو حكم يقتضي العموم، وهو مذهب كثير منالعلماء، واختاره سيف الدين الآمدي، وهو الحق عندي؛ لإجماعالصحابة ومن جاء بعدهم من علماء السلف والخلف على أن قولهيفيد العموم: فقد عرفنا - بالاستقراء والتتبع - أنهم كانوا يرجعونإلى هذه الألفاظ، ويحتجون بها في عموم الصور التي تحصل فيأزما انهم: فقد قال ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابرأربعين سنة حتى أخبرنا رافع أن - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة "، وإذا رأى أحد منهم شخصا يبيع بالمزابنة أو المحاقلة منعوه مستدلين بقولالصحابي: " نهى رسول اللَّه لمجيم عن المزابنة والمحاقلة، وكانوايمنعون عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه مستدلين بقول الصحابي:"نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه "، وكذلك فقد أخذوا بقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح "،وبقوله: " رخص رسول اللَّه في السلم "، وبقوله: " رخصرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في العرايا "، وقوله: " قضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -(4/1541)بالشفعة للجار "، وكانوا يفعلون ذلك، ويستدلون بتلك الألفاظدون نكير من أحد، فصار هذا إجماعا منهم على الاحتجاج بمثلذلك في عموم الصور، وعلى العمل بها.المذهب الثاني: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه، أو نهى،أو قضى لا يفيد العموم.وهو مذهب أكثر العلماء.دليل أصحاب هذا المذهب:أن قول الراوي: أمر، أو نهى هو حكاية للراوي لما شاهده،وهذه الحكاية محتملة لاحتمالات هي كما يلي:الاحتمال الأول: أن يكون قد سمع لفظاً عاماً، فحكاه كماسمع.الاحتمال الثاني: أن يكون قد سمع لفظا خاصا فظنه عاماً،فحكاه على أنه عام.الاحتمال الثالث: أن يكون قد شاهد أمراً خاصا، ولكنه فهمالعموم، فحكاه بصيغة العموم.وهذه الاحتمالات متساوية، فلا يرجح أحدها إلا بمرجح، ولايوجد مرجح، فالتمسك بعموم هذا هو تمسك بتوهم العموم، لابلفظ عرف عمومه، وقيل: إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقطبه الاستدلال.جوابه:إن هذه الاحتمالات تنقدح في الذهن، ولكن رجحنا إفادة مايقوله للعموم، لأمرين:(4/1542)أولهما: إجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف والخلف - كماسبق بيانه -.ثانيهما: أن الحاكي - وهو الصحابي - عربي فصيح عارفبدلالات الألفاظ، فهذا يبعد عنه احتمال أن يفهم ما ليس عاما أنهعام حتى يحكيه بصيغة العموم.وكذلك هو - أي: الحاكي وهو الصحابي - قد شهد اللَّه لهورسوله بالعدالة، فهو ذو ورع ودين وتقوى، وهذا كله يمنعه منحكاية العموم، وهو غير متيقن له، لأنه يعلم أن ذلك يوقع الناسفي لبس دمابهام.وعلى فرض أن هذا الراوي الصحابي لم يقطع بالعموم، فلايمكن أن ينقل ما يقتضي العموم إلا وقد ظهر له العموم، والغالبإصابته فيما ظنه ظاهراً وراجحاً، والعمل - بالغالب الظاهر واجب،فيجب العمل بما ظهر منه، ومهما ظن صدق الراوي فيما نقله عنالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجب اتباعه.بيان نوع الخلاف:الخلاف معنوي، بيان ذلك: أن أصحاب المذهبين قد اتفقا علىأن النهي عن المزابنة، والمخابرة، والمحاقلة، والمنابذة، والملامسة،والغرر، والأمر بوضع الجوائح، والقضاء بالشفعة فيما لم يقسم- إلى آخر ذلك عام وشامل للأشخاص الذين نهوا، وأمروا،وقضي في حقهم ولمن جاء بعدهم ممن شابههم.ولكن اختلفوا في طريق ذلك: فأصحاب المذهب الأول قالوا:استفدنا ذلك العموم عن طريق لفظ الصحابي ونصه، أما أصحاب(4/1543)المذهب الثاني فقالوا: قد استفدنا تعميم الأحكام من دليل خارجي،وهو القياس، أي قياس غيرهم عليهم.والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياسمن وجهين قد ذكرناهما في مسألة: " هل العبرة بعموم اللفظ أوبخصوص السبب ".(4/1544)المطلب الرابع عشر حكاية الراوي لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "كان " هل يفيد العموم؛ وأن هذا الفعل يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، أو لا؟إذا قال الراوي: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا "،فهل هذا يفيد العموم والتكرار أو لا؟اختلف فيه على مذهبين:المذهب الأول: أن هذا يفيد العموم.وهو لبعض العلماء، وهو الحق؛ لأن الراوي إنما يحكي الفعلوالحادثة بلفظ " كان " إذا ثبت عنده تكرار ذلك الفعل، حيث لايفهم من لفظ " كان " إلا التكرار في مخاطباتنا فتقول - مثلاً -:"كان زيد يأتي هذه المكتبة "، لا يمكن أن يقول ذلك إلا إذا كان زيديتردد عليها أكثر من مرة.المذهب الثاني: أن هذا لا يفيد العموم، وهو مذهب جمهورالعلماء.دليل هذا المذهب:أن الفعل إنما يفيد الماهية من حيث هي بقطع النظر عن المرة أوالتكرار، وحيث لا موجب للتكرار، فلا يكون هذا القول دالًّا علىالتكرار، بل يكون التكرار مستفاداً من دليل خارجي.جوابه:إن هناك موجبا للتكرار، وهو ما ذكرناه في دليلنا.(4/1545)بيان نوع الخلاف:الخلاف معنوي؛ حيث إن المعبر بلفظ " كان " يدل تعبيره على أنفعل - صلى الله عليه وسلم - الذي حكاه هذا الراوي بلفظ " كان " متكرر؛ بناء على المذهب الأول.أما بناء على المذهب الثاني: فإن تعبيره بلفظ " كان " لا يدل علىتكرار الفعل، بل يدل على المرة الواحدة فقط.ولا شك أن ما تكرر وقوعه من فعله - صلى الله عليه وسلم - أقوى مما وقع مرة واحدة.(4/1546)المطلب الخامس عشر هل يدخل العبد في الخطاب المضاف إلى الناسوالمؤمنين، والأمة، والمسلمين؟لقد اختلف في ذلك على مذاهب:المذهب الأول: أن العبد يدخل تحت خطاب التكليف بالألفاظالعامة المطلقة مثل: " الناس "، و " المؤمنين "، و " المسلمين "،و"الأمة "، فهو كالحر، فلا يخرج منها إلا بقرينة.وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن العبد من جملةمن يتناوله اللفظ؛ فهو من " الناس "، ومن " المؤمنين "، ومن"المسلمين "، ومن " الأُمَّة "، بدليل: أنه يوصف فيقال: هذا العبدمسلم، ومؤمن، ومن الناس، والأُمَّة، ولا يوجد مانع من دخولهلا شرعي ولا عقلي.المذهب الثاني: أن العبد لا يدخل تحت تلك الخطابات إلا بدليلوقرينة تدخله، وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض المالكية.دليل هذا المذهب:أن أكثر الأوامر الشرعية لم يدخل العبد فيها كالأمر بصلاة الجمعة،والأمر بالزكاة، والأمر بالحج، والأمر بالجهاد، ونحو ذلك، ممايدل على أن تلك الخطابات موجهة إلى كاملي التكليف، وهمالأحرار.(4/1547)أي: أنه نظراً إلى خروج العبد عن بعض التكاليف، فإنه لايدخل ضمن الخطابات العامة إلا بدليل وقرينة.جوابه:إن خروج العبد عن بعض التكاليف لا يلزم منه: عدم دخوله فيالخطابات العامة؛ لأن هذه التكاليف التي سقطت ورفعت عنه: قدسقطت ورفعت عنه لعذر، وهو: كونه رقيقا مما جعله فقيراً مشتغلاًبخدمة سيده، فإذا زال هذا العذر - وهو الرق - عادت إليهالتكاليف كاملة، قياساً على المريض والمسافر والحائض والنفساء،فإن هؤلاء تسقط عنهم بعض التكاليف كأداء صوم رمضان في وقتهلعذر، وهو التلبس بالمرض، أو السفر، أو الحيض، أو النفاس،فإذا زال هذا العذر عاد إليهم هذا التكليف.وقياساً على الحائض، والنفساء، حيث تسقط عنهما الصلاة فيوقتها لعذر وهو: الحيض، والنفاس، ولا يقضيان، فإذا زالالحيض أو النفاس عاد إليهما وجوب الصلاة.ولم يقل أحد: إن المريض، والمسافر، والحائض، والنفساء لايدخلون تحت لفظ " الناس "، و " المؤمنين "، و " المسلمين "،و" الأمَّة "، وهم في حالة عذرهم، فكذلك العبد يدخل تحت لفظالناس والمؤمنين، وغيرها من الخطابات، وهو في حالة الرق، ولافرق بين العبد وهؤلاء، والجامع: أن كلًّا من العبد والمريضوالمسافر والحائض والنفساء قد زال عنه التكليف لعذر، وهو الرقبالنسبة للعبد، والمرض، والسفر، والحيض، والنفساء، فإذا زالهذا العذر عادت إلى هؤلاء جميعاً التكاليف كاملة.(4/1548)اعتراض على هذا:قال قائل - معترضاً -: إن الصلاة والصيام قد سقطت عنالمسافر، والحائض، والمريض، والنفساء؛ نظراً لوجود السببالسقط وهو: وجود مشقة الجمع بين هذه التكاليف والمرض،والسفر، والحيض، والنفاس، أما العبد فلا توجد هذه المشقةفيستطيع أن يصلي الجمعة، ويحج، ويزكي، ويجاهد، ومع ذلكفقد أسقطت عنه تلك التكاليف، فلم تسقط عنه تلك إلا لأنه لايدخل تحت الخطابات الموجهة إلى الأحرار.جوابه:كذلك العبد قد أسقطت عنه هذه التكاليف لأسباب، وهي كمايلي:أما سبب سقوط صلاة الجمعة عمه فهو: أنه مأمور بخدمة سيده؛حيث إنه يعتبر من مال السيد، فلا بد أن يسخر لهذه الخدمة.والخدمة لا تتم إلا إذا كان خادماً في كل الأوقات، ومنها وقتصلاة الجمعة؛ حيث إنه يبقى في المنزل ويجهزه استعداداً لقدوم سيدهمن الصلاة، ثم إنه قد أخرج أبو داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض ".فاستثناء هؤلاء يدل على أنهم يدخلون في الخطابات، كما دخلغيرهم، وإنما خرج العبد بالاستثناء؛ لما ذكرناه من السبب.أما سبب سقوط الزكاة عنه فهو: أن الزكاة تجب على من ملكنصابا وحال عليه الحول، والعبد لا يملك المال، بل كله مملوك؛(4/1549)قياساً على الحر الفقير الذي لا يملك نصابا، فإنه لا تجب عليهالزكاة، ومع ذلك فقد دخل تحت تلك الخطابات، فكذلك العبد.أما سبب سقوط الحج عنه فهو: ما قلناه في سبب سقوط صلاةالجمعة عنه.ولأن الحج مشروط بالاستطاعة المالية، والعبد لا يملك شيئاً،لذلك سقط عنه الحج، قياساً على الحر الذي لا يملك ما يحج به،فإنه يسقط عنه الحج، ومع ذلك يدخل تحت الخطابات، فكذلكالعبد.أما سبب سقوط الجهاد عنه فهو: أن رقبته مال، والمالية التي فيهللسيد، وفي الجهاد تعرض للتلف، والسيد له حفظ ماله من التلف.المذهب الثالث: أن العبد لا يدخل في الخطابات العامة المتعلقةبحقوق الآدميين، أما الخطابات العامة المتعلقة بحقوق اللَّه، فيدخل.حكي هذا عن أبي بكر الجصاص.دليل هذا المذهب:أن العبد لا يملك فعل شيء من حقوق الآدميين كالعقودوالإقرارات، ونحو ذلك، فلم يدخل في الخطاب بها، أما حقوقالله فإنه يملك أن يتعبد اللَّه سبحانه.جوابه:إن العبد لم يمبك التصرف في العقود والإقرارات بسبب: كونهرقيقاً وملكاً لسيده، وهذا لا يمنع من دخوله في الخطاب بها وبغيرها،ثم يخص بدليل، وذلك كصيغة العموم، فإنها تستغرق جميعالأفراد، وإن جاز أن يخصص فرداً، وتخصيص هذا الفرد لا يبطل(4/1550)ما وضع له، وكذلك حقوق اللَّه تعالى يتوجه إليه الخطاب بها،وكثير منها لا يملك فعله - كما سبق بيانه - ومع ذلك لا يمنع دخولهتحت تلك الخطابات.بيان نوع الخلاف:الخلاف معنوي؛ وذلك لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أنالعبد يدخل ضمن الخطابات الموجهة إلى الأحرار كالناس، والأُمَّة،والمسلمين، والمؤمنين دخولاً أصلياً، ولا يخرج عن ذلك الخطاب إلابدليل، وهي الأسباب التي ذكرناها سابقاً.أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن العبد لا يدخلضمن تلك الخطابات أصلاً، وما دخل فيها فإنه دخل بدليل مثلالقياس.أما أصحاب المذهب الثالث فهم وافقوا أصحاب المذهب الأولبالنسبة لحقوق اللَّه تعالى، ووافقوا أصحاب المذهب الثاني بالنسبةلحقوق الآدميين.ويلزم من ذلك: بناء على المذهب الأول أنه تجب على العبد صلاةالجمعة إذا أذن له سيده في حضورها؛ لأن المانع كان من جهة السيد