عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ رِسَالَةٌ فِي (لَيْلَةِ القَدْرِ)، دَعَانِي إِلَى كِتَابَتِهَا مَا يُثَارُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ عَامٍ حَوْلَ تَعْيِينِهَا، ثُمَّ التَّدَاعِيَاتُ السَّلْبِيَّةُ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ، كَالعَجْزِ وَالكَسَلِ الذِي يُصَابُ بِهِ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا هِمَّةَ، وَتَشْوِيشَاتُ القِيلِ وَالقَالِ، وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ عَبْرَ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الإِلِكْتُرُونِيِّ، وَانْشِغَالُ الكَثِيرِ بِالاطِّلَاعِ عَلَى الرَّسَائِلِ وَالمَقَاطِعِ التِي تَحْمِلُ آرَاءَ الرِّجَالِ البَاعِثَةَ عَلَى الفُتُورِ، وَإِشْغَالُ الآخَرِينَ بِهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ نَقْصٍ وَقُصُورٍ.
وَتَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الوَحْيِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَى السُّنَّةِ فِي تَعْيِينِ لَيْلَةِ القَدْرِ، وَمَنْ سَبَرَ الأَحَادِيثَ الوَارِدَةَ فِي تَحَرِّيهَا، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ القَطْعَ بِتَعْيِينِهَا مُخَالِفٌ لَهَا، وَقَدْ جَاءَتِ الأَحَادِيثُ عَلَى أَشْكَالٍ؛ لِيُفَسِّرَ بَعْضُهَا بَعْضًا، بِأَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ مُبْهَمَةٌ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَأَنَّ بَعْضَ اللَّيَالِي أَرْجَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي العَشْرِ مُحْتَمَلًا أَنْ تَكُونَ لَيْلَةَ القَدْرِ.
وَقَدْ نَحَوْتُ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ مَنْحَى الاخْتِصَارِ وَالاقْتِصَارِ، وَكَانَ الغَرَضُ مِنْ إِخْرَاجِهَا التَّحْرِيضَ عَلَى الجِدِّ فِي جَمِيعِ العَشْرِ البَوَاقِي، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
فَضْلُ لَيْلَةِ القَدْرِ
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ أَفْضَلُ لَيَالِي الدُّنْيَا عَلَى الإِطْلَاقِ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ فِي غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِي، وَحَسْبُكَ فِي فَضْلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ - «أَيِ: القُرْآن» - فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ - «هِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، كَثِيرَةُ الخَيْرَاتِ» - إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا - «يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ» - يُفْرَقُ - «يُدَبَّرُ أَمْرُ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ»، كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ - «يَقْضِي فِيهَا أَمْرَ العَامِ كُلِّهِ؛ مَنْ يَمُوتُ، وَمَنْ يُولَدُ، وَمَنْ يَشْقَى، وَمَنْ يَسْعَدُ، وَالأَرْزَاقَ وَسَائِرَ أُمُورِ العَامِ»).
وَقَالَ تَعَالَى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ؛ (ابْتَدَأَ اللهُ إِنْزَالَ القُرْآنِ، وَقِيلَ: نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ العِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا)، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - (مِنْ رَمَضَانَ، يُقَدِّرُ اللهُ فِيهَا مَقَادِيرَ السَّنَةِ) -، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ (لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ)، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ - (العَمَلُ فِيهَا) - مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ (مِنَ العَمَلِ فِي ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الدَّهْرِ)، تَنَزَّلُ (إِلَى الأَرْضِ) الْمَلَائِكَةُ (بِكَثْرَةٍ)، وَالرُّوحُ فِيهَا - (وَهُوَ جِبْرِيلُ) -، بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (قَدَّرَهُ اللهُ وَقَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ)، سَلَامٌ هِيَ، (خَيْرٌ كُلُّهَا)، حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ؛ (إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الصُّبْحُ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَحُكِيَ عَنْ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ تَخْصِيصُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَحَكَى الخَطَّابِيُّ عَلَيْهِ الإِجْمَاعَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالذِي دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الأُمَمِ المَاضِينَ، كَمَا هِيَ فِي أُمَّتِنَا، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مَرْثَدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ القَدْرِ، تَكُونُ مَعَ الأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا، فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ، أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟، قَالَ: "بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ البَزَّارُ، وَمَرْثَدٌ هَذَا لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَبِيهِ مَالِكٍ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ.
لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةٌ مَخْفِيَّةٌ
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي المُسْنَدِ، وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَمُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ القَدْرِ، أَفِي رَمَضَانَ، أَوْ فِي غَيْرِهِ؟، قَالَ: "بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ". قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، تَكُونُ مَعَ الأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا، فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ، أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟، قَالَ: "بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" - إِلَى أَنْ قَالَ -: "إِنَّ اللهَ لَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَكُمْ عَلَيْهَا، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ". وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَوْ أَذِنَ لِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِهَا لَأَخْبَرْتُكُمْ".
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ مَخْفِيَّةٌ؛ لِئَلَّا يَتَّكِلَ الكَثِيرُ عَلَى لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَيَتْرُكُوا بَقِيَّةَ اللَّيَالِي؛ فَإِنَّ القَطْعَ بِأَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةُ كَذَا وَكَذَا فِي عَصْرٍ غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِهِ الجَهْلُ وَالاتِّكَالُ وَالضَّعْفُ وَالعَجْزُ وَالكَسَلُ؛ مُخَالِفٌ لِلْحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ الرَّبَّانِيِّ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي أَيُّ لَيْلَةٍ تُبْتَغَى فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ؟، فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ تَتْرُكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ إِلَّا تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَأَخْبَرْتُكَ". قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: "لَوْلَا سُفَهَاؤُكُمْ لَوَضَعْتُ يَدِي فِي أُذُنِي، فَنَادَيْتُ أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ.
ثُمَّ إِنَّ فِي القَطْعِ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ الكَثِيرَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةٌ مُبْهَمَةٌ، أَخْفَاهَا اللهُ تَعَالَى بِقَدَرٍ، فَلَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَنَا عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ لِنَبِيِّهِ أَنْ يُخْبِرَنَا بِهَا، فَكَيْفَ يَتَسَنَّى لِكَائِنٍ مَنْ كَانَ، أَنْ يَدَّعِيَ فِي تَعْيِينِهَا عِلْمَ اليَقِينِ؟!، وَصَدَقَ اللهُ القَائِلُ: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا).