عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
بادِي بَدْءٍ، فإن الرجال تُعرف بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال، والحق ضالَّة المؤمن يأخذه متى وجده، ولو جاء به عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة.
والقاعدة في هذا قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
أوجب الله تعالى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم استقلالًا، وجعل طاعة أولي الأمر - بصرف النظر عن أصلهم - في ضمن طاعة الرسول؛ فمَن أمر منهم بطاعة الرسول وجَبت طاعتُه، ومَن أمر بخلاف ما جاء به الرسول، فلا سمع له ولا طاعة.
وكل ما تنازع فيه الناس من مسائل الدين يُردُّ إلى كتاب الله، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه نفسه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته.
أما أنه هل للأصل تأثير على الإنسان؟
فهذا مما لا شك فيه، وإن كان غير مطَّرد؛ يقول الشيخ أبو عبدالله محمد بن مفلح رحمه الله: "وللأصل تأثير، وقد روى الحاكم في تاريخه عن ابن المبارك، قال: من طاب أصله حسُنَ محضرُه"[1]، فالأصل والإبداع الذهني بينهما ارتباط وثيق، وهذه حقيقة ينبغي إبرازُها:
إن العُروقَ إذا استَسرَّتْ في الثَّرَى ♦♦♦ أندى النباتُ بها وطاب المَزرَعُ
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناسُ معادنٌ كمعادِن الفِضة والذهب))[2].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل خلق آدم من قبضةٍ قبضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جعل منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهلَ والحزنَ وبين ذلك، والخبيثَ والطيبَ وبين ذلك))[3]، وفي المثل: "بعضُ البقاع أيمنُ من بعض"[4].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - بعد كلام سابق في عدم العبرة بالنسب والمكان -: "الله سبحانه وتعالى جعل سكنَى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب، ما لا يقتضيه سكنى البادية، كما أن البادية تُوجِبُ من صلابة البَدَن والخلق ومتانة الكلام، ما لا يكون في القرى، هذا هو الأصل، وإن جاز تخلُّف هذا المقتَضى لمانع، وكانت البادية أحيانًا أنفع من القرى، وكذلك جعل الله الرسل من أهل القرى، فقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [يوسف: 109]؛ وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور، حتى في النسب"[5].
وقال ابن خلدون:
"المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف، وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير في أحوالهم، إلى أن قال - بعد أن حدد الأقاليم المعتدلة -: وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوص بالاعتدال، وسكانها من البشر أعدل أجسامًا، وألوانًا، وأخلاقًا، وأديانًا، حتى النبوءات، فإنما توجد في الأكثر فيها، ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية؛ وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم، قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]؛ وذلك ليتم القَبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله، وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم"[6].
إذا تقرر هذا فاعلم - يا رعاك الله - أن النسب والزمن والبلد والبقعة لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس الإنسانَ عملُه، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أبطأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسبُه))[7]، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه لأبي الدرداء: إن الأرض لا تُقدِّسُ أحدًا.
لكن علينا أن نضع الحديث والأثر في موضعهما، قال الشيخ المُعلِّمي اليَماني رحمه الله، رادًّا على الكوثري المُشكِّكِ في قرشيَّة الإمام الشافعي، قال الكوثري: ومَن تابع الشافعي قائلًا: إنه قرشي، فله ذلك، لكن هذه الميزة لا تُوجب الرجحان في العلم، وفي صحيح مسلم: ((من أبَطَأ به عملُه لم يُسرِعْ به نسبه)).
قال المعلمي: "قد وضع الحديث في غير موضعِه، فإن الشافعي لم يُبطِئْ به علمه ولا عمله، وإنما ينبغي أن يذكر هنا حديث (الصحيحين)[8] وغيرهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أَفَعَنْ معادِن العرب تسألوني؟))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقهوا))، ومَن ذكر من أهل العلم في مزايا الشافعي أنه عربي قرشي مطَّلبي، فلم يَحْتَجَّ بفضيلة النسب من حيث هو نسب، ولكن مِن حيث ما هو مظنة، فإن ذلك يقتضي فضل معرفة بالدين الذي أنزله الله تعالى على النبي العربي بلسان عربي رُوعي فيه عقول العرب وأفهامهم وطباعهم... إلخ"[9].
بقلم فضيلة الشيخ المحدث: علي بن عبد الله النمي حفظه الله
[1] ابن مفلح: الآداب الشرعية 1/ 215.
[2] مسلم 2638، وأحمد 2/ 539، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم 1/ 19، ورواه البخاري مختصرًا.
[3] أحمد 4/ 400و 406، وأبو داود 4693، والترمذي 2955، وابن سعد في الطبقات 1/ 26، وعبد بن حميد في المنتخب 548، والطبري في التفسير 1/ 214، وابن خزيمة في التوحيد ص 64، وابن حبان الإحسان: 6160 و6181، والحاكم في المستدرك 2/ 261 - 262، وأبو نُعيم في الحلية 3/ 104، و8/ 135، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 413 - 414، والواحدي في ألوسيط، وابن عساكر، وأبو الفرج الثقفي في الفوائد؛ (الصحيحة 1630)، من طرق عن عوف، عن قسامة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أيضًا أبو الفرج الثقفي، والشيخ الألباني الصحيحة 1630، وقال الترمذي: حسن صحيح.
[4] الميداني: مجمع الأمثال 1/ 136.
[5] ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 371.
[6] ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون ص 82.
[7] مسلم 2699 وأحمد 2/ 252 وأبو داود 3643 والترمذي 2945 وابن ماجه 225 والدارمي 351 وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج 97 وابن حبان الإحسان: 84 والحاكم 1/ 88 - 89 والسهمي في تاريخ جرجان ص 136 - 137والخطيب في تاريخ بغداد 12/ 114 وابن عبدالبر في جامع بيان العلم 1/ 13 والبغوي في شرح السنة 127 من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وعزاه في كشف الخفاء 2343 للعسكري، والقضاعي.
[8] البخاري 3175، 3194، مسلم 2378 من طريق عبيدالله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
[9] المعلمي: النتكيل ص 627 - 628.