عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ(تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً)المؤلف: عبد الكريم بن علي بن محمد النملةعدد الأجزاء: 5مقدمةبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِالحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بجلاله وعظمته، وأشكره شكراًيوافي نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، سبحانه وتعالى لا أحصيثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، مبدع البدائع، وشارع الشرائع.وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة أرجو أن يكفربها عنا سيئات أعمالنا، ويرفع بها درجاتنا، وينجينا بها من صغيرالموبقات وكبيرها.وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الأنبياءوالمرسلين، العبد المرتضى، والنبي المجتبى، والرسول المصطفى،المرسل بالبراهين الساطعة، والآيات الدامغة، والبينات الواضحةصلى اللَّه عليه، وعلى آله وسلم تسليما كثيراً، ورضي اللَّه عنصحبه الهداة الأعلام الذين بذلوا النفس والنفيس، لإعلاء كلمة اللَّه.أما بعد: فإن أقوى المهمات بعد الإيمان بالله: طلب العلم،حيث إن العلم ميراث النبوة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ".وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء "، ومما يؤكد ذلك أنه سبحانهقد جعل العلماء في درجة الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه، فقالسبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مهه، فإنه هنا قد جعلولاية الإنذار والدعوة للفقهاء، وهذه درجة الأنبياء قد تركوها ميراثاللعلماء.والعلم علمان: " علم التوحيد "، و " علم الفقه ".أما علم التوحيد فالأصل فيه التمسك بما جاء في الكتاب والسُّنَّة(المقدمة/7)ومجانبة الهوى والبدع، كما كان عليه الصحابة - رضي اللَّه عنهم -والتابعون والسلف الصالح.أما علم الفقه: فهو الخير الكثير، وهو الحكمة التي ذكرها اللهتعالى بقوله: (من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) ،وروي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " الحكمة: معرفةالأحكام من الحلال والحرام ".فدرجة العلم هي النهاية في القوة والخيرية، وهو ما أراده الرسول- صلى الله عليه وسلم - بقوله: " من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين "، وقوله: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ".لذلك تجد الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد حرصوا على طلبالعلم لما علموا درجته العليا ومنزلته الكبرى، وقصصهم في طلبهوالحرص عليه لا تخفى على ذي لب، لا سيما حرص ابن عباسوابن عمر وغيرهما.وعلم الفقه - وهو: معرفة الحلال والحرام من الأحكام -لا يمكن إلا بعد معرفة أدلة الأحكام، ومعرفة أدلة الأحكام وما يتعلقبها هو علم أصول الفقه، فيكون علم أصول الفقه هو أصل لذلكالخير الموجود في الفقه.فبفضله - أي: علم أصول الفقه - يتعلم الفقيه المناهج والأسسوالطرق التي يستطيع عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادثالمتجددة.وبفضله - أيضاً - يعرف المكلَّف العلَل والحِكَم التي من أجلهاشرعت الأحكام الشرعية؛ ليعبد اللَّه تعالى على بصيرة.(المقدمة/8)وبفضله - أيضاً - يستطيع طالب العلم تخريج المسائل والفروععلى قواعد إمامه.وبفضله - أيضاً - يستطيع الداعية إلى اللَّه تعالئ: أن يدعو إلى اللهوإلى دينه بناء على أسس ومناهج وطرق يستطيع بها أن يقنع الآخرين.وبفضله - أيضاً - يستطيع أن يبين لأعداء الإسلام: أن الإسلامصالح لكل زمان ومكان، وأنه لا يوجد أي حادثة إلا ولها حكمشرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أنالإسلام قاصر وعاجز عن حل القضايا المتجددة، قاتل اللَّه من قالذلك، ولعن من نصر هذا القول وأبعده من رحمته.وبفضله - أيضاً - يستطيع أن يفسر الشخص القرآن، ويشرحالأحاديث، خيث إنه لا يمكنه معرفة دلالة النصوص، وكونها دلَّتبالمنطوق أو المفهوم، أو الإشارة، أو العبارة، أو الاقتضاء، أوالإيماء إلا بمعرفة أصول الفقه.وبفضله - أيضاً - يعرف من يريد كتابة أي بحث من البحوثالعلمية كيفية كتابة ذلك البحث؛ حيث إن علم أصول الفقه قد جمعبين النقل والعقل، فمن تعمق فيه: عرف طريقة إيراد المسألة،وتصويرها؛ والاستدلال عليها، وطريقة الاعتراض، والجواب،والمناقشة بأسلوب مبني على أسس ومناهج وطرق يندر أن تجدها فيغير هذا العلم.فالمتعلم لهذا العلم - وهو أصول الفقه - والمدقق فيه يدرك منالمنافع الشرعية، والأحكام الفقهية، والفوائد والمقاصد العامة ما لايحصى.(المقدمة/9)فيكون هذا العلم أجل العلوم قدراً، وأعظمها نفعاً، وأعمهافائدة، وأكثرها أهمية، وأعلاها شرفاً، وأميزها ذكراً، وذلك لمايتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد.ومع هذا النفع، وعلو المرتبة والرفعة، والأهمية لهذا العلم قدترك تعلمه كثير من طلاب العلم؛ لأسباب كثيرة، وقد يكون منأهمها: عدم معرفتهم لهذا الفضل والنفع العظيم لهذا العلم.ومنها: عدم فهمهم لهذا العلم، بسبب صعوبة عباراته، وقلةتطبيقاته، وأمثلته الفرعية.ومنها: عدم إدراكهم للغرض والقصد الذي من أجله يُدرَس هذاالعلم.فسألني بعض طلاب العلم أن أضع كتاباً أجمع فيه جميع مسائلأصول الفقه مع شرحها، وبيانها، والاهتمام بتصويرها بالأمثلةبأسلوب عصري مفهوم، دون تعصب لمذهب أو رأي معين،فأجبتهم على ذلك، امتثالاً لأمر اللَّه تعالى بالتبيين للناس، وكشفالشبه والإلباس، ونظراً لشوقي لتحصيل الفضائل والتجنب عنالرذائل، ورغبة في الأجر، والمثوبة.ومما جعلني أقوم بهذا المصنف - أيضاً - ما يلي:أولاً: تيسير وتسهيل علم أصول الفقه لهؤلاء الطلاب، ولغيرهمبأسلوب عصري مفهوم.ثانياً: تكثير طرق الخير ونشره، لأنه كلما كثر التأليف كثرتطرق تعلمه.ثالثاً: تكثير المتعلمين والطالبين، فإن لكل جديد لذة.(المقدمة/10)رابعاً: التشبه بالسلف الصالح، وهم الراسخون بالعلم؛ حيثروى ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد اللَّه وحده لا شريك له، واجعل رزقي تحت ظل رمحي، واجعل الذل والصغار على من خالفأمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ".فلهذه الأسباب ولغيرها قمت بتأليف هذا الكتاب، وجعلته ميسراًجامعاً، نقَّحت وهذَّبت فيه كثيراً من كلام علماء الأصول في كتبهم.وجعلته في سبعة أبواب هي كما يلي:الباب الأول: في المقدمات.الباب الثاني: في الحكم الشرعي والتكليف به.الباب الثالث: في أدلة الأحكام الشرعية.الباب الرابع: في الألفاظ ودلالتها على الأحكام.الباب الخامس: في القياس.الباب السادس: في الاجتهاد والتقليد.الباب السابع: في التعارض والجمع والترجيح.وقد تكلمت في هذا الكتاب سالكاً المنهج الآتي:أولاً: جمعت كل مسائل أصول الفقه، فلم أترك أيَّ مسألة فيهافائدة لطالب العلم إلا وذكرتها في هذا الكتاب.ثانيا: هذَّبت هذه المسائل ورتبتها ونظمتها ونقحتها وانتقيتهافجعلت هذا الكتاب يتكون من سبعة أبواب، وكل باب يتكون منعدة فصول، وكل فصل يتكون من عدة مباحث، وكل مبحث(المقدمة/11)يتكون من عدة مطالب، وكل مطلب يتكون من عدة مسائل، وكلمسألة تتكون من عدة نقاط؛ تسهيلاً لطالب العلم؛ حيث إنه لافائدة من كتاب لم يرتب وينظم.ثالثاً: لا أقتصر بذكر المسألة فقط، بل أقوم بشرحها وتصويرالمراد منها، وبيان الجزئية التي اختلف العلماء حولها.رابعاً: أذكر المذاهب في المسألة، بادئاً بالمذهب الراجح عندي،وذكر الأدلة على ذلك، وأذكر ما وجه إلى كل دليل من اعتراضات- إن وجدت - ثم أجيب عن كل اعتراض بعد ذكره مباشرة، ثمأذكر المذاهب الأخرى، مع أدلة كل مذهب، وأجيب عن كل دليلبعد ذكره مباشرة.خامساً: إذا انتهيت من ذكر المذاهب في المسألة الواحدة، أذكرنوع الخلاف فيها: هل هو خلاف لفظي، أو معنوي؟فإن كان لفظياً أبين دليل ذلك، وإن كان معنوياً أبين دليل ذلك،مع ذكر بعض الآثار لهذا الخلاف، وإن كان الخلاف قد اختلف فيهفقال بعض العلماء: إنه لفظي، وقال آخرون: إنه معنوي، أذكرالقولين، مع دليل كل منهما، ثم أبين ما هو الراجح عندي، معالجواب عن القول المرجوح.سادساً: أُعرِّف المصطلحات الأصولية تعريفاً لغوياً، وتعريفاًاصطلاحياً، ذاكراً في ذلك أقرب التعريفات إلى الصواب.سابعاً: أذكر أهم الأدلة للمذهب المختار، وإذا وجدت بعضالاعتراضات على بعض الأدلة: أذكر أقواها، ثم أذكر أهم الأجوبةعن كل اعتراض وأقواها، وكذلك أذكر أهم وأقوى أدلة المذهبالمخالف، وأهم الأجوبة عنها.(المقدمة/12)ثامناً: قمت بالتحقق من نسبة الأقوال والمذاهب والآراء.تاسعاً: أستدل على إثبات القواعد الأصولية بإجماع الصحابة،فإن لم أجد: أستدل بالنصوص من الكتاب والسُّنَّة - هذا غالباً،وفي بعض القواعد الأصولية أستدل بالنص قبل إجماع الصحابة -فإن لم أجد إجماعا ولا نصاً: فإني أستدل بمعقول النصوص، فإنلم أجد: فإني أستدل بالقياس، فإن لم أجد: فإني أستدل بالأدلةالصحيحة الأخرى عندي دون تعصب لمذهب معين.عاشراً: قد أطلت بشرح وبيان بعض المسائل والقواعد، والأدلة؟نظراً لأهميتها، وحاجة الطلاب إلى بيانها.حادي عشر: ترجمت كلام علماء السلف في أصول الفقهوجعلته في هذا الكتاب بأسلوب عصري مفهوم.ثاني عشر: رجعت في وضع هذا الكتاب إلى أهم كتب أصولالفقه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، سواء كانتقديمة أم حديثة.ثالث عشر: قد نهجت في هذا الكتاب بالمنهج الوسط، دونالتطويل الممل، أو الاقتصار المجحف المخل.هذا وقد سميته: " المهذَّب في علم أصول الفقه المقارن - تحريرلمسائله، ودراستها دراسة نظرية تطبيقية ".حيث إني قد هذبت فيه مسائل أصول الفقه، وانتقيتها، وخلصتهامن كل ما علق بها مما لا يفيد طالب العلم، وعالجتها معالجة تذهبصعوبتها من نفوس الطلاب إن شاء اللَّه، بحيث يستطيع كل طالبفهمها بيسر وسهولة، وهذا هو أصل التهذيب، وهو - كما ورد في(المقدمة/13)لسان العرب -: تنقية الحنظل من شحمه، ومعالجة حبه حتىتذهب مرارته، ويطيب لآكله.أرجو أن يكون كما سميته.وأخيراً: فإن هذا هو جهد من هو معرض للخطأ والصواب:فإن وفقت فمن اللَّه تعالى، وإن كانت الأخرى فمن نفسي ومنالشيطان، وأستغفر اللَّه.وأيضاً: أنا لا أدعي أني أصبت في كل ما كتبت؛ لأني أقطعويقطع غيري بأن أي مصنِّف وكاتب مهما بلغ من القدرة والجهد الذيبذله فيما كتب لا بد أن يكون في عمله نقص، وذلك لأن النقصوالخطأ والسهو من طبيعة البشر، حيث إن الكمال لله وحدهلا شريك له.ولكن يكفيني أني لم أقصد بهذا المصنَّف إلا نفع طلاب العلموإعانتهم على فهم مسائل أصول الفقه.وأسأله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه، وقارئه والناظر فيه،وجميع المسلمين بمنِّه وكرمه، وأن يجعل عملنا في هذا المؤلَّف وفيغيره صالحاً لوجهه خالصاً، ويجعل سعينَا مقرِّباً إليه، مبلِّغاً إلىرضوانه، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آلهوصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.كتبهأ. د / عبد الكريم بن علي بن محمد النملةالأستاذ بقسم أصول الفقه، بكلية الشريعة بالرياضجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(المقدمة/14)الباب الأول في المقدماتويشتمل على فصلين:الفصل الأول: مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه.الفصل الثاني: مقدمة في المصطلحات التي يحتاجإليها دارس علم أصول الفقه.(1/5)الفصل الأول في مقدمة في مبادئ علم أصول الفقهويشتمل على المباحث التالية:المبحث الأول: تعريف أصول الفقه.المبحث الثاني: الفرق بين أصول الفقه والفقه.المبحث الثالث: الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية.المبحث الرابع: في موضوع أصول الفقه.المبحث الخامس: في حكم تعلم أصول الفقه.المبحث السادس: في فوائد علم أصول الفقه.المبحث السابع: الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها.المبحث الثامن: هل يقدم تعلم أصول الفقه أو تعلم الفقه؟المبحث التاسع: بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه.المبحث العاشر: نشأة علم أصول الفقه.المبحث الحادي عشر: طرق التأليف في علم أصول الفقه، وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة.(1/7)المبحث الأول في تعريف أصول الفقهويشتمل على المطالب التالية:المطلب الأول: تعريف أصول.المطلب الثاني: تعريف الفقه.المطلب الثالث: تعريف أصول الفقه.(1/9)المطلب الأول في تعريف الأصولأولا - تعريف الأصول لغة:الأصول: جمع أصل، والأصل في اللغة يطلق على إطلاقاتكثيرة، من أهمها:الإطلاق الأول: أنه يطلق على ما يبتني عليه غيره، ذهب إلى ذلككثير من الأصوليين، كأبي الخطاب، وأبي الحسين البصري،والإيجي، والشوكاني.وهو الصحيح عندي، لأمور ثلاثة:أولها: أن الأصل - في حقيقته اللغوية - هو: أسفل الشيء،وأساسه، ولا شك أن أسفل الشيء، وأساسه هو الذي يعتمد عليهفي البناء.ثانيها: شموله وعمومه لكل ما ذكره العلماء من تعريفات.ثالثها: أنه موافق لتعريف الأصل في الاصطلاح؛ حيث إنهالدليل، والدليل يعتمد عليه الحكم، ويبنى عليه؛ إذ لا حكم بلادليل يعتمد عليه.الإطلاق الثاني: أن الأصل: ما منه الشيء، ذهب إلى ذلك تاجالدين الأرموي، وصفي الدين الهندي.(1/11)الإطلاق الثالث: الأصل: ما يتفرع عنه غيره، وهو مذهبالقفال الشاشي.الإطلاق الرابع: الأصل هو: المحتاج إليه، وهو مذهب فخر الدين الرازي، وسراج الدين الأرموي.الإطلاق الخامس: الأصل هو: ما يستند ذلك الشيء إليه، وهوما ذهب إليه الآمدي.وهذه التعريفات - عند التحقيق - لا تعارض بينها؛ حيث إنبعض العلماء عرفوا الأصل بتعريف عام وشامل كالإطلاق الأول،والبعض الآخر عرَّفوا الأصل بتعريف خاص وبمعنى جزئي، فمنالممكن أن تدخل الجزئيات ضمن التعريفات ذات المعنى الشمولي؛ الهدف هو: تعريف الأصل بمعناه الشامل الذي تدخل فيه كلالجزئيات، لذلك رجحت الإطلاق الأول للأصل، وهو: أنالأصل: ما يبتني عليه غيره.اعتراض على ذلك:اعترض بعضهم قائلاً: إنه معروف أن الوالد أصل للولد، ولكنلا يقال: " الولد بني على الوالد "، بل الذي يقال: " إنه فرعه "،ولو كان الأصل يطلق لغة على ما يبنى عليه غيره لما امتنع ذلك.جوابه:نقول في الجواب عنه: إنه لا مانع لغة من أن يقال: إن الولد بنيعلى الوالد إذا لاحظنا المعنى وهو: أن الولد أساسه الوالد، وهوأصله.(1/12)ثانياً - تعريف الأصول اصطلاحا:الأصل في الاصطلاح يطلق على معان، من أهمها:أولها: أن الأصل: الدليل. كقولنا: " الأصل في التيمم:الكتاب، والأصل في المسح على الخفين: السُّنَّة " أي: دليل ثبوتالتيمم من الكتاب، ودليل ثبوت المسح من السُّنَّة.وهو: المراد من الأصل في علم أصول الفقه عندي؛ لمناسبتهوموافقته لما قلناه من أن الأصل لغة يطلق على ما يبتني عليه غيره،فالدليل يبنى عليه الحكم، فأصول الفقه: أدلته.والدليل عام وشامل لجميع الأدلة المتفق عليها، والأدلة المختلففيها، والقواعد الأصولية مثل: " العبرة بعموم اللفظ "، و " أنالأمر المطلق للوجوب "، و " النهي المطلق للتحريم ".اعتراض على ذلك:قال بعضهم: لا نُسَلِّمُ أنه يطلق على القواعد الأصولية أدلة،لذلك قال: أحسن عبارة في تعريف الأصل في الاصطلاح هي:"ما يبتني عليه غيره "، حتى تدخل الأدلة والقواعد، حيث تبنى علىهذه الأدلة وتلك القواعد الأحكام، فيكون تعريفه اصطلاحاً هوتعريفه لغة.جوابه:أقول - في الجواب عنه -: إنه لا داعي لهذا التكلُّف، لأنهيطلق على القواعد أدلة، وهذا ما ثبت بالاستقراء والتتبع لكتبالفقه؛ حيث إن الفقهاء يستدلون بالقواعد الأصولية، ويسمون تلكالقواعد أدلة.(1/13)ثانيها: يطلق الأصل ويراد به القاعدة الكلية المستمرة بقولهم:"تحمل العاقلة للدية خلاف الأصل "، و " الأصل أن النص مقدمعلى الظاهر "، و " الأصل: أن العموم يعمل بعمومه حتى يرد مايخصصه ".ثالثها: يطلق الأصل ويراد به الرجحان كقولهم: " الأصل فيالكلام الحقيقة " أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي، دونالمعنى المجازي.رابعها: يطلق الأصل ويراد به المستصحب كقولهم: " الأصل فيالأشياء الإباحة "، أي: نستصحب الإباحة الثابتة في الأشياء حتىيأتي ما يحرم، وقولهم: " الأصل في الإنسان البراءة " أي: أنالإنسان بريء حتى تثبت إدانته بدليل.(1/14)المطلب الثاني في تعريف الفقهأولاً - تعريف الفقه لغة:عرف الفقه لغة بعدَّة تعريفات، من أهمها:الأول: الفقه هو: الفهم مطلقاً.ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والباجي، وابنعقيل، والإسنوي، وصفي الدين الهندي، والشوكاني.وهو الصحيح عندي؛ لأنه ثبت بعد تتبع واستقراء النصوصالشرعية أن لفظ " الفقه " ورد بمعنى الفهم من ذلك: قوله تعالى:(فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) أي: لا يكادونيفهمون.ومن ذلك قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي)أي: يفهموا قولي.ومنه قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) أي:ما نفهم كثيراً من قولك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " نضَّرالله عبداً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما وعاها، فرب حامل فقهإلى من هو أفقه منه ".وقلنا: الفهم مطلقاً أي: سواء كان عالِماً أو لا، وسواء فهم(1/15)الغرض من خطاب الشخص، أو فعله، أو إشارته، أو إيمائه، أوغير ذلك.الثاني: أن الفقه لغة هو: العلم، أي: إذا كان الشخص عالماَبأشياء لا يعلمها غيره من الناس فهو الفقيه، وإن لم يفهم ما يعلمه،ذهب إلى ذلك ابن فارس في " المجمل "، وإمام الحرمين في"البرهان "، وأبو يعلى في " العدة "، والكيا الهراسي.الثالث: الفقه لغة هو: العلم والفهم معاً، يقال: فلان يفقهالخير والشر، و " يفقه الكلام " أي: يعلمه ويفهمه، ذهب إلىذلك الغزالي في " المستصفى "، والآمدي فى " منتهى السول "،وابن سيده في " المحكم ".الجواب عنهما:أقول - في الجواب عنهما -: إن هذين التعريفين يدخلان ضمنالتعريف الأول " حيث إن المراد بالفهم مطلقاً هو: معرفة الشيء،ومعرفة الشيء بالقلب هو: العلم به.الرابع: الفقه لغة هو: إدراك الأشياء الدقيقة.ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، يقال:" فقهت كلامك " أي: أدركت دقائقه، ويقال: " فلان فقيه فيالخير وفقيه في الشر " إذا كان يدقق النظر في ذلك، لكن لا يقال:" فقهت أن السماء فوقي والأرض تحتي، وأن الماء رطب، والترابيابس ".وكان الشعراء يُسمَّون في الجاهلية فقهاء " لإدراكهم المعاني الدقيقةفي أشعارهم، وتعبيرهم بها.(1/16)جوابه:أقول - في الجواب عنه -: إن هذا من تعريفات الفقه اصطلاحاً؟وذلك لأنه لم يرد في كلام أهل اللغة.وإذا كان هذا من تعريفات الفقه اصطلاحا، فإنه تعريف ضعيف؟لأنه يفضي ويؤدي إلى أن من علم الأشياء الظاهرة مثل ما علم منالدين بالضرورة، ككون الصلاة واجبة، والزنا حرام، ونحو ذلكمن الأحكام الفقهية لا يُسمى فقيهاً. وليس كذلك؛ حيث إن كلعالم بالأحكام عامة عن طريق الاستنباط يُسمَّى فقيهاً - وسيأتي بيانهذَا إن شاء اللَّه.الخامس: الفقه لغة: فهم غرض المتكلم من كلامه.ذهب إلى ذلك أبو الحسين البصري في " المعتمد "، وفخر الدينالرازي في " المحصول ".جوابه:أقول - في الجواب عنه -: إن هذا التعريف للفقه بعيد؛ لأمرين:أولهما: أنه مخالف لما نقل عن أهل اللغة؛ حيث إنه نقل عنهم:أن الفقه هو مطلق الفهم.ثانيهما: أن ما قيل في هذا التعريف هو تقييد للمطلق،وتخصيص للعام بدون مقيد، وبدون مخصص.ثانيا - تعريف الفقه اصطلاحاً:1 - الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: حفظ طائفة من مسائلالأحكام الشرعية العملية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وما استنبطمنهما، سواء كان قد حفظها مع أدلتها، أو مجرداً عنها.(1/17)أو تقول: إن الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: مجموع الأحكاموالمسائل التي نزل بها الوحي، والتي استنبطها المجتهدون، أو أفتىبها أهل الفتوى، أو توصل إليها أهل التخريج، وبعض ما يحتاجإليه من مسائل الحساب التي ألحقت بالوصايا والمواريث.فاسم الفقيه عند الفقهاء لا يختص بالمجتهد - كما هو عندالأصوليين - بل يشمله ويشمل غيره من المشتغلين في هذه المسائل.2 - أما الفقه في اصطلاح الأصوليين فهو: " العلم بالأحكامالشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية ".شرح التعريف، وبيان محترزاته:قولنا: " العلم " هو: مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن.أي: مطلق إدراك الحكم، سواء كان عن دليل قطعي، أو عندليل ظني راجح، فيكون المراد بالعلم هو: ما علمناه بالشرع إمابيقين أو غالب الظن.هذا هو القول الحق " لأن الأحكام الفقهية منها ما هو قطعي،ومنها ما هو ظني، فحمل الفقه على واحد منهما ليس بسديد.والمقصود بالظن - هنا - هو ظن المجتهد الذي توفرت فيه شروطالاجتهاد، وليس ظن كل أحد من العوام، أو طلاب العلم الذينلم يبلغوا درجة الاجتهاد.وبقولنا: إن العلم هو مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن،نسلم من اعتراض أبي بكر الباقلاني المشهور وهو: أنه قال: إنكمعرفتم الفقه بأنه " العلم بالأحكام.. "، والعلم معناه: الإدراكالجازم المطابق للواقع عن دليل قطعي؛ الأحكام الفقهية لم تثبت(1/18)عن طريق أدلة قطعية، بل إن الأقل من تلك الأحكام ثبت عن دليلقطعي، وغالب الأحكام الفقهية ثبتت عن أدلة ظنية، فإدخال لفظ"العلم " في تعريف الفقه مع أن الفقه من باب الظنون باطل.وإليك بيان كيف كان الفقه ظنياً:الفقه من باب الظنون؛ لأنه مستفاد من الأدلة الظنية، وإليك بيانذلك:الأدلة تنقسم إلى قسمين: " أدلة متفق عليها "، و " أدلة مختلففيها".والمتفق عليها من حيث الجملة: " الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع،والقياس ":أما القياس: فإنه لا يفيد إلا الظن، وهو واضح.وأما الإجماع: فإنه يتنوع إلى نوعين:النوع الأول: الإجماع السكوتي، وهو لا يفيد إلا الظن، سواءنقل إلينا عن طريق التواتر، أو الآحاد.النوع الثاني: الإجماع الصريح فيه تفصيل:إن نقل إلينا بطريق الآحاد، فهو لا يفيد إلا الظن.وإن نقل إلينا بطريق التواتر، فهو يفيد القطع، لكنه في غاية البعد.أما السُّنَّة، ففيها تفصيل:إن نقلت الأحاديث عن طريق الآحاد، وهذا أكثر السُّنَّة، فلايفيد إلا الظن، سواء كانت دلالته قطعية أو ظنية.وإن نقلت الأحاديث عن طريق التواتر - وهو قليل جداً - ففيهتفصيل:(1/19)إن كانت دلالة الحديث على المعنى قطعية، فيفيد القطع، وهوقليل، وإن كانت دلالة الحديث على المعنى ظنية، فلا يفيد إلا الظن.وأما الكتاب، ففيه تفصيل:إن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة ظهية، فلا تفيد إلا الظن.وإن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة قطعية، فإنها تفيد القطع.وما هو مقطوع الدلالة من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، يكون منضروريات الدين.أما الأدلة المختلف فيها كالمصالح، والاستصحاب، والعرف،وسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرَع من قبلنا، والاستحسان،فإنها لا تفيد إلا الظن عند القائلين بها.إذاً يكون غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، فيكونالفقه ظنياً على الغالب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يقال:إن الفقه هو " العلم بالأحكام.. "، بل يقال: " إن الفقه: الظنبالأحكام الشرعية.. "، فإيراد العلم مكان الظن يكون إيراداً لضدالشيء مكانه في التعريف، فيكون التعريف باطلاً.هذا هو اعتراض الباقلاني المشهور.وبتفسيرنا " العلم " بأنه مطلق الإدراك، ومطلق الإدراك يشملالقطع والظن، نسلم من هذا الاعتراض للباقلاني.قولنا: " بالأحكام "، الباء متعلقة بمحذوف تقديره: " المتعلق"ويكون الكلام بعد التقدير: " العلم المتعلق بالأحكام الشرعية ".والمراد بتعلق العلم بالأحكام: التصديق بكيفية تعلقها بأفعالالمكلفين، كأن تعلم - مثلاً - أن الوجوب ثابت للصلاة، وأن الزنامحرم.(1/20)والأحكام جمع " حكم "، والحكم يطلق على إطلاقات كثيرةتختلف باختلاف الاصطلاحات، وهي كما يلي:الاصطلاح الأول: أن الحكم يطلق على إدراك الوقوع أو عدمالوقوع، أي: إدراك أن النسبة واقعة أو ليست واقعة، وهذااصطلاح المناطقة.جوابه:أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذاالإطلاق؛ لأن العلم هو: الإدراك - كما سبق ذكره - فإذا كانالحكم هو الإدراك فيكون التقدير: الفقه هو: إدراك الإدراك للوقوع،أو عدم الوقوع، وهو معنى فاسد.الاصطلاح الثاني: أن الحكم هو: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعلالمكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وهذا اصطلاح الأصوليين.جوابه -:أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذاالإطلاق " لأن ذلك يجعل قيد: " الشرعية " الوارد في تعريف الفقهلغواً لا فائدة فيه، حيث إن الحكم بهذا الإطلاق لا يكون إلاشرعياً، فيترتب على ذلك حصول التكرار.الاصطلاح الثالث: أن الحكم هو: إسناد أمر إلى أمر آخرإيجاباً، أو سلباً، أو هو ثبوت شيء لشيء آخر، أو نفيه عنه،وهو اصطلاح اللغويين.وهذا هو المراد بالحكم هنا عندي، لأمرين:أولهما: لعمومه وشموله.(1/21)ثانيهما: أن الإطلاقات والاصطلاحات الأخرى ثبت عدم صحتها.والحكم على هذا الإطلاق منقسم إلى ما يلي:الحكم الشرعي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الشارعنحو: الصلاة واجبة.الحكم العقلي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من العقل نحو:الخمسة نصف العشرة.الحكم الحسي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الحواسالخمس نحو: الثلج بارد.الحكم التجريبي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من التجربةنحو: الإهليلج مسهل.الحكم الوضعي الاصطلاحي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادةمن الوضع اللغوي كالحكم بأن الفاعل مرفوع، والمفعول بهمنصوب.وقولنا: " بالأحكام " دخلت " أل " على الأحكام، وهي هناتكون للعموم، فتعم شيئين:أولهما: العلم بالأحكام بالفعل.ثانيهما: العلم بالأحكام بالقوة.أي: لا يراد من العلم بجميع الأحكام: معرفتها جميعهابالفعل، بمعنى: أن يعرف حكم كل مسألة يسأل عنها، ولا يجهلشيئاً من الأحكام.بل المراد من العلم بالأحكام ومعرفتها: العلم ببعضها بالفعل،والعلم بالباقي بالقوة، بحيث تكون عنده القدرة على تحصيلها(1/22)بالأخذ في أسباب الحصول، وهو ما يعرف بالملكة والتهيؤ، ولا شكأن كل مجتهد عنده القدرة والملكة التي يستطيع بها استنباط الحكمواستخراجه إذا لزم الأمر وحدثت حادثة تقتضي ذلك.فيسمى فقيهاً نظراً لوجود الملكة عنده، فيكون عالماً ببعضالأحكام بالفعل، والبعض الآخر بالقوة والاستعداد.وقلنا ذلك لأن " أل " الداخلة على " الحكم ": لا يصح أن تكونللعهد؛ لأنه لم يتقدم للحكم ذكر حتى تكون للعهد الذكري، ولايوجد بين المعرف والمخاطب معرفة وعهد حتى تكون للعهد الذهني.ولا يصح أن تكون " أل " للجنس؛ لأن أقل جنس الجمع ثلاثة،فيلزم من ذلك أن يسمى العامي فقيهاً إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها؟لصدق اسم الفقيه عليه، وليس كذلك.ولا يصح أن تكون " أل " لمطلق الحقيقة -؛ لأنه يلزم من ذلك أنمن عرف حكماً واحداً بدليله يكون فقيهاً، وليس كذلك.ولا يصح أن يكون " أل " لاستغراق الجنس؛ لأنه يلزم من كونهالاستغراق الجنس أن الشخص لا يُسمَّى فقيهاً إلا إذا علم جميعالأحكام الشرعية الفرعية، فمن لم يعلمها كلها: فإنه يخرج منزمرة الفقهاء، وهذا باطل؛ لأن الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاءكانوا لا يعلمون كل الأحكام، إذ ما من إمام إلا وقد خفي عليهبعض الأحكام، فقد ذكر الهيثم بن جميل عن الإمام مالك أنه سئلعن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: " لاأدري ".وذكر أبو القاسم بن يوسفما الحسني الحنفي: أن الإمام أبا حنيفةقال في ثمان مسائل: " لا أدري ".(1/23)وذكر ابن جماعة: أن محمد بن الحكم سأل الإمام الشافعي عنالمتعة: أكان فيها طلاق، أو ميراث، أو نفقة؟ فقال: " والله ماندري ".وذكر الأثرم: أنه كان يسمع الإمام أحمد يكثر من قول: " لا أدري ".والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى.قولنا: " الشرعية " أي: يجب أن تكون تلك الأحكام شرعية،أي. مستفادة من الأدلة الشرعية، سواء كانت تلك الأدلة متفقعليها، أو مختلف فيها.فلفظ " الشرعية " أخرج الأحكام المستفادة من العقل، أو منالحس، أو من الوضع اللغوي، أو من التجرية.قولنا: " العملية ": يبين أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون فيهاعمل جوارح كالصلاة، والزكاة، والحج، والمعاملات، والجناياتونحو ذلك.وليس المراد بـ " العملية " هو: أن جميع الأفعال هي عمليةوأفعال، بل المراد: أن أكثرها فعلي وعملي، لا كلها، وذلكلوجود بعض الأحكام الفقهية الكائنة بالقلب دون عمل الجوارح؛ الفقيه كما يكون فقيهاً بالعلم بوجوب الصلاة والصيام والحج،كذلك يكون فقيهاً بالعنم بوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياءوالحسد، وأمور كثيرة لا توجد إلا بالقلب، فيدخل عمل الجوارح،وعمل القلب، وما هو وسيلة إلى العمل كعلم أصول الفقه.وخرج بكلمة " العملية " الأحكام الشرعية العقائدية، وهو علم(1/24)التوحيد، كالعلم بأن اللَّه واحد سميع بصير، فهذا ليس من الفقهفي شيء.اعتراض:اعترض بعضهم كالإسنوي على هذا قائلاً: إن هذا تناقض،حيث أدخلتم في لفظ " العملية " عمل القلب كوجوب النية، ولمتدخلوا علم التوحيد فإنه عمل قلب أيضاً.جوابه:إن عمل القلب كوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء،والحسد، والحقد، ونحو ذلك تشبه عمل الجوارح أكثر من شبههابالاعتقاد " لكونها تظهر على المتصف بها ولو بعد حين، فألحقناهابعمل الجوارح لكثرة شبهها به، فلو جالست شخصاً حاقداً، أوحاسداً، أو لا إخلاص عنده، فإنك ستعلم ذلك عنه من خلالعمله وتصرفاته، ولكنك لن تعلم أن جليسك هذا أشعري، أومعتزلي من أي عمل عمله، لأنه بينه وبين اللَّه.اعتراض آخر:ذكر بعض العلماء كفخر الدين الرازي وتلميذه تاج الدين الأرموي:أن كلمة: " العملية " خرج بها - أيضاً - أصول الفقه، لأن العلمبكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّة - مثلاً - ليس علماَبكيفية عمل.جوابه:أقول - في الجواب عنه -: هذا ليس بصحيح، فلا يخرجبكلمة " العملية " علم أصول الفقه، بل يدخل - كما سبق أن(1/25)قلناه -؛ لأن هذه القواعد - ككون الإجماع والقياس وخبر الواحدحُجَّة - هي وسيلة إلى العمل، فالغاية المطلوبة منها العمل،والموضوع عمل من أعمال المكلفين، وتلك هي مسائل المكلفين.أي: أن حكم الشرع بكون الإجماع والقياس وخبر الواحد حُجَّةمعناه: أن نتعبد ونعمل بالحكم الذي يثبت عن طريق تلك الأدلة،ويجب العمل بمقتضاه، والإفتاء بموجبه.قولنا: " المكتسب من الأدلة ": لفظ " المكتسب " مرفوع،حيث إنه وصف للعلم، أي: أن هذا العلم بالأحكام الشرعيةالعملية مأخوذ بسبب النظر بالأدلة واستنباط الأحكام منها، فأيشخص حصل على العلم بالأحكام بدون النظر بالأدلة لا يسمى فقيهاًمهما كان.وعلى هذا خرج بهذه الكلمة - أعني: " المكتسب من الأدلة " -ما يلي:1 - علم اللَّه تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه أخذ من أدلة، حيث إنهأزلي غير مكتسب.2 - علم الأنبياء عليهم السلام بالأحكام من غير اجتهاد، حيثيتلقى ذلك عن طريق الوحي.أما علم الأنبياء والرُّسُل الحاصل عن اجتهاد ونظر، فهو علممكتسب، لذلك يوصف بأنه فقيه في هذا الذي اجتهد فيه.3 - علم الملائكة؛ لأنه مأخوذ من اللوح المحفوظ.4 - علم المقلد الذي لم يجتهد في تحصيل واستنباط أي حكم منالأحكام من أدلتها، بل أخذ الحكم عن المجتهد، فمعرفته ببعضالأحكام ليست حاصلة عن دليل أصلاً لا إجمالي، ولا تفصيلي.(1/26)وقولنا: " التفصيلية " أي: آحاد الأدلة، بحيث يدل كل دليلبعينه على حكم معين مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ،وقوله: (ولا تقربوا الزنا) .وقد جيء بلفظ " التفصيلية " لإخراج الأدلة الإجمالية الكليةكمطلق الأمر، ومطلق النهي، والإجماع، والقياس، وقولالصحابي ونحو ذلك، فالبحث عن هذه الأدلة الإجمالية من عملوشأن الأصولي.وتعريف الفقه - السابق - يبين ويوضح أن أيَّ حكم شرعي عمليأخذه هذا الشخص من دليل تفصيلي، فإنه يُسمَّى فقيهاً، سواء كانظاهراً جلياً، أو كان غامضاً خفياً.اعتراض:اعترض فخر الدين الرازي على ذلك قائلاً: إذا كان الحكممعلوماً من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم،وغيرهما مما يعرف من أدلة ظاهرة جلية، فإن العارف لذلك لايسمى فقيهاً، حيث إنه أخذ ذلك من غير نظر واستدلال.جوابه:أقول - في الجواب عنه -: ماذا يعني فخر الدين بالضرورة؟إن كان يعني بها: أن كل من تصور الدين الذي جاء به نبينامحمد - صلى الله عليه وسلم - حصل له العلم الضروري بوجوب الصلاة، ووجوب الصوم ونحوهما، فليس كذلك، لأنه في ابتداء الإسلام لم يكنالأمر كذلك، فإن الفقه كان حاصلاً بها للصحابة - رضي اللهعنهم - ولم تكن ضرورية - حينئذٍ - وفقه الصحابة يجب أن يتناولهحد الفقه.(1/27)وإن أراد بها: بعد اشتهار الإسلام وانتشاره، فإن أكثر الأحكامكذلك تحريم الزنا، والغصب، والسرقة، والربا، ونحوها،فلو خرجت هذه الأحكام وما شابهها مما اشتهر وعرفه أكثر الناسلخرج أكثر الفقه عن أن يسمى فقهاً؛ لأن هذه المسائل هي المسائلالأصلية في الفقه، وغيرها يتفرع عنها.وبهذا يتبين: أن الفقيه هو العالم الذي علم الأحكام الشرعيةالعملية المكتسب والمأخوذ من الأدلة التفصيلية، ولا يمكن أن يكونكذلك إلا إذا توفرت فيه شروط المجتهد.فمن حفظ المسائل الفقهية المدونة في كتب الفقه على مذهبواحد، أو على المذاهب الأربعة بأدلتها، فلا يُسمَّى فقيها، ولكنيُسمَّى ناقل للفقه عن غيره، ولو كان حافظاً للقرآن والسُّنَّة. واللهأعلم.(1/28)المطلب الثالث في تعريف أصول الفقهلما عرفت تعريف الأصول، وتعريف الفقه، سأبين الآن تعريفأصول الفقه، فأقول:لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف أصول الفقه، ولكنأقربها إلى الصحة هو: معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادةمنها وحال المستفيد.شرح التعريف:المراد بالمعرفة: العلم والتصديق، دون التصور، حيث إن المعرفةتعلقت بالنسبة، ولم تتعلق بالمفرد.والمعرفة جنس دخل فيها معرفة الأدلة، ومعرفة الأحكام.والأدلة جمع " دليل "، والدليل لغة هو: المرشد إلى المطلوب،سواء كان حسيا، أو معنويا.وهو في الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلىمطلوب خبري.وهو شامل للدليل القطعي المفيد للقطع، وشامل للدليل الظنيالمفيد للظن عندنا.مثال القطعي: الدلالة على حدوث العالم، فتقول: العالممتغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث.(1/29)ومثال الظني: الغيم الذي إذا نظرنا إليه فإنه يوصلنا إلى وقوعالمطر.اعتراض:لم يسلم ذلك أبو الحسين البصري، وفخر الدين الرازي،والآمدي، بل قالوا: إن الدليل لا يستعمل إلا فيما يؤدي إلى العلمأما ما يؤدي إلى الظن فلا يسمى دليلاً، وإنما يسمى أمارة.جوابه:هذا غير صحيح؛ لأمور ثلاثة:أولها: أن أهل اللغة لم يفرقوا في التسمية بين ما يؤدي إلى العلمأو الظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه.تانيها: أن أهل الشريعة لم يفرقوا بينهما في الاعتقاد والعمل.ثالثها:. أن الدليل هو المرشد إلى المطلوب، والدليل الظنيمرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلاً كالموجب للعلم.والمقصود من معرفة أدلة الفقه: معرفة الأدلة وأحوالها المتعلقة بهامثل: أن يعرف أن الأمر يقتضي الوجوب عند الإطلاق، وأنالإجماع يفيد القطع، أو الظن، وأن القياس يفيد الحكم الظنيوهكذا.وليس المراد من معرفة الأدلة هو: تصورها كأن يعرف: أنالكتاب هو: اللفظ المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبد بتلاوته، وأن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإجماع هو: اتفاق مجتهدي أُمَّة محمد، فهذه كلها تصورات - فقط - وهي من مقاصد علم الأصول.(1/30)وليس المراد من معرفة الأدلة: حفظها؛ لأن حفظ الأدلة ليستمن الأصول في شيء.والمقصود بالأدلة هنا: الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها،والقواعد الكلية، ولو لم نحمل الأدلة على ذلك لخرج كثير منمسائل أصول الفقه عن الحد كقاعدة: " العبرة بعموم اللفظ "،و"الأمر المطلق يقتضي الوجوب "، ونحو ذلك.ومن قال بأن القواعد الكلية لا تسمى أدلة: عرف أصول الفقهبأنه: " القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية منالأدلة "، ولكن ما أثبتناه هو الأصح، كما سبق بيانه.وأضفنا الأدلة إلى الفقه؛ لإخراج معرفة أدلة غير الفقه، كصرفهأدلة التوحيد مثلاً، فإن ذلك ليس من الأصول.وقولنا: " إجمالاً " هو حال من " دلائل "؛ لأن المراد هو:المعرفة التفصيلية للأدلة الإجمالية؛ حيث إن الأدلة نوعان " كليةوإجمالية "، و " جزئية ".فمعرفة أن الإجماع حُجَّة، والقياس حُجَّة، والنهي يقتضيالتحريم تعتبر أدلة إجمالية؛ لأنها لا تدل على حكم معين.أما الأدلة الجزئية: فهي التي تدل على حكم معين في حالة معينةفقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) ، والإجماع على أن الخالة ترث،وقياس الجد على ابن الابن، ولا نكاح إلا بولي، هذه كلها أحكامجزئية؛ لأن كلًّا منها يستفاد منه حكم معين.فالأصولي يبحت عن أحوال الأدلة الكلية، ولا يبحث فيه عنالأدلة الجزئية؛ لأمرين:أولهما: أن الأدلة الجزئية غير محصورة.(1/31)ثانيهما: أن الأدلة الجزئية داخلة تحت الأدلة الكلية، فالباحث عنأحوال الأدلة الكلية يبحث عن الأدلة الجزئية بطريق التبع، وإذاتعرض الأصولي لدليل جزئي فهو عن طريق ضرب المثال.وقوله: " إجمالاً " قيد أخرج علم الخلاف؛ لأن المقصود منهمعرفة أدلة الفقه التفصيلية لا لأجل أن يستفيد منها الأحكام، بللتكون سلاحا يدافع به كل مناظر عن وجهة نظر إمامه، وهذا لايدخل في أصول الفقه.وقولنا: " وكيفية الاستفادة منها " معطوف على " دلائل " أي:معرفة الدلائل، ومعرفة كيفية الاستفادة من تلك الدلائل.أي: أن الأصول جث فيه عن الأحوال التي تعترض للأدلة،وكيف نستفيد الحكم من تلك، فلا بد في ذلك من معرفة التعارضبين الأدلة، وكيفية فك هذا التعارض، والترجيح بينها، وذلك لأنالغرض من البحث عن أحوال الأدلة إنما هو التوصل إلى استنباطالأحكام الشرعية من الأدلة، ومعروف أن الأدلة المفيدة للأحكامظنية، فهي قابلة للتعارض.وعند التعارض لا بد في استفادة الحكم من دليله من الترجيح بينهوبين معارضه.لذلك لا بد من معرفة متى تتعارض الأدلة، وإذا تعارضت فبأيشيء يكون الترجيح؟وكذلك لا بد أن يعرف أنه لا تعارض بين دليلين قطعيين، وبينقاطع وظني، وإذا تعارضت الأدلة الظنية فهناك مرجحات كثيرة،بعضها يرجع إلى راوي الخبر، وبعضها يرجع إلى نفس النص،وبعضها يرجع إلى أمور أخرى، فلا بد أن يعرف ذلك كله.(1/32)ولذلك يرجح الخبر الذي رواته أكثر على من قلَّت رواته " لأناحتمال الكذب والغلط على الأقل أقرب، ويرجح خبر صاحبالواقعة على خبر غيره، فرجح العلماء خبر عائشة: " إذا التقىالختانان وجب الغسل، فعلته أنا والرسول " على خبر ابن عباس:"الماء من الماء "، ونحو ذلك، كما سيأتي تفصيله في الباب السابع.وقولنا: " وحال المستفيد " معطوف على دلائل، فيكون التقدير:" ومعرفة حال المستفيد "، والمستفيد هو طالب الحكم من الدليل،وهو المجتهد، فيكون المراد بالمستفيد هو المجتهد.والمقصود: أن من مواضع أصول الفقه هو البحث عن حالالمجتهد والشروط التي يجب أن تتوفر فيه.وإنما كان البحث عن حال المجتهد من أصول الفقه، لأننا قلنا فيماسبق: فائدة البحث عن أحوال الأدلة إنما هو لأجل أن يتوصل بهاإلى استنباط الأحكام من الأدلة، ومعروف أن الأدلة ظنية.ومعروف أنه لا يوجد بين الدليل الظني ومدلوله ارتباط عقلي "لأنه يجوز أن لا يدل الدليل عليه، فكان لا بد من رابط يربط بينهماوالرابط هو: الاجتهاد، فلذلك بحث في الأصول عن الاجتهاد،وذكر فيه الشروط التي يجب توافرها في المجتهد.وإذا علمت أن المراد بالمستفيد هو المجتهد، فإن المقلد لا يدخل هنافالمقلد وشروطه وبحثه ليس من علم الأصول، وإنما ذكر ذلكاستطراداً لذكر المجتهد.(1/33)المبحت الثاني في الفرق بين الأصول والفقهبعد ما تبينت لنا حقيقة الفقه، وأصولى الفقه: ظهر لنا الفرقبينهما، ولعلي ألخص ذلك وأبين وظيفة الفقيه ووظيفة الأصولي فيمايلي، فأقول:إن أصول الفقه يكون في البحث عن أدلة الفقه الإجمالية بالتفصيل.أما الفقه فهو يبحث في العلم بالأحكام الشرعية العملية المأخوذةوالمستنبطة من أدلتها التفصيلية.وعلى هذا تكون وظيفة الفقيه هي: أن يأخذ هذه القواعد والأدلةالإجمالية التي أغناه عن التوصل إليها الأصولي، ويطبقها علىالجزئيات.أو أقول بعبارة أخرى: إن أصول الفقه عبارة عن المناهج والأسسالتي تبين الطريق وتوضحه للفقيه، الذي يجب عليه أن يلتزمه فياستخراج الأحكام من أدلتها، فيرتب الأصولي تلك الأدلة فيقدمالكتاب على السُّنَّة، والسُّنَّة على الإجماع، وهكذا.أما الفقه: فهو عبارة عن استخراج الأحكام من الأدلة مع التقيدبتلك المناهج.وأن مثل علم الأصولى بالنسبة للفقه كمثل علم المنطق بالنسبة لسائرالعلوم الفلسفية، فهو ميزان يضبط العقل ويمنعه من الخطأ في الفكر.(1/34)المبحث الثالث في الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهيةتبيَّن - فيما سبق - وجود ارتباط وثيق بين أصول الفقه، والفقه،وهذا لا يعني أنهما علم واحد، بل إن كلًّا منهما علم مستقل بحدذاته، ولكل منهما قواعده، ونظراً إلى أنه قد تختلط القواعدالأصولية بالقواعد الفقهية عند بعض طلاب العلم - حيث إن لكلمنهما قواعد تندرج تحتها جزئيات - ذكرتُ هذه الفروق بينهما وهي:الفرق الأول: أن القواعد الأصولية عبارة عن المسائل التي تشملهاأنواع من الأدلة التفصيلية يمكن استنباط التشريع منها.أما القواعد الفقهية: فهي عبارة عن المسائل التي تندرج تحتهاأحكام الفقه، ليصل المجتهد إليها بناء على تلك القضايا المبينة فيأصول الفقه، ويلجأ الفقيه إلى تلك القواعد الفقهية تيسيراً له فيعرض الأحكام، فهو - مثلاً - إذا قال: " إن العبرة في العقودبالمقاصد والمعاني " أغناه عن أن يقول في كل جزئية: " البيع منعقدبلفظ كذا "، وأن يقول: " الإجارة تنعقد بلفظ كذا ".الفرق الثاني: أن القواعد الأصولية كلية تنطبق على جميعجزئياتها وموضوعاتها، فكل نهي مطلق - مثلاً - للتحريم، وكلأمر مطلق للوجوب.(1/35)أما القواعد الفقهية فإنها أغلبية، يكون الحكم فيها على أغلبالجزئيات.الفرق الثالث: أن القواعد الأصولية وسيلة لاستنباط الأحكامالشرعية العملية.أما القواعد الفقهية فهي مجموعة من الأحكام المتشابهة التي ترجعإلى عِلَّة واحدة تجمعها، أو ضابط فقهي يحيط بها، والغرض منذلك هو: تسهيل المسائل الفقهية وتقريبها.الفرق الرابع: أن القواعد الأصولية ضابط وميزان لاستنباطالأحكام الفقهية، ويُبين الاستنباط الصحيح من غيره، فهو بالنسبةلعلم الفقه كعلم المنطق يضبط سائر العلوم الفلسفية، وكعلم النحويضبط النطق والكتابة بخلاف القواعد الفقهية.الفرق الخامس: أن القواعد الأصولية قد وجدت قبل الفروع؟حيث إنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط.أما القواعد الفقهية فإنها قد وجدت بعد وجود الفروع.هذه أهم الفروق بينهما.وإليك أهم كتب القواعد الفقهية على المذاهب الأربعة:1 - الأشباه والنظائر لابن السبكي تاج الدين (ت 771 هـ) :"المذهب الشافعي ".2 - الأشباه والنظائر لابن الوكيل (ت 716 هـ) : " المذهبالشافعي ".3 - الأشباه والنظائر للسيوطى (ت 911 هـ) : " المذهبالشافعي ".(1/36)4 - الأشباه والنظائر لابن الملقن (ت 804 هـ) : " المذهبالشافعي ".5 - الأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970 هـ) : " المذهبالحنفي ".6 - تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي (تْ 43 هـ) : " المذهبالحنفي ".7 - شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء: " المذهب الحنفي ".8 - الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية لابن حمزة (ت1305 هـ) : " المذهب الحنفي ".9 - الفروق للقرافي (ت 682 هـ) : " المذهب المالكي ".ْا - القواعد لابن رجب (ت 795 هـ) : " المذهب الحنبلي ".11 - القواعد للمقَّري (ت 758 هـ) : " المذهب المالكي ".12 - القواعد النورانية الفقهية لابن تيمية (ت 728 هـ) : "المذهبالحنبلي ".13 - قواعد مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمدلأحمد القاري (ت - 1358 هـ) .14 - المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي (ت 761 هـ) .15 - المنثور في القواعد للزركشي (ت 794 هـ) .(1/37)المبحث الرابع في موضوع أصول الفقهلقد اختلف في موضوع علم أصول الفقه على مذهبين:المذهب الأول: أن موضوع أصول الفقه هو: الأدلة الإجمالية،وهو مذهب الجمهور، أي: أن موضوع علم أصول الفقه هو:الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية العملية، وأقسامها، واختلافمراتبها، وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها على وجه كلي، وهوالصحيح عندي، لأن الأحكام الشرعية ثمرة الأدلة وثمرة الشىءتابعة له.فالأصولي يبحث في حجية الأدلة الإجمالية، ثم يبحث عنالعوارض اللاحقة لهذه الأدلة من كونها عامة، أو خاصة، أو مطلقةأو مقيدة، أو مجملة، أو مبينة، أو ظاهرة، أو نصاً، أو منطوقاً،أو مفهوماً، وكون اللفظ أمراً، أو نهياً، ومعرفة هذه الأمور هيمسائل أصول الفقه.فمثلاً الكتاب، وهو دليل سمعي كلي لم ترد نصوصه على حَالةواحدة، بل منها ما هو بصيغة الأمر، أو النهي، أو العام، أوالخاص -، أو المطلق، أو المقيد إلى آخره، فهذه الأمور - وهي:الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل، والمطلق والمقيد،وغيرها، تعتبر من أنواع الدليل الشرعي العام الذي هو الكتاب،(1/38)فيبحث الأصولي هذه الأمور وما تفيده، فبعد بحثه وتمحيصه يتوصلإلى أن الأمر يفيد الفور أو التكرار، ويتوصل إلى أن النهي يفيدالتحريم، وأن العام يدل دلالة ظنية، وهكذا.فهذه كلها وجوه الاستدلال بالكتاب، والدليل واحد، وهو نفسالكتاب.ْوالفقيه يأخذ الدليل الإجمالي، أو القاعدة الكلية التي توصلإليها الأصولي، فيجعلها مقدمة كبرى، بعد أن يقدم لها بمقدمةصغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة، ودليل تفصيليعرفه الفقيه، كالأمر بالصلاة في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة)فيكون عندنا مقدمتان ونتيجة:المقدمة الصغرى: الصلاة مأمور بها في قوله تعالى: (وأقيمواالصلاة) ، وهذا دليل تفصيلي.المقدمة الكبرى: وكل مأمور به - إذا تجرد عن القرائن - فهوواجب، وهذه قاعدة أصولية، أو دليل كلي إجمالي.فتكون النتيجة: الصلاة واجبة.المذهب الثاني: أن موضوع علم أصول الفقه هو: الأدلةوالأحكام معاً، وذهب إلى ذلك بعض العلماء كصدر الشريعة،وسعد الدين التفتازاني، وبعض العلماء.وقالوا: إنه يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية،وهي: إثباتها للأحكام، وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي:ثبوتها بتلك الأدلة، وعلَّلوا قولهم هذا: بأنه لما كانت بعض مباحثالأصول ناشئة عن الأدلة كالعموم والخصوص والاشتراك، وبعضهاناشئاً عن الأحكام ككون الحكم متعلقاً بفعل هو عبادة أو معاملة،(1/39)ولا رجحان لأحدهما على الآخر، فالحكم على أحدهما بأنهموضوع، وعلى الآخر بأنه تابع تحبهم وهو باطل.جوابه:أقول - في الجواب عنه -: إن موضوع أصول الفقه هو: الأدلةالإجمالية، وغير الأدلة يأتي بالتبع، ولا تحكم في ذلك " لأنه كماقلنا: إن الأحكام الشرعية ثمرة الأدلة، وثمرة الشيء تابعة له.بيان نوع الخلاف:الخلاف هنا لفظي، لأن كلًّا من الفريقين قد ذكر الأدلة والأحكاموبحثهما في أصول الفقه، ولكن أصحاب المذهب الأول قد بحثواالأحكام على أنها تابعة، وأصحاب المذهب الثاني قد بحثوها علىأنها أصلية.(1/40)المبحث الخامس في حكم تعلم أصول الفقهإن تعلم أصول الفقه يختلف باختلاف المتعلمين، فإن كانالشخص - يهيئ نفسه للوصول إلى درجة الاجتهاد في هذه الشريعةالإسلامية، ويريد رفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن غيره، فإنتعلم أصول الفقه بالنسبة إليه فرض عين، لأنه لا يمكن له أن يتوصلإلى درجة الاجتهاد بدون تعلمه، بل هو أهم العلوم التي يجبتحصيلها والوقوف عليها حتى يكون مجتهداً وقادراً على استنباطالأحكام الشرعية من أدلتها.أما إن كان الشخص طالباً للعلم بصورة عامة، فإن تعلم أصولالفقه فرض كفاية، شأنه شأن أي علم يجب أن يقوم به البعض.(1/41)المبحث السادس في فوائد علم أصول الفقهلقد بيَنت في مقدمتي لهذا الكتاب فضل علم أصول الفقه،وأهميته، ومنزلته من بين العلوم، وهذا المبحث يزيد من أهميتهوفضله، حيث إن الأهمية والفضل لا يتضحان لعلم من العلوم إلاإذا كان له فوائد عظيمة، لذلك عقدت هذا المبحث لبيان ماله منفوائد، وإليك بيان تلك الفوائد:الفائدة الأولى: إنه يُبين المناهج والأسس والطرق التي يستطيعالفقيه عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادث المتجددة، فإنالمجتهد إذا كان عالماً بتلك الطرق - من أدلة إجمالية وقواعدأصولية - فإنه يستطيعَ إيجاد حكم لأي حادثة تحدث. وهذا موضوعأصول الفقه، وقد سبق بيان ذلك.الفائدة الثانية: إن طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد،يستفيد من دراسة أصول الفقه، حيث يجعله على بينة مما فعله إمامهعند استنباطه للأحكام، فمتى ما وقف ذلك الطالب للعلم علىطرق الأئمة، وأصولهم، وما ذهب إليه كل منهم من إثبات تلكالقاعدة، أو نفيها، فإنه تطمأن نفسه إلى مدرك ذلك الإمام الذيقلَّده في عين ذلك الحكم أو ذاك، فهذا يجعله يمتثل عن اقتناع،وهذا يفضي إلى أن يكون عنده القدرة التي تمكنه من الدفاع عن وجهةنظر إمامه.(1/42)الفائدة الثالثة: أن العارف بأصل هذا الإمام في هذا الحكم أعظمأجراً من الشخص الذي يأتي بالعبادة لفتوى إمامه أنها واجبة أوسُنَّة، ولا يعرف الأصل الذي اعتمد عليه في هذه الفتوى.الفائدة الرابعة: أن العارف بالقواعد الأصولية يستطيع أن يُخرِّجالمسائل والفروع غير المنصوص عليها على قواعد إمامه.الفائدة الخامسة: أن العارف بتلك القواعد الأصولية يستطيع أنيدعو إلى الله تعالى وإلى دينه، بناء على أسس ومناهج وطرقيستطيع بها أن يقنع الخصم بما يريد أن يدعوه إليه.الفائدة السادسة: أن العارف بتلك القواعد يستطيع أن يُبيِّن لأعداءالإسلام أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه موجد لكلحادثة حكماً شرعياً، وأنه لا يمكن أن توجد حادثة إلا ولها حكمشرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أنالإسلام قاصر عن حل القضايا المتجددة. قاتلهم الله.الفائدة السابعة: أن أهل اللغة يستفيدون من تعلم علم أصولالفقه " حيث إن أهل اللغة يبحثون عن اشتقاقات الكلمة، وهل هينقلية أو قياسية، أما أهل الأصول فإنهم يبحثون عن معاني تلكالألفاظ، لذلك تجد الأصوليين قد توصلوا إلى نتائج لم يتوصلإليها اللغويون وذلك بسبب جمعهم بين معرفة اللغة ومعرفة الشريعة.،لذلك تجد أكثر أهل اللغة لهم إلمام في علم أصول الفقه.الفائدة الثامنة: أن المتخصص بعلم التفسير وعلم الحديث محتاجإلى دراسة علم أصول الفقه، حيث إنه يبين دلالات الألفاظ، وهلتدل على الحكم بالمنطوق أو بالمفهوم، أو بعبارة النص، أو بإشارته،أو بدلالته، أو باقتضائه، ونحو ذلك، لذلك تجد أكثر المفسرينوالشارحين للأحاديث هم من الأصوليين.(1/43)الفائدة التاسعة: أن كل شخص يريد كتابة أيَّ بحث من البحوثالعلمية محتاج إلى معرفة علم أصول الفقه، ذلك لأن علم أصولالفقه قد جمع بين النقل والعقل، ومن تعمق فيه عرف طريقة إيرادالمسألة، وتصويرها والاستدلال عليها، والاعتراض على بعضالأدلة، والجواب عن تلك الاعتراضات بأسلوب مبني على أسسومناهج وطرق يندر أن تجدها في غير هذا العلم.الفائدة العاشرة: أن كل شخصٍ يريد أن يتخصص بالإعلام محتاجإلى معرفة أصول الفقه، وذلك لأن علم أصول الفقه قد اعتنى عنايةفائقة ومميزة في الأخبار، وكيف أنها تنقسم إلى متواتر، وآحاد،ومشهور، وكيف العمل عند تعارض تلك الأخبار، وطريقةالترجيح فيما بينها، واعتنى - أيضاً - في بيان أنه عند إعلان الأخبارلا بد من مراعاة مصالح الناس وأعرافهم.(1/44)المبحث السابع الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتهامع تلك الفوائد التي ذكرتها لأصول الفقه، فإنه لم يسلم منبعض الاعتراضات التي وجهت إليه، والشبه التي أثيرت حوله،وإليك بيان أهمها، والأجوبة عنها فأقول:الشبهة الأولى:ورد عن بعض الناس أنهم ذمّوا علم أصول الفقه، وحقَّروه فينفوس طلاب العلم، وذكروا أنه لا فائدة منه لا في الدنيا ولا فيالآخرة.جوابها:يجاب عنها: بأن سبب ذمهم لهذا العلم وتحقيرهم له هو:جهلهم بهذا العلم، وعدم قدرتهم على فهمه بالتفصيل، وقديماقيل: " من جهل شيئاً عاداه ".إذ كيف يذمون علما هو من أهم شروط الاجتهاد؛ حيث إنه إذالم يتعلمه الفقيه بالتفصيل، فإنه لن يتوصل إلى درجة الاجتهاد،ولا يمكنه - بأي حال - استنباط حكم شرعي من دليل، بل لو لميعرف القياس - فقط - لانتفت عنه صفة الفقه، كما قال الإمامالشافعي: " من لم يعرف القياس فليس بفقيه "، وكما قال الإمامأحمد: " لا يستغني أحد عن القياس "؟!(1/45)وكيف يذمون علما هو أهم علوم الشريعة؟ ؛ لأنه لولا علمأصول الفقه لم يثبت من الشريعة لا قليل ولا كثير، بيانه:إن كل حكم شرعي لا بد له من سبب موضوع، ودليل يدل عليهوعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه: ألغينا الأدلة، فلا يبقى لناحكم ولا سبب، حيث إن إثبات الشرع بغير أدلته وقواعده وبمجردالهوى خلاف الإجماع.الشبهة الثانية:أن هذا العلم لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عهد الصحابة، ولا عهد التابعين لهم، فهو علم مبتدع، وما كان كذلك، فلا نفع فيه.جوابها:يجاب عنها بأن الصحابة رضوان اللَّه عليهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعد عهده، وكذلك التابعين كانوا يتخاطبون بأن هذه الآية ناسخة لتلكالآية، وأن تلك الحادثة مشابهة لتلك الحادثة المنصوص على حكمها،وأن هذا خبر واحد يستدل به على إثبات حكم شرعي، وأن هذاقول صحابي في مسألة " ما "، وأن هذه مصلحة ينبغي أن تراعى،ونحو ذلك، وهذه هي موضوعات أصول الفقه، فأصول الفقهموجود عندهم، وإن لم يسموا ذلك بالمصطلحات الموجودة الآن،وعلى هذا لا يكون علما مبتدعا.الشبهة الثالثة:أنكم جعلتم علم أصول الفقه أهم شرط من شروط الاجتهاد،فلا يمكن لأي شخص أن يبلغ درجة الاجتهاد إلا إذا كان عارفا مدققافي أصول الفقه، كيف يستقيم ذلك، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم -(1/46)وأتباعهم من كبار المجتهدين، ولم يكن هذا العلمموجوداً حتى جاء الإمام الشافعي وصنَّف فيه، وسمَّاه بهذا الاسم؟جوابها:يجاب عنها بأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وأتباعهم من كبارالتابعين كانوا من أعلم الخلق بالعلوم التي يتهذب بها الذهن،ويستقيم بها اللسان كأصول الفقه، وعلم العربية، فالله عَزَّ وجَلَّالذي اختارهم ليكونوا أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "، فلم يقع عليهم الاختيار، إلا لأنهم خير من غيرهم في كل الأمور.، فهم الذين بذلوا النفس والنفيس من أجل نصرة اللَّه ورسوله، وهم الذين حملوا الشريعة إلى من بعدهم حتى وصلت إلينا.ولذلك كانوا أفهم الخلق بدلالات الألفاظ، والصحيح من الأدلةمن الفاسد، وكانوا عالمين بالقواعد الشرعية، ومقاصد الشريعة،متتبعين لها، محيطين بها، وكانوا متمرسين على ذلك، وهذهالممارسة أكسبتهم قوة يفهمون من خلالها مراد الشارع، وما يصلحمن الأدلة، وما لا يصلح، وعرفوا كل ذلك بسبب مشاهدتهم نزولالوحي، وسماعهم الحديث من فيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن كانت تلك صفاتهم فإنهم عارفون لكل ما يبحث في علم أصول الفقه، وإن لميسموه بهذا الاسم.ولكن بعد ذهابهم قد فسدت الألسن، وتغيرت المفهوم، وكثرتالحوادث التي تحتاج إلى المجتهد لاستنباط أحكام شرعية لتلكالحوادث، فالشخص الذي يريد بلوغ درجة الاجتهاد لاستنباط أحكامشرعية لتلك الحوادث من الكتاب والسُّنَّة يحتاج إلى قواعد يستند(1/47)إليها؛ ليكون أخذه منهما صحيحاً، فوضع الإمام الشافعي قواعدلذلك وجمعها في علم مستقل، وسماه بأصول الفقه، وهي تسميةصحيحة مطابقة لمسماها، والمقصود: أدلة الفقه والقواعد التي يستندإليها الفقيه، إذا أراد استنباط حكم شرعي من دليل تفصيلي.الشبهة الرابعة:أن هذا العلم لا يُتعلَّم - لقصد صحيح، بل يُتعلَّم للرياء والسمعة.جوابها:يجاب عنها بأن هذا غير صحيح جملة وتفصيلاً، حيث إنا بيناالقصد من تعلم أصول الفقه، وهو معرفة كيفية استنباط الأحكامالشرعية من الأدلة.وكل شخص سيحاسب عن قصده في تعلم أيِّ علم من العلوم.الشبهة الخامسة:أن هذا العلم يتعلم للتغالب والجدال والمناظرة، لا لقصد صحيح.جوابها:يجاب عنها بأن الجدال الموجود في أصول الفقه وسيلة إلى الحق،وإذا كان الجدال بهذه الصفة لا يعاب به، ولا تنقص قيمته من أجله،حيث إن الجدال الحق من شأن اللَّه تعالى، وشأن خاصته من رسلهوأنبيائه.فقد أقام اللَّه سبحانه الحجج وعامل عباده بالمناظرة، فقال: (لئلايكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ، وقال: (فللَّه الحجةالبالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) ، وقال لملائكته: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض) .(1/48)وذلك لما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) .وتناظرت الملائكة، قال تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) ، وتجادلت الأنبياء فيما بينهم، فقد روى أبو هريرة - رضي اللَّه عنه -: أنه احتج آدم وموسى، فقال موسى:يا آدم، أنت أبونا، أخرجتنا من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسىاصطفاك اللَّه بكلامه، أتلومني على أمر قدره اللَّه عليّ قبل أن يخلقنيبأربعين سنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى".وجادلت الأنبياء أممها وحاجتها، قال تعالى: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ، وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلابالتي هي أحسن) ، وقال: (وجادلهم بالتي هي أحسن) .والجدال كالسيف.فالسيف ذو حدين: ممدوح، ومذموم.فإن السيف يمدح إذا استعمل في الجهاد في سبيل اللَّه.ويكون مذموماً إذا استعمل في قطع الطريق، وإخافة المسلمين.فالسيف في نفسه آلة لا تمدح ولا تذم، وإنما الذم والمدح حسبالاستعمال.فكذلك الجدال في نفسه لا يذم ولا يمدح، وإنما المدح والذمحسب الاستعمال.فمن استعمل الجدال في صرف الحق إلى الباطل، فهو مذموم.ومن استعمل الجدال للوصول إلى الحق الذي أمر اللَّه به، فهو(1/49)ممدوح، والجدال الذي جاء به أصول الفقه استعمل للوصول به إلىالحق، فيكون على هذا ممدوحا.الشبهة السادسة:أن أصول الفقه ما هو إلا نبذ قد جمعت من علوم شتى، حيثإن بعضه مأخوذ من اللغة، كالكلام عن الأمر والنهي، والعاموالخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل، والمبين، والمنطوق،والمفهوم، والحقيقة، والمجاز، ونحو ذلك.وبعضه مأخوذ من النحو كالكلام عن حروف المعاني، والكلامعن الاستثناء، ونحو ذلك.وبعضه مأخوذ من القرآن وعلومه، كالكلام عن مباحث النسخ،والقراءة الشاذة، ووجود المجاز في القرآن -، وهل فيه ألفاظ بغيرالعربية، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك.وبعضه مأخوذ من السُّنَّة، كالكلام عن الآحاد والمتواتر،والمشهور، وحجية كل نوع، وشروط الراوي المتفق عليها والمختلففيها.وبعضه مأخوذ من أصول الدين وعلم الكلام، كالكلام عنالحكم الشرعي وأقسامه، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتأسي به، وتكليف ما لا يطاق، وتكليف المعدوم، وشرط الإرادة في الأمر، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين، ومسألة شكر المنعم، ونحو ذلك.وبعضه مأخوذ من علم الفقه وعلم الجدل، كالكلام عن القياس،وقوادح العِلَّة، والتعارض والترجيح.وهكذا علمت أن علم أصول الفقه ما هو إلا نبذ قد جمعت من(1/50)تلك العلوم، فمن أراد أن يتعلم تلك المباحث فليتعلمها من تلكالعلوم، دون الرجوع إلى علم أصول الفقه، وبهذا لو جرد الذيينفرد به أصول الفقه ما كان إلا شيئاً يسيراً جداً، فتصير فائدة أصولالفقه قليلة جداً بعكس ما كنت قد صورته لنا من أن له فوائد كثيرة.جوابها:أجيب عنها بأنه لا ينكر أن علم أصول الفقه قد استمد من تلكالعلوم التي ذكرتموها.ولكن اهتم الأصوليون بتلك المباحث ودرسوها دراسة تختلف عندراستها لو أخذت من تلك العلوم مباشرة، فقد دقق الأصوليون فيفهم أشياء لم يصل إليها المتخصصون بتلك العلوم.فمثلاً: توصل الأصوليون إلى فهم أشياء من كلام العرب لميصل إليها النحاة ولا اللغويون، فالنظر في كلام العرب متشعب،فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة، واشتقاقاتها، دونالمعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي المتعمق بالعلوم الشرعيةوقواعده، فلقد توصل الأصوليون إلى أحكام في الاستثناء، لميتوصل إليها النحاة في كتبهم،كذلك صيغة " افعل " أو صيغة "لا تفعل "،ودلالة الأولى على الوجوب، ودلالة الثانية على التحريم،وغير ذلك من الاستعمالات لو بحثت عن ذلك في كتباللغة لم تجد شيئاً من ذلك.فالأصوليون يبحثون فيما أخذوه من تلك العلوم - وهي علم اللغةوالنحو، وأصو ل الدين، والقرآن، والسُّنَّة، والفقه، والجدل -(1/51)بحثاً خاصاً في جهة الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية الفقهية،وأحوال تلك الأدلة.فنظرة الأصولي إلى ما أخذه من تلك العلوم تختلف عن نظرةالمتخصصين بتلك العلوم.وبهذا لا يمكن أن يتعلم طالب العلم مباحث الأصوليين بالرجوعإلى تلك العلوم، دون الرجوع إلى ما وضع في علم أصول الفقه.فثبت بذلك أن أصول الفقه فيه ما لا يوجد في غيره.(1/52)المبحث الثامن هل يُقدَّم تعلُّم أصول الفقه أم تعلُّم الفقه؟لقد اختلف في ذلك على مذهبين:المذهب الأول: أن تعلُّم أصول الفقه يقدم على تعلم الفقه.ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، وابنبرهان في " الوصول "، وابن عقيل في " الواضح "، وأبو بكرالقفال الشاشي، وغيرهم.وهو الصحيح عندي، وذلك ليكون المتعلم على ثقة مما يدخلفيه، ويكون قادراً على فهم مرامي جزئيات الفقه، فالفروع لا تدركإلا بأصولها، والنتائج لا تعرف حقائقها إلا بعد تحصيل العلمبمقدماتها، وعلى هذا: ينبغي أن تحفظ الأدلة، وتحكم الأصول،ثم حينئذِ تبنى عليها الفروع، لذلك تجد بعض الفقهاء من المالكيةوغيرهم يَجعلون القواعد الأصولية كمقدمة لكتبهم الفقهية.المذهب الثاني: أن تعلُّم الفقه والفروع يُقدم على تعلُّم الأصول.ذهب إلى ذلك أبو يعلى في " العدة "، وبعض العلماء.دليل هذا المذهب:إن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها لا يمكنه الوقوف علىما يبتغى بهذه الأصول من الاستدلال، والتصرف في وجوه القياس.أي: أنه بتعلُّم الفروع تحصل الدربة والملكة التي تجعله يستفيد منتلك الأصول والقواعد استفادة صحيحة.(1/53)جوابه:يُجاب عنه: بأنه يمكنه الوقوف على المقصود بتلك القواعدالأصولية بمجرد ضرب مثال أو مثالين من الفقه.والحاصل: أنه إذا أتقن علم أصول الفقه أمكنه التوصل إلىالأحكام بصورة صحيحة، قال العكبري: " أبلغ ما يتوصل به إلىإحكام الأحكام أصول الفقه وطرف من أصول الدين ".بيان نوع الخلاف:الخلاف هنا لفظي؛ حيث إنه لا تأثير لذلك الخلاف في الأصولولا في الفروع.(1/54)المبحث التاسع في بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقهأصول الفقه قد استمد مادته من مصادر كثيرة - وقد سبق بيانذلك في الشبهة السادسة - ولكن هنا سأحصر تلك المصادر، وأُبيِّنسبب استمداده من كل علم، فأقول:استمد أصول الفقه مادته من مصادر كثيرة، وأهمها ثلاثة:المصدر الأول: أصول الدين.المصدر الثاني: علم اللغة العربية.المصدر الثالث: الأحكام الشرعية.أما أصول الدين - وهو علم الكلام -: فإن علم أصول الفقه قداستمد منه: مسائل، من أهمها: مسألة الحاكم، والتحسينوالتقبيح العقليين، والتكليف بما لا يطاق، وتكليف المعدوم،وحكم الأشياء قبل البعثة، والمجتهد يخطئ ويصيب، وخلو الزمانمن مجتهد، وشكر المنعم، وبعض مسائل النسخ، وشرط الإرادةفي الأمر، ونحو ذلك.وسبب استمداده من أصول الدين وهو علم الكلام هو: توقفالأدلة الشرعية على معرفة البارئ، وصدق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عنهفيما قال لتعلم حجيتها وإفادتها للأحكام الشرعبة.أما اللغة العربية: فإن علم أصول الفقه قد استمد منها مسائل،(1/55)ومنها: - الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمطلق والمقيد،ومعاني الحروف، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز، والاستثناء،والمنطوق، والمفهوم، والإشا رة، والتنبيه، والاقتضاء، والإيماء،ونحو ذلك.وسبب استمداده من اللغة العربية هو: أن كتاب اللَّه وسُنَّة رسولهقد نزلا بلغة العرب، فيحتاج إلى معرفة قدر كبير من اللغة العربيةيستطيع بسببها معرفة دلالة الأدلة وفهمها وإدراك معانيها.فلا يمكنه فهم دلالات الألفاظ من الكتاب والسُّنَّة، والأقوالالمنقولة عن مجتهدي الأُمَّة، وأقوال السَّلَف والخلف إلا إذا كان فاهماللغة العربية، واستعمالاتها.وأما الأحكام الشرعية، فإن علم أصول الفقه قد استمد منهبسبب: أن المقصود والغرض من هذا العلم هو - إثبات الأحكامالفرعية، فلا بد للأصولي أن يعرف قدراً ليس بالقليل من الفقهوالأحكام الشرعية، ليتمكن عن طريق معرفته تلك من إيضاحالمسائل، وضرب أمثلة لتصوير القاعدة الأصولية، وليتأهل بالبحثفيها للنظر والاستدلال.(1/56)المبحث العاشر في نشأة علم أصول الفقهكان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في زمن - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثت حادثة أخذوا حكمها من الوحي، سواء كان مباشراً وهو القرآن، أوغير مباشر وهو السُّنَّة، فكانوا يلجأون في هذا كله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - يأخذون حكم أي حادثة من الكتاب، فإن لم يجدوا حكمها فيه، أخذوه من السُّنَّة، فإذا لم يجدوا في السُّنَّة، اجتهدوا وبحثوا عن الأشباهوالأمثال، - ومعرفة العلل الشرعية، فيقيسون ما لم يكن بما كان،ويجتهدون في معرفة المقاصد والمصالح، ونحو ذلك، ويحرصونكل الحرص على الأخذ برأي الجماعة.وسار التابعون - رحمهم اللَّه - على هذا المنهج، وزاد بعضهمأصلاً آخر، وهو الرجوع إلى فتاوى الصحابة - رضي اللَّه عنهم -.فكثر الاجتهاد، وكثرت طرقه، وتعددت وجوهه، فبعضهميكتفي بظاهر النص، وبعضهم لا يكتفي بذلك، بل يغوص علىالمعاني، فيرى أن أكثر الأحكام معللة، ثم يبنون على هذه العللالأحكام وجوداً وعدماً.فلما جاء عصر الأئمة المجتهدين: أصبح لكل إمام قواعد قداعتمدها في الفتوى والاجتهاد.(1/57)وهذه القواعد موجودة ومنتشرة في مواضع مختلفة في كتبهم وكتبتلاميذهم، وقد راعى هؤلاء الأئمة المجتهدون هذه القواعد في معرفةالأحكام الشرعية، وكيفية استنباطها من أدلتها التفصيلية، ومنهؤلاء الإمام الشافعي - رحمه اللَّه - الذي وضع قواعده التياعتمدها في كتاب سمّاه بـ " الرسالة "، والإمام الشافعي لم يضعالقواعد الأصولية - كلها - في هذا الكتاب، ولكنه بهذا العمللفت أنظار العلماء من الباحثين المدققين إلى متابعة التدقيق، والبحثوالترتيب حتى أصبح علم أصول الفقه علما مستقلاً رتبت أبوابه،وحررت أكثر مسائله، وجمعت مباحثه، وألَّفت فيه المؤلفاتوالمصنفات على اختلاف في الطرق التي اتبعوها في التأليفوالتصنيف.(1/58)المبحث الحادي عشر طرق التأليف في أصول الفقه وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقةالعلماء والباحثون في أصول الفقه اختلفوا في الطرق التي اتبعوهافي التأليف والتصنيف في أصول الفقه، فنشأ عن ذلك كثير منالطرق هي كما يلي:الطريقة الأولى: طريقة الحنفية.الطريقة الثانية: طريقة الجمهور.الطريقة الثالثة: الجمع بين الطريقتين.الطريقة الرابعة: طريقة تخريج الفروع على الأصول.الطريقة الخامسة: طريقة عرض أصول الفقه من خلال المقاصد، والمفهوم العام.وإليك بيان ذلك:أما الطريقة الأولى - وهي: طريقة الحنفية - فإنها تتميز بأمرين:أولهما: أنها تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل منالفروع عن أئمتهم.ثانيهما: أنها تغوص على النكت الفقهية.وسميت هذه الطريقة بطريقة " الفقهاء "؛ لأنها أمس بالفقه،وأليق بالفروع، وسبب ذلك: أن تلك القواعد قد أخذت منالفروع؛ ذلك لأن الحنفية المتأخرين لاحظوا واستقرأوا وتتبعوا الفتاوى(1/59)الصادرة عن أئمتهم المتقدمين، فعمدوا إلى تلك الفتاوى والفروعواستخلصوا منها القواعد والضوابط، وجعلوها أصولا لمذهبهملتكون لهم سلاحا في مقام الجدل والمناظرة.وقد ألِّف على هذه الطريقة كتب كثيرة، ومنها:1 - مآخذ الشرائع لأبي منصور الماتريدي.2 - رسالة في الأصول لأبي الحسن الكرخي.3 - الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص.4 - تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي.5 - أصول البزدوي، مطبوع مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري.6 - مسائل الخلاف لأبي عبد اللَّه الصيمري.7 - أصول السرخسي لأبي بكر السرخسي.8 - ميزان الأصول لأبي بكر السمرقندي.9 - المنار لأبي البركات عبد اللَّه النسفي.وذكرت جانبا من تلك الطريقة في كتابي: " طرق دلالة الألفاظعلى الأحكام عند الحنفية وأثرها الفقهي ".أما الطريقة الثانية - وهي طريقة الجمهور - فإنها تتميز بما يلي:أولاً: أنها اهتمت بتحرير المسائل، وتقرير القواعد على المبادئالمنطقية.ثانيا: الميل الشديد إلى الاستدلال العقلي.ثالثاً: البسط في الجدل والمناظرات.(1/60)رابعاً: تجريد المسائل الأصولية عن الفروع الفقهية، وقد أشبهتبذلك طريقة أهل الكلام، لذلك سميت طريقتهم بطرياقة المتكلمين.وهذه الطريقة قد سار عليها علماء الشافعية، والمالكية، والحنابلة،والظاهرية، والمعتزلة، وذلك من حيث الترتيب والتنظيم.وإليك ذكر بعض الكتب التي أُلِّفت على هذه الطريقة، ولقدرتبت ذلك على المذاهب:أولاً: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب المالكي على حسب مذهبالمؤلف:1 - التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد للقاضي أبي بكرالباقلاني.2 - إحكام الفصول في أحكام الأصول، والإشارة، والحدود -كلها لأبي الوليد الباجي.3 - منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب،وقد اختصر هذا الكتاب بكتاب سمَّاه: " مختصر المنتهى ".وشرح هذا المختصر كثير من العلماء، ومنهم:(أ) عضد الدين الإيجي، شرحه بكتاب سمَّاه: " شرحالمختصر".(ب) ابن السبكي تاج الدين شرحه بكتاب سمَّاه: " رفعالحاجب عن مختصر ابن الحاجب ".(ج) شمس الدين الأصفهاني (ت 749 هـ) شرحه بكتابسمَّاه: " بيان المختصر ".4 - الضياء اللامع شرح جمع الجوامع لحلولو المالكي، حققتهوطبع بعض المجلدات منه.(1/61)5 - شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي.6 - نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي، وقد قمت بتحقيقجزء منه، ولم يطبع.7 - شرح البرهان للمازري.ثانيا: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب الشافعي على حسب مذهبالمؤلف:1 - الرسالة للإمام الشافعي، وقد شرح هذه الرسالة الإمامالصيرفي، والقفال الشاشي الكبير، وأبو محمد الجويني، وغيرهم.2 - اللمع، وشرح اللمع، والتبصرة لأبي إسحاق الشيرازي.3 - البرهان، والتلخيص، والورقات لإمام الحرمين.4 - قواطع الأدلة لابن السمعاني.5 - المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل وأساس القياسللغزالي.6 - الوصول إلى الأصول لابن برهان.7 - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.8 - المحصول للرازي، وقد شرحه كل من القرافي في " نفائسالأصول "، وشمس الدين الأصفهاني (ت 688 هـ) في:"الكاشف عن المحصول ".واختصره كل من:تاج الدين الأرموي في كتاب سمَّاه: " الحاصل من المحصول ".سراج الدين الأرموي في كتاب سمَّاه: "التحصيل من المحصول ".النقشواني في كتاب سمَّاه: " تلخيص المحصول ".التبريزي في كتاب سماه: " تنقيح المحصول ".(1/62)9 - منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، وشرحه كثيرمن العلماء، ومنهم:شمس الدين الأصفهاني شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح منهاجالبيضاوي "، وقد حققته وطبع بمجلدين.الإسنوي شرحه في كتاب سمَّاه: " نهاية السول ".ابن السبكي شرحه في كتاب سمَّاه: " الإبهاج في شرح المنهاج ".البدخشي شرحه في كتاب سمَّاه: " مناهج العقول ".10 - البحر المحيط للزركشي.ثالثاً: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب الحنبلي - على حسبمذهب المؤلف:1 - العدة لأبي يعلى.2 - التمهيد لأبي الخطاب.3 - الواضح لابن عقيل.4 - روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة، وقد قمتُ بتحقيقه،وطبع بثلاثة مجلدات.5 - شرح الكوكب المنير لابن النجار.6 - إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، قمتُ بتأليفه وطبعفي ثمان مجلدات.رابعا: الكتب المؤلفة على المذهب الظاهري:1 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم.2 - النبذ لابن حزم.خامسا: الكتب المؤلفة على المذهب المعتزلي:1 - العمد للقاضي عبد الجبار بن أحمد.(1/63)2 - المعتمد لأبي الحسين البصري.3 - شرح العمد لأبي الحسين البصري.أما الطريقة الثالثة - وهي الجمع بين طريقة الحنفية وطريقة الجمهور -فقد حقق من جمع بين الطريقتين القواعد الأصولية، وأثبتها بالأدلةالنقلية والعقلية، وطبقوها في الفروع الفقهية، فجاءت مؤلفاتهممفيدة في خدمة الفقه، وتمحيص الأدلة، وكتب في هذه الطريقةجمع من علماء الجمهور، وعلماء الحنفية، ومن أهم كتبهم ما يلي:1 - بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام للساعاني.2 - تنقيح أصول الفقه، وشرحه التوضيح لصدر الشريعة، وقدشرحه التفتازاني في كتاب سمَّاه: " التلويح ".3 - جمع الجوامع لتاج ابن السبكي، وقد شرحه كثيرون،ومنهم:(أ) جلال الدين المحلي شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح جمعالجوامع ".(ب) الزركشي شرحه بكتاب سمَّاه: " تشنيف المسامع ".(ب) حلولو المالكي شرحه بكتاب سمَّاه: " الضياء اللامع "،وقد حققته.4 - التحرير لكمال الدين ابن الهمام، وقد شرحه كثيرون،ومنهم:أمير الحاج شرحه بكتاب سمَّاه: " التقرير والتحبير ".أمير بادشاه شرحه بكتاب سماه: " تيسير التحرير ".(1/64)5 - مسلم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور الحنفي، وقدشرحه الأنصاري في كتاب سمَّاه: " فواتح الرحموت ".6 - كتابي هذا، فإنه يعتبر من هذه الطريقة، وهو " المهذب فيعلم أصول الفقه المقارن ".أما الطريقة الرابعة - وهي طريقة تخريج الفروع على الأصول -فهي تتميز بذكر خلاف الأصوليين في المسألة، مع الإشارة إلى بعضأدلة الفِرَق المختلفة، ثم ذكر عدد من المسائل الفقهية المتأثرة بهذاالخلاف، والغاية منها هو: ربط الفروع بالأصول، ولا يذكر فيالكتب المؤلَّفة على هذه الطريقة إلا المسائل التى اختلف العلماء فيها،والخلاف فيها معنوي له ثمرة، أما إذا كان الخلاف لفظيا فلا يردفيها، لذلك صنَّفت كتابا ذكرت فيه المسائل التي جاء الخلاف فيهالفظيا، وقد طبع في مجلدين.وقد أُلِّف على هذه الطريقة - وهي الطريقة الرابعة - مؤلفاتكثيرة، ومنها:1 - تخريج الفروع على الأصول للزنجاني " شافعي ".2 - مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للتلمساني"مالكي ".3 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي "شافعي ".4 - القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام " حنبلي ".أما الطريقة الخامسة - وهي طريقة عرض أصول الفقه من خلالالمقاصد - فلم تسلك هذه الطريقة مسلك المتقدمين، وهي: ذكرالقواعد تحت عناوين وأبواب معينة، بل سلكت طريقة أخرى وهي:عرض أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة، والمفهوم العام الكليللتكليف، وقد ألَّف على هذه الطريقة أبو إسحاق الشاطبي المالكيكتابه: " الموافقات في أصول الشريعة ".(1/65)الفصل الثاني مقدمة في المصطلحات التي يحتاج إليها دارس علم أصول الفقهويشتمل على مباحث:المبحث الأول: بيان التصوُّر والتصديق.المبحث الثاني: بيان كيف أن الحد والبرهان هما الآلة التي بهاتدرك العلوم.المبحث الثالث: في الحد وأقسامه.المبحث الرابع: في البرهان وما يتعلق به.المبحث الخامس: في الألفاظ.المبحث السادس: في المعاني وأقسامها.المبحث السابع: في تأليف مفْردات المعاني.(1/67)المبحث الأول في بيان التصوّر والتصديقاعلم إنه لا يمكن أن تحيط بعلم شيء من الأشياء أو أمر من الأمورإلا إذا عرفت مفرداته أولاً، ثم عرفت وأدركت نسبة تلك المفرداتبعضها إلى بعض.فيكون إدراك العلوم على ضربين هما: " التصوُّر " و " التصديق ".فأما الضرب الأول وهو التصوُّر فهو علم الذوات المفردة - فقط -كأن تعلم معنى " العالم "، ومعنى " الحادث "، ومعنى "الجسم "،ومعنى " القديم "، ومعنى " الحركة "، نعلم معاني تلك الكلمات،ونفهمها كل واحدة على حدة بدون إضافتها إلى غيرها، وهذا يُسمَّىبالتصوّر.أي: إدراك وفهم وعلم ماهية الشيء بلا حكم عليها بنفي أوإثبات، فلم يحصل سوى صورة الشيء في الذهن - فقط -.والتصور لا يمكن أن يدخله التصديق أو التكذيب، لأمرين:أولهما: أن إدراك الذوات المفردة وعلمها فقط هو: إدراك لماهيةالشيء بلا حكم عليها بنفي أو إثبات، فأين الذي يُصدَّق أو يُكذَّب؟تانيهما: أن التصديق والتكذيب لا يتطرق إلا إلى الخبر، والذواتالمفردة، مثل: " العالم "، و " الإنسان "، و " السماء "، ليست(1/69)أخباراً؛ لأن أقل ما يتركب منه الخبر مفردان ينسب أحدهما إلىالآخر.فالتصوُّر هو: إدراك الحقائق مجردة عن الأحكام.وهذه تسمية أهل المنطق، لذلك عرفه ابن سيناء بقوله: " هوالعلم الأول، ويكتسب بالحد وما يجري مجراه مثل تصورنا ماهيةالشيء "، وعرَّفه ابن رشد: " بأنه العلم بماذا يدل عليه اسمالشيء".وسمي - تصوراً؛ لأنه لم يحصل سوى صورة الشيء في الذهن.ويسميه النحاة: مفرداً.أقسام التصوُّر:* والتصؤُر - وهو إدراك وفهم المفردات وحدها - قسمان:القسم الأول: أَوَّلي: وهو: ما يُفهم معناه من غير بحث أوطلب، وهو المُسمَّى بـ " الضروري "، وهو الذي لا يحتاج إلىإدراكه وفهمه ومعرفته إلى تأمل ونظر، مثل: لفظ " الموجود "،فإن كل شخص يعلم ضرورة أن هذا الشيء موجود وليس بمعدوم،وكذلك الحرارة، والبرودة، والبياض، والسواد، ونحو ذلك منالمفردات التي تدرك وتعلم بمجرد الحس.القسم الثاني: مطلوب، وهو: ما لا يفهم معناه إلا ببحثوطلب، وهو المُسمَّى بـ " النظري "، وهو الذي يحتاج لمعرفة وفهممعناه إلى تأمل ونظر، حيث إن الاسم يدل على أمر مجمل غيرمفصل أو مفسر، فيطلب تفسيره بالحد والبيان، مثل: إدراك معنى" العقل " و " الجوهر ".(1/70)وأما الضرب الثاني وهو التصديق فهو: علم نسبة المفرداتبعضها إلى بعض بالنفي، أو الإثبات، فمثال نسبة مفرد إلى مفردآخر بالنفي قولك: " الجسم ليس بمتحرك "، و " العالم ليسبحادث ".ومثال نسبة مفرد إلى مفرد آخر بالإثبات قولك: " الجسم متحرك "وقولك: " العالم حادث " و " زيد كاتب ".وهذا يمكن أن يتطرق إليه التصديق والتكذيب؛ لأن فيه نسبة شيءإلى شيء آخر، وهذا لا يكون إلا من مفردين، فيكون الأول وصفاوالآخر موصوفاً، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بإثبات أو نفي،كأن تقول: " العالم حادث "، و " الجسم متحرك "، أو تقول:"العالم ليس بحادث "، فإن هذا قابل للصدق والكذب.أي: أن هذه النسبة قد تكون صحيحة، فيكون صادقا، وقدتكون غير صحيحة فيكون كاذبا.والتصديق هو: إدراك نسبة حكمية بين الحقائق بالإيجاب أو النفي.وهذه تسمية أهل المنطق، لذلك عرَّفه ابن رشد بأنه: " العلم بأنالشيء موجود أو غير موجود ".وسمي تصديقاً؛ لأن فيه حكماً قد يصدق فيه، أو يكذب.فإن قلت: لماذا سموه بالتصديق مع احتمال الكذب؟قلت: سمي بأشرف لازمي الحكم في النسبة.ويسميه النحاة: " جملة ".وكل علم يتطرق إليه التصديق، فمن ضرورته ولازمه أن يتقدمعليه معرفتان:(1/71)الأولى: معرفة المفرد - فقط - وهو معرفة البسيط - مثل:" العالم "، و " الحادث ".الثانية: معرفة نسبة ذلك المفرد إلى مفرد آخر - وهو معرفةالمركب - مثل: " العالم حادث ".فلا يمكن للشخص أن يعرف المركب من مفردين إلا إذا عرفالمفردين واحداً واحداً، فمن لا يفهم معنى " العالم " بمفردهويتصوره، ولا يعرف معنى " الحادث " بمفرده ويتصوره، فكيفيعرف أن " العالم حادث "؟فكل تصديق متضمن لعدة تصورات: تصوُّر المحكوم عليه،وتصوُّر المحكوم به، وتصوّر نسبة أحدهما إلى الآخر، فالحكميكون تصوراً رابعاً، لأنه تصور تلك النسبة هل هي موجبة أوتصورها منفية.فمثلاً: إذا قلنا: " زيد قائم "، فقد اشتمل قولنا هذا علىتصورات أربعة:1 - تصوُّر المو ضوع وهو " زيد ".2 - تصوُّر المحمول وهو " قائم ".